العَــوْد للتَجَـسُّـد
(التـقـمُّـص)

وليَـم ك. دْجَـدْج[1]

 

كما ينضو المرءُ عنه ثيابًا بالية
ويرتدي ثيابًا جديدة، كذلك
المقيمُ في الجسد، إذ يبارح هيكله
المائت القديم، يلج هيكلاً آخر جديدًا.
– بْهَگَڤَدگيتا

 

إن سرَّ الحياة العظيم ومعضلاتها العديدة تتصدى لكلِّ إنسان وتثقل أكثر فأكثر على عقول البشر، فيما الوعيُ ينمو وتعقيدُ الحياة يزداد وضوحًا. وبينما تتعاظم الحاجةُ إلى حل، طُرحتْ أدويةٌ عجائبيةٌ عديدة، استجابةً للصرخة الملهوفة طلبًا للنور، لا يقدِّم أيٌّ منها، لسوء الحظ، حقائقَ بيِّناتٍ تغور حتى جذر كلِّ خطيئة وألم وشقاء، كما وحتى جذر كل تنوُّر وتقدم حقيقيين. لقد ولَّى زمانٌ كانت مسائل كهذه من نصيب مَن نصَّبوا أنفسهم أساتذةً للدين؛ إذ إن تقصير هؤلاء في الإجابة عن الأسئلة التي تمس الحياة البشرية مساسًا مباشرًا استنهض همة النفس البشرية إلى حدِّ أنْ باتت تشعر أنه ينبغي لها أن "تطلب وتجد" حلاًّ لأحجية الوجود.

مافتئ لمسألة "المرجعية" ثقلٌ مخدِّرٌ على النفس البحاثة قرونًا طويلة؛ غير أن أذهانًا كثيرة تستفيق الآن على واقع أنْ مهما كانت المعرفة الواجب اكتسابها، ينبغي لكلٍّ أن يحصِّلها بنفسه.

وبعد، فإن على المعرفة الحق أن تشتمل على عدل لا يشوبه غلط، وتهدي إلى المرتجى الأسمى من التدرج الإنساني، وتبين العلَّة من ويلات العالم. فمن الجلي، في نظر أمثال هاتيك الأذهان جميعًا، أن على كلٍّ أن يكون مرجع ذاته فيما يقبله أو يأباه؛ لذا فإن عليه أن يُعمِل فطنتَه في النظر في كلِّ ما يدل على الطريق إلى معرفة النفس واختبار صحته. بهذا الموقف العقلي، الحر من أيِّ تحامُل وسابق تصور، يُنظَرُ في كلِّ طرح على أساس مزاياه، فيُقبل أو يُرفض بحسب ما تستهوي هذه المزايا أو تناسب المقام.

إن مصطلح العَوْد للتجسُّد يعني أن حياتنا الحاضرة هي نتيجة حيواتنا السالفة، وأن حياتنا الآتية ستجري طبقًا لحيواتنا الماضية وللنحو الذي نحيا عليه الآن. وفي حين قد تكون هذه الفكرةُ جديدةً على الكثيرين، فإنها من التنوير بما يجعلها، مع صاحبتها عقيدة كَرْمى، تحل قضايا الحياة المحيِّرة الحلَّ كلَّه. فالعود للتجسد أو التجسُّم من جديد يُرى بوصفه الصيرورة التي تعبِّر بها درجاتُ الذهن كلها عن نفسها من خلال أشكال أو أجسام. وتكوُّن العالم المرئي الذي نحيا فيه وتطور الشكل إنما يتم عبر العاقلة الباطنة المتوسِّعة التي تتطلب أداةً أجود للفهم المتنامي.

إن كلَّ شيء في الطبيعة يشير إلى جهود متكررة في هذا الاتجاه تتخلَّلها هجعاتٌ متكررة؛ وكل هجعة تيسِّر السبيل إلى استيعاب التجربة المكتسَبة التي تشكل قاعدةً جديدةً للمزيد من الترقِّي. فالنهار يتبعه ليل، يليه نهارٌ آخر، والفصول، ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء، تتبعها متتاليةٌ مشابهةٌ في تَوالٍ لا يتبدل؛ وشأن الإنسان تحت حكم القانون الكوني – وتاليًا الروحي – عينه، أن يتبع تقلبات الولادة والشباب والرجولة والهرم والموت، لا محيد له عنها ليدخل في الولادة من جديد بجسم جديد، لعلَّه مسبوك لغرض أفضل مما كان متاحًا في الجسم القديم.

تدل عقيدة العود للتجسد ضمنًا على ذهن سابق وجوده؛ ذهن يتواصل ويتسع عبر تغيرات التجسُّم كلِّها. فتغيرات الشكل ما هي إلا سبيل إلى الغاية والهدف الأسمى للإنسان الباطن العاقل – ألا وهو اكتساب ما دعاه الأقدمون بـ"المعرفة الكلية".

يسلِّم البشر عادةً بالتطور باعتباره قانونًا للنمو مبرهَنًا عليه، إذ يُستخلَصُ الدليلُ عليه من التغيرات الملاحَظة في الأشكال والأنواع الجسمانية؛ غير أن هذه النظرة العامة لا تأخذ إلا بالدليل الخارجي على العملية، من دون أيِّ فهم للعلة المحرِّكة لها. إن كلمة "تطور"[2] تعني التفتح من الداخل إلى الخارج، ولو أن علماءنا[3] لم يكونوا من النزوع إلى المادية على ما هم عليه، لربما توصلوا إلى معرفة الحقيقة منذ أمد بعيد. أما عقيدتا كرمى والعود للتجسد الثيوصوفيتان فتوضحان سيرورة التطور وتسيران بها إلى مقصدها الأسمى، بتبيانهما أن القوة الحافزة من وراء كلِّ تطور للشكل هي الذهن الذي يتطور إلى ذرى أعظم فأعظم بواسطة أشكال مؤقتة للتعبير.

إن الاعتراض الذي غالبًا ما يُرفَعُ على العود للتجسد هو: إذا كنَّا عشنا فيما مضى لِمَ لا نتذكره؟

في الواقع لا حاجة إلى ذاكرة حياة سابقة لإثبات أننا مررنا بتلك التجربة. فنحن ننسى معظم وقائع هذه الحياة؛ إذ إن القلة منا قادرة أن تسترجع في دقة أحداث يوم واحد. فقد تكون ندبة هي العلامة الوحيدة المتبقية من طفولتنا، فيما لا تُتَذكَّر الإصابةُ التي أحدثتْها أبدًا. إذن فنحن، وإنْ كنَّا لا نستبقي إلا بضعة تفاصيل في الدماغ، فإن أثرها يبقى ويشكِّل طبعنا. وبالوسع القول إن الطبع ذاكرة مركَّبة، ذلك أنه حصيلةُ كلِّ ما مررنا به ولبُّه. وأيضًا، في أثناء النوم الذي يشغل ثلث الحياة البشرية، لسنا نتذكر ما جرى لنا؛ ومع ذلك لا يخطر في بالنا، بسبب من ذلك، أننا لم نحيا خلاله. فإن ثَمَّ شعورًا بالهوية يسدُّ هذه الفترة، كما وتلك الثغرات في الوعي الناجمة عن الإغماء أو عن تناول بَنْج، بحيث إننا حين نعود إلى وضعنا المعتاد، نعلم أننا عين ذلك الكائن الذي وُجِدَ قبلئذٍ. فلو كانت الهوية تتوقف على الاستذكار[4] لكان علينا أن نعيد الكرَّة من جديد كلَّ يوم.

تبين الاختبارات في التنويم المغناطيسي أن أصغر أحداث الحياة تُسجَّل فيما يدعوه بعض علماء النفس بالعقل الباطن[5]، مبرهنين بذلك أن ذاكرتها لم تضع. إن تفاصيل الحياة كلَّها تلتمع أمام الغريق، وكذلك قبل الموت توًّا، حين تبرز ملابساتُ الماضي كلها أمام الذهن. بذا فإن جملة تفاصيل حياة برمتها يُحتفَظ بها في الإنسان الباطن كي تستعاد كلها في تجسد آتٍ ما، متى سمح تطور الإنسان بذلك. وحتى الآن يتذكر أشخاص كُثُر أنهم عاشوا سابقًا، وتغنَّى بذلك الشعراء، والأطفال على علم جيد به، إلى أن تطرد الخُلطةُ المتواصلةُ مع مَن لا يعتقدون به الاستذكارَ من أذهانهم. بيد أن مخَّنا الحالي، بما ليس له من نصيب في الحياة المعيشة آخرًا، غير قادر عمومًا على انتشال ذاكرة الماضي؛ وهذا لمن عظيم حسن الحظ، لأننا سنكون على بؤس شديد لو أن أفعالاً ومَشاهد من حيواتنا السالفة لم تبقَ مستورةً عن بصرنا، إلى أن نصبح قادرين، برياضة النفس، على احتمال العلم بها. فبالحياة بحسب ما تمليه الروح قد يصير المخ أخيرًا مَنْفَذًا لاستذكار النفس، وتصبح حيواتنا الماضية حينئذٍ كتابًا مفتوحًا لنا.

ينشأ اعتراضٌ آخر على العود للتجسد عن فكرة مغلوطة عن طبيعة الإنسان الحق. فبعضهم يقول إنه لا يرغب أن يكون أحدًا آخر في حياة أخرى، إذ كيف له أن يتعرف إلى أصدقائه إذا غيَّر أصدقاؤه شخصياتهم. إذا كان العود للتجسد هو القانون فإن محبوباتنا ومكروهاتنا لا تغير في الأمر شيئًا؛ بيد أننا لن نكون "أحدًا آخر" في حياة أخرى، بل سنكون الفرد عينه الذي عاش من قبل، لكن في ثوب آخر. فإذا كان جسم صديقنا هو ما أحببنا، يصح أننا لا نستطيع بأيِّ وجه من الوجوه أن نأمل في رؤيته في حياة آتية؛ فما لم يكن المرءُ فظَّ المادية، فإن روح الصديق هي ما ينجذب إليه. ومن ثم إذا كانت النفس التي نحب تقيم في هيكل جسماني آخر، فمن القانون أننا سوف نلتقي من جديد، متى تجسَّدْنا، النفسَ عينها في المسكن الجديد، على الرغم أننا قلما نتعرف إليها. ومع ذلك، فإن أثر هذه الصلات السابقة علينا هائل: ففيه نجاتنا تارةً وفيه هلاكنا طورًا. فقد نلتقي في حياتنا شخصًا ذا أثر ملحوظ علينا، خيرًا أو شرًّا، بسبب من الصلات المتولدة بيننا في حيوات ماضيات.

ويجزم بعضهم أن الوراثة تُبطِل العود للتجسد. أما نحن فنقدِّمها بوصفها برهانًا. علينا، في المقام الأول، أن نرى بأن الذهن العائد للتجسد، بما هو خالد، سابق وجوده على ولادة أيٍّ من أجسامه الجُرْمية. إن لدينا فكرة بأن للخلود طرفًا واحدًا وحسب؛ وبعبارة أخرى، فإننا نعيش من الآن إلى الأبد. غير أن الخلود يعني اللابداية مثلما يعني اللانهاية. لذا فإن الوالدين لا يهَبان الطفل نفسَه – فهو نفس أصلاً –؛ فكل ما فعلا هو تجهيز النفس الوافدة بجسد جديد. والطفل يجلب معه خواص النفس تلك من فطنة وميول نمَّاها إبان حيواته العديدة السابقة على الأرض. لذا ليس له أن يَقْدِم إلا على أسرة ذات مميزات مشابهة، بوسعها أن تمنحه الفرصة للمزيد من التطور، بسبب من تجسدات ماضية لها صلات بالأسرة، وعلل أُشرِعَتْ بالاشتراك معها.

يفسر هذا كيف يمكن لطفل شرير أن يقدم على والدين طيِّبَين في الوقت الحاضر، لأن الوالدين والطفل كانوا مرتبطين بأفعال ماضية ارتباطًا لا تنفصم عراه. وتلك فرصة افتداءٍ للطفل ومناسبة عقاب للوالدين. كذا فإن الوراثة، فيما هي القاعدة الطبيعية التي تحكم الأجسام، تشاهَد كاختلافات فطرية متى نظرنا إلى الطباع ضمن هذه الأجسام. علينا أن نخلص، إذن، إلى القول بأن نقل الخصائص الجسمانية والمميزات الذهنية (كلما حصل) لا يدحض العود للتجسد، من حيث كون مثل هذه الانتقالات هي، على وجه الدقة، الطريق التي اختارتها الطبيعةُ لتجهيز الذهن المتجسد بالأداة والبيئة الملائمتين اللتين يمكن له فيهما المضي في عمله.

وأيضًا يشدِّد أولئك الذين يسهبون في الاعتراض على العود للتجسد استنادًا إلى الوراثة على التشابهات، غاضِّين الطَّرْف عن الفوارق. وكل أمٍّ تعلم أن أبناء الأسرة الواحدة مختلفون اختلاف أصابع اليد الواحدة – إنهم جميعًا من صُلْب الوالدين عينهما، لكنهم جميعًا متباينون من حيث الطبع والمقدرة. وإن ظهور العباقرة والعقول العظيمة في أُسَر خالية من هذه الخواص، كما وانطفاء عبقرية أحد الأسلاف من أسرة ما، لا يفسَّران إلا بقانون العَوْد للولادة. فلقد جاء ناپليون من أسرة ليس فيها أي شَبه به من حيث القدرة والقوة. لقد قال عن نفسه إنه شارلمان[6]. وليس لنا أن نكِّون أدنى فكرة عن علَّة ظهوره أو ظهور أيِّ عبقري عظيم آخر إلا بأن نفترض له متواليةً طويلةً من الأعمار تقدِّم المسار التطوري أو السبب الموجِب الصحيح لذهنه وطبيعته. أقوى من حالة ناپليون حالة توم الأعمى[7]، وهو زنجي لم يُتَحْ لأسرته بأيِّ وجه من الوجوه أن تكون لها معرفةٌ بالپيانو – وهو آلة حديثة – بحيث تنقل تلك المعرفة إلى ذرات جسمه؛ ومع ذلك كان صاحب مقدرة موسيقية عظيمة وكان يعزف السلم الموسيقي الحالي الآلي على الپيانو، مبيِّنًا أن في ذلك الجسم ذهنًا ذا نموٍّ موسيقي رفيع. ولدينا، في حالة الموسيقار باخ برهان أن الوراثة لا تُعَدُّ بشيء إذا لم تكن الأنيَّة في الداخل متقدمة، ذلك أن عبقريته لم تولد من صُلْب أسرته؛ فقد خَبَت بالتدريج، مغادرةً أخيرًا مجرى الأسرة بكامله.

وعلى نحو مشابه، بلغت عروقٌ بعينها ذرًى عظيمةً من السلطان والمجد، ثم آلت إلى الزوال. ذلك أن عظمة عِرْق ما تُرَدُّ إلى فطنة النفوس المتجسدة فيه؛ فمتى اكتسبتْ هذه النفوسُ كلَّ الخبرة الممكنة في ذلك العِرْق المعين غادرتْه لتتجسد في غير مكان. إن تدبير الطبيعة لن يسمح للعرق الظاهر الجسماني بالتلاشي المفاجئ، لذا فإن أنيَّات أخريات أقل رقيًّا على سلَّم التطور تأتي وتستعمل الأجسام المتيسِّرة. بيد أن هذه الأنيَّات الأدنى ليس في ميسورها أن تجاري سابقاتها في المقدرة. وبينما يكتسب كل جيل جديد من الخبرة ما هو متيسر له ثمة انحطاط تدريجي، والأمر يؤول بالعرق بمرور الزمن إلى التلاشي. فأقباط مصر [الحاليون] هم من نحو هذه الأنيَّات الدنيا، المتجسدة في عِرْق كان ذات يوم مجد العالم، فيما عادت الأنيَّات التي أبدعت تلك الحضارة الراقية إلى التجسد في أمم أوروبا وأمريكا. ووجود الهمج يعلَّل على النحو ذاته: فهم بقايا عِرْق متحضِّر، تأتي نفوسُهم في تلك الفترة من انحطاطه التي تناسب مرحلة تطورهم. وثمة سيرورة نظيرة هذه تجري في مدننا الحديثة: فإن سكان قطاع أثير سابقًا يبارحونه إلى حيٍّ جديد، تاركين دُورَهم لآخرين أقل حظًّا من اليُسر. وبعد فترة ينتقل هؤلاء القوم لتأتي طبقةٌ أفقر منهم، وهكذا دواليك، حتى تنحدر الدُّور، بفعل السكنى المديدة والإهمال، إلى الخراب والبِلى.

كذا فإن الأفكار والأعمال الجماعية للأذهان التي تشيد صرح أمَّة من الأمم تجلب عليها حروبها وأوبئتها ومجاعاتها وحتى فواجعها الطبيعية. ذلكم هو التفسير الوحيد للحروب الدورية في أوروبا. فالسبب المزعوم ما كان أكثر من مناسبة للتعجيل في إطلاق القوى المكظومة للأنيَّات المعنيَّة بالصراع. فمنذ زمن طويل مضى، في حضارات أخرى ماضية، كانت قد أُشرِعَت الأسباب التي كان ينبغي مواجهة نتائجها المدمِّرة الآن. ولن تني الأنيَّات تتجسد حتى تسوَّى الضغائنُ والإساءاتُ كلها وتُستأصَل شأفتُها، مهما استغرق حلولُ مثل هذا الألف المرتجى من عصور. من هنا نرى كيف أنه ربما، في مستقبل ليس ببعيد جدًّا، قد تندلع حروبٌ أخرى لأن أنيَّات أخرى وضعت أسبابًا شبيهة بالأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب الأخيرة[8] سوف تتجسد معًا حاملةً معها نزاعاتها التي ينبغي تسويتها. أما الطريقة التي ستسوَّى بها هذه النزاعاتُ فمتوقِّفة على تنوُّر المحتربين، وكذلك على المثال المقتدى الذي سنضربه لهم. فالتاريخ يجنح إلى تكرار نفسه، وإذا كنَّا نستطيع أن نوجِد قاعدةً للسلوك الفردي والوطني تقوم على العدل والاحترام المتبادل نكون قدَّمنا للأجيال القادمة أعظم خدمة ممكنة، لأن المبادئ السليمة والعمل السليم أساسٌ للتنمية الوطنية أضمن مما هو عليه الازدهارُ التجاري الذي لا يغذِّي، من دونها، إلا الطموح الأناني والجشع. ولا ننسينَّ أيضًا أننا نبني من أجل مستقبل سنشارك فيه نحن أيضًا: فكما أننا الآن ورثة ماضينا، سنقدم إلى المسرح من جديد ورثةً للحاضر ونرث نتائج عملنا الحاضر. لذا فإن الفرد في عِرْق أو في أمَّة يُحذَّر، إذا وقع في لامبالاة الفكر والعمل وشكَّل بذلك نفسَه على غرار المتوسط العام لعِرْقه أو أمَّته، من أن كرمى الأمَّة والعِرْق سوف يجنح به آخِرًا إلى المصير العام. ذلكم سبب صيحة معلِّمي الماضي: "هلمَّ خارجًا وكُنْ من الصفوة."

والعَوْد للتجسد لا يعني أننا نلج صورًا حيوانية بعد الممات. "الإنسان مرة إنسان دومًا": فالتطور، إذ يبلغ بالمفكر الخالد إلى هذه المرتبة لا يمكن له أن يعود به إلى البهيمة. فكما أن الدم في الجسم يحال بالصمامات دونه والتدفق القهقرى وحقن القلب، كذلك في منظومة الدوران الكوني العظيمة هذه يوصَد البابُ خلف المفكِّر للحيلولة دون تقهقره.

لعل اعتراض المسيحيين على العَوْد للتجسُّد يعود بالدرجة الأولى إلى الظن بأن يسوع لم يعلِّمه. إنهم ينسون أن يسوع كان يهوديًّا، رسالته، على حدِّ قوله، موجَّهة إلى الشعب اليهودي فقط[9]. بيد أن اليهود اعتقدوا دومًا بهذا التعليم، مما يجعله قطعًا مأنوسًا لديه. فكلما أنكره مسيحي معتنقٌ دينَه فإنه بذلك يقيم رأيه على رأي يسوع الذي أثبته في مناسبات عدة. ففي تلك الأيام كان يُتوقَّع عودةُ العديد من الأنبياء وزعماء القوم – وموسى وإيليا منهم – إلى الأرض، وكان الناس ينتظرون ظهورهم من حين لآخر. وفي هذا تعليل لواقع ما جرى حين جاء التلاميذ بخبر موت يوحنا المعمدان، إذ علَّق يسوع بأن هيرودوس قتل يوحنا غير عالِم أنه إيليا "المزمع أن يأتي"[10]. وفي مناسبة، ذُكِرَتْ في إنجيل متى 17: 12 قال يسوع إن "إيليا أتى، فلم يعرفوه". وحين جيء إلى حضرة المعلم بالرجل الذي ولد أعمى[11]، تساءل الحواريون عن سبب عقابه على هذا النحو وسألوا عمَّن أخطأ، هو أم أبواه، مضمِّنين سؤالهم إجماعهم على الاعتقاد بعقيدة العَوْد للتجسُّد؛ فلما كان من المؤكد أن طفلاً حديث الولادة ليس في مكنته أن يخطئ فإن الخطيئة، في هذه الحال، لا بدَّ أن تكون ارتُكبتْ قبل الولادة التي جرى فيها كفُّ البصر. فلو أن التعليم كان خاطئًا لكانت تلك الساعة مناسَبةً ينكره فيها يسوع وينسفه إلى الأبد؛ فلقد جاز عن السؤال لكنه لم ينفِ العقيدة[12]. وفي سفر الأمثال 8: 23 يقول سليمان إنه من الأزل وُجِدَ من قبل أن كانت الأرض وأنه قبل أن يولد باعتباره سليمان بوقت طويل كان يلعب في مسكونة الأرض ونعيمه مع بني البشر. أما القديس بولس، في الرسالة إلى أهل روما 9: 11-13، فيشير إلى يعقوب وعيسو قائلاً إن الرب أحبَّ الأول وأبغض الثاني قبل أن يولدا. فمن البين أن الرب لا يستطيع أن يحب شيئًا غير موجود، وذلك يعني أن يعقوب وعيسو كانا في حياتهما السابقة صالحًا وطالحًا، وأن الرب – كَرْمى – أحبَّ لذلك الأول وأبغض الآخر قبل ولادتهما باعتبارهما يعقوب وعيسو. وأما القديس يوحنا، في الرؤيا 3: 12، فيقول إن الغالب "لن يخرج من الهيكل أبدًا". وهذا مجرد بيان لغوي متى أُنكِرَ العوْدُ للتجسد، بينما يصبح جليًّا تمامًا إذا أوَّلناه بحيث يعني أن الإنسان الذي يتغلب أخيرًا على أضاليل المادة لن تكون له حاجة بعدُ إلى العود للتجسد. ومن بعد التلاميذ جاء آباء الكنيسة الأوائل، ومن بينهم أوريجينس[13] الذي علَّم عقيدة العود للتجسد. لكن نفوذه المتنامي ألَّب عليه غيرةَ بعض الجهَّال من الآباء، وفي مجمع القسطنطينية في العام 500 ب م[14] حرَّموا العقيدة التي كان يعلِّمها بوصفها مُضِلَّة، وبذلك ضاعت على العالم الغربي.

وبتأمل الحياة وغايتها الظاهرة، بكلِّ التجارب المتيسِّرة للإنسان، يجد المرءُ نفسَه مرغمًا على الخلوص إلى أن حياةً واحدةً لا تكفي للنهوض بكلِّ ما تريده الطبيعة، ناهيك بما يرغب الإنسانُ نفسه في القيام به. فثمة مجال شاسع من القدرات الكامنة في الإنسان قد تنمو إذا أتيح له الوقتُ والفرصة. وإن معرفةً لانهائيةَ المدى لتمتد أمامه. ولدينا أشواق سامية من دون متسع من الوقت للارتقاء إلى ذَرْعها، فيما يقارعنا فيلقُ الأهواء والنوازع والمطامح الأنانية ويتقارع، مطاردًا إيانا حتى بوابة الموت. فعلى هذه كلها أن تُقهَر ويستفاد منها. فإن مجرد واقع الموت لا يستطيع أن يلغي عيوبنا ولا أن يأتينا بالمعرفة. فإذا افترضنا أننا لدى دخولنا الجنة سيُنعم علينا بالمعرفة كلِّها وبالنقاء كلِّه فإننا نقلِّص تلك الحالة إلى مستوى العطالة ونجرِّد الحياةَ من كلِّ معنى.

العود للتجسد هو "وتر المسيحية الضائع" لأنه وتوأمه عقيدة كرمى الجوابُ عن مسائل الحياة كلِّها. ففي هذين التعليمين الجوهريين مكمن القوة التي ستجعل البشر يطلبون بالفعل الأخلاقَ التي في حوزتهم نظريًّا. فالدافع إلى السلوك القويم ينبغي ألا يقوم على مجرد العاطفة أو الإيمان، وإنما على قوانين فاعلة كونيًّا لا محيد عنها. إن كرمى والعود للتجسد يشيران إشارةً قاطعةً إلى مسؤولية الإنسان عن الظروف التي يجد نفسه فيها. وهذا يتعارض مباشرة واللامسؤوليةَ التي لقَّنها اللاهوتيون المسيحيون: فهم يعلِّمون أننا جُبِلنا على الضعف والخطيئة وليس بوسعنا أن نفعل شيئًا بأنفسنا؛ أما إذا آمنَّا بأن المسيح مات من أجلنا فسوف تُغفَر لنا خطايانا! إن لفي مثل هذه الطريقة، إنْ كان يُعمَلُ بها، تقويضًا للعدالة. وكوننا نحاول الآن أن نبحث عن نتائج أعمالنا الماضية يعود، إلى حدٍّ بعيد، إلى تسليمنا بعقائد مسيحية معينة أخطِئ فيها في تفسير تعاليم يسوع.

ما الفتنة الحالية إلا ذروة قرون من التصورات المادية قامت على فكرة حياة واحدة على الأرض. وعن هذا التصور نجمت ضراوةُ الصراع على الوجود، بكلِّ أثَرَته وشقائه. إن كلمة "عدالة" ليس لها معنى حق بين البشر لأنهم فقدوا كلَّ إدراك لقانون سرمدي لا مهرب منه. فمع أن عمله عينه يكشف عما يدعوه البشر في ضلالهم "ظلمًا"، إلا أنه في الواقع قانون العدالة الإلهي الذي يعيد إلى نصابه التوازنَ الذي أخلَّ به البشرُ من جراء جهلهم وأثَرَتهم. ذلكم هو كرمى.

وفيما تبدو هاتان العقيدتان صارمتين وقاهرتين، فإنهما تمنحاننا التشجيع أيضًا. فالعود للتجسد يمنح الإنسانَ فرصةً للمحاولة، الكرة تلو الكرة، مع الثقة بأن "كل محاولة مخلصة تُؤتي ثوابها في مآل الأمر". وبذلك قد يتشجع أولئك الحيارى الذين يتأكَّلهم الشك بأن ثمة حلاًّ لمصاعبهم كلِّها. وقد تجد الأم المفجوعة في ولدها، وأحد الزوجين المتروك في وحشة العزلة، السلوى لأنهما سيلتقيان من جديد لوصل ما انقطع من خيوط المودَّة، فيحوكانها نسيجًا جديدًا أبهى. بذا تجد القلوبُ الرضا، والفكرُ مداه الأقصى، في هذين التعليمين من تعاليم الحكمة القديمة.

*** *** ***

ترجمة: توفيق شمس وديمتري أڤييرينوس


 

horizontal rule

[1] ولد وليم كوان دجدج William Quan Judge (1851-1896) في دبلن، أيرلندا. هاجرت أسرتُه إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو في الثالثة عشر. صار مواطنًا أمريكيًّا في العام 1872، وقُبِلَ في محكمة الدولة في نيويورك في العام 1874. ظلت مواهبُه الروحية الهائلة كامنة حتى تعرَّف إلى السيدة هـ.پ. بلاڤاتسكي (1831-1891) – التي تتلمذ عليها في الثيوصوفيا أول ما تتلمذ – وقام معها ومع الكولونيل الأمريكي المتقاعد هنري س. أولكوت لتأسيس الجمعية الثيوصوفية Theosophical Society في العام 1875 للمناداة بالأخوة الإنسانية الشاملة، ودراسة الآداب الروحية الشرقية، واستقصاء القوانين والقوى غير المعلومة في الكون والإنسان. وفي العام 1886، تأسست الشعبة الأمريكية للجمعية برئاسته. يعود الفضل إليه في نموِّ الحركة الثيوصوفية في أمريكا. مفكر ثيوصوفي وكاتب سرَّاني ألمعي، جمع في كتبه ومقالاته الكثيرة بين البساطة والعمق الروحي. من كتبه: محيط الثيوصوفيا والوجيز في الثيوصوفيا. (المترجم)

[2] بالإنكليزية: evolution. (م)

[3] لعل هذا ينطبق على علماء القرن الماضي (ولاسيما علماء الفيزياء منهم) الذين ظنوا آنذاك أنه، باستثناء بضع مشكلات لن تستعصي على الحل، بات الإنسانُ قاب قوسين أو أدنى من معرفة كلِّ شيء! لكن كبار العلماء اليوم هم أبعد الناس عن "المادية" بمفهوم القرن التاسع عشر. (م)

[4] بالإنكليزية: recollection. (م)

[5] بالإنكليزية: subconscious mind؛ "اللاوعي" unconscious بالمصطلح الحديث. (م)

[6] شارلمان (742-814)، ملك الفرنجة من العام 768 وإمبراطور الغرب (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) من العام 800 حتى مماته. (م)

[7] بالإنكليزية: Blind Tom. (م)

[8] ربما كان المقصود الحرب الفرنسية–الپروسية التي نشبت في العام 1870 والتي انتهت بهزيمة فرنسا. نلاحظ أن هذا الكلام ينطوي على نبوءة حقيقية باندلاع الحرب العالمية الأولى! (م)

[9] إشارة إلى قول يسوع في إنجيل متى 15: 24: "لم أرسَل إلا إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل." يفتقر كلام دجدج هنا إلى الدقة لأن يسوع لم يكن من اليهودية بل كان جليليًّا، ولأنه عندما لم يجد لدى اليهود أذنًا مصغية وجَّه رسالته إلى الأمم جمعاء. تشير عبارة يسوع السابقة، إنْ صحَّتْ نسبتُها إليه، إلى أن "آل إسرائيل" هم الذين كانوا في أمسِّ الحاجة إلى تجسده بين ظهرانيهم بسبب "ضلالهم". على أن دجدج يريد فقط، بإشارته إلى هذه العبارة، البرهان على أن الوسط الذي نشأ فيه يسوع وترعرع كان يعتقد بالتقمص. (م)

[10] إنجيل متى 15: 11. (م)

[11] الحادثة مروية في إنجيل يوحنا، الفصل التاسع. (م)

[12] راجع أيضًا: ميخائيل نعيمه، "من وحي المسيح"، المجموعة الكاملة، مج 9، ص 267-271، حيث تَرِدُ الحججُ نفسُها. (م)

[13] مفسِّر ولاهوتي كبير (185-253) من آباء الكنيسة اليونانية؛ نهض بمدرسة الإسكندرية حتى أصبحت مدرسة في اللاهوت ذائعة الصيت. صارت آراؤه التي انتظمت في تيار فكري عُرِفَ بالأوريجينية محلَّ جدل طويل، إلى أن أدينت وحُرِّمت. وفي ظننا أن هذا التحريم جاء نتيجة تكريس التأثير اليهودي في المسيحية الناشئة واستبعاد التأثير اليوناني، لأن عقيدةً كالعود للتجسد، تقول بضرورة تقمص النفس في أزمنة مختلفة وفي بيئات عرقية وحضارية متنوعة، تنسف الاعتقاد باختيار "الله" للشعب اليهودي دون بقية شعوب الأرض، وتجعل الإنسانية أسرةً واحدةً متآخيةً متعاضدة في تفتُّحها المشترك. (م)

[14] الأصح هو العام 553 ب م. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود