المثقفون اليهود "الطلائعيون" والمسألة العربية

 

أنطوان شلحت٭

 

1
"بريت شالوم" و"إيحود" ومقاربة الدولة الثنائية القومية

منذ اليوم الأول لبدء نشاطها في فلسطين أدركت الحركة الصهيونية أنها ستواجه مقاومة عربية لمخططاتها. ولم يكفّ المثقفون اليهود "الطلائعيون" الذين هاجروا إلى فلسطين وانخرطوا في جهود دفع الفكرة الصهيونية قدمًا عن السجال في ما بينهم بشأن "أفضل الطرق" لمواجهة ما سمِّي "المشكلة العربية". وفي واقع الأمر فإنهم درسوا كل احتمال يقع ما بين ترحيل السكان العرب الأصليين عن وطنهم إلى مناطق أخرى وبين إقامة دولة ثنائية القومية، كما اختبروا كل إمكانات تقسيم البلد، لكنهم أجمعوا على مبدأ أساسي واحد: أرض أكثر وعرب أقل، والمشتق من "فريضة" احتلال البلد، أو السيطرة عليها. وفي خضم هذا السجال برز دور عدد من الشخصيات اليهودية الصهيونية ذات المكانة الاعتبارية في فلسطين، التي استشعرت الخطر على "الييشوف" اليهودي من مجرَّد "منح" فلسطين إلى اليهود فقط، وفقًا لما نصَّ عليه وعد بلفور البريطاني في عام 1917، وكذلك استرابت من تجاهل الوجود العربي كليًا، وعملت على الترويج لحل الدولة الثنائية القومية، ورأت من جملة أشياء أخرى أن هذا الحل ربما "ينقذ اليهود من أنفسهم" (الأمَّارة بالسوء).

وصدرت في إسرائيل، في الآونة الأخيرة، مجموعة من الأبحاث الجديدة تتعلق بنشاط بعض هذه الشخصيات التي تعرضت إلى قدر من التهميش، لعل أبرزها كتاب من بريت شالوم [تحالف السلام] إلى إيحود [اتحاد]: يهودا ليف ماغنيس والنضال من أجل دولة ثنائية القومية – صادر في عام 2003 –، والذي سعى مؤلفه، وهو البروفسور يوسف هيلر، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في القدس، إلى قراءة هذا النشاط في سياقات محورين زمنيين متداخلين:

الأول: المحور الأوسع الممتد خلال الأعوام 1917–1948.

الثاني: المحور الأصغر الممتد بين عام 1942، بالتزامن مع انعقاد مؤتمر الحركة الصهيونية في بلتيمور في الولايات المتحدة، والذي تحددت غايته العملية في إقامة دولة يهودية في فلسطين، وعام 1949، عقب ما يسميه المؤلف "انتصار إسرائيل في حرب الاستقلال" [حرب 1948].

وربما يرجع اعتماد عام 1917 إلى كونه العام الذي صدر فيه وعد بلفور، وما استتبعه من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين/أرض إسرائيل، بدءًا من عام 1922. وفي رأي المؤلف فإن الأوضاع التاريخية الموضوعية، التي صدر هذا الوعد في سياقها، هي التي جعلت تلك الشخصيات اليهودية تستشف

الخطر الكامن في منح فلسطين إلى اليهود فقط، من منطلق اعتبارات إمبريالية [بريطانية] فحسب، ومن دون أخذ الوجود العربي في الاعتبار قط.

ومن أجل مواجهة هذا الخطر، الذي اعتبر داهمًا، تعمق الهجس، من جانب تلك الشخصيات، بفكرة حل الدولة الثنائية القومية لما اصطلح على تسميته بـ "مشكلة فلسطين".

يركز الكتاب، أساسًا، في تعقب وتحليل نشاط وأفكار يهودا ليف ماغنيس، الذي تولى منصبي مستشار ورئيس الجامعة العبرية في القدس، ومن ثمَّ في تعقب نشاط وأفكار عكيفا إرنست سيمون، الذي أصبح بروفسورًا في التربية في تلك الجامعة، ومارتن بوبر، الذي أصبح بروفسورًا في علم اجتماع الثقافة في الجامعة نفسها.

وقد كانت هذه الشخصيات الثلاث، بادئ ذي بدء، ضالعة إلى جانب شخصيات صهيونية اعتبارية أخرى، في عام 1926، في تأسيس جماعة [رابطة] "بريت شالوم"، وذلك في موازاة ظهور "الحركة التنقيحية" [بزعامة زئيف جابوتنسكي]، والتي تبنت مقاربة "الجدار الحديدي" الصدامية وطالبت بإقامة الدولة اليهودية في ظل الحراب البريطانية وباسم مصالح الكولونيالية البريطانية. بيد أن هذه الجماعة لم تتطلع لأن تصبح حزبًا سياسيًا وإنما لأن تكون جمعية ثقافية–تربوية تهدف، أكثر من أي شيء آخر، إلى تعزيز مواقف "القيادة المعتدلة" في التيار الرئيسي داخل الحركة الصهيونية، على الصعيد الفكري. وقد اعتبرت أن حاييم وايزمان، رئيس الهستدروت الصهيونية، يقف على رأس هذه "القيادة المعتدلة"، في مقابل ديفيد بن غوريون، الذي وقف برأيها على رأس "القيادة المتطرفة". وفي هذا الصدد يؤكد المؤلف أن الفجوة بين مقاربة وايزمان ومقاربة "بريت شالوم" لم تكن كبيرة، باستثناء أن الأخيرة طالبت بتأسيس مؤسسات لحكم ذاتي يهودي، تتغيَّا تكريس وضعية أقلية لـ"الييشوف اليهودي" في نطاق دولة واحدة ثنائية القومية. وقد حدث التباعد الرئيسي بين الطرفين عقب ما يسميه المؤلف "أحداث عام 1929" [أو "أحداث تارباط"]، والمقصود ثورة البراق الفلسطينية. فقد رأت "بريت شالوم" أن هذه "الأحداث" من شأنها أن تزكِّي حل الدولة الثنائية القومية، الذي كانت تتبناه، غير أن القيادة الصهيونية بزعامة وايزمان ذهبت في اتجاه معاكس تمامًا، إذ إنها اعتبرت تلك "الأحداث" بمثابة نذير سوء إلى مقبل الأيام، من جهة، وبمثابة حافز، من جهة أخرى، ينطوي على ترجيح احتمالات تطبيق المشروع الصهيوني بحذافيره، شرط أن يسعى "الييشوف" اليهودي إلى حل بشكل منفرد ومستقل تمامًا، أي أن تتحول الصهيونية إلى كيان سياسي مستقل يراكم عوامل القوة الذاتية، التي من شأنها أن تُتَرجم إلى وجود ديموغرافي واقتصادي وأمني "يجعل العرب يقتنعون أنه ليس في إمكانهم القضاء عليه".

لقد رفعت "بريت شالوم"، بداية، لواء إقامة سلطة ثنائية القومية في فلسطين، من خلال التنازل المسبق عن غاية تحقيق أكثرية يهودية في البلد، لمصلحة الاكتفاء بمكانة أقلية. وعقب "أحداث 1929" سعت نحو التوصل إلى تسوية أو حل وسط مع العرب. غير أن هذه المقاربة جوبهت بالرفض، جملة وتفصيلاً، بعد تلك "الأحداث"، من جانب ألوان الطيف كلها داخل الحركة الصهيونية. وتبنى "الييشوف" اليهودي، في معظمه، حلاً مضادًا لحل الدولة الثنائية القومية. ووقف في صلب هذا الحل المضاد هدف إقامة دولة [يهودية] على المدى البعيد من خلال سيرورة مراكمة عوامل القوة برعاية الانتداب البريطاني، الذي تعهد في ذلك الوقت بـ "تسريع وتائر الهجرة اليهودية" و"تكثيف الاستيطان اليهودي".

واستلزم الحل المضاد المذكور لحل الدولة الثنائية القومية من جانب القيادة الصهيونية في حينه أن تركز جلَّ جهودها في ثلاثة مجالات:

·        الأول: تغيير الميزان الديموغرافي لـ "الييشوف" اليهودي، الذي بلغ عدد أفراده في عام 1922 – وهو عام إقرار الانتداب البريطاني على فلسطين – نحو 84 ألف نسمة (أي 11 في المئة من مجموع السكان في فلسطين)؛

·        الثاني: إجراء تغييرات تدريجية في المفاهيم الصهيونية الأساسية المتعلقة بالموضوعات الأمنية، على غرار تلك الخاصة بالاستيطان الإستراتيجي وبناء القوة العسكرية؛

·        الثالث: تغيير البنية الاقتصادية–الاجتماعية لـ "الييشوف" إلى ناحية إنشاء اقتصاد يهودي منفصل عن الاقتصاد العربي كليًا. وقد كان الهدف الأرأس من وراء ذلك هو تدعيم قوة "الييشوف" العسكرية.

وسرعان ما تعزَّزت هذه الجهود في ضوء "منحى جديد" غلب على السياسة البريطانية في عام 1931. وتجسَّد هذا المنحى في رسالة تلقاها وايزمان، في ذلك العام، من رئيس الوزراء البريطاني، رمزي ماكدونالد، وهيأت الأوضاع الملائمة لتسريع وتائر الهجرة اليهودية إلى فلسطين ولتكثيف الاستيطان، ما أدى إلى زيادة عدد أفراد "الييشوف" اليهودي إلى 380 ألف نسمة حتى عام 1936.

وأفضت هذه الإحداثيات إلى انهيار جماعة "بريت شالوم"، التي لم تكن في الوقت نفسه تحظى بتأييد الطرف العربي، ومن ثم إلى حلِّها [في عام 1933]. غير أن ماغنيس عاد، في عام 1942، وبادر إلى تأسيس جماعة أخرى بالمواصفات نفسها حملت اسم "إيحود" [اتحاد]، وحاولت أن تستفيد من عبر الجماعة السابقة كي يُكتب لها البقاء والصمود.

تجدر الإشارة، هنا، إلى أن سيرورة بناء عوامل قوة "الييشوف"، بما في ذلك القوة العسكرية، كي يكون في مقدوره لاحقًا أن يقيم كيانه السياسي المستقل بتؤدة، حتى ولو بمنأى عن أخذ الوجود العربي في الاعتبار، اقترنت، خلال ثلاثينات القرن المنصرم، بتبني الحركة الصهيونية، بتأثير من وايزمان نفسه، ما اصطلح على تسميته بـ "مبدأ المساواة السياسية"، الذي هدف في الظاهر إلى قبول المساواة السياسية بين العرب واليهود، غير أنه عمليًا هدف إلى صرف الأنظار عن تطلعات الصهيونية الانفصالية والعدائية إزاء الأكثرية العربية. ويؤكد المؤلف أن معادلة "المساواة السياسية" لم تكن ملتزمة فعلاً بالمساواة على المستوى الإستراتيجي، لكنها انطوت على أفضليات جمَّة، لعل أهمها أنها معادلة مخادعة في وسعها أن تشكل غطاء سياسيًا لعملية بناء قوة "الييشوف". وعلى الرغم من ذلك فقد وقعت "بريت شالوم" في شراك هذه الخديعة، وتعاملت معها كما لو أنها معادلة إستراتيجية لا تكتيكية.

ويبدو، بحسب كتاب هيلر، أن وايزمان حسم موقفه، بصورة نهائية، إلى جهة تأييد تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية بالتزامن مع صدور تقرير "لجنة بيل" الملكية البريطانية في عام 1937، والذي أيَّد التقسيم. وارتبط هذا الحسم، إلى درجة كبيرة، بتراكم بضعة عوامل في سيرورة بناء قوة "الييشوف"، منها:

·        ازدياد عدد أفراد "الييشوف" إلى 380 ألف نسمة حتى عام 1936، كما سلفت الإشارة؛

·        تحوُّل "الهاغاناه" إلى منظمة ذات طابع عسكري؛

·        إنجاز استقلال "الييشوف" الاقتصادي عبر انفصاله عن الاقتصاد العربي.

وعلى الرغم من ذلك فإن ماغنيس وشركاءه ظلوا ينظرون إلى وايزمان باعتباره حليفًا محتملاً لأفكارهم. أما نوعية علاقة هؤلاء مع بن غوريون، فيمكن القول إنها تميزت بازدواجية متناقضة: مباشرة بعد مؤتمر بلتيمور اتسمت العلاقة بين الطرفين بعدائية مفرطة، لكن على خلفية أحداث المحرقة النازية حصل تقارب معين بين الطرفين خلال الفترة الممتدة بين الأعوام 1945–1948. ويفسر مؤلف الكتاب ذلك بحجة أن ماغنيس و"إيحود" لم يكن في وسعهما، في تلك الفترة، أن يتغاضيا أو أن لا يتعاطفا مع معركة الضحايا الناجين من المحرقة من أجل الهجرة إلى فلسطين، لا سيما أن هذه المعركة حظيت بإجماع كبير في "الييشوف" اليهودي في ذلك الوقت. وقد نجم عن ذلك ظهور وجهات نظر عربية اعتبرت ماغنيس مناهضًا للقومية العربية الفلسطينية لا أقل من بن غوريون نفسه. لكن الخلافات بين الطرفين في ما يتعلق بالمسألة العربية وطريقة حلها ظلت على حالها بسبب تمسك "إيحود" بفكرة الدولة الثنائية القومية.

في هذه الأثناء شكل قرار التقسيم الأممي [القرار رقم 181]، الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، طعنة نجلاء لبرنامج "إيحود"، إذ إنه عنى، من ضمن أشياء أخرى، تجند الأسرة الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، لمصلحة التقسيم وحل الدولتين.

ورويدًا رويدًا بدأ أعضاء "إيحود"، بمن فيهم ماغنيس نفسه، بقبول فكرة الدولة اليهودية خصوصًا إثر إقامتها في عام 1948، وراود بعضهم الأمل في أن تندمج الدولة الجديدة، مستقبلاً، في إطار اتحاد فيدرالي مع شرق الأردن وربما مع دولة فلسطينية [بدا في حينه أن عملية إقامتها مستحقة بسبب قرار التقسيم].

وعقب إقامة إسرائيل انصرف جلُّ اهتمام أعضاء هذه الجماعة نحو الحض على عقد السلام مع الدول العربية، وعلى منح مساواة كاملة في الحقوق للأقلية العربية التي بقيت في تخوم دولة إسرائيل، وعلى محاربة النزعات العسكرية في الدولة العبرية على غرار معارضة العمليات الانتقامية الإسرائيلية خلال الخمسينات في القرن العشرين. ولقد توفي ماغنيس في تشرين الأول 1948 لكن نشاط "إيحود" استمر بعد وفاته بقيادة مارتن بوبر، إلى أن طويت صفحتها مع وفاة الأخير في أواسط الستينات.

***

2
المقاربة الثنائية القومية: "التصحيح"

في عام 2008 صدر في إسرائيل كتاب آخر بعنوان بريت شالوم [تحالف السلام] والصهيونية الثنائية القومية: المسألة العربية كمسألة يهودية سلط مزيدًا من الضوء على هذه الجماعة أو الرابطة الصهيونية، التي تأسست في القدس في عام 1926، إثر انعقاد المؤتمر الصهيوني الرابع عشر في فيينا، وما تمخض عنه من غلواء خطاب الحركة التنقيحية بزعامة زئيف جابوتنسكي. وقد سعى مؤسسوها، أصلاً، إلى ما سموه "تصحيح مواقف الحركة الصهيونية" إزاء السكان العرب في فلسطين، بخلاف مقاربة التنقيحيين، وذلك بواسطة الدعوة إلى

شق طريق تتيح إمكان توصل العبريين والعرب إلى تفاهم بشأن سبل حياة مشتركة في أرض إسرائيل، على أساس المساواة الكاملة في الحقوق لقوميتين تتمتعان بحكم ذاتي [أوتونوميا] واسع النطاق، وتتبعان طرائق عمل مشتركة لمصلحة تطوّر البلد برمته،

طبقًا لما ورد في دستور الرابطة.

وينوِّه محرِّر الكتاب، وهو الباحث والأستاذ الجامعي الإسرائيلي عدي غوردون [الجامعة العبرية في القدس]، بأنه على الرغم من أن مؤسسي الرابطة وأعضاءها توصلوا إلى الاستنتاج القاضي بضرورة "تصحيح المواقف الصهيونية" إزاء "المسألة العربية"، إلا إن الدوافع التي كانت تحرِّك كلاً منهم مختلفة من واحد لآخر، ذلك بأن جزءًا منهم كانت تحركه، أساسًا، اعتبارات واقعية سياسية ناجمة عن تحليل مخصوص للمتغيرات والمقاربات التاريخية المستجدة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، في حين أن جزءًا آخر كانت لديه اعتبارات أيديولوجية وأخلاقية، بل حتى دينية يهودية. كما أن بعضهم تركز في الإعراب عن القلق جراء التطورات السلبية التي يمكن أن تترتب على تلك المواقف في أوساط عرب فلسطين والعالم العربي عامة، بينما تمحور البعض الآخر في ما قد يحدث من "إسقاطات هدَّامة"، نتيجة لذلك، داخل الحركة الصهيونية نفسها وفي أوساط "الييشوف" فقط.

وقد امتنعت "بريت شالوم"، في أول عهدها، عن التماهي مع موقف سياسي محدَّد، أو مع خطة سياسية عينية، وعرضت نفسها باعتبارها رابطة فكرية غير سياسية تتطلع إلى اقتراح أدوات تحليلية على أبناء "الييشوف" بقواه السياسية المختلفة، استنادًا إلى ما تملكه من تجربة ومؤهلات علمية في مضمار الدراسة والفكر. لكن بمرور الوقت سرعان ما أصبحت تتماهى، عيانًا بيانًا، مع برنامج سياسي يدعو إلى إقامة دولة ثنائية القومية يهودية–عربية في فلسطين، ورأت أن هذا البرنامج يضمر، في العمق، حلاً للصراع القومي المتأجج في البلد، ويشكل بديلاً راديكاليًا من مشروع إقامة دولة يهودية قومية، وهذا المشروع الأخير هو الذي وقف، في ذلك الوقت، في صلب غاية أبرز الناشطين الصهيونيين وأبناء "الييشوف"، في معظمهم.

يشمل الكتاب مجموعة مداخلات، جاءت في إثر يوم دراسي خاص عقد في العام 2005 في الجامعة العبرية في القدس، وكان بعنوان: "ثمانون عامًا على بدايات رابطة بريت شالوم: السياق الوسط أوروبي"، أما عبارة "المسألة العربية كمسألة يهودية"، في عنوان الكتاب، فإنها مأخوذة من العالم التربوي عكيفا إرنست سيمون، وهو أحد مؤسسي الرابطة.

تحاول بعض المداخلات أن تتعقب جذور فكرة الدولة الثنائية القومية في الفكر الصهيوني، والتي ألهبت خيال أعضاء "بريت شالوم" في ذلك الوقت. ومن الاستنتاجات، التي جرى التوصل إليها يتعين ذكر الاستنتاج الذي يربط بين واقع أن هذه الفكرة أخذت مدًا واسعًا في دول وسط أوروبا، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبين كون أعضاء الرابطة، في معظمهم، من دول وسط أوروبا، وخاصة من دولتي ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا.

وتتفق مداخلات أخرى مع غالبية الدراسات الإسرائيلية، التي تناولت "بريت شالوم" بالقراءة والتحليل، في ملاحظة أنها منذ تأسيسها شهدت صراعًا مكشوفًا بين تيارين فيها:

·        الأول: تيار بزعامة عالم الاجتماع أرثور روبين، وهو شخصية مركزية في القيادة الصهيونية في ذلك الوقت، إذ إنه شغل منصبي عضو الإدارة الصهيونية العامة ومدير قسم الاستيطان فيها، والذي تولى رئاسة الرابطة. وقد عمل هذا التيار على أن تكون الرابطة هيئة فكرية فقط متنائية عن الخلافات السياسية الداخلية في الحركة الصهيونية.

·        والثاني: التيار الذي عُرف باسم "التيار الراديكالي"، وكان يطالب بجعل الرابطة هيئة فاعلة وأحد اللاعبين المركزيين في الحركة الصهيونية. وبدءًا من عام 1927 أصبح هذا التيار هو المهيمن. وبرز بين زعمائه مثقفون يهود كبار مثل الباحث المتخصص في شؤون التصوُّف اليهودي غرشوم شالوم، والعالم التربوي عكيفا إرنست سيمون، والصحافي روبرت ويلتش، والفيلسوف شموئيل هوغو بيرغمان، وهانس كوهين، سكرتير الرابطة [الأخيران كانا على صلة وثيقة ببعضهما البعض في أثناء دراستهما الجامعية في براغ، تشيكوسلوفاكيا، واعتبرا الفيلسوف مارتن بوبر معلمهما الروحي].

لم تنجح "بريت شالوم"، بطبيعة الحال، في تحقيق إنجازات مهمة تجسد طروحاتها. ولم تغيِّر أركان الوعي الصهيوني إزاء "المسألة العربية". كما أنها أخفقت في توسيع قاعدتها الجماهيرية، بل على العكس ظلت هذه القاعدة تتقلص عامًا بعد عام، وخاصة إثر ثورة 1929 [ثورة البراق]، إلى أن أُعلن عن حلها نهائيًا في عام 1933. غير أن أفكارها الرئيسية بقيت بمثابة مصدر إلهام لمثقفين صهيونيين آخرين، لعل أبرزهم يهودا ليف ماغنيس.

ثمة أهمية شديدة الخصوصية في مداخلات الكتاب، هي تلك الكامنة في التمييز بين ثلاثة مصائر آل إليها ثلاثة أشخاص كانوا على صلة بـ "بريت شالوم"، وهم: أرثور روبين، رئيسها الأول، وهانس كوهين، سكرتيرها الأول، وي. ل. ماغنيس، الذي لم يكن عضوًا مسجلاً فيها، لكنه اعتبر أحد المقربين من المؤسسين، فضلاً عن كونه أحد المكملين لطريقها وأفكارها بعد اندثارها، كما سلفت الإشارة. وعلى الرغم من أن الحديث يدور على ثلاثة مصائر، كما سيتبين لأول وهلة، إلا إنها تشير في العمق إلى طريقين أو نهجين في مضمار وضع الصهيونية ضمن سياقها الصحيح.

ولدى سبر غور هذه المصائر نجد أنه من جهة أولى عمل ماغنيس، بعد حل "بريت شالوم"، على دفع أفكار الصهيونية الروحانية [بوحي من تعاليم المفكر أحاد هعام، وهو أشير غينزبورغ]، وعلى دفع فكرة الدولة الثنائية القومية في فلسطين/أرض إسرائيل قدمًا، معتقدًا أن في إمكانه أن يجعل هذه الأفكار تسيطر على الحركة الصهيونية برمتها، وأن تصبغ أفكارها العامة، بل وحتى على أعتاب إعلان إقامة دولة يهودية [إسرائيل] في عام 1948، ظلَّ يعمل على منع حدوث ذلك لدى جهات صهيونية مؤثرة ولدى جهات خارجية، وخاصة الإدارة الأميركية.

أما روبين فكان من جهة أخرى، حتى وهو في موقعه رئيسًا لـ "بريت شالوم"، قريبًا إلى التيار الصهيوني المركزي، الذي يتبنى مقاربة الدولة اليهودية. وتشير الباحثة الإسرائيلية حدفاه بن يسرائيل، في مداخلتها التي يضمها الكتاب والتي جاءت تحت عنوان ي. ل. ماغنيس وبريت شالوم، إلى أنه في عام 1926 وجَّه روبرت ويلتش، أحد مؤسسي الرابطة، تهنئة إلى روبين لمناسبة عيد ميلاده الستين، وقال إنه يشعر بالأسف لأنه لم يعد يعالج مشكلة العرب، فرد عليه روبين قائلاً إنه في واقع الأمر لم يعد مؤمنًا بإمكان الاتفاق مع العرب. وقد وصل هذا الردُّ إلى ماغنيس فبادر على الفور إلى دعوة روبين للانسحاب من النشاط السياسي إذا كان غير مؤمن بالاتفاق مع العرب، لأنه من دون اتفاق كهذا فإن أعمال القتل ستستمر وربما تتفاقم، وثمة ضرورة لتقديم تنازلات سياسية إلى العرب. كما أن ماغنيس وبَّخ روبين على ادعائه أن العرب غير ناضجين للديموقراطية، مؤكدًا أن الذي يتذرع بهذا الادعاء لا بدَّ من أن يكون لاساميًا. في الوقت نفسه فإن روبين بدأ يتبنى، بصورة تدريجية، جزءًا من الفرضيات التي كانت سائدة لدى المؤسسة الصهيونية، من قبيل الادعاء أن فلسطين مرتبطة بالشعب اليهودي أكثر من ارتباطها بالعرب، إلى أن اندمج في هذه المؤسسة كليًا، غير أنه بقي يؤيد "بريت شالوم" ويدافع عنها في اجتماعات الوكالة الصهيونية، وكانت حججه هي أنه حتى لو تميزت نشاطاتها بالسذاجة، وحتى لو لم يُكتب لها النجاح، فمن المفيد أن يرى العالم "أننا حاولنا طريقًا أخرى!"

عند هذا الحدِّ يُطرح السؤال: لماذا لم ينضم ماغنيس إلى "بريت شالوم" بصورة رسمية؟ تميل معظم الاجتهادات في هذا الشأن إلى أن السبب الرئيس وراء ذلك هو أنه تميَّز، في حياته كلها، بنزعة عمل فردانية مطلقة. غير أن هذا التفسير يبقى ناقصًا. ويبدو أن السبب الأساسي هو أن ماغنيس لم يؤمن بأن أعضاء "بريت شالوم" كانوا أنصار سلام مناهضين للعنف قلبًا وقالبًا، في حين كان يرى أن الحل لمشكلة اليهود والعرب في فلسطين يجب أن يكون منطلقًا من مناصرة السلام ومناهضة الحرب والعنف بصورة مطلقة لا لبس فيها، ومن إيمان كامل بطريق السلام فحسب. وقد كان متشككًا بأن أعضاء الرابطة، وخاصة أرثور روبين، اختاروا التمسك بالمقاربة الثنائية القومية لأسباب عملية، لا من منطلق الالتزام المطلق بالسلام. وقد سجل في يومياته، مثلاً، أن جزءًا منهم كان سيتهلل فرحًا لو أن بالإمكان التخلص من العرب بطريقة ما. من ناحية ثانية، فإنه آمن أن الديانة اليهودية هي ديانة الأخلاق والسلام على نحو إطلاقي. ولذا فإن النزعة الأخلاقية كانت في رأس سلم أولوياته. وتشير الدراسات عنه إلى أن صهيونيته ارتكزت إلى ثلاث غايات رئيسة تطلع إلى بلوغها، وهي: تجديد الروحانية اليهودية؛ إنشاء مجتمع مثالي في أرض إسرائيل؛ صوغ إنسان يهودي جديد. وبناء على ذلك فقد رفض وعد بلفور [فور صدوره في عام 1917] جملة وتفصيلاً، وذلك لأنه يجعل الصهيونية مرتبطة بدولة إمبريالية عظمى، ولأنه يمنح امتيازات سياسية لليهود [من خلال دعم إقامة وطن قومي لهم] ويسلب السكان غير اليهود الحق في تقرير المصير.

هكذا نصادف أن الغلبة في أوساط المثقفين اليهود، الذين كافحوا من أجل "تصحيح المواقف الصهيونية" إزاء "المسألة العربية" من داخل هذه الحركة نفسها، لم تكن من نصيب أصحاب النزعة الأخلاقية، على غرار ماغنيس، في حين أن آخرين، على غرار روبين، انضووا لاحقًا تحت لواء المواقف، التي كانوا ينادون بتصحيحها، وحمَّلوا العرب وزر هذا الانزلاق.

مع ذلك لا بدَّ من الالتفات إلى مصير ثالث منطوٍ على طريق مضادة، كان من نصيب هانس كوهين، وهو أحد مؤسسي "بريت شالوم" وأول سكرتير لها، وفحواه إعلان اليأس من إمكان "تصحيح الصهيونية". وكان من الطبيعي أن يستتبع ذلك قيامه بالاستقالة من منصبه رئيسًا لدائرة الدعاية في "كيرن هيسود" [الصندوق التأسيسي] في الوكالة الصهيونية، والذي كان بمنزلة المصدر التمويلي المركزي للنشاط الصهيوني، ومن ثمَّ هجرته من فلسطين إلى الولايات المتحدة، حيث انخرط في البحث الأكاديمي، وأصبح من الباحثين الرواد في المسألة القومية.

وقد كتب كوهين، في إثر ثورة البُراق عام 1929، مقالة في صحيفة ألمانية [هي صحيفة "فرانكفورتر تسايتونغ"] تضمنت اتهامًا صريحًا للصهيونيين بالمسؤولية عن تلك الثورة، وتفهمًا لردة الفعل العربية على الخطط الصهيونية. لكن الأهم من ذلك أن كوهين أوضح، في رسالة استقالته، التي كتبها في 21 تشرين الثاني 1929، أنه انضم إلى صفوف الحركة الصهيونية في عام 1909 لأنه وجد أنها تتيح إمكان العمل "في إطار حركة يهودية روحانية من أجل السلام والمُثل العالمية [الما فوق قومية]"، وهذا يعني أنه اعتبر الصهيونية بمثابة محطة أو مرحلة انتقالية إلى المُثل العالمية، وعندما أخفقت في أن تكون كذلك، بدءًا من عام 1929 وفقًا لجدوله الزمني الخاص، قرر تركها ومغادرة البلد مرة واحدة وأخيرة.

***

3
هكذا تكلم هانس كوهين

يشتمل كتاب بريت شالوم [تحالف السلام] والصهيونية الثنائية القومية: المسألة العربية كمسألة يهودية [2008] على مداخلة كتبها محرره، الباحث الجامعي عدي غوردون، تتعلق بهانس كوهين، أول سكرتير لهذه الرابطة، وهي بعنوان حب خائب: استقالة هانس كوهين من الحركة الصهيونية. وفيها يعيد تأكيد الإحداثيات التالية: استقال كوهين من وظيفته في "كيرن هيسود" في خريف 1929، لأسباب ضميرية، إذ رأى أن احتمالات جسر الفجوة بين مواقفه وبين وجهة النظر الصهيونية الرسمية أصبحت معدومة [لكن الكاتب أشار أيضًا إلى أن هذه الاستقالة جاءت على ركام جبل هائل من حملات الهجوم التي تعرَّض لها بسبب مواقفه من ثورة البراق، وذلك من جانب المؤسسة الصهيونية الرسمية وأبواقها الإعلامية]. وواصل نشاطه في "بريت شالوم" إلى أن استقال منها أيضًا في أيلول 1930، معتبرًا أنها ساومت في موضوعات لا يجوز المساومة فيها مطلقًا. وفي تشرين الثاني 1933 تلقى دعوة لتدريس التاريخ الحديث في "سميث كوليج" في ولاية مساتشوستس الأميركية فلباها، وفي ربيع 1934 غادر فلسطين برفقة زوجته وابنهما ولم يعد إليها بتاتًا.

ويبين غوردون أن كوهين كان من أشد أنصار المقاربة الثنائية القومية، في فترة تأسيس "بريت شالوم"، لكنه عندما شعر أن هذه المقاربة غير قابلة للتطبيق في ظروف فلسطين المستجدة، فإنه تبنى مقاربة أخرى تدعو إلى الاعتراف باليهود كأقلية في فلسطين، بحيث تكون حقوقها ووجودها محصنة وفقًا للقانون وبحماية بريطانيا وعصبة الأمم. وبرسم هذه المقاربة صاغ، في تشرين الثاني 1929، مشروع دستور للرابطة. غير أن مقاربته هذه لم تثر اهتمام أحد، لذا فإن طلاقه من الحركة الصهيونية بات سريعًا. وتدل يومياته والرسائل، التي كان يبعث بها إلى أصدقائه، على أن خطوة ترك صفوف الحركة الصهيونية كانت ناجمة، أكثر من أي شيء آخر، عن

إدراكه أن طريق الصهيونية هي طريق غير صحيحة وغير أخلاقية.

وقد كانت ثورة البُراق (أحداث 1929)، وخاصة ردة الفعل من جانب الحركة الصهيونية وبريطانيا على هذه الثورة، هي السبب المباشر وراء استقالة كوهين من الحركة الصهيونية. غير أن خلفية هذه الاستقالة كانت آخذة في التبلور قبل ذلك التاريخ، وهي خلفية مرتبطة باعتقاده أن تطبيق الصهيونية لا بدَّ من أن يكون مقرونًا بممارسات مرفوضة من الناحية الأخلاقية.

وتشير المداخلة إلى عام 1928 باعتباره العام الذي حسم اختيار كوهين هذا نهائيًا، وذلك بسبب حادثتين بارزتين وقعتا خلاله:

·        الأولى: احتدام الجدل بين كوهين وبين رئيس "بريت شالوم"، أرثور روبين، بشأن ضرورة تحويل الرابطة هيئة سياسية فاعلة في الخريطة الحزبية الصهيونية، وقد رأى كوهين أن عدم تحويلها هيئة ذات وزن من شأنه أن يحملها مسؤولية أخلاقية شديدة الوطأة.

·        الثانية: في 8 حزيران 1928 لقي عابرا سبيل عربيان مصرعهما بالقرب من بيت كوهين، على يد متطرفين يهود، لكن أحد جيرانه حاول إقناعه بأن يدلي بشهادة زور فحواها أن الذين ارتكبوا الجريمة هم العرب. وحول هذه الحادثة كتب كوهين في رسالة بعث بها إلى الصحافي روبرت ويلتش ما يلي:

لقد تدهورنا إلى حضيض مريع بسبب تطرفنا القومي. [...] يمكن القول إن 95 بالمئة من أبناء الييشوف يؤيدون، في الوقت الحالي، جرائم قتل كهذه. [...] لقد قُتل أناس أبرياء سُذَّج تصادف وجودهم عرضًا في ذلك المكان. حتى الألمان لم يفعلوا ذلك. وفي حين أن المثقفين الفرنسيين أقاموا الدنيا جراء قضية درايفوس، فإن جريمة القتل هنا لا تهم أحدًا على الإطلاق. وكما حدث في الحرب العالمية [الأولى] فإن أي بربرية، كما هذه الجريمة البربرية، تُعرض باعتبارها نتيجة حتمية. وإنني أستشف المشكلة العملية الكامنة في موقف كهذا، وذلك أبعد من المشكلة الأخلاقية. إلى أين سيقودنا هذا كله؟ يدعي بن تسفي [يقصد إسحاق بن تسفي الذي أصبح ثاني رئيس لدولة إسرائيل] أن هذا العمل سيردع العرب، لكنني أدعي العكس تمامًا. [...] لقد انفلتت هنا مشاعر عنصرية من الصعب وصفها.

في واقع الأمر فإن كوهين كان يقوم بجولة في أوروبا عندما اندلعت ثورة 1929، وقد تعقب ما حدث خلالها وهو في الخارج، وكتب عن ذلك في يومياته. وفي هذا الصدد اعتبر أن المسؤولية عن اندلاع الثورة تقع على عاتق الحركة الصهيونية، لأنها أحجمت عن انتهاج سياسة أخرى إزاء السكان العرب. وحضَّ كوهين كلاً من الفيلسوف مارتن بوبر (معلمه الروحي) ويهودا ماغنيس على التحرُّك الفوري من أجل إحداث تغيير في السياسة الصهيونية يحول دون خوض حرب طاحنة مع الحركة القومية العربية.

وفي إحدى رسائله إلى ماغنيس، من تلك الفترة، كتب يقول:

إن أخشى ما أخشاه هو أن تسير الصهيونية في الطريق الخطأ، التي تمضي فيها الحكومات كلها. [...] أخشى أن يكون أصدقاؤنا غير مدركين للوضع الحقيقي، أي لواقع أننا نواجه "ثورة قومية" لأمة مقهورة. إن الجماهير العربية الشعبية تحارب من أجل الأمة، أو من أجل الفكرة والمثال القوميين، مثل شعبنا تمامًا، أو مثل الشين فين [الجيش الجمهوري الإيرلندي] في حينه. وقد بقي أمامنا الآن طريقان: إما قمع العرب وإخضاعهم بواسطة استعمال القوة المفرطة، القوة العسكرية الإمبريالية أو القوة الكولونيالية من النوع الأسوأ، وإما أن تكشف الصهيونية، أخيرًا، عن وجهتها الحقيقية، وفحواها أنها ليست معنية لا بإقامة دولة ولا بجعل اليهود أكثرية ولا بتحقيق نفوذ سياسي. [...] يتعين علينا جميعًا أن نبذل كل ما في وسعنا كي نجد مسارات تربطنا بالعرب، وكي نغير ملامح الصهيونية كليًا إلى ناحية مناصرة السلام ومعاداة الإمبريالية واعتماد الديموقراطية، ففي ذلك كله تكمن الدلالة الحقيقية للروح اليهودية. وإذا ما تخلفنا عن أداء هذه المهمة فإنني أخشى ضياع الصهيونية الحقيقية.

غير أن الأمل، الذي راود كوهين، بـ "تصحيح طريق الصهيونية" سرعان ما تلاشى، وغداة توجيهه الرسالة السالفة إلى ماغنيس، كتب في يومياته أن سياسة الإدارة الصهيونية أسوأ كثيرًا مما كان يتوقع ذات مرة، لذا

لا يجوز لنا البقاء هناك، ولا يجوز لنا أن نكون جزءًا من هذا المشروع، وبناء عليه يجب أن نستقيل ببطء! أن نصمت وأن نقول وداعًا!

وبعد هذه الملاحظة بيوم واحد كتب أيضًا أن قرار ترك صفوف الصهيونية يتعزَّز لديه أكثر فأكثر، ولم يعد في إمكانه أن يتحمل المسؤولية عن ممارساتها، وهذا يعني عدم قدرته على تحمل المسؤولية عن الجريمة.

وفي 18 أيلول 1929 كتب في رسالة إلى ويلتش قائلاً:

لم يعد في إمكاني أن أبقى هناك أكثر، لأن ما يتطوَّر يتناقض مع أهدافي، كما أن نشاطي في المجموعة [بريت شالوم] يجري استغلاله من أجل التستر وتشجيع ما لا يجوز التستر عليه أو تشجيعه.

وخلاصة القول إن موقف هانس كوهين إزاء الصهيونية، الذي أدى إلى توصله لاستنتاج قاطع يفيد بعدم صحة طريقها في ما يتعلق بـ "المسألة العربية"، انطلق أساسًا من رؤية التناقض الفاضح بين ممارساتها وبين المقاربة الأخلاقية، وهي الرؤية نفسها التي انسحبت على موقفه إزاء "بريت شالوم" أيضًا.

وبغية إضاءة هذه الرؤية أكثر، نشير إلى ما يلي:

·        أولاً: أكد كوهين أنه يتعين على "بريت شالوم" أن تحسم بين خيارين: إما الأخلاق وإما الصهيونية. وأضاف في السياق نفسه: إن أرثور روبين لاحظ هذه المواجهة بدقة متناهية، واختار الصهيونية، لذا فإن أخلاقيته، منذ هذا الاختيار فما بعد، أصبحت في عداد الأموات.

·        ثانيًا: في أكثر من مناسبة استفظع كوهين حقيقة أن الكثيرين من أعضاء "بريت شالوم" كانوا متمسكين بوجهة نظر مغلوطة لا يجوز، بموجبها، التخلي عن الصهيونية حتى في حال استحالة تطبيقها بوسائل أخلاقية، وبذا فقد أخذوا يشرعنون استعمال القوة، وعندما يغدو "الخيار بين سياسة القوة وبين ترك صفوف الصهيونية، فلا بدَّ من أن أختار الطريق الثانية". من ناحية أخرى فإنه عبَّر عن رفضه أن تتحول الرابطة ورقة التوت التي تستر عورات الصهيونية السياسية.

·        ثالثًا: في كتابه شرق وغرب [الصادر في برلين في عام 1931] كتب ما يلي:

إن التاريخ يظهر، بجلاء، أن الشعوب المقهورة حظيت بالحرية من خلال الهبَّات [الشعبية] والوسائل العنيفة فقط، وبناء على ذلك فإن انعدام مثل هذا الأمور كان بمثابة دليل للقاهرين على أن الأوضاع هي على ما يُرام.

من ناحيتهم.

·        رابعًا: كان كوهين أحد أنصار السلام القلائل في "بريت شالوم"، ولذا فقد اعتبر أن ثورة 1929 هي محك حاسم لا للقيم الأخلاقية والقيم اليهودية فحسب، وإنما أيضًا لمبادئ مناصرة السلام ومناهضة العنف. وقد كتب في رسالة إلى مارتن بوبر مؤرخة في 2 أيلول 1929 "علينا أن نثبت أنفسنا الآن. إذا لم نفعل ذلك الآن فما نفع مناصرتنا للسلام ومناهضتنا للإمبريالية وتأييدنا للاشتراكية؟".

·        خامسًا: إن عاملاً رئيسًا في عزوف كوهين عن الصهيونية واستقالته من "بريت شالوم" كان كامنًا في اقتناعه الذي بدأ قبل ثورة 1929، أن زعماء الصهيونية والأكثرية الساحقة من أبناء "الييشوف" العبري غير معنيين عمليًا بإنهاء النزاع مع العرب.

·        سادسًا: كتب كوهين في يومياته، بتاريخ 13 نيسان 1930، ما يلي:

إن كفاح أنصار السلام يجب أن يكون، أولاً وقبل أي شيء، ضد النزعات القومية. وهكذا فقط يمكن نزع السلاح. تحديد الأهداف: أ) على المدى المباشر: لا يجوز للشخص الفرد أن يتطوَّع ويشترك [بحجة الدفاع عن أمته] في حرب أو في الإعداد لحرب؛ ب) على المدى البعيد: إنهاء عهد ولاء الفرد للأمة باعتباره واجبًا عُلويًا، وتربية الإنسان على الولاء للإنسانية والدولة العالمية [الدفاع عن الإنسانية في مواجهة الأمة].

وبقدر ما إن أحكام كوهين بشأن الممارسات الصهيونية العينية كانت صائبة، فإن توقعاته للمستقبل شفَّت عن بُعد نظر وعن كفاءة لافتة في استشراف الآتي، وهي تبدو هنا والآن أشبه بالنبوءة في حينه. ومنها، مثلاً، أنه كتب في رسالة إلى ويلتش، في ربيع 1930:

من المنطقي الافتراض أنه سيكون بالإمكان، عبر استعمال وسائل عدوانية فتاكة، تأسيس أكثرية [يهودية] هنا [أي في فلسطين]. لكن ما الذي سيحدث عندئذٍ؟ لا شيء. ستقام دولة يهودية صغيرة. فما لي ولها؟ إذا كنت [أصلاً] معنيًا بدول فسأعنى بدول مثل الدولة الانكليزية أو الدولة الروسية، حيث توجد إمكانات كبيرة لصوغ مستقبل وإنسان من نوع جديد، وهو أمر سيظل مفتقرًا هنا [في الدولة اليهودية] بصورة مطلقة. علاوة على ذلك فإن هذه الدولة الصغيرة ستكون، دائمًا، مدججة بالسلاح حتى العنق، ضد حالات الانفصال من الداخل، وضد "العدو" المحيط بها.

وفي صيف 1932 كتب في يومياته:

إن الصهيونية هي، على نحو مكشوف تمامًا، حركة اضطهاد معادية للاشتراكية وقامعة للحريات. [...] وفي هذا الشأن فإن النيات الطيبة للبعض، أو العقلانية الذاتية لأفراد قلائل، مثل هوغو بيرغمان، لن تكون نافعة على الإطلاق.

ولإتمام الدائرة من حول أفكار هانس كوهين، هذا المثقف اليهودي الذي قرَّر العزوف عن الصهيونية بعد أن تبين له من خلال الوقائع الملموسة أن طريقها ليست أخلاقية بتاتًا، وكان بمثابة نموذج غير مسبوق، إليكم ترجمة مقاطع من رسالة استقالته من "كيرن هيسود"، التي كتبها في 21 تشرين الثاني 1929، ووجهها إلى المسؤول عنه، برتولد فايبل، وتضمنت معتقداته الرئيسة، وقد جرت الإشارة إليها في سياق سابق، وهي تُعدُّ الرسالة الأكثر اقتباسًا عنه:

[...] إن المسألة العربية هي المحك الأساس للصهيونية. وموقفي هذا لم ينجم عن تماهٍ مع العرب، أو عن تثمين فائض لسجاياهم، إذ إن جلَّ اهتمامي كان دائمًا منصبًا لا على العرب، وإنما على اليهود ويهوديتهم وصمودهم في المحك البشري. وفي هذا الشأن فإن الهستدروت الصهيونية قد خيبت الأمل كليًا، كما تبين لي شيئًا فشيئًا. إن التجربة الحاسمة كانت الهبَّة القومية العربية في آب 1929 [...] إننا نتطلع لأن نكون ضحايا الهجوم، الأبرياء من أي ذنب [...] غير أننا يجب أن نرى الأسباب العميقة لهذا التمرُّد [...] إن الحركة القومية العربية آخذة في تعزيز قوتها، وستستمر في تعزيزها. والتوصل إلى اتفاق معها، بعد فترة قصيرة، سيكون أصعب مما هو عليه الآن، حتى ولو ازداد عددنا في البلد بعشرات ألوف أخرى. أعتقد أن في إمكاننا البقاء لفترة طويلة في أرض إسرائيل، بل والتوسع أيضًا فيها، بداية بمساعدة [الحراب] الانكليزية، ومن ثمَّ بمساعدة حرابنا الذاتية، التي نطلق عليها اسمًا معيبًا هو الـ"هاغاناه" – أي الدفاع [...] لكن بهذه الطريقة لن يكون في إمكاننا البقاء من دون الحراب. وستغدو الوسائل هي التي تحدِّد أهدافنا. وعندها لن يبقى في أرض إسرائيل اليهودية أي ذكر من صهيون التي كنت أعمل من أجلها.

غير أن كوهين لم تكفه مؤونة هذه الاستنتاجات وغيرها، على أهميتها الفائقة، وإنما اختار العزوف عن طريق الصهيونية معلنًا قنوطه من احتمالات إعادتها إلى "جادة الصواب"، وهاجر من فلسطين كليًا.

ومع أن مسلكه هذا كان في حينه استثناء لا يلغي القاعدة، إلا إنه قدَّم نموذجًا فريدًا في كيفية تحقيق السموِّ الأخلاقي وترجمة الأقوال أفعالاً.

عكا

*** *** ***

النهار


 

horizontal rule

٭ باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود