ماتت الحرب

 

عاصم بدر الدين

 

أخال الحرب الأهلية بالنسبة إلى جيلي مثل المنام. ذلك أننا، نحن مَن ولدنا بعد التسعين، أو تشكَّل وعينا بعد الطائف، في يقظة ما بعد نوم. هو "موت قصير" عند المعري. الحرب منام كابوسي. ليس لنا إزاء ما بقي منه في الذاكرة المتداولة، الجمعية، غير التأويل باحتمالية تحققه وعدمها. ذلك ما يدفعني دائمًا إلى التفكير بأننا أقل قدرة على التفاعل مع هول احترابنا الأهلي. ليست مشاركة بعض هذا الجيل في نشاطات إحيائية ترتكز في جدواها على التعلم من التجربة، كما على النحيب من غياب العبرة لدى الناس مما ذاقوا، غير تبيان لما أحاول عرضه.

الإعجاب العريض بفيلم هلأ لوين؟ لنادين لبكي، مثلاً، ليس غير تدعيم لفكرة فواتنا عن صور الحرب. إذ أن لبكي، من سبيل تدعيم الخفة في المعالجة والتفكير، تجعل من ضرورة التعلم والاتعاظ ركنًا لمقاربة الحرب. أحسب أن من شاهد الفيلم لا ينسى صراخها على رجال ضيعتها الذين لم يتعلموا من تجربتهم الدموية. هذا "مشهد الفيلم"، كما يمكن وصف مركزيته المفتعلة. لا تسائل معالجة كهذه، أسباب الاحتراب، وعوامل نشوئه وتفاصيل تطوره وتعقده أو عودة بعضه، من بعض ناسه، إلى الحاضر اليومي (مثل المخطوف في فيلم شتي يا ديني لبهيج حجيج)، بل احتمالات تكراره المجردة. كأن الحدث صار خارج حدوثه. كأنه مفتقر لبدايات. لكن، أيضًا، لماذا نكرر حروبنا. يبقى هذا السؤال غير مفكَّر فيه. ذلك أن التفكير الوعظي، في تهافته، لا يرى في تكرار الحدث غير تشابه آلي. ليس اقصاء التفكير في أسباب الحرب ومعانيها وتمثلاتها وعلاقاتها الدائرة، غير تغطية لدينامية الحرب وأوالياتها.

غاية استعادة فيلم لبكي القول إننا أصبحنا نفكِّر في حربنا من هذا الجانب الأحادي. هذا لا يمنع وجود نمط آخر للتفكير والمعالجة في موضوعة الحرب. فيلم نديم ميشلاوي، القطاع صفر، تمثيل على الإمكانات المتقدمة للمعالجة السينمائية، التسجيلية بالتحديد. لكن "اللبكية" تبقى الأكثر تعميمًا واستهلاكًا. بل يمكن الافتراض، بكثير من الحذر، أنها الرؤية الرسمية للحرب. يرجع الحذر إلى أن رخاوة الرسمي عندنا، تجعله أقل قدرة على فرض رؤية مهيمنة كما في كيانات أخرى. القصد من هذه الرؤية التوافقية لا يبعد كثيرًا عما يسمِّيه إيليا حريق بـ"التواطؤ الحضاري" بين الجماعات. يبقى شعار "تنذكر تما تنعاد" تجسيمًا مثاليًا لهذا المفهوم. لكنه، في مدى أبعد، لا يخلو من شطط واجتزاء. التذكر الإيجابي هنا، يستند إلى كونه فعل استعادة واتعاظ فحسب. كما لو أن الحدث يعاد حتى يُبصق من جديد. ليس بلا دلالة أنه شعار مقبول لدى السلطات الرسمية بقدر مشابه لتقبُّله، والترويج له، في المجتمعين المدني والأهلي.

رفض آلية الاستعادة الوعظية، يرجع إلى كونها لا تسعى لتجاوز الحدث بالفهم. إذ تغطي الذكرى بالذكرى، وإلى آخره. لا ريب أن منطلقاتها الأخلاقوية التطهرية، القلقة، أحد دوافع بتر المستعاد. نرى إلى الحرب بكونها حدثًا برانيًا. ليس في هذا الوصف ابتعاد عن احتمال الصواب لو أننا ننظر إلى هذه البرانية مثل رؤيتنا لبرانية أجسامنا. لكن البرانية، هي إما حروب آخرين وإما نتيجة عوامل قاهرة وإما صنيعة جماعات وفئات غير واعية. هذه مشكلة. بعض هذا الجيل ينظر إلى الأهل أو غير المتعلمين، كمفتعل لتلك الحرب. لكن هذا الاتهام يحمل في ذاته عناصر نفي المحاسبة والنقد. فالأهل أهل. وغير المتعلمين غير متعلمين. هذا مبرر كاف لتحويل الحرب، مسألة يمكن تجاوزها بالتعلم من التجربة. مرة أخرى، ليس هذا بعيدًا من احتمال الصواب لولا أنه يسعى إلى إزاحة الذات عن تحمل مسؤوليتها.

هذه المراجعة ضرورية طالما أننا نصر على أن الحرب، باردةً، لم تنته بعد. يصح هذا إذا سلَّمنا بأن السياسة لا تكون بغير صراع ومصالح. دوام الصراع من دوام السياسة. لكن شغل الأخيرة، في نطاق ترسيخ نظام ديموقراطي، التخفيف من دموية الأول. هذا لا يتم، في حالات انقسام حاد، مثل التي نعيش، بغير تضمين الصراع وترميزه. تلك الحرب حدث مؤسس في تاريخنا. تفريغها من ذاتها، يعني استلاب الحدث عن الحدث.

ليست حرب 13 نيسان 1975، محور التذكر هذه الأيام، بعيدة من يومياتنا العادية. لكن حضورها شبحي ومقنن. ذلك أنها لا تستخدم في المجال العام إلا في مناسبات يكون التخويف، بمرجعية تاريخية دموية، لازمًا. ليست هذه الحرب المديدة بالنسبة إليَّ وجيلي، غير شبحيتها هذه. التفكير في المسألة باعتبارها شأنًا أسريًا، قد يساهم في توضيح القصد. من يقصد منا التعرف إلى الحرب يستطيع أن يبحث في مراجعها المسجلة، كالكتب والوثائق والأفلام. ذلك أن التسريب الأسري في الغالب يكون شحيحًا ومضبوطًا. أفكر في مستوى شخصي. هكذا، لم أحصل من سرد والدي عن تلك الحرب غير قصص محددة لا تصف شيئًا. ذلك على الرغم من اعتقادي أن الأهل في سياق تمتين سلطتهم، لا يمتنعون عن سرد الحكايات، باعتبارها "جندًا من جنود الله". الحكايتان التاليتان هما كل ما يمكن أبي أن يرويه عن تلك الحرب.

الحكاية الأولى: كان والدي، عند بداية الاحتراب، يخدم عسكريته. هكذا، لن يطول به الأمر في الجيش جراء انقسامه وتشتته. يروي أبي كيف ترك ثكنته برفقة صديق مسيحي. يمكنه أيضًا أن يفصِّل العيش المرَّ في الجيش، في ذلك الحين، أو الطرق التي سلكاها، مسمِّيًا الناس الذين تعاونوا معهما لتأمين وصولهما سالمين إلى منزل عائلته، والذين أخذوا غدرًا سلاحهما. وكيف ركض أحد أبناء ضيعته، من أولها إلى آخرها، حتى يخبر جدتي عن وصوله ليحصل على المكافأة التي كانت قد وعدت بها من يحمل خبرًا سارًا عنه. لكن ما يحتل المركز دائمًا، عند تكرار سرد الحادثة، كيف كان يمكن لمسيحية صديقه أن تكون سببًا لقتله. هكذا، أخفى الأمر عن الناس طوال الرحلة، وعن أهل القرية عند الوصول، حتى تمكنه في النهار التالي من ايصاله إلى جزين.

الحكاية الثانية: مثل كل المناطق اللبنانية، نشأت في ضيعته تنظيمات سياسية ليست بعيدة عن العسكرة. يُدرَّب الشبان على السلاح، ثم يرسلون إلى القتال. استدعي والدي للمشاركة في ما يمكن أن يكون جبهة قتال. لكنه رفض الالتحاق. عقابًا له على رفضه، حُبس ليوم واحد. أبي، حين يروي هذه الحادثة، يعرف كيف يسخر مما كان يقال لهم عن أعداء وخونة محليين، عليهم مواجهتهم. هكذا، بدت السخرية، في زمن السلم، من زمن الحرب، آلية التطهر الوحيدة المتاحة.

جامعية أبي أعانته على التدبر الواعي لصورته النظيفة، أمام أولاده، في زمن احتراب ليس فيه شيء من هذه النظافة. ليس هذا تشكيكًا في احتمال عدم التورط الفعلي في "الأعمال القذرة" للحروب، بقدر ما هو تدليل على الكيفية التي تنقل إلى جيلنا مرويات الحرب. بشاعتها حاضرة، في مكان ما، لكن خارج السرد. شبحية. التعميم، انطلاقًا من حالتي، قد لا يصح. لكن حين سألت صديقًا عن والده، لم أحصل على إجابة مختلفة. يفكر، هذا الصديق، أن رفض والده الحديث عن تجربته في الحرب، على الرغم من هامشيتها، راجع إلى وعيه غباء فكرة قبول الإنسان أن يُستغل من أجل المشاركة في حرب لا تقلُّ غباء. شيء من الحياء، بحسب تأويل الابن، يفرض عليه هذا السكوت.

رفض تحمل المسؤولية الفردية، كما في حالات كهذه، ليس غير سعي لطمر الذكريات وتشويش المدرَك منها. ليس المرء في حاجة للتدليل على استفظاع جميع الناس للحرب. لكن هذا الاستفظاع التلفزيوني، نظرًا لارتفاع وتيرة خطابيته، لا يستقيم بغير نفي الفردية، بما هي، في الحالة هذه، وجود الفرد في دائرة الصراع وفاعليته. هكذا، حين يحمَّل الكل غير المحدد مسؤولية ما جرى، لا يتحمل أحد، فعليًا، المسؤولية. ذلك أن الكل، على ما في ذلك من مفارقة لاذعة، هو اللاأحد. كما لو أن الجماعات غير المحددة وحدها التي تفعل العنف. بينما يظهر الفرد المسمى المتحدث في سرده واستفظاعه، بطلاً.

إذا كانت الرواية اللبنانية في جيل تشكلها، هي رواية الاحتراب الأهلي، كما في تجارب الياس خوري وهدى بركات وربيع جابر وحسن داوود والآخرين، فإن جيلاً راهنًا يؤسِّس، يبني تجربته، إلى حد ما، على نفي الحرب وإقصائها من دائرة السرد. التعميم غير جائز بالتأكيد. لكن يبقى أن تجارب شابة، تكتب بعيدًا من تلك الحرب. أفكر مثلاً في تجربة هلال شومان في ما رواه النوم، ونابوليتانا. وتجربة ألكسندرا شريتح في دايمًا كوكاكولا، وعلي وأمه الروسية.

ليس هذا الغياب غير نتيجة مفهومة لتمويت الحرب بتحويلها مستعادًا للاعتبار فحسب. الواقع، بتعقده، أقوى بما لا يقاس من خفة نمطي الاعتبار والتعلم من التجارب السائدين. لكن تلك الحرب، حربنا نحن أيضًا. ما يعطل تفاعلنا معها، قتلها عبر أساليب سبق ذكرها. عدا تقييد التفكير فيها وتعليبه. ربما صار من المفيد التفكير في وقف استلابنا السنوي مع الذكرى المهدورة والميتة هذه. يمكننا، مثلاً، السنة المقبلة أن لا نشغل بالنا في حشد تظاهرات وصور ونشاطات. يعني، على الأرجح، لن نخسر شيئًا.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود