قال لي: إن غدًا هو أمس

 

محمد علي شمس الدين

إلى غ. ت/ وع. ع/ وهاء ميم

كنا قد تركنا خلفنا في صباح ذاك الأحد، كل شيء في مكانه، وبدأنا هبوط الوادي. تركنا الأحذية والدموع والعربات والصفصاف والكتب تتفاعل بعضها مع البعض الآخر، بعض العصافير في الدالية، والكلب ينبح في المدخل، والديك على الأجمة، بعُرفه العالي، وريشه المنفوش، ثغاء الأغنام يفتح باب الصباح، وبعض المزارعين خلف أبقارهم وهي تجرُّهم إلى الحقول.

غيمة فوق شجرة قميص. فوق جبل عمامة. في السماء صوف، وغزال في الصيف. يكفهر على الغرب دبٌّ رمادي. ما هي إذًا هذه الغلالة الشفافة المنتشرة فوق جسدكِ؟ أسِتْر أم كشف؟ أهو الأنس بعد اليأس؟ أهي النعمة حلَّت عليكِ؟ فوق حلمتكِ السوداء يصبح الرذاذ زغبًا. بقعة داكنة تطفو على بركة ماء. الضفادع تدقُّ نفيرها بلا انقطاع، والأسماك تزدرد عيونها من شدة الرغبة فيكِ، والديك يدير وجهه في اتجاهك وهو يتأهب للأذان. عليك السلام.

II

فجأةً علا صوت في الوادي:

"ألا أيها الرهط النيام ألا هبُّوا
أسائلكم: هل يقتل الرجلَ الحبُّ؟"

كان الصوت مذعورًا بل مستغيثًا. ويتوسل إلى الرهط النائمين أن يهبُّوا من نومهم.

قلت لجدي الشيخ: "هل سمعت ما سمعت؟".

قال: "نعم، سمعت".

قلت له: "إذًا... ما تقول؟".

قال: "هوِّن عليك يا بني... ودعه يتقلب في حيرته. إنه عاشق ومقتول".

جَدَّ بنا السير في الوادي. نهبط كأننا نسير إلى العدم. بعض صخور مسنَّنة جرحت أقدامنا فسالت الدماء. سألته: "يا عالمًا بالطريق، إن العين لتسود في هذا الوادي، والطريق يبدو كأنه مليء بالأهوال. فما طول هذا الطريق؟" (من منطق الطير للنيسابوري).

قال: "اطرحْ عنك كل شيء يا ولدي وتقدم مخضبًا بدمك".

لم تكن الأشجار على جانبي المنحدر، تقف وحدها، بل كانت تقف معها ظلالها. وكنا قد وصلنا إلى قعر الوادي، وابتعدنا قليلاً عن القرية التي انطلقنا منها في أول الرحلة. اخلدنا إلى النوم بعد التعب. كانت كل ورقة في الأشجار تطرح رأسها على كتف أختها، مثلنا، وتنام.

III

لم نستيقظ على صياح الديك في تلك الليلة. وعندما سألت الشيخ عن اليوم الذي نحن فيه، أجابني جوابًا غامضًا، لكنه فتح لي بابًا كنت قد نسيته. قال لي: "لا تسأل يا بني عن اليوم، لأن غدًا هو أمس".

أنا أحب صوت الديك وأستغرق فيه. قال لي نعم هو ما هو. إن ديك الفجر أمر عظيم. وبدأ يُنشد:

"الصوتُ يرسم قبّة الفَلَكِ/ بالصمتِ مرخِّي ومشتبكِ/ ورأيت شمسًا حرَّة طَلَعتْ/ قبل اجتمار أصابعِ الحَلَكِ".

خَطَر لي أن الديك الذي فاته أن يصيح، في ذلك الفجر، ربما أصابه مكروه. ربما ذُبح. ربما كسر منقاره في حجر. ربما نام طويلاً وكثيرًا مع النائمات حوله. وانغمس في تلك الليلة في ما يشبه النسيان. قلت لعله نسي أن يصيح. لكنني وأنا مطمئن إلى أن الفجر من حولي كان قد انفجر في الوادي في وقته الموقوت له، زالت عني ريبة ممضَّة وخوف كالوسواس:

-       خوف مماذا؟

سألت نفسي، وأجبت:

-       خوف من أن يقع خلل كوني مثلاً

أو يحدث لعب غير محسوب في الأوقات: تأخير أو تقديم في ساعة الله.

كأنْ لا يكون فجر البتَّة.

كأن تنسخ آية الليل آية النهار فلا يكون نور.

كأن تحرن عقارب الساعة أو تصدأ أو تموت.

أخيرًا: كأنْ يدخل فيروس في كومبيوتر الكون ويخربه.

والأفكار التي تراودني في مثل هذه الحالات، قديمة، وتشكِّل لي أحيانًا مخاوف تمتد من اليقظة إلى النوم. فمناماتي غالبًا ما تنتهي بجرة مكسورة، أو طيران معلَّق.

في كل حال، فعدم صياح الديك في ذاك الفجر، علَّله الشيخ بأنه قد يكون صاح في البعيد، ولم يصل صوته إلى سمعنا في الوادي. وأن صوته كنملة تغرق في بئر. فلذلك لا داعي للخوف أو للانتقام.

لكنه أضاف أن الطيور أصناف وطبقات، فمنها ما يحلِّق ومنها ما يمشي. وما يحلِّق من الطيور أقرب إلى الشعاع، كالحمامة، والهدهد، والبلبل، أما ما يمشي ولا يحلِّق، فأقرب للتراب.

وأضاف أن الديك طائر ترابي، حتى لو كان صوته يصدح بذكر الله عند الفجر.

نبَّهته إلى أن الديك الذي في منزلنا، كان يصيح على الأكمة، كأنه يتربع على قبَّة الفلك، يمطُّ رأسه إلى أعلى، إلى النجوم، ويكوِّم ريشه وينفشه فوق جسمه كطاووس، ثم يطلق في الهواء صياحه بأوزانٍ فصيحة. بل لعله أميرًا كان بتاج أحمر، أو حصانًا كان بعرف ديك، يتبختر كالطاووس، ولا ينقصه سوى الطيران.

قال: "دع عنك هذا، وتمتَّع بالفجر. الفجر يغدق علينا نوره".

VI

الفجر يسكب على جسدها الأبيض المستلقي بجانبي فضته ويئنُّ...

مددت إصبعي إلى حفرتين صغيرتين، واحدة في خدِّها الأيمن، وواحدة محفورة في سرَّتها، وغمزتهما قليلاً، فتململت في نومها وتأوَّهت، فعلمت أنها غير مستيقظة تمامًا ولكنها غير نائمة تمامًا. وأنا أحب هذا الوقت لها، وقت الما بين. كانت عيناها نصف مغمضتين، وفمها يتلألأ تحت الفجر كزمردة في الزجاجة، بدأت أسرِّح شعرها بأصابعي وأمررها بين خصلاتها السوداء كأنني أمشط سنابل الوادي أو شعر الصنوبرة الخضراء، ومرَّرت أصابعي برفق فوق جبينها ثم على حاجبيها، فعلى جفنيها، فأنفها، فشفتيها فعنقها، نزولاً نزولاً إلى حلمتيها، وصولاً إلى السرَّة، فما تحتها، وآنئذٍ

وحين وصلتُ إلى موطن الأسرار، في غابة كثيفة فيها نبع من يشرب منه لا يظمأ أبدًا، أخذني حال من النشوة، فقمت أرقص وأدور، والشيخ معي يرقص أيضًا ويدور، وكنت ألثم أحيانًا أقدامها، والشيخ ورائي يفعل مثل ما أفعل، ويقول:

"تعرُجُ الملائكة إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة". (سورة السجدة، الآية الخامسة).

ولم يكن ثمة في ذلك الوادي سوى الرقص.

يدور هو خلفي كمغزلٍ كبير، وأدور أنا أمامه كجرَّة صغيرة. وربما اجتمعت حولنا بعض الغزلان والآرام. ومرَّ رفُّ مهاجر من اللقلاق توقَّف قليلاً فوقنا متعجبًا، ثم تابع طيرانه إلى الشرق.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود