قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية: ذلك البياض للشاعر عبد الباقي فرج
البياض المتجذر

 

رياض عبد الواحد

 

تشير معظم الدراسات ما بعد البنيوية، وكذلك الدراسات الخاصة بجماليات التلقي إلى أهمية النصوص المحايثة وموجهات القراءة التي تشمل (الثريا، الأهداء، الأغلفة والخطوط... إلخ) التي تمثل بمجموعها سياقات صغرى تنتظم فتعضد من مباني السياقات الكبرى أو تكون موازية لها في أقل تقدير.

في المجموعة التي نحن بصددها، ينخذ الغلاف الأول حيزًا مهمًا مما هو محايث، فاللوحة التي رسمها المبدع فيصل لعيبي تستحق التأمل. يمكن تصنيف التصميم الذي حمله الغلاف الأول ضمن بنية الفن التشكيلي التجريدي. اللوحة موضوعة داخل مربع. والمربع كشكل هندسي له دلالة الاستقرار، إذ أن زواياه القائمة هي من الزوايا التي ترتاح لها الفطرة منذ نشأة الإنسان، وهي بعد ذلك زوايا وسطية، بمعنى أنها تقع بين الزوايا الحادة التي تحدث اختناقًا والزوايا المنفرجة التي تسرب الأحاسيس وتفقد السيطرة على المكان. يتخذ اسم الشاعر موقعًا علويًا في وسط الغلاف وبخط أسود لأحداث تضاد لوني مع البياض الطاغي على الغلاف إضافة إلى توجيه المتلقي لصانع العمل ومنتجه. اللون الأبيض الطاغي على الغلاف هو جزء من الثيمة الرئيسة لثريا المجموعة بل والمعضد الرئيس لها، أما اللون الرمادي الذي يقع على يسار الغلاف فيوحي إلى الفضاء الخارجي وإلى الخلاء الكوني الحاوي للأجسام والخاص بما هو مادي - حسي أو غير حسي، لذلك وضع تجنيس العمل فوقه بكلمة "شعر". في وسط المربع يحتل وجه بملامح سومرية المساحة الاوسع، وأظن أنه وجه فتاة لأن سحنة العين والشفاه توحيان بذلك على الرغم من لا ظهور الجفون فيها. يشكل الأنف والحاجب شكل منجل ويتكثف الشعر على جهتي الرقبة بنحو يشبه العلامة الموسيقية الموحية بوجود تنغيم مختلف الرؤى في حياة الصورة. في الجهة اليمنى من اللوحة ثمة هلال ونجمة سباعية. يوحي الهلال بأنه يحتضن النجمة ذات الشعاع الذي يرمي إلى الانبثاق والبزوغ. الهلال ذو الترسيم المنحني يشي بالمرونة والانسياب. ظهر الوجه بعين واحدة منبهرة إزاء ما أمامها، أما الحاجز الأسود الذي يفصل الصورة عن القمر كما نظن حاجز الزمن الأسود الذي يفصلها عن القمر ونوره، وقد يكون إظهار جزء من الوجه وإخفاء الجزء الآخر ينحو منحى الضياع الذي تعيشه الشخصية الرئيسة والتشتت الحاصل لها. ثريا المجموعة كتبت بخط حديث-حاسوبي بمعنى لا خضوعه إلى قواعد الخط العربي ووضع اللون الاسود على بؤر التنقيط لتحمل بعضًا من الهم والحزن المعرش على البياض الممتد على مساحة الغلاف كله. أما الغلاف الأخير فحمل صورة الشاعر وقصيدة مختارة بمقصدية من داخل المجموعة – الجزء الثاني منها – قصائد حاسرة، والقصيدة عبارة عن مجموعة من الأسئلة الموجعة الباقية من دون أجوبة لفترات طويلة من الزمن، وهي أسئلة حقيقية وواقعية تنم عما في النفوس من ألم وحسرة تجاه الوطن والناس. في الغلاف الأخير وضع اللون الرمادي على اليمين والبياض على اليسار، أي بنحو مغاير عما كان في الغلاف الأول وهذا ما يوحي إلى تحقق جزء من البنية الخارجية لتمثلات حركة الواقع.

في عملية الدخول إلى النصوص يباغتنا "النصيص" بفونيمين يتخذان أكثر من تأويل. فاسم الاشارة "ذلك" يشير إلى البعيد الذي قد يمتد إلى أماكن كثيرة لا يمكن رؤيتها بنحو جيد، أو أنه يشير إلى شيء قد يكون – في الاصل – واقعًا خارج مديات العين الرائية. أما "البياض" فيضعنا أمام مفترقين، أولهما البعد اللوني، وثانيهما الفراغ، وقد يتعاضد الأمران ليشكلا فسحة لنسج توقعاتنا في ضوء المتحصل الآتي. يحافظ "النصيص" على بنية نحوية تتمثل في الجملة الاسمية القائمة على النحوية المألوفة "مبتدأ + خبر"، ليرسم لنا بنية مستقرة وإن بدت متحركة في دلالاتها التأويلية على خط إنتاج زمني غير مستقر.

المجموعة مقسمة إلى قسمين: القسم الأول يحمل عنوان لم أدرك بعد. هذه الثريا الفرعية تحمل بنية التأجيل، إذ أن الرؤية لم تكتمل بعد، ولم ندرك منذ الوهلة الأولى لهذه العتبة كنه اللارؤية والسبب في هذا التأجيل المقصود قد يكون نقصًا في المدرِك أو عدم اكتمال رؤية المدرَك من قبل الرائي. تتكرر بنية الجزم في المجموعة بنحو واضح ومكثف تتقدمها أداة الجزم "لم". واستعمال هذه الأداة يشير إلى توقف الفعل وتجميد فعاليته، إذ أن النحاة قد ذهبوا إلى أن مجزوم "لم" لا يعلق على شرط معين، فلا يقال، على سبيل المثال لا الحصر: "لم يذهب زيد إلا إذا جاء عمرو". أما دلاليًا فإنَّ هذا الحرف المكون من "اللام" التي هي للالصاق، و"الميم" التي هي للضم فينحو منحى ايمائيًا بواسطة هاتين الخصيصتين.

في قصيدة هدأة جبار الأخيرة اشتغل النص على بنية الغياب المؤطر بالموحيات الحسية بواسطة الإخبار عنها بمجموعة من التلميحات التي تحمل سمة اليقينية:

لم تعبث بصداقاتك يومًا
لم توصد بابك
لم يهدأ قلبك
أيكما يسارع...؟
بعيون خاسرة
كنت الملم
من شفتيك الخاسرتين
حروف تومىء كالصرخات.

نلاحظ في السطور آنفًا استمرارية بنية الثبات والاستقرار التي تترشح من الأفعال المجزومة، إلا أن هذه البنية سرعان ما تنكسر في السطر الرابع بواسطة الفعل الماضي الناقص مع اختلاف نمط الضمائر المزعة بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب والتي يؤطرها ذلك الغياب الحسي المزع على (صداقاتك، بابك، قلبك... إلخ). كما نلمح في السطر الخامس تقديمًا لشبه الجملة على الفعل الماضي الناقص من أجل تأطير ذلك الغياب بالخسارة المتحققة مما هو متحصل من معطيات، وهذا ما يرمي إليه السطر السادس "كنت الملم". فعملية "اللملمة" ما هي إلا بؤرة لتجميع ما انفرط من عقد الأيام الخوالي ومتحصلاتها العملية مما أدى إلى اجتياز البعد الخطابي بواسطة ذلك التمثل الراقي للجانب الوجداني من خلال الإيقاع التصويري الذي اشاع التشبث بكل ما هو إنساني في السطور الثلاثة الأولى، فصوت "جبار" ما زال حيًا وطريًا في ضمير الشاعر لأن حروفه لما تزل متوهجة في ضمائر الشرفاء كون قضيته قضية إنسانية تتعدى ما هو شخصي.

البنية التزمينية

حظى فعل التزمين بمرتبة مهمة داخل النص، إذ جاء ممتدًا على فكرة طويلة من حيث منتجاتها وارتباطها يما هو مخيب للآمال:

ثلاثون
وأنت تقايض أوهامًا
وتذود عن الروح
وتنشرها في ظل امرأة.

أغنية
في ظل صديق

في شارع
في ضوء قصائد أحببت.

تنبض السطور آنفًا بمترشحات واقع إلا أن صوغ ذلك الواقع كان في مشغل شعري، بمعنى أنه خلق فاعليته المحفزة بواسطة مجموعة من المنتجات المناقضة لما ينبغي أن تظهر عليه نتيجة المفردات الإيجابية المكونة لها، إلا أننا نرى العكس من ذلك كما موضح في الترسيم الآتي:

الزمـن        مقايضة         ثلاثون

منتجات الزمـن         أوهام + عيش في الظل

إن هذا التزمين أنتج لنا زمنًا تنحو منتجاته في اتجاه سلبي إلا أنه يعمق بؤرة جديدة متشظية عن الأولى وضاغطة في الوقت نفسه على متحصلات ذلك الزمن والتي تتمحور في السطور 4، 5، 6، 7 والتي تفضي إلى مترشحات جمالية لكائن زمني يلوذ به المروي عنه بواسطة ضدية تنبع من الروح المستترة في ظلال علاقاتها مع الآخر، لهذا جاءت البؤرة الجديدة بمحمول مغاير للبؤرة الرئيسة، بمعنى أن فعل "المقايضة" قد غاير فعل "الذود" في منتجاته المتحصلة عيانيًا، وبهذا حققت ذات المروي عنه منحيين: منحى خارجي وآخر داخلي اتخذ كل منهما مسارًا لا يلتقي مع الآخر في متحصلاته النهائية لكنه يوازيه في امتداداته الروحية.

بنية التراكم

وتصطف بنية التكرار التراكمي في الكثير من قصائد المجموعة مما أدى إلى ترصين البعد الدلالي، إذ أنه يأتي – هنا – بمقصدية ترمي إلى ترجمة ما يعتلج في صدر الشاعر من هموم، اضافة إلى ما تتيحه عملية التكرار إلى شد انتباه المتلقي إلى بؤر معينة في النص.

بلادي
العائمة في الشعر
من أفسد القصيدة؟
بلادي العائمة
في صفحات التاريخ
من ثقب القارب؟
بلادي
العائمة في الدم
من شحذ السكين؟
بلادي
العائمة في البترول
من أشعل عود الثقاب؟

في النص أسئلة الإنسان المفجوع فيما يرى من الضياع الحاصل في وطنه، ومن هو المسؤول عما يجري: هل هو الحاكم، الناس، القوى الموضوعية والذاتية التي تحرك عالم اليوم. إن جلَّ هذه الأسئلة تلح على الشاعر وتشرئب صوتًا داخليًا ينغص عليه كل شيء، لهذا كان الإلحاح على ابنية الاستفهامية وتكرارها من أجل إدامة فعل الاحتجاج والإبقاء على وهج عدم الرضوخ في محاولة لاستنهاض الهمم وعدم الركون إلى المراوحة الكليلة.

إن تراكم "من" تتساوى مع تكرار كلمة "بلادي" وما يستتبعها في متحصلات سلبية (بلادي العائمة في الدم) أو (بلادي العائمة في البترول). ولعل الضربة الأخيرة هي الأكثر نجاحًا في خلق تضاد جميل ما بين "البترول" و"عود الثقاب"، إذ من غير المعقول أن يكون البترول قريب من النار إلا أن دنو عود الثقاب هو من باب السؤال التهكمي الذي يدين مثل هذه الأفعال.

بنية المكان

يتخذ المكان في هذه المجموعة حيزًا فاعلاً كون المكان يتواشج مع البعد النفسي والذاتي. في قصيدة البيت الجديد، والتي هي من القائد الشذرية، يشكل البيت البؤرة الرئيسة، فعلى الرغم من التبدل الاتجاهي في المساحة والخلو والسكون الذي يخيم عليه بواسطة متحصل الوحشة فإن التوصيف يبتعد بنا إلى خارج المتداول، ولعل الشاعر يشير إلى القبر الذي يضم جسد "جبار" بعد أن غادر المكان الأصلي. إن الشد الحاصل في المشهد المرسوم للبيت قد أضفى على الكتلة "البناء" بعدًا إشاريًا يتمحور في السؤال الأخير المملوء حيرة وتعجبًا لما آلت إليه أمور "جبار".

ما أوحش هذا البيت!
ما أصغر هذا البيت!
ما أضيق هذا البيت!
جبار، أبيتك هذا؟

إن تركيم الصفات بنحو سلبي يكثف من خصيصة التوتر النفسي عند الشاعر ويزيد من انكماش الطاقة الحسية لديه بسبب من هذه التراكمات المعتمة مما أدى إلى نضوب مخزونه الوجداني حيال ما يحصل للشخصية المروي عنها "جبار". إن الميزة لدى الشاعر في تعامله مع المكان أنه يختزل الكثير ويحاول النفاذ إلى ما يريد توصيله للمتلقي.

لقد استطاعت هذه المجموعة أن تكون معبرة عن هموم إنسانية بيضاء ونقية من خلال تشكيلات متعددة حققت غناها الشعري بجدارة متميزة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود