ذنبٌ لا يُغتفر!

سليم الحص

 

قلتُ يومًا: "إنْ خُيِّرتُ بين أن أكون قاتلاً أو أن أكون قتيلاً فإن خياري سيكون حتمًا أن أكون القتيل." ذلك لأنني لا أستطيع أن أتصور نفسي قاتلاً، عرضة لوخز الضمير طوال ما تبقى من حياتي. بئس الحياة إذا كان الندم مُلازمًا لها! إن انتزعتَ حياة أحد، فكيف ستعيدها إليه؟!

تذكرت هذا القول وسط أنباء تتداولها الألسنُ تفيد بأن جماعاتٍ شتى في لبنان ماضيةٌ في التسلح. علام التسلح وإلامَ يمكن أن يؤدي؟! ما الداعي إلى التسلح إن لم يكن ثمة احتمال لاستخدام السلاح في لحظة من اللحظات أو في ظرف من الظروف؟!

هذا التساؤل إنما يستثير في نفوسنا هواجس وهواجس إزاء ما قد يقترف المرءُ من أخطاء وخطايا. جَلَّ مَن لا يخطئ. ليس بين بني البشر مَن لا يرتكب أخطاء في حياته. ثمة أخطاء يمكن، لا بل يقتضي الصفحُ عنها، كون الأذى المترتب عليها طفيفًا لا يخلِّف أثرًا؛ وثمة أخطاء يمكن مسح آثارها بالتكفير عنها أو بتعويض الضرر الناتج عنها؛ لا بل ثمة أخطاء يمكن الصفح عنها بمجرد الاعتذار عنها. لا شيء من ذلك في لبنان، مما يدل على أن ساسة لبنان لا يخطئون!

والخطأ غير الخطيئة. فالخطايا يصعب الصفح عنها، إنْ لم يكن متعذرًا. وهي تلاحِق مرتكبَها، حتى ولو حَظِيَ بصفح مَن ألحقتْ به أذًى. ولكن مَن الذي يصفح عن خطايا إذا ما ارتُكِبَتْ في حق المجتمع أو الوطن أو الأمة؟ المجتمع قد يعذر، ولكن كيف يعوَّض أذًى يُلحَق بالوطن أو بالأمَّة؟ ما الذي يمكن أن يفسِّر أو يبرِّر أو يعوِّض خطيئةً في حجم الخيانة العظمى؟! الكبير في مجتمعه قد يستطيع ذلك، فيعفو عن خطيئة يرتكبها أحدُ صغار القوم، وإن كانت في حجم التفريط في قضايا الوطن أو الأمة. ويبقى السؤال: هل يستطيع الكبير أن يتجاوز "الكبائر" من صغار قومه، ويبقى كبيرًا في ميزان قيمه، أو في نظر أجيال من أولاده وأحفاده، أو في حساب التاريخ الذي لا يرحم؟

لعل ما يشفع بالمرتكب طويَّتُه: فإذا كانت الخطيئة غير متعمَّدة، فقد تتبدى في مستوى الخطأ الذي لا يجانبه صفحٌ أو عفو. هذا شأن حادث سير ما كان بإمكانك تفاديه، فأودى بحياة طفل يعبر الشارع. أنت قاتل، ولكن ما ذنبك؟

الخطيئة الكبرى، الجريمة التي لا تُغتفَر، هي القتل العَمْد. ما عذرك في شهر السلاح في وجه أعزل مهما استفزك، مهما أغضبك، وكيفما استدرجك، فتُنهي حياته برصاصة؟! ما عذرك في حمل السلاح ومعه ذخيرته إلا في حومة الوغى حيث تواجه عدوًّا لوطنك أو لأمتك؟ إن حمل السلاح وسط جمع من الآمنين العزَّل هو، في ذاته، ذنب لا يُغتفَر. فهو في واقع الحال في منزلة الجريمة المبيَّتة.

قال الله – تعالى – في كتابه الكريم: "مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" (المائدة 32). حتى قتل القاتل! فمع أن الإسلام قال بذلك، فإنه أيضًا أوصى بالعفو والرحمة.

هناك مَن يعترض على عقوبة الإعدام. كان يقال إن في ذلك عِبرةً لمن يعتبر، وبالتالي قطعًا لدابر الجريمة. ولكن الجرائم ظاهرة مستمرة، حتى حيث تنفَّذ عقوبةُ الإعدام في القاتل. فما كانت هذه العقوبة يومًا رادعًا للجريمة. ثم إن قاتل القاتل هو أيضًا قاتل. فمَن منَّا يجيز لنفسه ارتكاب إثم يحرِّمه على سواه؟ أما السؤال: وهل يجوز أن تمرَّ جريمة قتل من دون عقاب؟ فالجواب عليه هو أن العقاب قد يكون في السجن... ولا نقول المؤبَّد. فالسجن مبرَّر ومشروع مادام القاتلُ لم يرتدع؛ أما في حال تلا القاتلُ فعلَ الندامة والتوبة، وكان هناك يقين من أنه لن يرتكب جريمة قتل أخرى، فحتى السجن المؤبَّد لا يعود ضروريًّا أو مبرَّرًا. فالإفراج عن التائب لا يُعفيه من العقاب إذا ما بقي مطارَدًا بوخز الضمير. أليس هذا ما يعنيه فعل الندامة؟ فالندم، في نظرنا، أقسى العقوبات وأجداها.

وإذا كنَّا ممَّن ينهون عن القتل إطلاقًا، فإننا، بطبيعة الحال، من دُعاة الإقلاع عن التسلح إطلاقًا. فما اقتنى السلاحَ أحدٌ إلا وكان على استعداد لاستخدامه في ظرف من الظروف. ونحن لا نبرِّر استخدام السلاح إلا في حال الدفاع عن النفس في وجه خطر محدق. وضرورات الدفاع عن النفس لن تكون واردةً إذا وُجِدَتِ الدولةُ القادرةُ والعادلة، دولةُ القانون والمؤسَّسات. فالدولة هي التي تحمي المواطن، ولا داعي في كنفها للتحسُّب لظرف يوجب الدفاعَ عن النفس بالسلاح. أما المقاومة لاحتلال يغتصب أرض وطنك فهي من صميم الدفاع عن النفس.

وإذا كنا لا نرى موجبًا لاقتناء السلاح في كنف دولة فاعلة، فإننا ندين اقتناء أية دولة من دول العالم أسلحة الدمار الشامل، على أشكالها. فهذه الأسلحة هي أدوات إرهابية بامتياز، لمجرد أنها تتسبب بدمار شامل وقتل عشوائي لا يميز بين مسلِّح وأعزل، أو بين شيخ وطفل وامرأة. وهذا منتهى الإرهاب. فعندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين فوق مدينتَي هيروشيما وناگازاكي في اليابان عشية نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945، فإنها مارست الإرهاب بأبشع صوره وأفظعها. وقياسًا على ذلك، فإننا نتهم أية دولة تمتلك أسلحة نووية بالإرهاب، ذلك لأنها بمجرد احتفاظها بهذه الأسلحة إنما تبيِّت ضمنًا نيةَ استخدامها في ظرف من الظروف؛ وهذه نية إجرامية سافرة، لا بل إرهابية فاجرة.

وفي المناسبة، عندما التقيت مسئولين من جمهورية إيران الإسلامية أعربت أمامهم عن دعمي المطلق لإصرارهم على مواصلة برنامج تطوير الطاقة النووية الصناعية المخصصة لأغراض سلمية، ولكنني أصررت على عدم جواز إنتاج قنابل نووية، لأنني أربأ بإيران أن تُتَّهَم بالإرهاب. ثم إنني مؤمن بأن الإسلام لا يجيز من قريب أو بعيد أعمال الإبادة أو القتل الجماعي: فهذا حرام عند الله، حتى ولو كان المستهدَفَ شعبُ دولة معادية.

هناك مَن يزعم أن إيران يجب أن تنتج القنبلة النووية لغير ما سبب: فمن جهة، إسرائيل يمتلك مثلها، فلماذا لا يجوز لإيران ما يجوز للكيان العبري؟ ومن جهة ثانية، فاقتناء إيران للقنبلة النووية سيكون سببًا لمهابتها، أسوة بإسرائيل والهند وپاكستان، فلم لا؟ ومن جهة ثالثة، في حال استُخدِمَتِ القنبلةُ النووية ضد هدف إيراني كان هناك احتمال لاستخدام مثلها ضد إسرائيل – فالشر بالشر، والبادئ أظلم! مع هذه الاعتبارات كلِّها، فنحن ندعو إيران إلى الامتناع عن تطوير سلاح نووي. فالإبادة يجب ألا تكون في تفكيرنا أو تصوراتنا مبدئيًّا. وإذا كان إسرائيل يرضى لنفسه بأن يكون دولة إرهابية، فهذا يجب ألا يكون سببًا لنا لتقبُّل هذه الوصمة على جبيننا. فالحرام الذي يرتكبه سوانا ليس مبرِّرًا لأن نرتكب مثله. وأنا مؤمن بأن الإسلام يحرِّم أسلحة الإبادة – وإيران دولة إسلامية. وأخيرًا لا آخرًا، فإن أسلحة الدمار الشامل لا تسبغ على مقتنيها أية مهابة. فأين مهابة الدولة العظمى، أمريكا، وقد انهزمت في مغامراتها العسكرية كلِّها في العالم منذ العام 1945، ولم تتجرأ على استخدام القنبلة النووية التي تمتلكها مرة أخرى؟! وإسرائيل، الذي هزم الجيوش العربية النظامية، مجتمعةً ومتفرقة، لم يكتسب أية مهابة من امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، فظلت المقاومة الفلسطينية تتحداه منذ العام 1948 حتى اليوم، وكانت عمليات فدائية فلسطينية حتى داخل تل أبيب. الشعب الفلسطيني العظيم، على ضآلة حجمه بالمقاييس الدولية، لم يستسلم، ولن يستسلم، أمام أعتى قوة في الشرق الأوسط هو إسرائيل، ومن ورائه أعظم قوة في العالم هي أمريكا، تدعمه بالوسائل كلِّها. لا بل على نقيض ذلك: إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، يهاباننا بما نمتلك من سلاح الحق وسلاح الموقف وسلاح الفداء. من هنا كانت حرب أمريكا على ما تسميه إرهابًا في كلِّ مكان من العالم. ويبدو واضحًا من فشلها في كلِّ مكان أن الدولة العظمى باتت خائرة القوى، مستنزَفة، تبحث عن مخارج لنفسها في العراق وأفغانستان.

بكلمة موجزة: نحن ضد القتل، وبالتالي ضد التسلح. فالحياة يهبها الله، والله وحده يستردها. والقتل خطيئة لا يمكن تصحيحها أو تعويضها. فهي جريمة لا تُغتفَر! إن اقتناء الدول الكبرى أسلحةَ الدمار الشامل هو شاهد ساطع على همجيتها. وتعفُّفنا عنها يجب أن يكون شاهدًا على احترامنا الحياة. ومعيار الحضارة الأول هو احترام الحياة، وبخاصة حياة الآخرين. أما في سائر معايير الحضارة، فعلينا أن ننافس الآخرين في ما يتميَّزون به. بهذه الذهنية نكون نحن طلاَّب سلام حقيقي، وهم يكونون طلاَّب سلام زائف. وهم الإرهابيون، حتى في حربهم على الإرهاب.

إن التسويات مع الكيان الصهيوني قادمة لا محالة. فليس بين الحكَّام العرب مَن لا يدعو لها. لكن هذا لا يعني نهاية قضايانا. علينا أن نواصل النضال سلميًّا، بالمقاومة المدنية، حتى تحرير فلسطين والعراق. قد يبدو الحلم بعيد المنال اليوم؛ ولكن هذا لا يجعلنا نتخلَّى عن الحلم، مهما طال الزمن.

*** *** ***

عن السفير، 13/05/2006

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود