أزمة الواقع العربي[1]

هشام شرابي

 

النقاطُ التي نثيرها هنا تدور حول الأزمة الشاملة التي يعاني منها المجتمعُ العربي، ويمكن لنا اختصارُها في أسئلة ثلاثة:

-       أولاً: ما هي الأسباب التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى أزمة الوضع الراهن؟

-       ثانيًا: كيف يمكن تحليل الوضع الراهن بنيويًّا، أي من خلال الأسُس والعلاقات الداخلية، لا من خلال العوارض الخارجية فحسب؟

-       ثالثًا: ما العمل؟

بخصوص السؤال الأول، أرى أننا نخطئ جدًّا إذا تناولناه تقليديًّا، أي من المنطلق السردي البحت الذي يقدم لنا قصصًا وأحداثًا وأبطالاً، فيخلص بنا دائمًا إلى نتائج لا تقدم ولا تؤخر في تفهُّمنا للماضي وتجاربه، ولا تزيد من مقدرتنا على تفهُّم حاضرنا، وبالتالي، على تجاوُزه. إن معالجة الماضي، كمعالجة الحاضر، يجب أن تنطلق من معرفة نقدية تتفهم الأحداث والوقائع في ضوء منهجيٍّ واضح، قادر على استخلاص النتائج وإبرازها في وضوح. أهم تلك النتائج أن تاريخنا الحديث مرتبط بعلاقتنا بالغرب، ولا يمكن لنا تفهُّم وضعنا الراهن إلا من خلال تفهُّم هذه العلاقة، وهي في أساسها علاقة تبعية تقوم على ثلاثة أصعدة: السياسي، الاقتصادي والثقافي.

إن تطورنا الاجتماعي داخليًّا ينبثق من التغيرات الحاصلة في البنية البطركية patriarchal أو "الأبوية" (التقليدية) من جراء الهيمنة الغربية التي عززت هذه البنية وطوَّرتْها في آنٍ واحد، فنتج من ذلك النظام البطركي "الحديث" الذي يعبِّر عن نفسه في أشكال مختلفة في الأنظمة العربية القائمة.

أما السؤال الثاني الذي يتناول الوضع الراهن، فيركز على النظام الاجتماعي والثقافي الراهن، الذي وصفتُه بـ"النظام البطريركي الحديث". ويتميز هذا النظام على الصعيد الاقتصادي السياسي بتبعيِّته، في درجات مختلفة، للنظام الغربي الرأسمالي وبخضوعه لسلطته الاستعمارية الجديدة (أيضًا في درجات مختلفة). من هنا يسعنا تقدير مدى تأثير العامل الخارجي في الوضع العربي القائم وفي تفشِّي الأزمة الشاملة التي يعاني منها.

وعلى الصعيد الاجتماعي، يتميز هذا الوضع بقهر المرأة وإخضاعها لنظام أبويٍّ لا مثيل له في عنفه وقسوته. هذا الإطار يمكِّننا من تحديد أحد أسباب عجز المجتمع وفشله، على الرغم من إمكاناته الطبيعية والبشرية الكبيرة، في ممارسة وظائفه الأساسية وتحقيق استقلاله الحقيقي.

ويتميز النظام على الصعيد الثقافي بالخضوع التام للاستعمار الثقافي الغربي، لا على صعيد الاستهلاك والحياة اليومية فحسب، بل أيضًا، إلى حدٍّ بعيد، على الصعيد الفكري والثقافي العام. لا يمكن لنا فهم الردة (أو "الصحوة") الدينية فهمًا سليمًا إلا إذا تفهَّمنا هذا العامل الثقافي النفسي ومنحناه الوزن الكافي في تحليلنا لأزمة المجتمع العربي الراهنة.

أما السؤال الثالث – ما العمل؟ – فلا يتناول المستقبل فقط، بل الحاضر والماضي (الواقع والتراث) أيضًا. فأي عمل يهدف إلى المستقبل يجب أن يعتمد رؤيةً واضحةً للتاريخ وللواقع الراهن. أما تاريخنا الحديث (عصر النهضة، وخاصة مرحلة الاستقلال) فقد قدَّم إلينا دروسًا مهمة نستخلصها من نتائج الانقلابات العسكرية وهيمنة الأحزاب الإيديولوجية في المرحلة الحاضرة التي باتت فيها الانقلاباتُ شبه مستحيلة والأحزابُ الإيديولوجية غير موجودة فعليًّا إلا في قلة من الدول العربية (حيث تشكِّل، في كلِّ حال، قوةً ذات وزن كبير في صناعة القرار).

هذا الإطار التحليلي يجعلنا ندرك، لو دخلنا في التفاصيل، أن الذات الاجتماعية (الممثَّلة بالجماهير والأحزاب والفئات الاجتماعية الأخرى) غير قادرة، في هذه المرحلة، على الفعل الاجتماعي والتأثير في مصير المجتمع وتقرير مستقبله على نحو فاعل. فهذه الإرادة لا تزال احتكارًا للسلطة في معظم الأنظمة العربية، لا دور فيه للأحزاب أو للجماهير أو للفئات الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع المدني. وبما أن السلطة البطركية (أو البطركية الحديثة)، بدورها، غير قادرة، بحكم نظامها وطبيعة تركيبها، على مجابهة تحديات العصر ومعالجة الواقع معالجةً عقلانية (بتحديد الأهداف وتدبير الوسائل المجدية لتحقيقها)، فإن أمر تقرير المصير الاجتماعي يقع خارج إرادتها أيضًا. وبذلك يصبح تقرير مصير المجتمع العربي فعلاً رهن التطورات والأحداث الجارية، من ناحية، ورهن الإرادات الخارجية والأجنبية، من ناحية أخرى.

أرى أننا لو أخذنا بتحليل كهذا يقوم على أسس نقدية واضحة، لا على مجرد السرد والوصف التمثيلي، يصبح في إمكاننا وضع السؤال الرئيسي – "ما العمل؟" – في إطاره السليم. فمن خلال المعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية المذكورة أعلاه نستطيع القول إن العقبة الأولى في سبيل أيِّ حلٍّ في معظم الأنظمة العربية تنبع، أولاً، من غربة السلطة عن شعبها، من إبعاده عن المشاركة في اتخاذ القرارات التي تحكم مصيره، ومن إخضاعه لمبدأ القوة. من هنا يغدو المشروع السياسي الأول استعادة الحقوق الديموقراطية وتأمين الحقوق الإنسانية وإعادة بناء المجتمع المدني.

كيف ينفَّذ هذا المشروع؟ ليس هناك جواب واحد شامل عن هذا السؤال. الجواب الصحيح لا يضعه الأفراد، بل الجماعات. فلنلتقِ ولنتداول في الموضوع، نساءً ورجالاً، أساتذةً وأطباء، مهنيين وعمالاً، فنانين ورجالَ دين، ولنُطمئِن، أولاً بأول، أصحاب السلطة إلى أننا لا نريد انقلاباتٍ عسكريةً ولا نحبذ الوسائل العنيفة. وبعد ذلك نرى إذا كان في الإمكان التفاهم والتعامل – في كلِّ بلد على حدة، حول قضاياه وأوضاعه المتميزة – مع النظام القائم والعمل سلميًّا على تغييره.

المرحلة الحاضرة – مرحلة الهيمنة البطركية والحديثة – تفرض علينا المقاربة الإصلاحية. ولو فشلت هذه المحاولة فقد يؤدي هذا الفشل إلى عواقب وخيمة على مصيرنا في القرن الحادي والعشرين.

*** *** ***

ترجمة: محمود شريح


[1] من كتاب المرحوم هشام شرابي أزمة المثقفين.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود