2006: سنة عائشة الباعونيَّة
هي الدمشقيَّة الشافعيّةَ الصوفيَّة صاحبة الحسب والنسب

 

حسين جلعاد

 

"لا يُعرَفُ الله إلا في المرأة"، يقول إمام الصوفية محي الدين بن عربي. وهو نفسه الذي عُرِفَتْ شاعريتُه بقوله: "كل مكان لا يؤنَّثُ لا يُعوَّل عليه." معرفة يحار المرء في مدى سطوع تنويرها في مجتمع طالما أُشيعَ عنه أنه "ذكوري" يضطهد المرأة، وخصوصًا وسط معمعان العصور الوسطى وأزمة دول الطوائف والاحتراب الداخلي آنذاك. بيد أن التاريخ نفسه لا يمضي ضمن مسار خطِّي، فيخبرنا أنَّ وضع المرأة لم يكن قاصرًا متخلفًا كلَّه، في فترات اشتهرت بوصفها نموذجًا للتردِّي والجمود. فقد عرفت القرون الوسطى ازدهارًا وصلت فيه المرأةُ إلى قمة الحياة الاجتماعية والثقافية، وحتى الفقهية. فشاركت النساءُ الرجالَ في تحمُّل أعباء المراحل العصيبة، حتى إنَّ بعضهن نهضن بأعباء السلطة السياسية وتسيير شؤون الدولة، فخُطِبَ بأسمائهن في المساجد – للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي – مثل: ضيفة خاتون (الشام)، غازية خاتون (حماة)، وشجرة الدر (مصر). والأهم أن بعضهن اعتلين منابر الدرس والفقه، وأخذ الناسُ عنهن العلم والمعرفة، وكنَّ، إلى ذلك، شخصياتٍ اجتماعيةً مشهورة، يؤخذ برأيهن إذا تحدثن في الشؤون العامة.

عائشة الباعونية، الشاعرة والفقيهة والمتصوفة، نموذج مضيء في تاريخ الحضارة العربية–الإسلامية. كانت واحدة من أشهر نساء القرنين التاسع والعاشر الهجريين اللذين عاشت فيهما، وعُرِفَتْ بكونها سبَّاقةً بين علماء جيلها في حقول المعرفة المختلفة، كالفقه والسيرة النبوية وعلوم العربية والتصوف.

الباعونية تعود في أيامنا هذه لتكون واحدة من الشخصيات التي تتحرك في الثقافة المعاصرة بوصفها أديبةً وشاعرةً ومتصوِّفةً ساهمت في حفر مسار مضيء في المعرفة الإنسانية. فقد أعلنت اليونسكو 2006 سنةً للاحتفال بها لمناسبة مرور خمسمائة عام على ولادتها، لتكون ضمن المكرَّمين خلال احتفالات المنظمة العالمية بإحياء ذكرى الذين ساهموا في خدمة الثقافة والمعرفة. ويحتفي بها هذه السنة [2006] مهرجان جرش للثقافة والفنون، وهو التظاهرة الأبرز بين الأنشطة الثقافية في الأردن.

تنتسب عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر "الباعونية الدمشقية الشافعية الصوفية، صاحبة الشرف والنسب، المتوفَّاة سنة 922 هجرية"، إلى قرية باعون قرب مدينة عجلون الأردنية، و"تنحدر من بيت اشتهر بالعلم والأدب، ونما في جنباته زهدٌ وتصوف، ودارت على جلسات موائده أحكامُ الفقه والإفتاء. فقد كان أبوها القاضي يوسف أحمد الباعوني من علماء القضاء في الأردن"، بحسب ما تنقل بعض السير والتراجم. ويصفها بعض كتبُ التاريخ بأنها "امرأة فاضلة، أديبة لبيبة عاقلة، كان على وجهها لمحةٌ جمَّلها الأدبُ وحلَّتْها بلاغةُ العرب، فجعلتْها بغية الراغبين في العلم والأدب، وكانت عالمةً بالفقه والنحو والعروض" (خير الدين الزركلي، الأعلام).

وتحيل بعض المراجع نسبتَها على الصالحية الدمشقية (أطلس دمشق التاريخي)، وفيه أنَّ "الباعونية" كانت من ضمن بساتين منطقة صالحيَّة الأكراد، بين محلَّة أبي جَرَش جنوبًا ومحلَّة الدخوار شمالاً. ويورد مؤرِّخ دمشق المعروف ابن طولون الصالحي في كتابه القلائد الجوهرية أن صالحية ذلك العصر كان يقطنها حوالى ألف وخمسمائة نفس، جلُّهم من الأكراد الأيوبية، وتُعتبَر من أقدم أحياء دمشق الواقعة خارج الأسوار. غير أن تلك النسبة قد تصح في مكان عيشها وسكناها ومماتها، حيث كانت دمشق حاضرة الحكم الأيوبي.

تورد بعض المصادر أن لعائشة الباعونية نحوًا من ثلاثين مؤلفًا، منها المطبوع وأكثرها مخطوط أو مفقود. من مؤلَّفاتها المطبوعة الفتح المبين في مدح الأمين؛ ومن أهم المخطوطات در الغائص في بحر المعجزات والخصائص، ويتضمن هذا المخطوط قصيدة رائية عدد أبياتها 1740 بيتًا، وتحتوي على ذكر صفات الخالق وصفات الرسول الكريم. وقد عُدَّتْ عائشة الباعونية من الخطَّاطات المبدعات: فقد كتبت بخطِّها مؤلَّفاتِها، ومنها: البديعية والملامح الشريفة في الآثار اللطيفة وفيض الفضل، وهو محفوظ في دار الكتب المصرية.

نشأت الباعونية في دمشق. فبعدما كانت المدينة عاصمة الحكم الأيوبي، أضحت مع أخلافهم المماليك مركز إقليم هامشيٍّ تابع لرأس السلطنة في القاهرة. ولا يُعرَفُ الكثيرُ عن نشأتها سوى أنها ختمت القرآن الكريم وهي بعدُ طفلة، وتفتحت عيناها في بيئة ورعة، حيث مأوى الصالحين ومزاراتهم، من أنبياء وأولياء وصوفية ومجذوبين، قرب مرقد ابن عربي، البيئة الروحية المسكونة بإيقاع الأناشيد الصوفية وحلقات المنشدين.

هناك، حيث الثقافة التي تغلق أبوابها دون الحريم، وجدت الباعونية نافذتها إلى الحرية من خلال السير في الطُّرُق الصوفية، على غرار رابعة العدوية، فتلقَّت العلوم الدينية، من حديث وفقه وتفسير، بالإضافة إلى العلوم الأدبية واللغوية، وأخذت الفقه والنحو والعروض عن جملة من مشايخ عصرها، مثل جمال الدين إسماعيل الحوراني والعلاَّمة محيي الدين الأرموي. وقد وجد تنسُّكها طريقَه إلى الشعر، فمضت في رحلة كشفها على هدي من كبار أقطاب الصوفية وشعرائهم، من أمثال ابن عربي وابن الفارض والبوصيري، صاحب "البردة" المدائحية الشهيرة، فبلغت عائشة الباعونية في الشعر مقامًا وَصَفَه بعضهم بأنه فاق، بين المولَّدين "المحدثين" من الشعراء والأدباء آنذاك، ما بلغتْه الخنساء بين الجاهليين.

لكن حياة التنسك والانقطاع عن العالم لم تدم بها طويلاً. إذ خرجت المتصوفة من صومعتها، فأجيزت في الإفتاء والتدريس، واقترنت من بعدُ برجل معروف، فانعطفت حياةُ الشاعرة لتتماشى والشهرةَ التي حظيت بها لدى العامة والخاصة. وسبقها صيتُها إلى البلدان التي ساحت بها طلبًا لمزيد من العلم، مثل حلب والقاهرة. ودرس وتتلمذ على يديها جملة من العلماء الأعلام، وانتفع بعلمها خلقٌ كثير من طلبة العلم، وفقًا للمؤرخين.

اللافت أن الشاعرة الباعونية انشغلت إبان شيخوختها بالحكم والسلطة، فسعت لدى المتنفِّذين من أجل تمكين ابنها البكر من تسنُّم أحد المناصب الرفيعة. وبغية ذلك الهدف، عادت الباعونية إلى تنكُّب الطريق القديم الذي مشتْه سابقًا إلى القاهرة، لكنْ طلبًا لشؤون الدنيا هذه المرة، فذهبت في رحلة إلى الديار المصرية، ومَثُلَتْ بين يدي آخر سلاطين المماليك، قنصوه الغوري، وأنشدتْه مديحًا منظومًا، ربما لم يسمعه تمامًا لأنه كان منشغلاً عنه بهاجس الخطر العثماني المقبل. فعادت الباعونية إلى دمشق خائبةً عاجزة، لتشهد بعد أيام اجتياح العثمانيين وسقوط حاضرة الشام تحت سنابك خيول الترك.

توفيت الباعونية في العام 1516 عن 59 عامًا ودُفِنَتْ في بستان الشلبي بمنطقة زقاق طاحونة الأحمر من ضواحي دمشق. ومن بين الذين أرَّخوا لها وترجموا سيرتها الأدبية والعلمية: محمد الحنبلي في كتابه در الحبب في تاريخ أعيان حلب، ومحمد الغزِّي في كتابه الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة، ويعقوب العودات في كتابه القافلة المنسية، وقتيبة الشهابي في كتاب معجم دمشق التاريخي، وجميل نعيسة في مجتمع مدينة دمشق، وزينب فواز في الدر المنثور في طبقات ربات الخدور. كما أُدرِجَ اسمُها في موسوعة الشعر العربي الصادرة عن "المجمَّع الثقافي"، أبو ظبي.

عمَّان

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 14 حزيران 2006

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود