السلوك اللاعنفي
تكتيك زائل أم إستراتيجية دائمة؟

 

جميل عودة[*]

 

إنَّ في الإنسان، في مراحل حياته المختلفة، استعدادًا ذاتيًّا للسلوك العنفي أو اللاعنفي. بيد أن هذا الاستعداد، في حدِّ ذاته، لا يجعل الإنسان موصوفًا بالعنف أو اللاعنف، لأنه مجرد استعداد محض. فيدا الإنسان ورجلاه، مثلاً، آلتان من آلات استعمال العنف، ولكن وجودهما في الإنسان لا يعني أن الإنسان عنيف، بل يعني استعداده لممارسة العنف بواسطة اليدين أو الرجلين.

هذا الاستعداد الفطري في الإنسان – نزوعه إلى اللاعنف أو العنف – يظل مرهونًا، إلى حدٍّ ما، بطبيعة المؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان سلبًا أو إيجابًا. فنوع المؤثر الخارجي، من جهة، والاستعداد النفساني لتقبُّله، من جهة ثانية، هما اللذان يحددان، في الغالب، السلوك المتوقع للإنسان، سواء كان سلوكًا سويًّا أو سلوكًا غير سوي. فالمؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان وتتحكم في سلوكه قد تكون مؤثرات سلبية وقد تكون مؤثرات إيجابية: أما المؤثرات السلبية الضاغطة فهي تدفعه دفعًا نحو العمل العنفي، بينما المؤثرات الإيجابية تحثه على العمل اللاعنفي وترشده نحوه.

فالطفل، على سبيل المثال، الذي يترعرع في بيت تتكرر فيه على الدوام مشاهد سلبية، مثل السبِّ والشتم والضرب والعراك والغش والكذب والسرقة وغيرها من أعمال العنف، يكون عنده استعداد أكبر للخشونة والعنف؛ حيث يتمثل رد فعله، في أول مواجهة له، باستعمال الأدوات العنفية التي اكتسبها بسرعة والتي لديه قدرة على استعمالها بما يتناسب وطبيعة الند: فإن كان الند كبيرًا فإنه يلجأ عادة إلى استعمال السبِّ والشتم؛ وإن كان الند صغيرًا فإنه لا يتوانى في استعمال السبِّ والشتم والضرب معًا.

أما الطفل الذي ينمو في أحضان والديه نموًّا طبيعيًّا سويًّا ويرى الانسجام والودَّ بينهما، في بيت مناسب ودخل يكفي أود الأسرة وعلاقات طيبة مع الأقارب والجيران، ويسمع الناس يمتدحون والديه لعظم أخلاقهما ويُثنون على أسرته لحَسَبِها ونَسَبِها وثقافتها وعلومها، فإنه يكبر وهو واثق من نفسه ومن علاقاته. فإذا واجهتْه مشكلةٌ ما فإنه يتعامل معها من خلال موروثه الإيجابي الذي اكتسبه على شكل شحنات إيجابية ودفعات تكوِّن، فيما بعد، شخصيته وأسلوبه وطريقته في التعامل مع الأحداث الوقائع.

إلا أن الإنسان – وهي مشكلة العالم كلِّه، وخاصة في منطقتنا – لا ينشأ في ظل مؤثرات إيجابية؛ فهذه (إنْ وُجِدَتْ) هي قطرة في بحر! إننا نتعرض جميعًا، في البيت والمدرسة والشارع، في علاقاتنا مع الإخوان والأقارب والأصدقاء، وفي توجهاتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية، إلى أنواع مختلفة من المؤثرات الخارجية السلبية الضاغطة، ليس أقلها عدم الاحترام والتأنيب والانتقاص من شخصياتنا وعدم المبالاة بإبداعاتنا وخبراتنا.

وكلما استمرت هذه المؤثرات السلبية، أو كانت أوقَع أثرًا على نفس الإنسان، ازداد ميلُه إلى السلوك العنفي. ويظهر ذلك جليًّا في سلوكه المتوتر: فهو عصبي المزاج على الأغلب، لا يتحمل الآخرين، لا يتصف برحابة الصدر، لا يريد أن يسمع الآخرين ولا يحترم وجهات نظرهم، عنده رغبة في تلبية مطالبه وتحقيقها على حساب الآخرين، يغضب من أول لحظة يشعر فيها أن الحديث لا يروق له، إلخ.

هذا الاستعداد العنفي واللاَّعنفي يتساوى فيه الرجال والنساء. إلا أن النساء، بالنظر إلى بنيتهنَّ الجسمانية والنفسية والبيئية، قد يفضلن نوعًا آخر من العنف: الرجال يمارسون العنف المباشر، اللفظي والبدني، أما النساء فهن يملن إلى الحيلة والمكر والغش والكذب؛ وكلما تمكنت منهنَّ المؤثرات السلبية انحرفن في اتجاه ممارسة العنف الأقوى، الذي يبدأ من الانحراف في السلوك وينتهي عند الرغبة في الانتقام والقتل ممن قد يكون أحبَّ الناس إليهن (كما يحدث مع المرأة التي تحب زوجها في جنون، ثم تقتله قتلاً عنيفًا عندما يتزوج بأخرى!).

كذلك فإن الاستعداد العنفي واللاَّعنفي لا ينحصر في إطار الفرد، بل هو استعداد في المجتمع بأسره أيضًا. فالمجتمعات الإنسانية (قرية، مدينة، دولة، أمة) تتعرض للمؤثرات والضغوط السلبية والإيجابية؛ وهذه تؤثر بحسب قوتها وتقبُّلها على سلوك المجتمع عمومًا. فالمجتمعات الإنسانية التي تشهد أوضاعًا سياسية واقتصادية وأمنية مستقرة تميل إلى تغليب منطق اللاعنف والسلام والمحبة على منطق العنف والإرهاب والتطرف. فإذا تعرضت هذه المجتمعات الهادئة إلى كوارث خارجية طبيعية (فيضانات، زلازل) أو غير طبيعية (نزاعات أو حروب) فإنك تلمس تعاطفًا كبيرًا بين أفراد المجتمع وتعاونًا غير محدود من أجل عودة الهدوء واستتباب الأمن، وذلك بخلاف المجتمعات الإنسانية التي لا تعرف الاستقرار السياسي أو تعاني من تردِّي أوضاعها الاقتصادية أو تتقلَّب من حرب إلى حرب: فإن مثل هذه المجتمعات لا تأبه كثيرًا لحالات العنف اليومي لأن ممارسة العنف أضحت مألوفة لدى جميع أفراد المجتمع.

مثال بسيط، لكنه ذو دلالة: في برامج "الكاميرا الخفية" في الدول الأوروبية نرى مَشاهد قد تُغضِبُ الآخرين، مثل السخرية منهم والتظاهُر بسرقتهم أو رميهم في الماء، لكننا لا نشاهد، على الأغلب، أيَّ مشهد عنفي يصدر من هؤلاء المواطنين، بل يتعاملون معه باندهاش وتعجُّب وهدوء، ويضحكون إذا ما عرفوا الحقيقة! أما في برامج "الكاميرا الخفية" التي تجري في بلادنا الإسلامية والعربية فإن الكثير من مقدِّمي هذه البرامج إما ضُربوا أو انسبُّوا أو أُلغيت برامجُهم بسبب الخشونة وردود الفعل العنيفة التي يتعرضون لها من المواطنين، لأن هؤلاء – وأكثرنا هكذا! – يحملون فكرًا مُفاده: إن الآخرين لا يحترموننا، وعلينا أن نوفِّر الاحترام لأنفسنا بالقوة (طبعًا هذا النمط من التفكير واقع حال)؛ وبالتالي، فبمجرد أن نشعر أن أحدًا من الناس يريد أن ينتقص من شخصيتنا فإننا لا نتوانى عن سبِّه وشتمه وضربه، حتى عندما نعرف الحقيقة؛ وحتى عندما يعتذر منَّا مقدِّم البرنامج فإننا نذهب غاضبين، غير راضين، فيفقد البرنامج هدفه في تسلية المشاهدين.

لكن السؤال، المهم للغاية، هو: هل يتحول السلوك العنفي عند البشر إلى إستراتيجية، بحيث يكون العمل العنيف مُلازمًا طبيعيًّا للإنسان الذي تعرَّض لهزات عنيفة؟

لا أميل إلى هذا الرأي مطلقًا، ولا أشجِّع على تبنِّيه. نعم، يمكن للسلوك العنفي أن يتحول إلى "إستراتيجية" عند بعض الأشخاص الذين اعتادوا على ممارسته فترة طويلة. بيد أن العنف يصطدم بمقوِّمين طبيعيين: أحدهما داخلي، وهو الوعظ الضميري والأخلاقي الذي يؤنب الإنسان دائمًا على كلِّ عمل قبيح (= عنيف) يقوم به؛ والثاني خارجي، ويتمثل في عدم رضا الناس عنه ورفضهم لأيِّ سلوك عنيف، مهما كانت دوافعُه ومبرراتُه.

إنك لا تجد عاقلاً يقول: إن القتل فضيلة أو إن السرقة فضيلة. بعكس العمل اللاعنفي: فهو عمل يرعاه الضمير والأخلاق، ويحتضنه الناسُ الأسوياء من أيِّ مكان أو زمان كانوا: فلا تجد أحدًا سويًّا يمنعك عن عمل الخير ومساعدة الآخرين ومعونتهم أو التعامل بالحسنى معهم. وبالتالي، فإن العمل العنفي، في كلِّ الأحوال ومهما بلغ من حدَّة، فإنه يظل عملاً تكتيكيًّا مؤقتًا، قابلاً للتغير والزوال؛ وصاحبه، إذا رجع عنه وندم على فعله، يجب أن تُقبَل توبتُه. بينما العمل اللاعنفي عمل إستراتيجي، نرغب فيه وندعو إليه، لأنه يمثل الفضيلة دائمًا.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] مستشار وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني، العراق.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود