اعترافات آخر متصوفة بغداد
الحلقة الثالثة: دوامة الانقلابات

 

سعدون محسن ضمد

 

ثانيًا: الصدق عدة الأنبياء

هل يمكن للمنافق[1] أن يكون نبيًا؟ الجواب المباشر والساذج سيقول: لا.. بالتأكيد لا.. لا يمكن للنبي أن يكون منافقًا. أما الجواب الدقيق فيجب أن يكون: لا بالتأكيد لا يمكن للمنافق أن يكون نبيًا. والسبب أن النفاق داء يتعارض مع صفة الصدق مع الذات. المنافق لا يفعل الأشياء لذاتها، لا يمارسها بتلقائية، وبالنتيجة لا يمكن له أن يغوص بأعماق ذاته فضلاً عن أعماق الأشياء الأخرى. وهذا ما سيجعله طافيًا على سطح الأشياء ومكتفيًا بمظاهرها.

النبوة بحاجة إلى نوع خاص جدًا من الصدق، يسميه المتصوفة بـالإخلاص. وهم لا يقصدون مفهوم الإخلاص فقط، بل وطريقه الذي يشترطون للسير عليه طرقًا خاصَّة ورياضات متعبة، لا يبوحون بإسرارها إلا لمن يتيقنون من قابليته التكوينية على أن يكون صادقًا. وهنا أريد أن أغتنم الفرصة لأؤكد على الجانب التكويني من موضوع الصفات التي تؤهل شخصًا ما لأن يكون نبيًا... نعم فأن يكون الإنسان كاذبًا هو الآخر خطأ تكويني لا يتحمله هو، وبالتالي فالكذب ليس خطيئة أبدًا. على الأقل لأن الموضوع متعلق بالتربية، والتربية ليست من ضمن خيارات الإنسان، هذا فضلاً عن مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تضطر إنسانًا ما لأن يكون كاذبًا.

المهم، ما أردت أن أتوقف عنده مليًا هو تعارض النبوة مع النفاق. وخاصَّة بالنسبة لموضوع البحث عن الحقائق. فالقدرة على البحث أو الهوس المتعلق به لا يتعارض مع النفاق. ومن شأن المنافق أن يكون باحثًا من طراز ممتاز. لكنه سيظل، وكما قلت، محبوسًا في النتائج السطحية؛ لأنه لا يريد الأجوبة لذاتها بل للأسباب الأخرى التي تدفعه للنفاق.

الصدق عُدَّة يحتاجها الباحث عن أجوبة الأسئلة الكبرى، وهذه العدَّة تمكنه وحده من أن يغوص لما هو أبعد من أسطح الأجوبة. فقد يكف المنافق عن البحث في أسرار الدين، عندما يجد بأن الأجوبة التقليدية ترضي الناس، بل وتجعلهم يلتفون حوله، الأمر الذي يشغله عن الاستمرار بالبحث، بل وحتى لو أدرك أن هذه الأجوبة – التقليدية – غير صحيحة فإنه سيمتنع عن النبش في أعماقها خوفًا من أن يذهب رضى الناس أدراج الرياح. لكن مع الإنسان الصادق سيكون الأمر مختلف جدًا. فهو، أولاً، لا يعبأ بآراء الآخرين، وهو، ثانيًا، لا يطلب من وراء البحث عن الجواب إلا نفس الجواب، وبالتالي لا يمكن له أن يستقر على جواب وهو يشك أدنى درجات الشك بكونه متعلقًا بسؤاله أو كافيًا لإطفاء ناره.

الصدق عُدَّة الأنبياء، هذه الحقيقة اتفق عليها جميع المتصوفة، وأخبر بها جميع الأنبياء. ولذلك كثيرًا ما يبلغ الصدق بالباحث الحقيقي حد أن يحوله إلى أبله بين الناس. أو ربما مجنون، أو متهتك.

كم من منافق أدرك بعضًا مما أدركه الحلاج، مثلاً، إلا أنه لم يفكر بأن يبوح بشيء منه. أما بالنسبة للحلاج فإن الموضوع لم يكن بحاجة إلى التفكير أو التأمل، فإعلان الإجابة خطوة مهمة في طريق البحث عن المدى الأبعد من مدياتها. لذلك يجد المنافق بأن الصادق أبله لأنه يفرط باحترام الناس وبالغنائم التي يجرها هذا الاحترام، وهو يُسْمِعهم ما لا يريدون سماعه، وفعلاً ألا يكون أبلهًا من يعلن الحقيقة على ملاء لا يريدون سماعها، متجاهلاً، مع ذلك، مخاطر إعلانه؟ أي أبله يعلن ما لا يحظى بأي قبول. الصادق هو الآخر يعتقد بأن المنافق أبله، ويعجب كيف أنه يتوقف عند الإجابات السطحية، كلما وجد بأن الإجابات الأبعد منها تطالبه بمخاطر التفريط بالمصالح.

ثالثًا: التمرد

عندما يتميز إنسان ما بولع عال بالبحث وصدق تام، فسيكون حتمًا صاحب وعي نقدي. ومثل هذا الوعي لا يستطيع أن يبقى على حال ثابتة، أو يدين بدين واحد عمره كله. والسبب واضح: ذلك أنه لن يكف عن تقليب أفكاره على جميع وجوهها. لن يكف أيضًا عن التشكيك بمدى صدقها، ومطابقتها للواقع الذي تحكي عنه، وعند أي وعي من هذا القبيل لا تستطيع أي فكرة ومهما كانت كبيرة أن تصمد ولا تترهل أو تكشف عن تناقضاتها، أو تتفكك إلى مجموعة من الأسئلة المثيرة للريبة.

عندما يؤمن الوعي التقليدي (غير النقدي) بفكرة ما، فإنه سيكرس نشاطه للتعرف على حدود هذا الإيمان وممارسة طقوسه، والعناية بكيفيات تطبيقه، وسبل إقناع الآخرين به، وأساليب الدفاع عنه ضد المعترضين عليه أو المشككين به. أما الوعي (النقدي) فإنه إذا آمن فلن يجد نفسه أكثر الأحيان مهتمًا لا بتطبيق إيمانه ولا بإقناع الآخرين بجدواه، بقدر ما أنه سيركز اهتمامه بالتساؤل عن حقيقة هذا الإيمان، صدق مقولاته، قدرته على برهنتها، وأخيرًا قدرته على أن يكون مجديًا ومستمرًا. في النتيجة، الوعي النقدي أشبه بمحكمة دائمة الانعقاد، دائمة التساؤل والاتهام والتشكيك.

عرفت الكثير من الأصدقاء ممن يمتلكون مثل هذه الطاقة النقدية، ووجدت أنهم جميعًا محرومون من الإيمان المستقر الخالي من المتاعب، وعند لقائي بأي منهم كنت أحصد كمًّا هائلاً من علامات الاستفهام وعددًا من الطرائف المضحكة التي تحاول أن تترجم حجم المأساة التي يعاني منها إنسان ضائع لا يستطيع أن يجد مساحة من الإيمان كافية لاحتضان تمرده وإسكات ضجيج أسئلته الصاخب، ولذلك هو يفزع لإفراغ جزء كبير من هذه الطاقة على شكل أسئلة وطرائف.

إذن، للنبوة علاقة وثيقة بالشخصية المتمردة وانقلابات أفكارها، ولولا هذه العلاقة لما كان الأنبياء أصحاب تيه فكري وغربة روحية. النبي شخصية انقلابية بالتكوين، هذا ما تؤكده سير الأنبياء، موسى انقلب على الديانة السائدة في مصر وكاد أن يتسبب بإهلاك بني إسرائيل. وعيسى انقلب على اليهودية، يوم وجد أنها، كديانة، قد ترهلت أكثر مما تحتمل الرسالة التي هي بصدد إيصالها للإنسانية... ولو استمر الزمن بالمسيح لا نقلب على المسيحية. وعندما نقوم بتفكيك دين من الأديان فأننا لن نجد بأنه دين واحد، بل مجموعة من الأديان، ولذلك نجد في كل دين مقومات اتجاه باطني تأملي روحاني، ونجد فيه، في نفس الوقت، مقومات اتجاه تطرفي متشدد وأحادي النظرة. ذلك أن كل دين يحمل في طيات أفكاره جزءًا من تيه الصوفي وضجيج أسئلته، ونجد فيه جزءًا من استقرار النبي وتعاليمه الصارمة. ونجد فيه أيضًا أوامر الملك وقوانينه. في الأديان صوفية النبوة، الصوفية التي ينقلب عليها النبي بمجرد الانتقال من هموم الصوفي الباحث عن العزلة إلى هموم النبي المنهمك بالإصلاح. في النبوة نَفَس انقلابي يستهدف هموم الصوفي وجدواها. النبوة، ولاشك، تحتضن بداخلها مقولات لا تؤمن بجدوى الانقطاع عن الناس والتعبد في الكهوف والبراري، مع أن هذا الانقطاع هو الذي أسس للنبوة ووفر مقدماتها.

وهناك من الأنبياء من انقلب على نبوته يوم تحول إلى ملك وأسس لدولة، والدليل على أن التحول من النبي إلى الملك هو نحو من أنحاء الانقلاب هو: أن النبوة فكرة إصلاحية تنطلق من الذات، النبوة إصلاح (تعاليمي) أما الدولة فمؤسسة ضبط اجتماعي. النبي يعلم الناس والملك يسوسهم. وفي ظني لا تدل هذه الانقلابات إلا على شيء واحد، هو اتقاد نزعة التمرد عند الشخص الذي يتحول من صوفي إلى نبي إلى رسول ثم إلى ملك. وأكاد أجزم بأن لو امتد الزمن بالملك النبي لترك دولته ومهما كانت مترامية الأطراف ولترك أصحابه ووحيه وكتابه وحوارييه وعاد إلى كهفه أو صحرائه أو صومعته يبكي من شدة الوحشة التي يسكبها عليه شعوره بلا جدوى كل هذا الذي صنعه.

يبدأ الصوفي زاهدًا إلا بالمعرفة، ثم يزهد بكل المعارف إلا بتلك المتعلقة بالمطلق، أو المحبوب كما يسميه بعد حين. وخلال رحلة البحث والضياع وإشباع نهم الأسئلة لا تجد الصوفي معنيًا بغير نفسه... هل سمعت بأن صوفيًا اعتنى بتلاميذ وصنع حلقات وأسس لمدارس قبل أن يهوى ببئر الفناء ويسقط على قاع التوحيد الموحش وحيدًا فريدًا إلا من جهل مطبق وغربة بلا ملامح؟

أبدًا، الصوفي، وقبل أحوال الفناء والتوحيد، لا يعتني بغير حاله هو، والسبب أنه لا يؤمن بجدوى الإرشاد، بل يكفر بأي تعليم أو تعاليم، ولذلك هو يتنكر لها. لو كان الصوفي يؤمن بالتعاليم لاستقر على دينه الذي ولد عليه، ولما أجهد نفسه بالبحث عما ورائه. في الأديان إجابات شافية لكل من يستطيع الاقتناع بإجاباتها، بالأحرى لكل من يؤمن بها، ولذلك تجد أصحاب الوعي التقليدي لا يرف لهم جفن أزاء أي سؤال مهما كان ملحًا أو عميقًا أو مشاكسًا. سل المتدين عن أي شيء وسيبتسم أمامك ابتسامة الواثق من إحاطته بكل شيء. وسل الصوفي عن أي شيء وستجد بأنه يسرع بإعلان أفلاسه أمامك وعجزه عن الإحاطة بأي شيء.

لكن ما يلبث الصوفي حتى يتحول إلى أستاذ، ما يلبث حتى يتنكر إلى اللاجدوى التي كان يصدح بها، يكفر بدين التشرد الذي كان يرتل آياته قبل حين، الدين الذي كان يستهزئ بحلقات الفقهاء ومدارسهم، التي يعتقد بأنها تكفر بالنبوة لأنها تترجمها إلى مجموعة تعاليم. الصوفي يكفر بهذا الدين عندما يعمد هو إلى التأسيس لدينه وتعاليمه. وهذا الكفر هو نحو من أنحاء الانقلاب. هكذا يتحول التلميذ الذي لا يحسن غير طرح الأسئلة إلى معلم لا يفعل شيئًا غير ملاحقة أسئلة تلاميذه. لكن ما الفائدة، ما فائدة تأسيس المدارس (الباطنية) ونشر حلقات الذكر، إذا كان الوعي النقدي أشبه شيء باللعنة. فبعد حين لا بد للعنة التمرد من أن تُحرج (الصوفي/ الملك) وتعيده (صوفيًا/ زاهدًا) من جديد. تعيده إلى غربته وضياعه. ولذلك سرعان ما تجده يضحك من نفسه ومن هذا الذي صنعه توًا، ينظر إلى مجموعة تلاميذه فلا يكاد يتذكر ملامحهم ولا يعرف السبب الذي يجعلهم يحتشدون حوله. وهنا يكون الصوفي أمام خيارين، أن يخون تمرده ويستمر معلمًا الأمر الذي يقوده إلى الانهيار شيئًا فشيئًا، كما فعل الجنيد. أو يتحول إلى مجنون ملعون بالذهاب بعيدًا خلف الأسئلة الكبرى، مهما كانت نتائج هذا الذهاب موحشة ومخيفة، وهذا ما فعله الحلاج.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] أعتقد بأنني لا أتكلم عن صفة النفاق (بالمعنى القاموسي) لها، لكنني أريد أن أشير من خلالها لكل ما يتعارض مع الصدق، وسواء أكان مع الذات أم مع الآخرين. وهنا أنا أتحدث عن معنى، أو درجة، من الصدق

عالية جدًا، يمكن لها أن تصل بالإنسان حدَّ أن يختار الموت على أن يكون كاذبًا، وهذا لا يعني بأن هذا الشخص لا يمارس الكذب أبدًا، ولا أعتقد بأن الكذب المعرف أو المألوف أو اليومي يتعارض مع الإخلاص أو الصدق مع الذات، بل الكذب المضر بالآخرين أو الذي يسبب الأذى لهم. وبهذا المعنى فكل الأنبياء كذبة بنحو أو بآخر، ذلك أنهم لم يكونوا صادقين بإخباراتهم، على الأقل الإخبارات المتعلقة بالغيب أو الإله. بمعنى أنهم كانوا يجيبون الناس على أسئلتهم بالمقدار الذي يستطيعون استيعابه. إذن ما أقصده من الصدق هو ذلك الذي تكلم عنه الصوفية وكثيرًا ما تغزَّلوا به.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود