بمناسبة المؤتمر حول السلام في ستوكهولم
رسالة إلى السويديين٭

 

ليف تولستوي

 

أيها السادة الأفاضل!

إنَّ الفكرة، التي عبَّرتم عنها في رسالتكم الرائعة، بأنَّ بالإمكان نزع السلاح العام بأسهل السُّبُل وأوثقها، وذلك عن طريق امتناع الأفراد عن المشاركة في الخدمة العسكرية، صحيحة تمامًا. بل إني أعتقد أنَّ هذا هو الطريق الوحيد لتجنيب البشر كافة كوارث العَكسرة المرعبة والمتفاقمة. أما فكرتكم بأنَّ مسألة استبدال التجنيد الإلزامي، بالنسبة للذين يرفضون أداءها، بأعمال الخدمة الاجتماعية، قد تُبحث في المؤتمر القادم، حسب اقتراح القيصر، فتبدو لي خاطئة تمامًا، وفقط لسبب واحد، وهو أنَّ المؤتمر ذاته لا يمكنه أن يكون سوى إحدى تلك الهيئات المنافقة التي غايتها ليست بلوغ السلام بل، بالعكس، إخفاء الوسيلة الوحيدة لبلوغ السلام العالمي، والتي بدأ يراها أفذاذ الناس.

يُقال إنَّ غاية المؤتمر، إن لم تكن نزع السلاح فإيقاف وتيرة التسلُّح المتصاعدة. ويُتوهَّم أنَّ ممثلي الحكومات في هذا المؤتمر سوف يتَّفقون على الكفِّ عن زيادة التسلُّح. إذا كان الأمر على هذا النحو، فبشكل عفوي يبرز السؤال حول كيفية تصرُّف حكومات الدول الأضعف، عَرَضًا، من جيرانها أثناء انعقاد المؤتمر؟ هيهات أن تقبل تلك الحكومات بأن تكون، وأن تبقى في المستقبل، في وضع أضعف من جيرانها. أما إذا كانت ستقبل بأن تبقى في ذلك الوضع من الضعف، واثقةً بقوة في قوة قرارات المؤتمر، فيمكنها أن تصبح أكثر ضعفًا والتوقف كليًا عن الإنفاق على الجيوش. أما إذا كان عمل المؤتمر سيكمن في جعل القدرات الحربية للدول متكافئة، والتوقُّف عند ذلك الحدِّ، فحتى لو أمكن تحقيق تكافؤ مستحيل كهذا، فبصورةٍ عفوية ينبثق السؤال: لماذا يجب على الحكومات أن تتوقف عند ذلك الحد من التسلح، الكائن الآن، وليس أدنى. لماذا يجب أن يكون لدى كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وروسيا، على سبيل المثال، مليون جندي وليس خمسمائة ألف، ليس عشرة آلاف، ليس ألف جندي. إذا كان التخفيض ممكنًا، فلماذا لا يتم خفض عدد القوات إلى الحد الأدنى، وأخيرًا: لماذا لا يتمُّ استبدال "داوود وجالوت" بالقوات المتحاربة، وحلُّ القضايا العالمية تبعًا لمن ستكون له الغلبة؟

يُقال إنَّ النزاعات بين الحكومات سوف تُحلُّ من قِبل مجلس تحكيمي. ولكن، فضلاً عن أنَّ ممثلي الحكومات هم الذين سيحلُّون القضايا وليس ممثلو الشعب، ولهذا لا توجد أية ضمانات بأنَّ هذه الحلول سوف تكون صحيحة: -مَنْ سيقوم بتنفيذ قرار هذه المحكمة؟ -الجيوش. -جيوش أية دول؟ -جيوش الدول العظمى كلها. لكن قوى هذه الدول ليست متكافئة. من، في القارة، على سبيل المثال، سينفذ القرار الذي، لنفترض، لا يناسب ألمانيا أو روسيا أو فرنسا، المتحالفة فيما بينها، أو من سينفذ القرار في البحار، القرار الذي يُعارض مصالح إنكلترة أو أمريكا أو فرنسا؟ سوف تُنفَّذ قرارات المجلس التحكيمي ضد العنف الحربي للدول عن طريق العنف الحربي، أي إنَّ ما يجب منعه سوف يتمُّ عن طريق ما يجب منعه: للإمساك بالطير يجب ذرُّ الملح على ذيله.

أذكر، أثناء حصار سيفاستوبَل، كنت جالسًا عند الياور ساكين، آمر الحامية، عندما دخل الأمير س. س. أُرُوسوف قاعة الاستقبال، وهو ضابط شجاع جدًا، وغريب الأطوار إلى حدٍّ كبير، وإضافةً إلى ذلك كان أحد أفضل لاعبي الشطرنج في ذلك الوقت. وقال إنَّ له شأنًا مع الجنرال؛ فأدخله الياور إلى قمرة الجنرال. بعد عشر دقائق، مرَّ أوروسوف بجوارنا عابسًا. وبعد أن ودَّعه الياور عاد إلينا وأخبرنا، وهو يضحك، عن الشأن الذي من أجله جاء أوروسوف إلى ساكين. فقد جاء ليقترح دعوة الإنكليز إلى لعبة شطرنج في الخندق الأمامي، مقابل البرج الخامس الذي انتقل من يدٍ لأخرى عدة مرات، حاصدًا مئات الأرواح حتى الآن.

مما لا شكَّ فيه أنَّ لعب الشطرنج في الخندق الأمامي لكان أفضل بكثير من مقتل الناس، لكن ساكين لم يوافق على اقتراح أوروسوف، مدركًا جيدًا أنَّ لعب الشطرنج في الخندق ممكن فقط حين تكون هناك ثقة متبادلة مطلقة بين الطرفين لتنفيذ شرط الاتفاق، في حين أنَّ وجود القوات الواقفة أمام الخندق، والمدافع الموجَّهة إليها، كان يشير بوضوح إلى عدم توفُّر هذه الثقة. وما دامت قوات كلا الطرفين موجودة، فمن الجلي أنَّ الأمر لن يُحلَّ بالشطرنج، وإنما بالحراب.

وتمامًا كذلك القضايا الدولية، فلكي يكون بالإمكان حلها عبر مجلس تحكيميٍّ يجب توفُّر ثقة متبادلة مطلقة بين القوى العظمى في أنَّ قرار المحكمة سوف يُنفَّذ. فإذا كانت هذه الثقة موجودة فلا حاجة للجيوش على الإطلاق، في حين أن وجود الجيوش يشير بوضوح إلى عدم توفُّر هذه الثقة، وبالتالي ليس بالإمكان حلُّ القضايا الدولية إلا عن طريق الجيوش. وما دامت هناك جيوش؛ فهي لازمة ليس فقط للاستيلاء، كما تفعل الدول جميعها في الوقت الراهن – بعضها في آسيا، وبعضها في أفريقيا، وبعضها في أوروبا – بل للاحتفاظ بالقوة على ما تمَّ الاستيلاء عليه بالقوة. والاستيلاء والاحتفاظ عن طريق القوة ممكن فقط عند النصر، وتتنصر دائمًا الكتائب الكثيرة العدد Gross battalions. ولهذا؛ فإذا كانت لدى الدولة قوات مسلحة فيجب أن يكون لديها أكبر عدد ممكن، وفي هذا يكمن واجبها. وإن لم تفعل الحكومة ذلك، فلا حاجة إليها.

تستطيع الحكومات أن تقوم بالكثير في المنحى الداخلي: تستطيع أن تُحرِّر وتُنوِّر وتُثري الشعب، وأن تشيد الطرق والأقنية، وتستعمر البراري، وتنظِّم الخدمات الاجتماعية، لكنها عاجزة عن القيام بشيء واحد فقط، وهو بالذات ما انعقد هذا المؤتمر لأجله، أي تخفيض قدراتها الحربية.

أما إذا كان هدف هذا المؤتمر، كما يُلاحظ من التصريحات الأخيرة، سيكمن في سحب أسلحة الدمار العنيفة بصورة خاصة، التي في متناول الناس، من الاستخدام (لماذا لا يتمُّ، بالإضافة إلى ذلك، وقبل أي شيء آخر، منع مصادرة واعتراض الرسائل، وتبادل البرقيات، والجاسوسية، وكل تلك الدناءات المرعبة التي تعدُّ شروطًا ضروريةً للدفاع الحربي؟)؛ فمن أجل منعٍ كهذا يمكن استخدام، لأجل الصراع، كافة الوسائل المتوفرة، تمامًا كمنع الناس، الذين يتشاجرون دفاعًا عن حياتهم، عن استهداف أكثر أجزاء الجسد حساسية أثناء الشجار. لماذا يكون الجرح أو الموت بسبب رصاصة متفجرة أسوأ من الجرح في موضع مميت جدًا بسبب رصاصة عادية أو شظية، والذي قد يصل الألم بسببها أعلى الدرجات، ويسبب ذلك الموت نفسه الذي يحدث، بطريقة ما، من أيِّ سلاح آخر؟

مدهشٌ كيف يمكن لأناسٍ راشدين سليمي العقل أن يُعبِّروا بجدية عن أفكارٍ غريبةٍ كهذه!؟

لنفترض أنَّ الدبلوماسيين قد كرَّسوا حياتهم للكذب، واعتادوا على هذه الرذيلة، ويعيشون ويعملون دائمًا في فضاء الكذب الكثيف هذا إلى درجة أنهم أنفسهم لا يلاحظون لاجدوى وبُهتان اقتراحاتهم؛ ولكن كيف يمكن للأفراد – ليس أولئك الذين يثنون على اقتراح القيصر لكي ينالوا حظوةً لديه – ألاَّ يروا أنَّ نتيجة هذا المؤتمر لا يمكن أن تكون سوى ترسيخ الخدعة التي تحافظ بوساطتها الحكومات على ولاء أتباعها، كما حدث أثناء تحالف ألكسندر الأول المقدَّس.

إنَّ هدف المؤتمر لن يكون إقامة السلام، بل أن يحجب عن البشر الوسيلة الوحيدة لخلاصهم من ويلات الحرب، والكامنة في امتناع الأفراد عن المشاركة في القتل الحربي، ولهذا لا يمكن للمؤتمر، بأي شكل كان، التنطُّع لمناقشة هذه المسألة.

إنَّ أية حكومة سوف تعامل دائمًا رافضي أداء الخدمة العسكرية، تبعًا لقناعاتهم، كما تعاملت الحكومة الروسية مع الدوخوبوريين؛ ففي الوقت الذي أعلنت فيه للعالم أجمع تطلعاتها السلمية راحت، وقد حاولت إخفاء ذلك عن الجميع، تُعذِّب وتدمِّر وتضطَّهد أشدَّ محبِّي السلام في روسيا فقط لأنهم كانوا مُحبِّي سلام بالفعل، وليس بالقول فقط، ولذلك رفضوا أداء الخدمة العسكرية. على هذا النحو بالضبط، وإن بقسوةٍ أقل، تصرَّفت وتتصرَّف الحكومات الأوروبية مع حالات رفض أداء الخدمة الإلزامية. وعلى هذا النحو تصرَّفت وتتصرَّف حكومات النمسا وروسيا وفرنسا والسويد وسويسرة وهولندة، ولا يمكنها أن تتصرَّف على نحوٍ مغاير. لا يمكنها أن تتصرَّف على نحوٍ مغاير لأنها، إذ تقود القوات النظامية الخاضعة لها بالقوة، لا يمكنها أن تسمح بإضعاف هذه القوة، وبالتالي إضعاف سلطتها على الإرادة العَرَضية للأفراد، خاصةً وأنه، حسب جميع الاحتمالات، ما إن يُسمح للجميع باستبدال العمل بالخدمة العسكرية، فإنَّ عددًا هائلاً من الناس (لا أحد يريد أن يَقتل أو يُقتل) سيُفضِّلون العمل على الخدمة العسكرية، وسرعان ما سوف يزداد عدد العمال ويقلُّ عدد العسكر، بحيث لا يعود بالإمكان إرغام العمال على العمل.

المبلبلون بثرثراتهم من الليبراليين والاشتراكيين وغيرهم، ممن يُسمُّون أنفسهم التقدميين، يتخيلون أنَّ أقوالهم في المؤتمرات والاجتماعات، وأنَّ نقاباتهم وإضراباتهم ومنشوراتهم، هي تظاهرات بالغة الأهمية، وأنَّ رفض الأفراد أداء الخدمة العسكرية أمرٌ تافه، وغير جدير بالالتفات إليه. إلا أنَّ الحكومات تعلم جيدًا ما هو مهم بالنسبة لها وما ليس بذي أهمية، لذا تسمح، عن طيب خاطر، بكافة أشكال الخطابات الليبرالية والراديكالية في البرلمانات، وبنقابات العمال، ومظاهرات الاشتراكيين، بل إنها حتى تتظاهر بأنها تتعاطف مع ذلك، وهي تعلم أنَّ هذه التظاهرات مفيدة جدًا لها، عبر إبعاد انتباه الشعوب عن الوسيلة الرئيسة والوحيدة للتحرر، إلا أنها لن تسمح أبدًا، بصورة علنية، برفض أداء الخدمة العسكرية أو الامتناع عن دفع الضرائب لأجل الخدمة العسكرية (وهما الشيء ذاته)، لأنها تعلم أنَّ هذا الرفض، إذ يكشف كذب الحكومات، سوف يقتلع سلطتها من جذورها.

في الأيام الأخيرة، كان هناك خبر مفاده أنَّ فوجًا أمريكيًا رفض الذهاب إلى إيلويلو. يتمُّ تداول هذا الخبر كأمرٍ مثير للدهشة، في حين أنَّ ما يجب أن يثير الدهشة هو، فقط، كيف أنَّ ظاهرة كهذه لا تتكرر باستمرار: كيف استطاع الروس والألمان والفرنسيين والطليان والأمريكيين، الذين يحاربون، في الآونة الأخيرة، تبعًا لمشيئة أناس آخرين لا يكنُّون لمعظمهم أدنى احترام، أن يذهبوا لقتل أناسٍ من شعبٍ آخر، وأن يُعرِّضوا أنفسهم للآلام والموت؟

المفروض أن يكون من الواضح والبديهي لكل البشر أن يستيقظوا، إن لم يكن حين يتمُّ تجنيدهم فعلى الأقل في اللحظة الأخيرة عندما يُساقون لقتال العدو، وأن يتوقَّفوا، ويلقوا أسلحتهم، ويصرخوا على الخصوم ليفعلوا الشيء ذاته.

يبدو الأمر من البساطة والبداهة بحيث أنَّ الكلَّ يجب أن يتصرَّف على هذا النحو. ولكن، إذا كان الناس لا يتصرَّفون على هذا النحو فهذا يحدث بسبب أنهم يصدِّقون الحكومات التي تقنعهم بأنَّ كلَّ المصاعب التي يتحمَّلها الناس لأجل الحرب، إنما هي لخيرهم. فكلُّ الحكومات، بوقاحةٍ مذهلة، تؤكِّد بأنَّ كلَّ تحضيرات الحرب، بل حتى الحرب ذاتها التي يضرمون أوارها، ضرورية لأجل السلام. والآن، في محيط النفاق والكذب هذا، تُخطى خطوة جديدة تكمن في أنَّ تلك الحكومات ذاتها، التي لا بدَّ من الجيوش والحروب من أجل وجودها، تدَّعي بأنها مهتمَّة بالبحث عن إجراءات لخفض عدد القوات، والقضاء على الحروب. تريد الحكومات أن تقنع الشعوب بأنْ ليس على الأفراد أنْ يُشغلوا أنفسهم بتجنيب أنفسهم الحروب، وأنَّ الحكومات ذاتها، في مؤتمراتها، سوف تقوم بتدبُّر الأمر بحيث يتم خفض عدد القوات المسلحة في البداية، وبعد ذلك التخلُّص من الجيوش نهائيًا: لكن هذا كله كذبٌ محض.

يمكن خفض عدد القوات، والتخلُّص منها، فقط ضد إرادة الحكومات، وليس تبعًا لمشيئتها. يمكن خفض عدد القوات والتخلُّص منها عندما يكفُّ البشر عن تصديق الحكومات، ويبدأون البحث، بأنفسهم، عن الخلاص من الويلات التي تُعذِّبهم، وأن يبحثوا عن هذا الخلاص ليس في تدابير الدبلوماسيين المعقَّدة والمتأنِّقة، وإنما في تنفيذ القانون المُلزم لكلِّ الناس، والمكتوب في كافة التعاليم الدينية، وفي قلب كل إنسان، والقائل: لا تفعل بالآخرين ما لا تريدهم أن يفعلوا بك، وخاصةً قتل قريبك.

يمكن خفض عدد القوات المسلحة، والتخلُّص منها بعد ذلك، فقط عندما يبدأ الرأي العام بوصم الذين يبيعون حريتهم بسبب الخوف أو المصلحة، ويقفون في صفِّ القتلة المسمُّون الجيوش، بالعار؛ ويقوم بإظهار البشر – المجهولين بل والمدانين في الوقت الراهن، الذين، رغم كل أشكال الاضطهاد والمعاناة التي يحتملونها في هذا السبيل، يرفضون الخضوع للآخرين، ويرفضون أن يصبحوا أدواتٍ للقتل من جديد – على أنهم مناضلو ومحسنو البشرية الروَّاد.

فقط حينذاك يمكن خفض عدد القوات في البداية، وبعد ذلك التخلُّص منها نهائيًا، بحيث يحلُّ عصر جديد في حياة البشرية. وهذا الموعد يقترب.

هاكم لماذا أعتقد أنَّ فكرتكم القائلة بأنَّ رفض أداء الخدمة الإلزامية ظاهرة بالغة الأهمية، وقادرة على تخليص البشرية من ويلات العسكرة، صحيحة تمامًا؛ أما فكرتكم بأنَّ المؤتمرات سوف تساعد على ذلك؛ فخاطئة تمامًا. المؤتمرات قادرة، وحسب، على إبعاد أنظار البشر عن الوسيلة الوحيدة للخلاص والتحرر.

موسكو، كانون الثاني 1899

***

كلمة تمَّ إعدادها من أجل مؤتمر السلام في ستوكهولم

أيها السادة الأفاضل!

لقد اجتمعنا هنا من أجل النضال ضدَّ الحروب. الحروب، أي ما يجعل كل شعوب العالم، ملايين ملايين الناس، تضع تحت إمرة، غير خاضعة للرقابة، بضع عشرات من الناس، وأحيانًا شخص واحد، ليس فقط مليارات الروبلات والتاليرات[1] والفرنكات والينَّات، والتي تشكِّل حصة كبيرة مما اكتسبته من عملها، بل تضع ذاتها وحياتها كذلك. وها نحن ذا، عشرات الأفراد القادمين من شتى أصقاع الأرض، والذين لا يتمتعون بأية مزايا استثنائية، وخاصةً بأية سلطة على أيٍّ كان، ننوي الكفاح، وفي كفاحنا نرجو الانتصار على تلك القوة الهائلة العائدة، لا لدولة واحدة فقط وإنما لكل الدول التي في عهدتها مليارات الأموال وملايين الجنود، والتي تعلم جيدًا أنَّ وضعها الاستثنائي، أي الناس الذين يشكِّلون الحكومات، قائم فقط على وجود الجيوش؛ الجيوش التي لها جدوى ومعنى فقط عندما تكون هناك حروب، تلك الحروب ذاتها التي نريد النضال ضدها، والقضاء عليها.

النضال، في ظلِّ عدم تكافؤ القوى هذا، يجب أن يُعتبر جنونًا. ولكن، لو أننا أمعنَّا النظر في قيمة وسائل الصراع التي بين أيدي الذين نريد النضال ضدهم، وبين تلك التي بين أيدينا فسيبدو مذهلاً، ليس أننا قررنا النضال وإنما أنَّ هناك ما نناضل به. لديهم مليارات الأموال وملايين الجنود الخاضعين، ولدينا وسيلة وحيدة لكنها الأكثر جبروتًا في العالم: الحقّ.

لذا؛ فكما أنَّ قدراتنا قد تبدو تافهة مقارنةً بقدرات خصومنا، كذلك نصرنا لا شكَّ فيه، كما أنه ما من شكٍّ في انتصار نور الشمس على ظلمة الليل.

نصرنا مؤكد، لكن فقط بشرط واحد وهو أننا حين نقول الحقيقة علينا أن نقولها كلها، دون أيِّ تواطؤ أو تراجع أو تلطيف. وهذه الحقيقة من البساطة والوضوح والجلاء بمكان بحيث أنَّ أيَّ إنسان عاقل، وليس المسيحي فقط، ما إنْ تُبلَّغ إليه بكل معناها حتى يعجز عن التصرُّف بما يناقضها.

هذه الحقيقة، بكلِّ معانيها، تكمن في كلمتين وردتا في شِرعة الله الذي نؤمن به منذ آلاف السنين، وهما: «لا تقتل». حقيقة أنَّ الإنسان لا يمكنه، ولا يجب عليه أبدًا، أيًّا كانت الظروف، وتحت أيِّ شعار كان، أن يقتل إنسانًا آخرَ. حقيقة بهذا الوضوح، بهذا الاعتراف من قِبل الجميع، بهذا الإلزام إلى درجة أنه يكفي فقط وضعها أمام البشر بوضوح ودقَّة حتى يغدو الشرُّ، المسمَّى الحرب، مستحيلاً تمامًا.

لذا أعتقد أننا، نحن المجتمعون هنا في مؤتمرٍ للسلام، بدلاً من أن نُعلن هذه الحقيقة بوضوح ودقَّة نتوجَّه إلى الحكومات، مقترحين عليها شتَّى الإجراءات للتخفيف من شرِّ الحروب، ولكي تندلع بشكل أندر فأندر، مثل الذين، رغم وجود مفتاح للباب في حوزتهم يُحطمون أنفسهم لاختراق الجدار الذي يعلمون عدم إمكانية تحطيمه بجهودهم. إننا نواجه ملايين الناس المسلَّحين، والذين يزدادون تسلُّحًا أكثر فأكثر، والذين تمَّ تجهيزهم لمزيدٍ من القتل الناجح. ونعلم أنَّ كلَّ هؤلاء لا رغبة لديهم في قتل أمثالهم من الناس على الإطلاق، ومعظمهم لا يعلم حتى سبب إرغامهم على القيام بما يتناقض وإياهم، ويتبرَّمون من حالة الإرغام والإخضاع التي يكابدونها. ونعلم أنَّ القتل الذي يرتكبه هؤلاء الناس، بين الحين والآخر، إنما يرتكبونه تبعًا لأوامر الحكومات. كما أننا نعلم أنَّ الحكومات القائمة تشترط وجود الجيوش. ونحن، الذين نتمنى زوال الحروب، لا نجد، من أجل هذا الزوال، ما هو أنسب من أن نقترح ذلك، على من؟ على الحكومات، أي أننا نقترح على الحكومات إبادةً ذاتيةً. ولسوف تصغي الحكومات إلى أقوال كهذه بكل سرور، عارفةً أنَّ هذه الأفكار ليست فقط لن تقضي على الحرب وعلى سلطتها، وإنما ستحجب أكثر عن البشر ما ترغب الحكومات في إخفائه ليكون في مقدور الجيوش والحروب، والذين يمتلكون الجيوش، أن تبقى.

يقولون لي: «ولكن هذه أنارخية، إذ لم يعش البشر دون حكومات، ودون دول من قبل قط. وبالتالي، فإنَّ الحكومات والدول والجيوش التي تحميها شروط حتمية لحياة الشعوب.»

لندع جانبًا الحديث عن إمكانية، أو عدم إمكانية، عيش الشعوب، لا المسيحية فقط بل الشعوب كافة، من دون جيوش وحروب تحمي الحكومات والدول، ولنفترض أنَّ البشر، من أجل مصلحتهم، مضطرون إلى الخضوع بعبودية لهيئات مشكَّلة من أناسٍ غرباء عنهم تدعى حكومات، وأنَّ من الضروري أن يقدِّموا لهذه الهيئات نتاج عملهم، ومن الضروري تنفيذ أوامر هذه الهيئات بما في ذلك قتل الأقربين. لنفترض هذا كله، ولكن رغم ذلك تبقى هناك عقدة غير قابلة للحلِّ في عالمنا. وتلك العقدة تكمن في استحالة التوفيق بين الدين المسيحي، الذي يعتنقه بقوةٍ استثنائية كل الذين يشكِّلون الدولة، وبين وجود قواتها المسلَّحة المؤلَّفة من المسيحيين، والمجهزَّة للقتل. إذ مهما حرَّفتَ الدين المسيحي، ومهما سكتتَ عن أسسه الرئيسة؛ فإنَّ المعنى الأساس لهذا الدين – رغم ذلك – يكمن في المحبة، محبة الله والقريب: محبة الله تعني محبة الكمال الأسمى للبشر، ومحبة القريب تعني محبة الناس جميعًا دون أيِّ تمييز. لذا يبدو أنْ لا مناص من الاعتراف بإحداهما: إما المسيحية مع محبة الله والقريب، وإما الدولة مع الجيوش والحروب؟

من المحتمل جدًا أنَّ المسيحية قد ولَّى زمانها، وأنَّ البشر في زماننا، إذ يختارون إحدى اثنتين: المسيحية والمحبة أو الدولة والقتل، سيجدون أنَّ وجود الدولة والقتل أهم بكثير من المسيحية، وأنه يجب نسيان المسيحية، والتشبُّث فقط بما هو أكثر أهميةً للبشر: الدولة والقتل.

كل هذا محتمل، فعلى الأقل يمكن للبشر أن يفكِّروا ويشعروا على هذا النحو. لكن حينها يجب قول ما يلي؛ يجب قول إنَّ البشر في عصرنا لم يعودوا يؤمنون بالحكمة الجَمعية للبشرية برمَّتها، وبما تقوله شرعة الله التي يعتنقونها؛ وأنهم كفُّوا عن الإيمان بما هو مدوَّن، بخطٍّ غير مرئي، في قلب كل إنسان، وأنَّ عليهم أن يؤمنوا فقط بما يأمرهم به، بما في ذلك القتل، مختلف الناس الذين، بالمصادفة أو الوراثة، أصبحوا أباطرة وملوكًا، أو عن طريق شتَّى الفتن، عبر الانتخابات، أصبحوا رؤساءَ، ونوابًا في البرلمان. هذا ما ينبغي قوله.

وما لا ينبغي قوله هو، ليس فقط لا ينبغي قوله بل لا ينبغي قول لا هذا ولا ذاك. فإذا قلتم إنَّ المسيحية تُحرِّم القتل، فلن تعود هناك لا جيوش ولا حكومات، وإذا قلتم إننا، نحن الحكَّام، نعترف بشرعية القتل ونرفض المسيحية؛ فلن يرضى أحد بالخضوع لحكومة تبني سلطتها على القتل. ناهيكم عن أنَّ القتل، إذا كان مسموحًا به في الحرب، فالأحرى أن يكون مسموحًا به للشعب الذي اكتشف حقه في الثورة. لذا فإن الحكومات، إذ لا تجد لديها الإمكانية لقول لا هذا ولا ذاك، تحرص فقط على أن تحجب عن رعايها حلَّ هذه الثنائية.

ولهذا السبب؛ فبالنسبة لنا، نحن الذين نعمل ضدَّ شرور الحرب، المجتمعون هنا، إذا كنا نريد فعلاً بلوغ غايتنا، فإننا نحتاج إلى شيء واحد فقط: عرض هذه الثنائية، بدقَّة ووضوح كليين، أمام البشر، سواء الذين ينتمون إلى الحكومات أم حشود الناس التي تتشكَّل منها الجيوش. ومن أجل القيام بذلك، ليس علينا فقط أن نكرِّر، جهرًا وبوضوح، حقيقة أنَّ الإنسان لا يجوز له قتل الإنسان، بل وأن نوضِّح أنْ ليس بمقدور أية تصوُّرات أن تقضي على إلزامية هذه الحقيقة بالنسبة لبشر العالم المسيحي. ولهذا فإني أقترح على مؤتمرنا وضع ونشر نداء موجَّه للبشر من كافة الشعوب، وخصوصًا الشعوب المسيحية، نعبِّر فيه، بوضوح وصراحة، عمَّا يعرفه الجميع لكن لا أحد، أو تقريبًا لا أحد، يجهر به، وبالتحديد أنَّ الحرب ليست أمرًا محمودًا وخيِّرًا، كما بات معظم البشر يقرُّه الآن، بل هي، مثل أية جريمة أخرى، عمل شنيع وإجرامي، سواء بالنسبة للذين يختارون العمل العسكري طوعًا، أم بالنسبة للذين يختارونه بسبب الخوف من العقاب، أو لأجل المطامع.

فيما يتعلق بالأشخاص الذين اختاروا العمل العسكري طوعًا، لكنتُ اقترحت أن يُصرَّح، بوضوح ودقة، في هذا النداء، بغضِّ النظر عن كل تلك الحفاوة والتألُّق والمباركة العامة، مما يحيط بهذا العمل، بأنَّ هذا العمل إجراميٌّ وشنيع، وأنه يكون أكثر إجراميةً وشناعةً كلما كان المنصب الذي يحتله الشخص أعلى، في فئة العسكر. وكذلك تمامًا أقترح أن يُصرَّح، بوضوح ودقَّة، فيما يتعلق بأفراد الشعب الذين يُستدعَون إلى الخدمة العسكرية تحت تهديد العقاب أو الرشوة، عن الخطأ الفاحش الذي يرتكبونه على النقيض من إيمانهم وأخلاقيتهم والعقل السليم، وذلك عندما يوافقون على الالتحاق بالجيش: إنه نقيض الإيمان لأنهم، إذ يلتحقون بأرتال القتلة يخرقون قانون الله الذي يؤمنون به؛ ونقيض الأخلاق لكونهم، خشية العقاب من قِبل السلطات أو لغاياتٍ مغرضة، يوافقون على القيام بما يعلمون، في نفوسهم، أنه سيئ؛ ونقيض العقل السليم لأنهم، إذ يلتحقون بالجيش، يخاطرون بالتعرُّض، في حالة الحرب، لتلك الويلات الثقيلة التي هي أشدُّ وبالاً من التي يهدِّدونهم بها في حالة الرفض، والأهم أنَّ تصرُّفهم يناقض العقل السليم، وهذا بات جليًا لأنهم يلتحقون بالفئة التي تحرمهم حريتهم، وترغمهم على الالتحاق بالجندية.

فيما يتعلَّق بهؤلاء وأولئك، أقترح أن يرد في النداء تلك الفكرة – التي بالنسبة للناس المتنورين بحقٍّ وبالتالي متحررين من خرافة العظمة العسكرية (وهؤلاء يزداد عددهم يومًا بعد يوم) والعمل العسكري والرتبة العسكرية رغم كل الجهود لحجب معناها الحقيقي – القائلة بأنَّ هذا العمل أشدَّ مقتًا بكثير من عمل الجلاَّد ومنصبه، إذ إنَّ الجلاد يعتبر نفسه مستعدًا لقتل فقط الذين يؤمَر بقتلهم، وإن كانوا أقرب الناس إليه، وأفضلهم.

الإنسانية عمومًا، وخاصةً إنسانيتنا المسيحية، وصلت إلى ذلك التناقض الحادِّ بين متطلباتها الأخلاقية وبين النظام الاجتماعي القائم الذي يجب أن يتغير حتمًا، فما يجب أن يتغير ليست متطلبات المجتمع الأخلاقية التي لا يمكنها أن تتغير، وإنما النظام الاجتماعي. وهذا التغيير، الذي يستدعيه التناقض الداخلي، يتجلَّى بحدَّة بالغة في الإعدادات للقتل، حيث يتمُّ الإعداد له من مختلف الجهات سنة بعد سنة، ويومًا بعد يوم، ويغدو ملحًا أكثر فأكثر. والتوتُّر الذي يتطلبه هذا التغيير بلغ، في وقتنا الراهن، درجةً بحيث أنه، كما أنَّ الانتقال من الجسم السائل إلى الجسم الصلب يحتاج إلى تيار كهربائي قليل الجهد، كذلك تمامًا فيما يتعلق بانتقال حياة الناس في زماننا، تلك الحياة العنيفة والغبية بانقساماتها وجيوشها، إلى حياةٍ عقلانية متوافقة مع متطلبات وعي الإنسانية المعاصرة، ربما يلزم القليل من الجهد، أحيانًا كلمة واحدة. وإنَّ أي مجهود كهذا، أي كلمة كهذه قد تكون تلك الضربة الخفيفة الموجَّهة إلى السائل البارد، والتي تحوِّل السائل كله إلى جسمٍ صلب على الفور. فلماذا لا يكون اجتماعنا الحالي ذلك الجهد؟ فكما في حكاية أندرسون، عندما كان الملك يسير، في موكبٍ مهيب، في شوارع المدينة، وكان الشعب كله يُثني على ثوبه الجديد الرائع، فإنَّ كلمة واحدة من طفل، والذي قال ما كان يعلمه الجميع لكنهم لم يفصحوا عنه، غيَّرت كلَّ شيء؛ إذ قال: «لكنه عارٍ»، فاختفى الوهم، وشعر الملك بالخجل، وكل الذين أقنعوا أنفسهم بأنهم يرون ثوب الملك الجديد الرائع رأوا أنه عارٍ. علينا أن نقول الشيء ذاته، أن نقول ما يعلمه الجميع لكنهم لم يحسموا أمرهم للإفصاح عنه، أن نقول: أيًا كان الاسم الذي يُطلقه الناس على القتل، يبقى القتل قتلاً، يبقى عملاً إجراميًا وشائنًا. يكفي أن نقول هذا بوضوح وصراحة وبصوتٍ عالٍ، كما يمكننا أن نفعل هنا، وسيكفُّ الناس عن رؤية ما يتهيأ لهم أنهم يرونه، وسيبصرون ما يبصرونه حقًا. سيكفُّون عن رؤية: خدمة الوطن، بطولية الحرب، المجد العسكري، الوطنية. وسيبصرون ما هو كائن حقًا: القتل الإجرامي العاري. فإذا ما رأى البشر هذا؛ فسوف يحدث ما حدث في الحكاية: من ارتكب جريمةً سيشعر بالخجل، والذين أقنعوا أنفسهم بأنهم لا يرون إجرامية القتل سيُبصرونها، وسيكفُّون عن أن يصبحوا قتلة.

ولكن: كيف ستحمي الشعوب نفسها من الأعداء؟ كيف سيُحافظ على الاستقرار الداخلي؟ كيف يمكن للشعوب أن تعيش دون جيوش؟ ما الشكل الذي سوف تتخذه حياة الناس الذين يمتنعون عن القتل؟ لا نعرف ولا يمكننا أن نعرف. ولكن هناك شيء يقيني وحيد، وهو أنَّ من الطبيعي أكثر أن يعيش الناس، الذين وُهِبوا العقل والضمير، منقادين لهذه المزايا بدلاً من الخضوع بعبودية لأناسٍ منقادين لقتل بعضهم بعضًا. ولذا؛ فإنَّ شكل النظام الاجتماعي الذي سوف تتخذه حياة الناس، غير المنقادين في أفعالهم للعنف القائم على التهديد بالقتل وإنما للعقل والضمير، لن يكون، في أسوأ الأحوال، أسوأ من النظام الذي يعيشونه الآن.

هذا كل ما أردت قوله. وسأشعر بأسفٍ شديد إذا ما أهان أو كدَّر ما قلته أحدًا، أو أثار لديه مشاعر سيئة. لكني، أنا العجوز الثمانيني الذي أتوقَّع الموت في أية لحظة، كنت سأشعر بالخجل وبالجناية لو لم أقل الحقيقة كلها كما أدركها، الحقيقة التي – حسبما أؤمن إيمانًا راسخًا – وحدها فقط يمكنها تجنيب البشرية معاناة ويلات لا تُحصى، مما تُسبِّبها الحرب.

4 آب 1909

***

إضافة لاحقة إلى المحاضرة "من أجل مؤتمر السلام"

إنكم تتمنون مشاركتي في اجتماعكم هذا، وأنا، بقدر ما استطعت، عبَّرت عن وجهة نظري حول مسألة السلام في المحاضرة التي هيَّأتها لأجل مؤتمر العام الماضي. وقد تمَّ إرسال تلك المحاضرة لكم، غير أني أخشى أنَّ تلك المحاضرة قد لا تلبي متطلبات الشخصيات الأعلى ثقافةً، المجتمعة في المؤتمر. قد لا تلبِّيها لأنَّ آرائي، بقدر ما لاحظت في كل مؤتمرات السلام، وليست آرائي فقط بل وآراء كل الناس المتدينين في العالم حول هذه القضية، تُعتبر، باسم عبارة "مناهضة العسكرة" الجديدة والمبهمة، تجلِّيًا استثنائيًا وعَرَضيًا لأمنياتٍ شخصية تميِّز بعض الناس، لذا ليست لها قيمة جدية. لكني، بغضِّ النظر عن هذا، ورغم ذلك، سوف أنفِّذ رغبة المؤتمر التي عبَّر عنها لي ورغبتي في أن أفصح، وإن بإيجاز، عن فكرتي ذاتها، والمتعلقة باللاجدوى المطلقة لوضع قرارات جديدة في المؤتمرات، والتي يُفترض بها أن تضمن السلام بين الذين يكرهون بعضهم بعضًا، والذين يرون أنَّ مصلحتهم تكمن في اتساع رقعة انتشار سلطتهم على الشعوب. وأعتبر أنَّ وضع قرارات جديدة تكفل السلام، في المؤتمرات، غير مجدٍ لأنَّ القانون الذي يضمن السلام في العالم أجمع، والمعبَّر عنه بكلمتيّ: "لا تقتل"، معروفٌ للعالم أجمع، ولا يمكنه أن يكون مجهولاً لكل شخصيات المؤتمر الأعلى ثقافةً.

وإني أعتبر، وما زلت، أنَّ واجبي المقدَّس أمام الله والبشر هو التذكير بهذا القانون، المدوَّن ليس فقط في كافة أديان العالم العظيمة بل وفي قلوب البشر أجمعين، وها أنذا، مرةً أخرى، أُذكِّر به أعضاء المؤتمر الأعلى ثقافةً. صحيح أنَّ عمل المئات من أولئك الذين، مهتدين بهذا القانون، يرفضون أداء الخدمة العسكرية، ويتعرَّضون بسبب ذلك لحرمانات وعذابات قاسية، مثل أصدقائي في روسيا وأوروبا (البارحة فقط تلقيت رسالة كهذه من شاب سويدي عزم أمره على رفض أداء الخدمة العسكرية)، قد لا يهم أعضاء المؤتمر الأعلى ثقافةً، بما أنه يُنسَب إلى "مناهضة العسكرة" لكني، رغم ذلك، أعتقد أنَّ نضال هؤلاء الناس، الذين يؤمنون بقانون "لا تقتل"، ويقومون بذلك بالأفعال لا بالأقوال، ولذا فهم لا يشاركون في القتل الإجرامي بأيِّ شكلٍ كان، هو العمل الوحيد الذي يُلبِّي، أفضل من أي شيء آخر، حاجة كل نفسٍ منفردة، ويلبي متطلبات ضمير الإنسان، وكذلك يخدم، أصدق من أي شيء آخر، التوجُّه العام نحو خير الإنسانية جمعاء وعدالتها، بالإضافة إلى مسعى إقامة السلام بين البشر، تلك الغاية التي يسعى إليها أعضاء المؤتمر.

هذا ما أردتُ – يا إخوتي الأعزاء – أنا الذي أعيش الأيام أو الساعات الأخيرة من حياتي، أن أعيده على مسامعكم. وبالتحديد أننا لا نحتاج إلى مجالس أو مؤتمرات ينظِّمها الأباطرة والملوك، الذين هم قوَّاد الجيوش، ولا إلى مناقشة كيفية تنظيم حياة الآخرين في هذه المؤتمرات، وإنما نحتاج إلى شيء وحيد: أن نُطبِّق قانون محبة الله والقريب الذي نعرفه ونعترف به، والذي لا يتعايش، بأي حال من الأحوال، مع الإعداد لقتل القريب، بل وقتله.

ياسنايا بوليانا، 20 حزيران 1910

ترجمة: هفال يوسف

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1]  تالير Taler، بالألمانية: عملة معدنية فضية كانت تستخدم في تشيكيا وألمانيا واسكندنافيا، منذ القرن الخامس عشر حتى عام 1907.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود