قطوف من شجرة الحياة 10

 

اسكندر لوقا

 

تراها لا تزال مفهومة لغة التواضع في أيامنا هذه، أم أنه لم يعد لها مكان في إطار العلاقات الإنسانية–الإنسانية؟ أناسٌ كثر يفتقدون هذه اللغة في الزمن الراهن، لأنها فقدت شفافيتها، ولأنها، من جهة أخرى، لم تعد لغة تواصل خالية من شوائب الـ"أنا" المريضة، وذلك لأسباب عدة بينها طغيان الشعور بالفوقية لا بالتفوق لدى البعض من الناس، وبالتالي انزلاقهم في خندق الغرور والتكبُّر.

معادلة التواضع هي من جملة الرياضات النفسية التي تتطلب جهودًا لا يستهان بها، مثلما تتطلب أصنافًا من الناس نادري الوجود في وقتنا الراهن. ولهذا الاعتبار تتراجع نزعة احترام الآخر في العديد من المجتمعات، وتتوضع مكانها نزعة الأنانية التي تفقد صاحبها الشعور بأنه واحد لا الكل في المكان الذي يوجد فيه كما يوجد فيه الآخرون.

* * *

لدى البعض من الناس قناعة بأن صورة الماضي، حتى القريب منه نسبيًا، حين تنشر في إحدى وسائل الإعلام المقروءة تحديدًا، هي عبارة عن صورة حدث ما مجردة من قدرتها على النطق، وبذلك تبقى في اعتقادهم صورة خرساء كامنة في سجل التاريخ، وبالتالي لم تعد ذات قيمة حسية، إن صحَّ التعبير، لديهم.

وفي اعتقادنا أن أية صورة من صور ذلك الماضي القريب، أو حتى البعيد نسبيًا، هي في واقع الأمر رصد لحركة ما جرت في لحظة ما في تاريخ البشرية، ولا بدَّ أن تروى ذات مرة حكاية على لسان من عايش تفاصيلها أو عاش زمن وقوعها. ونحن نعلم أن للتاريخ البشري صداه في ذاكرة الإنسان مهما كان زمن الانقطاع عنه طويلاً، وإن لم يكن له صوت مسموع، ذلك أنَّ صورة هذا الحدث أو ذاك لا بدَّ أن تعيد إلى الذاكرة السمعية لدى الإنسان، بشكل أو بآخر، جوانب من ذلك الصدى. وفي الزمن الراهن، كثيرًا ما تتردد أصداء الأحداث التي شهدناها في أسماعنا وكأننا نعايش تفاصيلها في اللحظة الراهنة. ومن هنا تبقى الصور قادرة على النطق بشكل أو بآخر ولا تفقد حضورها في الذاكرة البشرية.

* * *

شيء جميل وممتع أن يتلاعب الرسام، أحيانًا، بعواطف جمهوره. وشيء ممتع أيضًا أن يشحن الرسام مشاهدي لوحاته الفنية بأفكار من نوع ما يختارها الناظر نفسه إلى اللوحة التي أمامه؛ ذلك لأن فن الرسم، خاصة، وجد لكي يتوجه نحو عواطف الناس ويخاطب عقولهم في أماكن تجمعهم. ثم إن الفن الذي لا يكون مؤهلاً كي يؤدي دورًا كهذا الدور لا يصحُّ أن يسمَّى فنًا أو أن يصنَّف بين الفنون الراقية، ذلك لأن للفن وظيفة يجب أن يؤديها بشكل أو بآخر. إن الزهرة أينما نمت تؤدي دورًا كما نعلم، كذلك الساقية في أية بقعة من الأرض وجدت تؤدي دورًا، وهكذا النسمة. إن أبسط الكائنات في الطبيعة، بما في ذلك أدنى الحشرات، كلٌّ يؤدي دورًا. بيد أن فن الرسم، خاصة، يأتي في قائمة الأدوات المؤهلة لتأدية وظيفة نبيلة من أجل رقي الحضارة وارتقاء الإنسان معًا. ومن هنا القول بأن فن الرسم عالم رحب، عالم يخاطب عواطف الناس وعقولهم، كلٌ بحسب ثقافته وقدرته على قراءة أبعاد اللوحة وتفاصيلها.

* * *

في اعتقاد البعض من الناس أن إشعار الآخرين بمكانتهم الشخصية، سواء في إطار الأسرة أو العمل، لا يتحقق إلا إذا أشاعوا فيهم نزعة الخوف لا الاحترام. ومن هنا تتسع المسافات بين هؤلاء وأؤلئك، لأن الإنسان، بطبعه، يأنس إلى الوداعة أكثر مما يأنس إلى شيء آخر، وذلك بغض النظر عن المواقع وآفاق النفوذ وما شابه.

إن نظرة شاملة إلى العلاقات السائدة بين الناس، في مختلف الأزمنة والأمكنة التي حفلت بها الحياة البشرية، أكدت وتؤكد حتى يومنا هذا أن الذين كانوا الأقرب إلى عقول الآخرين وقلوبهم هم الذين كانوا الأكثر معرفة وثقافة وعلمًا من سواهم، ومن هنا ما زالوا يعيشون، إلى اليوم، في ذاكرة هؤلاء الآخرين، وما زالوا، إلى اليوم، رموزًا للوداعة والبساطة. ومن هنا القول بأن المحبة، لا الخوف، تقرِّب بين الإنسان والإنسان، بغض النظر عن حجم المؤثرات التي تتعلق بما يعرف بالمكانة أو النفوذ.

* * *

لعبارة الحداثة وقعها الآسر في الأذن كما نعلم، ولها أيضًا معناها الواسع في المجتمع، وخاصة في مجتمع يتطلع إلى الأمام والأعلى بهدف تحقيق نهضته المنشودة في المجالات كافة.

وفي زمان كزماننا هذا حيث يتجلى التنافس بين الأفراد والدول في المجالات المتعلقة بالحضور الإقليمي أو العالمي على حدٍّ سواء، لا بدَّ أن يستوقف المرء ما سمِّي بظاهرة الحداثة، فيسعى إلى استيعاب أبعادها وتمثلها بجدارة، وإن يكن سعيه هذا قد جاء في وقت متأخر أو كانت خطواته في هذه السبيل متواضعة.

تلك هي الأمنية التي تراود أحدنا وهو يتتبع تداعيات الحداثة حوله، ويكتشف، من بعد، كم هي المسافات شاسعة بينه وبين من سبقه إليها. إنها أمنية وطنية بكل معنى الكلمة كما نعتقد، ومن المفيد أن نسعى إلى تحقيقها في زمن اللحاق بركب حضارة الرقميات إن صح التعبير، ليس على مستوى الثقافة فحسب، بل على المستويات الفكرية والاجتماعية كافة، حتى لا نبقى في نهاية المطاف، كما يريدنا الآخرون أن نبقى، على نحو حصان وراء عربة. ثم إن الحداثة لا تعني فقط هدم ما بني من قبل بل تعني بناء ما لم يكن قد بني من قبل ليكون المجتمع مؤهلاً لتحقيق نهضته المنشودة كما أسلفنا.

* * *

يصعب على المرء أن يتنكر لماضيه مهما حاول. قد يستطيع ذلك في حدود علاقاته مع الآخر، بيد أنه لن يستطيع أن يتنكر لماضيه إذا ما اختلى إلى نفسه ونظر إلى وجهه في المرآة. إن الماضي، كما نعلم، قد يكون مليئًا بالنكسات أو الخطايا، كما قد يكون مليئًا بالنجاحات والحسنات فيثير في النفس مشاعر مختلفة، وبين سياق تدفق هذه المشاعر غالبًا ما يدخل الإنسان في نفق الحيرة والتساؤل: لماذا وكيف وإلى متى؟

ولهذا الاعتبار يصح القول بأن ما مضى قد مضى حقًا، وإن يكن على المرء أن يفيد من تجاربه الماضية بطبيعة الحال، وذلك على نحو طالب المعرفة لا يهمل أية معلومة اثبتت قدرتها على الاستمرار والديمومة عبر العصور. ومن هنا نعتقد أن قراءة الغد، وإن تكن أجدى من تخطيه لأي سبب من الأسباب، فإن قراءة الأمس، وبغض النظر عن زمان وقوعه، لا بدَّ أن تغني قارئه جيدًا بما يعينه على الحضور في الأزمنة الآتية، وذلك على نحو ما كان عليه الأمس في سياق هذه المعادلة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود