التحليل النفسي

والنموذج الإرشادي الجديد في العلم*

 

محمود منقذ الهاشمي

 

إن البحث في المعايير المتعلقة بما ينبغي أن نفعله وألاَّ نفعله يسمى "فلسفة الأخلاق". وهذه، إذ تحدِّد لنا كيف علينا أن نتصرف بوصفنا قوًى فاعلة، تتخذ، لا محالة، شكل علم معياري. ولا بدَّ لفلسفة الأخلاق كذلك من أن تدرس ما يمكن لنا أن نفعله لتلبية مطالب الالتزام؛ أو لنقلْ ذلك بطريقة أخرى: إنها معنيَّة أساسًا بالـمسؤولية الإنسانية. وليست المسؤولية، ببسيط العبارة، نتيجة للحرية، بل العكس: فأن يكون المرء مسؤولاً، عن الآخرين وعن نفسه، هو الأساس لما ندعوه "الحرية" بالمعنى الأخلاقي.

ولعل أكبر تحدِّيين تواجههما فلسفةُ الأخلاق اليوم هما المطلقية absolutism والنسبوية relativism. وفي خصوص الأولى، يرى أصحابُها أن المعايير الأخلاقية، لكي تكون صحيحة، يجب أن تكون "مطلقة"؛ ومن ثَمَّ فإن قضاياها الأخلاقية صحيحة قطعيًّا وأبديًّا، ولا تسمح بإعادة النظر ولا تسوِّغها. والمطلقية سببٌ للنزاعات المأساوية والكارثية، وللحروب التدميرية، لا للسلام. ومن أبرز أمثلتها: الثقافة الإمبريالية والثقافة الأصولية. وتقوم الثقافة الإمبريالية على الاعتقاد بالتفوقية superiority الأساسية لشعب ما على بقية الشعوب التي لا يمكن أن تصل في أية مرحلة تاريخية – ولم تصل من قبل – إلى حالة التفوق. وهذا ما يبيح السيطرة عليها وعلى ثرواتها. وهي، أساسًا إيديولوجيًّا، تبرِّر إخضاع الشعوب الأخرى واستغلالها بتعريفها من جانب واحد بأنها وثقافاتها "بدائية" أو "همجية" أو "إرهابية"، وبالتالي، عليها واجب حمايتها أو تحريرها أو الإنعام عليها!

وقد لحظ جاك درِّيدا في الخطاب الرسمي للإمبريالية الأمريكية، على الرغم من الفصل المبدئي للدين عن الدولة، تمسُّكه الجوهري بالكتاب المقدس، في عبارات من قبيل: "فليبارك الربُّ أمريكا" و"فاعلو الشر" و"محور الشر" و"العدالة المطلقة".[1] إنها مثال على الكامن العنيف للثقافة، في القصد والتطبيق على السواء. وفيه تؤدي الثقافةُ وظيفتَها بوصفها النذير والأساس التصوري للحرب ولعنف الهيمنة الاستعمارية؛ وهي تؤدي وظيفتَها كذلك في محاولة إخفاء أبسط أشكال الأنانية الجماعية وأقلها صقلاً. والكتَّاب الذين تهيمن عليهم هذه الروح كثيرون؛ وتمكن في ذلك العودةُ إلى إدوارد سعيد وكتابه الثقافة والإمبريالية، ليلحظ القارئ كيف دَعَمَ مفكرون كثيرون دعمًا واعيًا وغير واعٍ، وبتحرر مدهش من الإحساس بالذنب، أهدافَ الإمبريالية الثقافية. وأذكر، على سبيل المثال، أن الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (1823-1892) استطاع، من جهة، أن يكتب كتابًا من نحو حياة يسوع وأن يكون، في الوقت نفسه، نصيرًا للنظريات العرقية التي تضاهي نظريات النازيين. والنقيض المتطرف للمطلقية هو النسبوية، التي يسميها الفيلسوف النمساوي كارل بوبر "وباء العصر".

وباء النسبوية‏

لقد بدأ شيوع النسبوية في النصف الثاني من القرن العشرين مع أعمال الأنثروبولوجيين الثقافيين[2] الذين أرادوا أن يوازِنوا كفَّة الافتراضات الإمبريالية المتعجرفة. ولكن النسبوية أقدم من ذلك؛ فالمصطلح قد بدأ استخدامُه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويمكن القول إن وجوده الباكر قد ظهر في كتابات الفيلسوف الإنكليزي جون غروت John Grote سنة 1865؛ وقد استخدمه كذلك هوسِّرل في كتابه الأبحاث المنطقية سنة 1900.‏

ويزعم النسبوي أنه لا وجود لمعايير صحيحة مستقلة تحدِّد ما الذي يجعل الاعتقاد عقليًّا. وما يُعَدُّ "سببًا وجيهًا" للاعتقاد بمعتقَدٍ ما سيتفاوت من ثقافة إلى ثقافة؛ وليس هناك من سبب موضوعيٍّ لإيثار أية مجموعة من المعايير على أخرى.[3] والنسبوية قائمة على أن كلَّ الممارسات الخاصة يجب أن تُفهَم وتقوَّم ضمن سياق ثقافة ما؛ وهي تنكر محاولة الحكم في شأن ثقافة بقيم ثقافة أخرى أو ترتيبها وفقًا لتراتُبية هرمية. وتنطوي أطروحة النسبوي الثقافي على قضيتين: الأولى هي أن الفروق في المنظومات القيمية value systems للبشر هي نتيجة لاختلاف الشروط التاريخية لكلٍّ منها؛ والثانية هي أن قيم الفرد مستقاة من الثقافة التي ينتمي إليها ذلك الفرد.[4] وقد تتبدل مجموعة المعايير التي يعتقد بها المرء بحسب الظروف؛ ومع ذلك، فإن النسبوية الأخلاقية ترى أن كلَّ الآراء الأخلاقية صحيحة بالتساوي.[5]

ومن الجدير بالذكر أن النسبوية ليست مجرد مفهوم عند بعض الكتَّاب وحسب، وإنما هي فكرة شائعة جدًّا في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية العامة أيضًا. إن مقدمتها المنطقية هي "كل شيء نسبي": فما تقول إنه خير هو خير بالنسبة إلى مفهومك للخير، وهو لا يُلزِمُني؛ وما تراه واجبًا إنما هو واجب بحسب ثقافتك، لا ثقافتي؛ وما كنت أراه سيئًا كان سيئًا بالنسبة إلى منظومة قيم لم أعد أعتقد بها الآن؛ وهكذا.‏

أولاً، إن النسبوية relativism تجعل النسبية relativity مطلقةً، ولا ترى أيَّ شمول. فهي تنفي المطلق نفيًا مطلقًا. أما النسبية فتعترف بوجود المطلق؛ فسرعة الضوء، كما تقول الفيزياء الحديثة، مطلقة، بمعنى أنها مستقلة وثابتة وغير نسبية وغير مشروطة. وعلى العموم، فإن المادة في حركتها غير مشروطة، وغير محدَّدة بأيِّ شيء؛ فهي أبدية وغير قابلة للنفاد، أي أنها مطلقة. وكلُّ الأشياء النسبية هي جزء من كل؛ فهي، بهذا المعنى، تشتمل على عنصر المطلق؛ فما هو نسبي في سياق هو مطلق في سياق آخر. من هنا، إذا كنَّا نرفض المطلقية التي لا ترى نسبية الأشياء، فإننا نرفض كذلك النسبوية التي لا تلحظ أيَّ شمول. وعندما أتحدث عن الاختلافات النسبية بين شخصين، أحدهما عربي والآخر صيني أو فرنسي، يجب أن أكون واعيًا للأمور التي تجمعهما وتشملهما، وهي إنسانيتهما المشتركة أساسًا. فكلُّ تعريف بالإنسان يشملهما، وكلُّ ما هو من خصائص الإنسان هو من خصائصهما. وإذا لم يكن لديَّ هذا الفهم للشمول، بالإضافة إلى النسبية، فأنا أغالط.‏

وتتضح المغالطة النسبوية في مواقف الكثير من ساسة العالم الثالث، حين يتحدثون عن نوع نسبي من الديموقراطية المستمَدة من سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي، في معزل عن سائر سياقات العالم، في حين يمارسون نظامًا توتاليتاريًّا، لا علاقة له البتة بأية سمة من السمات التي تحدِّد الديموقراطية. وفي خلفية المجادلات المتعلقة بشمولية حقوق الإنسان بين البلدان الغربية وبلدان العالم النامي، تكمن محاولةُ إضفاء النسبوية على الثقافة السياسية للغرب، التي نشأ منها تراثُ الحقوق الإنسانية الحديثة. فهي، من هذا المنظور النسبوي، وليدة ظروف أوروبية، ولا مجال لتعميمها على شعوب العالم كافة. وأية محاولة من أيِّ شخص لنقد الأنظمة والممارسات السياسية لبلد آخر تواجَه، لا محالة، بتهمة التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة!

والنسبوية تضلِّلنا بمقدار ما تفعل المطلقية: فالنسبوية لا تعترف بأن هناك مجالاً للتقاطُع تتلاقى فيه الاتجاهاتُ المختلفة من مختلف الثقافات والحضارات. وهي، إلى ذلك، ترفض مهمة الإسهام في تعايُش الشعوب المختلفة. فليست النسبوية ممكنة إلا بالنسبة إلى الثقافات المنغلقة. وينطلق أتباعُها من فهمٍ مجرَّد لمصطلح "السياق" context. وهم يعطون الانطباع بأن السياقات الحياتية المنفصلة زمانًا ومكانًا، التي يتحرك فيها الناس ويعملون، إنما هي مُحكَمة الإغلاق على الخارج ومتَّصفة في الداخل بالتجانُس الثقافي. ولكن هذا ليس صحيحًا البتة. فكل سياق كان على الدوام مرتبطًا بالكثير من السياقات الأخرى بطُرُق عدة. واليوم يجب أن نتوقع، حتى في السياقات الحياتية العامة، عنصر "التعددية" الثقافية، الذي يجعل البحث عن مجال التقاطع بين المعتقدات المشتركة إلزاميًّا. ويصف جون غالتونغ John Galtung، رائد دراسات السلام، هشاشة النسبوية الثقافية بأنها "الميل إلى اتِّخاذ شكل التسامح السلبي، بدلاً من المحاولات الفعالة للتعلم من الثقافات الأخرى"[6].

على أن النسبوية داحضةٌ ذاتَها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما قدَّمه فرويديٌّ بريطاني أرثوذكسي، زَعَمَ أن

كلَّ الأحكام البشرية، وحتى العقل نفسه، ليست غير أدوات للاوعي؛ وهذه الاقتناعات الدقيقة ظاهريًّا التي يمتلكها الشخصُ الذكي ما هي إلا نتائج محتومة للأسباب الدفينة في المستويات اللاواعية من نفسه.

فهذا الزعم يقضي على نفسه في وضوح، لأنه إذا كانت "كل" الأحكام تحدِّدها القوى اللاواعية – وهذا يجعلها بمعنى من المعاني مشتبَهًا فيها – فلا بدَّ من أن ينطبق هذا الزعم على أحكام هذا الفرويدي نفسه.[7] ومن الأمثلة على التناقض الذاتي في النسبوية كذلك ما قاله ميشيل فوكو، تأييدًا لها ضد الشمولية الأخلاقية: "إن البحث عن شكل أخلاقي من شأنه أن يكون مقبولاً من كلِّ شخص، بمعنى أن يخضع له كلُّ شخص، يبدو لي كارثيًّا." ولكنه، عندما جوبِه بمسألة الحقوق الإنسانية ومطالبتها بالمشروعية الشاملة، فإنه، بوصفه مثقفًا تقدميًّا، قد انحاز إلى جانب الحقوق الإنسانية. وتناقُض فوكو هذا يشبه تناقُضه بين نقده الحماسي للقوة وفرضيته، المستمَدة من نيتشه، بأن كلَّ الحجج، بما فيها حجة المرء نفسه، ليست سوى تدابير للقوة، وليست سوى التعبير عن "إرادة القوة"[8].

والآن، وبعد أن نظرنا إلى النسبوية في عدم تماسكها المنطقي وتطرُّفها وسوء فهمها العلمي للنسبية، علينا أن نمتحنها من الوجهة الأخلاقية الخالصة، ونسأل: هل يمكن للبشرية بهذا الموقف النسبوي أن تردَّ على تحديات العولمة، وعلى ما يشهده كوكبُنا من تخريب هائل للبيئة، ومن حروب تدميرية فظيعة، ومن منازعات دموية طاحنة، ومن إخماد واسع النطاق لإنسانية الإنسان وقدراته الإبداعية؟ هل يمكن، بموقف عدم المبالاة وإغضاء النظر، تجنُّب التأثير المروِّع لهذا العنصر التدميري أو ذاك، في هذه الثقافة أو تلك؟ إنه لأمرٌ خطير أن نعتقد بذلك. ولكن، كما قال إريش فروم، "بما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون قيم ومعايير، فإن هذه النسبوية تجعله فريسةً سهلةً لمنظومات القيمة غير العقلية"، أي للمعايير التسلُّطية. والنسبوية عند فروم هي انحرافٌ عن عدم الدوغمائية وأحد وجوهه السلبية.‏

وكثيرًا ما يدَّعي النسبويون أنهم "واقعيون"، يرون أن مشكلة الأخلاق من مخلَّفات الماضي. يقول فروم في الفصل الأخير من كتابه الإنسان من أجل ذاته: بحث في بسيكولوجيا الأخلاق:

يقولون لنا إن التحليل البسيكولوجي والسوسيولوجي يُسفِر عن أن القيم كلَّها هي مجرد قيم بالنسبة إلى ثقافة معينة، ويقترحون أن تضمن فعاليتُنا المادية وحدها مستقبلَنا الشخصي والاجتماعي. ولكن هؤلاء "الواقعيين" جاهلون ببعض الحقائق القاسية. إنهم لا يرون أن فراغ الحياة الفردية وانعدام التخطيط فيها، وأن الافتقار إلى الإنتاجية وما يتبعه من افتقار المرء إلى الإيمان بنفسه وبالبشر، إذا طالتْ مدتُه، أدى إلى الاضطرابات الانفعالية والذهنية التي من شأنها أن تعطِّل قدرة الإنسان حتى على تحقيق مآربه المادية.

ومن الجدير بالملاحظة أن وباء النسبوية قد وصل إلى الترجمة عند بعض المثقفين العرب عندما ترجموا مصطلح "التوتاليتارية" totalitarianism بـ"الشمولية". صحيح أن بعض كتَّابنا يفضِّلون استخدام المصطلح بلفظه الأجنبي – "التوتاليتارية" – أو يترجمونه إلى "الاستبدادية الشمولية" (لأن المصطلح أصبح في العالم كلِّه ذا دلالة تبخيسية منذ أربعينيات القرن الماضي، ولأن مصطلح "الشمولية" الذي يقابله في اللغة الإنكليزية universality لا يمكن أن يكون ترجمة وافية له، لأن الديموقراطية شمولية والإنسانية شمولية كذلك)، فإن بعض المترجمين والكتَّاب، عندما يترجمون "التوتاليتارية" بـ"الشمولية"، يتركون الانطباع بالنسبوية وبأن الشمولية – في ذاتها – تستحق الاستهجان. على أن مكمن الاعتراض على التوتاليتارية ليس في كونها "شمولية"، بل لأنها نظام قمعي يتدخَّل في كلِّ كبيرة وصغيرة، وتخضع لسيطرة الدولة فيه كلُّ جوانب الحياة ذات الدلالات السياسية، الفعلية أو الكامنة. وهو نظام يختلف عن النظام الاستبدادي العادي الذي يسمح بالروابط المستقلة والأحزاب المتنافسة، كنظام الملك فاروق في مصر، مثلاً. والديموقراطية هي أحد الاتجاهات الشمولية؛ وهي تسري على شكل الحكم، والمنهج التربوي، والثقافة، وعلاقة الإنسان بالإنسان في الأسرة والمجتمع والدولة، وما إلى ذلك.‏

الشمولية النسبية‏

في مواجهة المطلقية، التي تمثِّل لها الإمبريالية والأصولية، والنسبوية التي تؤدي إلى الانتهازية وإلى عدم اللامبالاة بالسمات التدميرية في بعض الثقافات، التي أبقت، على مرِّ الزمان، على منطق الاستبعاد والمجابهة العنيفة، نشأ في فلسفة الأخلاق تيارُ الشمولية النسبية relative universality، التي تبحث في المعايير التي تتخطَّى الثقافات الخاصة وتتعامل جوهريًّا مع الحياة وسلامة البشر أجمعين. وهي، بالمقارنة مع النسبوية، تمثِّل ضرورة التبصُّرات الأخلاقية المهمة للبشر قاطبة، بقطع النظر عن ثقافاتهم الخاصة. وهي أساسية جدًّا، ويمكن للقانون أن يعتمد عليها. ولكنها، بالمقارنة مع المطلقية، تمثِّل أن التبصرات الأخلاقية ليست أولية إلا على المستوى التاريخي؛ فهي لذلك نسبية. والمثال البارز على الشمولية النسبية هو "حقوق الإنسان". فالمعايير شمولية، ولكنها خاضعة للمراجعة والتنقيح عبر التاريخ. فكما أشار جاك درِّيدا،

منذ الثورة الفرنسية، ومع أول إعلان لهذه الحقوق، وحتى الحرب العالمية الثانية، لا تتوقَّف حقوقُ الإنسان عن أن تصبح أكثر ثراء ودقة وتحديدًا (حيث أصبحت هناك حقوق للمرأة، كما أصبحت هناك حقوق للطفولة، وحق في العمل، وحق في التعليم؛ وحقوق للإنسان تتعدى "حقوق الإنسان والمواطن"، إلخ). ولكي نأخذ تاريخية هذه الحقوق بعين الاعتبار، وإمكانية استكمالها بشكل تتأكد به، يجب علينا ألا نمنع أنفسنا أبدًا من مساءلة جميع هذه المفاهيم المتعلقة بها...[9]

وكان الباحث الألماني كريستيان توموشات من الباحثين الذين درسوا "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في صيغته الحالية؛ وقد أشار إلى ما فيه من نقاط ضعف تستوجب المعالجة.[10]

ويعرِّف إريش فروم بفلسفة الأخلاق الشاملة بأنها "معايير السلوك التي هدفها نموُّ الإنسان وتفتُّحه". وهي معايير ليست مطلقة، حتى وإن تأسَّستْ على العلم، لأن المعرفة العلمية، كما يؤكد فروم، "ليست المعرفة المطلقة بل الأفضل؛ وهي تحتوي على أحسن ما يكون من الحقيقة في مرحلة تاريخية معينة".‏

وتهتم الشمولية النسبية بالحوار بين الثقافات سبيلاً إلى انتشار الروح الإنسانية والكوكبية، وتركِّز على مجال التقاطُع الذي تلتقي فيه اليقينياتُ الأخلاقية من مختلف الثقافات. يقول فروم:

وبالفعل تُسفِر المنظوماتُ الأخلاقية للثقافات الكبرى كلِّها عن تشابُه مدهش فيما يُعَدُّ ضروريًّا لنموِّ الإنسان، الذي تنبع معاييرُه من طبيعة الإنسان ومن الشروط الضرورية لنموِّه.

وبالنظر إلى التحديات الحالية، ينبغي أن يتوسَّع مجال التقاطع ويقوى. إلا أن المحاولة الرامية إلى تحديد مجال التقاطع سوف تكون ذات خصيصة منظورية على الدوام؛ أي ستخضع للمنظور النسبي – ولا ضير في ذلك.‏

العلم والأخلاق‏

كانت مجالات النظر في الأخلاق عبر القرون هي الفلسفات والأديان والأعراف الاجتماعية، وكان العلم القائم على النموذج الإرشادي paradigm القديم يلبس لبوس الحيادية ويقول إنه "لا للخير ولا للشر". وقد نظر الناس إلى تقدُّم العلوم على أنه في ذاته خير. ومن الواضح أنه لم يكن كذلك؛ إذ يعرف الناس كافةً أن نتائج الأبحاث العلمية قد استُخدِمَتْ لمآرب شديدة الهول. كانت الغاية المرسومة للعلم هي السيطرة على الطبيعة واستغلالها. وقد استخدم فرنسيس بيكون استعارة بالغة الأبوية والفحش في رؤيته أن الطبيعة امرأة، وأن ما يفعله العالم إنما هو "هَتْك أسرارها".‏

وإلى جانب النموذج الإرشادي القديم في العلم، ظهر حديثًا نموذج إرشادي جديد يدعو إلى "علم الحكمة" بدلاً من "علم الحيلة"، وإلى التعاون مع الطبيعة بدلاً من السيطرة عليها. وفي هذا المجال، بَرَزَ في العقود الثلاثة الماضية تمييزٌ علمي بين "الإيكولوجيا العميقة" deep ecology و"الإيكولوجيا الضحلة" shallow ecology. في الإيكولوجيا الضحلة يوضع البشر فوق الطبيعة أو خارجها؛ ويتوافق هذا المفهوم مع السيطرة على الطبيعة: فلا تُرى القيمة إلا في البشر، ولا تُعطى للطبيعة إلا قيمة استعمالية نفعية، أو قيمة أداتية. أما في الإيكولوجيا العميقة، فالبشر هم جزء حقيقي من الطبيعة، مجرد خيط في نسيج الحياة.

كانت الأبحاث العلمية تتحدَّد بمنظومة قيم المجتمع، وبالعقلية النفعية الذرائعية للمستفيدين. فقد كان العلم ذا موقف سلبي، يمكن أن يُستخدَم في أيِّ اتجاه. وإذا وُجِدَ في تاريخ العلم أحرارٌ أحياءُ الضمير رفضوا استغلال نتائج أبحاثهم لمآرب خطرة على البشرية، فقد تعرَّضوا للأذى ودفعوا ثمن مواقفهم الأخلاقية. ونذكر هنا، على سبيل المثال، أن الفيزيائي الأمريكي جوليوس روبرت أوبنهايمر Julius R. Oppenheimer قد فضَّل أن يُحال إلى المحكمة لمعارضته إنتاج القنبلة الهيدروجينية على أن يقوم بعمل شديد الأذى للبشر، ولاسيما بعد أن رأى استسهال الحكومة الأمريكية إلقاء القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية.‏

وقد بيَّن العالم الأمريكي فريتيوف كابرا في كتابه نقطة الانعطاف أوجُه القصور التي ليس في إمكان النموذج الإرشادي القديم في العلم أن يحلَّها، وهي: تهديد الحرب النووية، وتخريب بيئتنا الطبيعية، واستمرار الفقر في أنحاء العالم. واليوم، فإن ترابُط المشكلات، والنظر إلى المستقبل، وتحمُّل المسؤولية عن الأجيال القادمة، من المسائل المحورية في التفكير العلمي القائم على النموذج الإرشادي الجديد. ونشهد في هذه الأيام تشكلاً جديدًا صاعدًا لاقتران العلم بالأخلاق الإنسانية والحكمة، وانفصالاً عن الحيادية والنسبوية واللامبالاة.‏

كانت النزعة السائدة في علم النفس تهيمن عليها النسبويةُ الأخلاقية، وكان التأكيد منصبًّا على "التوافق"، لا على "محبة الخير". وكان العلم في النموذج الإرشادي القديم يقوم على "الاختزالية" reductionism؛ ولكنه في النموذج الإرشادي الجديد يهتم بفهم الكلِّ والكلِّ الأكبر. وبناءً على الاختزالية، فقد وضعت "السلوكية" behaviorism، التي هي الثورة الأولى في علم النفس، ثقلَها كلَّه على البيئة الخارجية (أي مثيرات العالم الخارجي)، من حيث هي العامل الضابط للسلوك. ولكن التحليل النفسي، الذي هو الثورة الثانية في علم النفس، قد أكَّد على دور البيئة الداخلية (أي المثيرات الداخلية، في شكل دوافع وغرائز). وكما يقول فلويد ماتسون، فإن نظرية فرويد، مع كلِّ اختلافها عن السلوكية، تُوافِق على رؤية الإنسان آلةً واستجابة، على الرغم من أن المثيرات التي تفرض إرادتها على الإنسان تأتي من الداخل، وليس من الخارج.[11]

ثم حدثت الثورة الثالثة في علم النفس بظهور "علم النفس الإنساني". وكان إريش فروم أحد أبرز أقطابه، كما يشير إلى ذلك أنتوني سوتيك ومايلز فيش في كتابهما قراءات في علم النفس الإنساني، وجيمس بوغنتال في كتابه تحديات علم النفس الإنساني، وفلويد ماتسون في كتابه الصورة المشروخة، وسواهم. والسمة الأساسية في علم النفس الإنساني هي التركيز على الشخص الإنساني، وعلى الفرد في تفرُّده وكلِّيته، وعلى العلاقات بين البشر وأهميتها في تفتُّح الشخصية. وتمثِّل هذه الثورة حركةَ مقاومةٍ لكلِّ ضروب الطغيان على العقل الإنساني وخطَّ التزامٍ بالدفاع عن حرية الإنسان البسيكولوجية.‏

ويرى فروم أن فرويد قد أخطأ كثيرًا في فَصْله علم النفس عن الأخلاق، في تجاهُله أن الشخصية البشرية لا يمكن فهمها إلا إذا نظرنا إلى الإنسان في كلِّيته، التي تتضمن حاجته إلى العثور على جواب عن السؤال عن معنى وجوده وإلى اكتشاف المعايير التي ينبغي أن يعيش وفقًا لها.

فرويد وفروم‏

إن للنموذج الإرشادي القديم في العلم جذرين أساسيين: أحدهما العلم الميكانيكي والآخر منظومة القيم الأبوية.[12] وقد كان لكلا هذين الجذرين تأثيرُه السلبي في فكر فرويد. ومن الأمثلة الكثيرة على "أبوية" فرويد، نذكر عقدة أوديب، وكيف أخفق في تقديم البرهان على صحة ملاحظاته حين حلَّل حالة هانس الصغير، وقدَّم معلومات كان أمينًا في نشرها، ولكنه لم يستطع أن يرى ما مَنَعَه تحيُّزه الأبوي من ذلك. وينقده فروم على أنه

يذكر عدم قيام أبوَي هانس بالتهديدات وأنهما كانا مهتمَيْن كلَّ الاهتمام بسعادة الطفل، على حين أن التهديدات وأعمال الإغراء واضحة كلَّ الوضوح، إلى حدِّ أن المرء يراها، ولو أغمض إحدى عينيه.[13]

وفي دراسة مفصَّلة ونقد دقيق لبحث فرويد "تحليل المخاوف المرضية لصبيٍّ في الخامسة من عمره"، يصل فروم إلى أن المخاوف الحقيقية التي كابَدَها هانس قد سبَّبتْها الأم، وليس الأب، ويختمها بقوله:

يبدو أن فرويد قد تأثَّر بتحيُّزه للسلطة الأبوية والفوقية الذكورية، ففسَّر المادة الاختبارية بطريقة أحادية الجانب، وأسقط من حسابه عددًا من المعلومات التي تُناقِض تفسيرَه.[14]

وخلافًا لفرويد، كان فروم يرى في المؤالَفة بين المبدأ الأبوي والمبدأ الأمومي الحلَّ الأمثل القابل للتطبيق، حيث "يحل فيها محلَّ التضاد بين الرحمة والعدل اتحادهما على أرفع مستوى".

وسأكتفي الآن بهذه الإشارة إلى الفارق الأساسي بين هذين العالِمين في النقطة المتعلقة بالنزعة الأبوية، لأنتقل إلى الجذر الآخر، وهو العلم الميكانيكي وتأثيره في فرويد. فقد كان فرويد تلميذًا لإرنست فِلْهِلْم فون بروكه E.W. von Brucke، وهو عالم نفسي كان من أبرز ممثِّلي المادية الميكانيكية، ولاسيما في شكلها الألماني. وكان هذا النمط من المادية قائمًا على أساس أن لكلِّ الظواهر النفسية جذورَها في عمليات فسيولوجية محدَّدة، وأنها من الممكن أن تفسَّر وتُفهَم فهمًا كافيًا إذا عرف المرء هذه الجذور. فكان على فرويد، في بحثه عن جذور الاضطرابات، أن ينقِّب عن الأساس الفسيولوجي للدوافع. وكان العثور على هذا الأساس حلاًّ مثاليًّا، مادام يلائم كلاً من مطالب الفكر المادي وبعض الاكتشافات الاختبارية لدى مرضى زمانه وطبقته الاجتماعية. وتأسيسًا على ذلك، كان فرويد يرى في الإنسان منظومةً مغلقةً تقودها قوتان، هما: حفظ الذات والدافع الجنسي. وللثانية جذورها في العمليات الكيميائية–الفسيولوجية التي تنشط نشاطًا ذا دورين: الدور الأول يزيد التوتُّر والألم؛ والثاني يخفِّف التوتر، فيخلق "اللذة" التي يُشعَر بها ذاتيًّا.[15]

وكما أوضح فروم في كتابه الإنسان من أجل ذاته، فقد حاول فرويد أن يعلِّل الطبيعة الدينامية لسمات الطبع بدمجه علم الطباع لديه مع نظريته في الليبيدو. ووفقًا لنمط التفكير المادي الشائع في العلوم الطبيعية في أواخر القرن التاسع عشر، الذي افترض أن الطاقة في الظواهر الطبيعية والفيزيائية كيانٌ حقيقي وليس اتصاليًّا، اعتقد فرويد أن الدافع الجنسي مصدر طاقة الطبع كلِّها، وفسَّر سمات الطبع المختلفة بأنها "تصعيدات" sublimations للأشكال المتنوعة من الدافع الجنسي أو "تشكلات ارتدادية" ضدها. كما أوَّلَ الطبيعةَ الدينامية لسمات الطبع بأنها تعبير عن مصدرها الليبيدي.‏

وأدَّى تقدُّم النظرية التحليلية، منسجمًا مع تقدُّم العلوم الطبيعية والاجتماعية، إلى مفهوم جديد، تأسَّس، لا على فكرة الفرد المنعزل قبل كلِّ شيء، بل على علاقة الإنسان بالآخرين وبالطبيعة وبنفسه. وأهم اختلاف لنظرية فرويد عن نظرية الطباع عند فروم هو أن الأساس الجوهري للطبع لا يتمُّ النظرُ إليه في الأنماط المختلفة للنظام الليبيدي، بل في الأنواع المختلفة من اتصال الشخص بالعالم، بناءً على مفهوم التشابك وتأكيد العلائق، بدلاً من الأشياء. وفي سيرورة العيش، يَصِلُ المرء نفسه بالعالم باكتساب الأشياء واستيعابها، وبوَصْلِ نفسه بالناس (وبذاته). وفروم يدعو الأمر الأول عملية الاستيعاب؛ والثاني عملية المشاركة الاجتماعية. وكلا الشكلين من الاتصال "مفتوح" وليس، كما هو الأمر عند الحيوانات، محدَّدًا غريزيًّا.‏

وكان فرويد، بناءً على نظريته في الليبيدو، قد افترض أن حبَّ الذات أو "النرجسية" إنما ينشأ عن انسحاب الليبيدو من الأشياء وتحوله إلى شخص المرء. وعنده أنه كلما وجَّهتُ الحبَّ نحو العالم الخارجي قلَّ الحبُّ المتروك لنفسي، والعكس صحيح. وقد بيَّن فروم أن الرصد البسيكولوجي ينفي هذا الأمر، وأنه ليس ثمَّة تناقض بين محبة المرء لذاته ومحبته للآخرين. هو ذا يقول:

وإذا كان المرء قادرًا على الحبِّ بطريقة إنتاجية، فهو يحب نفسه أيضًا؛ وإذا كان لا يستطيع أن يحب إلا الآخرين، فإنه لن يستطيع أن يحبَّ على الإطلاق.

وكان فرويد قد تحدَّث عن الأنا الأعلى؛ ويقابله عند فروم "الضمير التسلُّطي". ولكن فروم يميِّز بين نوعين من الضمير، هما: "الضمير التسلُّطي" و"الضمير الإنساني". وليس الضمير الإنساني صوت سلطة نتوق إلى إرضائها ونخشى إغضابها وقد أُدخِلَتْ في ذاتنا؛ إنه صوتنا، الموجود في كلِّ كائن بشري والمستقل عن العقوبات والمكافآت الخارجية. والضمير الإنساني هو استجابة شخصيتنا الكلِّية لأدائها الوظيفي الصحيح أو اختلال أدائها الوظيفي، وليس استجابة لهذه القدرة أو تلك، بل لجَماع قدراتنا الذي يشكِّل وجودنا البشري والفردي.‏

وبسيكولوجيا فرويد هي بسيكولوجيا "الندرة". وحتى نظريته في الليبيدو قائمة على الندرة. ولم يستطع أن يرى، كما رأى فروم، جوانب "الوفرة" في الإنسان. فقد رأى أن مجاهدة الإنسان من أجل "الشهوة" ناجمة عن حاجته إلى التحرر من التوترات المؤلمة، ولم يتمكن من رؤية "الشهية" التي هي ظاهرة من ظواهر الوفرة تهدف إلى المزيد من الشدَّة والعمق في التجارب الإنسانية. وبناءً على اقتصاره على جوانب الندرة، لم يستطع أن يرى الكثير من الجوانب المشرقة في الإنسان، كالضمير الإنساني، والشخصية الإيجابية، والتوجُّه الإنتاجي، وما إلى ذلك.‏

إلا أن هذه الإشارات إلى بعض الاختلافات بين بسيكولوجيا فرويد وبسيكولوجيا فروم يجب ألا تؤخذ على أنها تعني أن فروم قد طَرَدَ من منظومته البسيكولوجية كلَّ مفهومات فرويد. ففي كلِّ تطور علمي، وكلِّ ثورة علمية، نجد أن المنظومة العلمية الجديدة قد احتفظت ببعض المعطيات السابقة، ولكن ضمن إطار مفهومي جديد.

فروم والنموذج الإرشادي الجديد في العلم‏

كان الإبستمولوجي توماس كُون قد بيَّن – بالحجج – أنه ما أن تصبح لنظرية تعليلية معينة أو لأنموذج تفسيريٍّ معيَّن السيطرةُ عند جماعة علمية حتَّى يرفض العلماءُ السماحَ للنتائج الشاذة بأن تدحضها. فالنماذج الإرشادية السائدة والمتخندقة التي تسيطر على فكر الجماعة العلمية تتمتَّع بنوع من الحماية الخاصة:

إن النظرية العلمية، ما إن تصل إلى حالة النموذج الإرشادي السائد والمتخندق، حتى يُعلَن أنها لا تصير غير صحيحة إلا إذا كان في الميسور أن يحلَّ محلَّها نموذجٌ إرشادي بديل.

والعلم العادي هو مسألة حلٍّ رتيب لِلُغزٍ يتواصل ضمن مصطلحات النموذج الإرشادي السائد. وهيهات – إلا في عهود الأزمة العلمية، عندما تصير النتائج الشاذة صعبة القياد، ويقدِّم نموذجٌ إرشاديٌّ بديلٌ نفسَه – أن يتغيَّر نموذجٌ إرشادي أساسي أو تحدث ثورة في الفكر العلمي.[16]

ويشرح ت. كُون ما يقصده بـ"الثورات العلمية":

الثورات العلمية مقصود بها هنا سلسلة الأحداث التطورية غير التراكمية، التي يُستبدَل فيها بنموذج إرشاديٍّ قديم، كليًّا أو جزئيًّا، نموذجٌ إرشادي جديد متعارض معه.[17]

ويقول أيضًا: "عندما تتغيَّر النماذج الإرشادية يتغيَّر معها العلمُ ذاته."[18] والنموذج الإرشادي العلمي، وفقًا لكُون، هو مجموعة من المنجزات – ويعني بذلك المفهومات، والقيم، والتقنيات، وهلمَّ جرا – التي تشترك فيها جماعةٌ علمية، وتستخدمها تلك الجماعة لتحديد المشكلات الحقيقية وحلولها. وعلى ذلك، فإن البحث العلمي هو جزء من النموذج الإرشادي، لأنه جزء من القيم التي تشكِّل الأساس للنظريات العلمية.‏

وقد نَظَرَ العالم الأمريكي فريتيوف كابرا نظرةً أوسع، فرأى أن النموذج الإرشادي العلمي إنما هو جزء من نموذج إرشادي اجتماعي أوسع يشكِّل الأساس لتنظيم مجتمع معيَّن أو تنظيم العلم في جماعة علمية محدَّدة. ويرى كابرا أن النموذج الإرشادي الاجتماعي هو مجموعة من مفهومات وقيم ومعقولات تشترك فيها جماعةٌ تشكِّل رؤية معيَّنة للواقع وتكون الأساس للطريقة التي تنظِّم بها الجماعةُ نفسها.[19]

وهنا نلحظ التماثُل بين مفهوم "النموذج الإرشادي الاجتماعي" social paradigm عند كابرا ومفهوم "الطبع الاجتماعي" social character عند فروم: فالطبع الاجتماعي عند فروم ليس طبع الفرد، بل طبع الجماعة وسلوك الفرد بما ينسجم مع الأنموذج الذي يقدِّمه المجتمع من خلال ما يدعوه "الطبع الاجتماعي". وعنده أن أيَّ مجتمع، لكي يحافظ على بقائه، يتحتَّم عليه أن يشكِّل طباع أعضائه بطريقة يريدون بها أن يفعلوا ما عليهم أن يفعلوه؛ ولا بدَّ من أن تصير وظيفتُهم الاجتماعية ذات صفة ذاتية، وتتحول إلى شيء يشعرون أنهم مدفوعون إلى القيام به، بدلاً من أن تكون شيئًا هم مُكْرَهون على فعله. ولا يمكن للمجتمع أن يسمح بالانحراف عن هذا الأنموذج، لأن هذا "الطبع الاجتماعي"، إذا فَقَدَ تماسُكَه ورسوخَه، كفَّ الكثيرُ من الأفراد عن القيام بما يُتوقَّع منهم أن يفعلوه، وتعرَّض بقاءُ المجتمع في صورته المحدَّدة للخطر. وتختلف المجتمعات وجوبًا في الصرامة التي تفرض بها طبعَها الاجتماعي، وفي مراقبة المحرَّمات لحماية هذا الطبع. ولكن، في كلِّ المجتمعات توجد محرَّمات، وانتهاكُها يؤدي إلى المنبوذية.‏

وبناءً على ذلك، فإن تطوُّر أيِّ مجتمع يسبقه تطورٌ في طبعه الاجتماعي. ونتيجة لما يشهده عصرنا من تحوُّلات في الطباع الاجتماعية – أو النماذج الإرشادية الاجتماعية، بحسب كابرا – يُحْدِقُ بالعلم تحوُّلٌ في النموذج الإرشادي القديم الآخذ في التقهقر. ولعل جانبًا من أهمية فروم يكمن في تمثيله – في وقت مبكر نسبيًّا – للنموذج الإرشادي الجديد. لذا سنحاول الآن، من جانبنا، أن نُكمل الصورة.‏

إن المعيار الأهم في العلم، القائم على النموذج الإرشادي الجديد، هو التحوُّل من الأجزاء إلى الكل. ففي النموذج الإرشادي القديم، كان يُعتقَد أنه في أية منظومة مركَّبة، يمكن أن تُفهَم ديناميَّاتُ الكلِّ من خواص الأجزاء. والعلاقة بين الأجزاء والكلِّ معكوسةٌ في النموذج الإرشادي الجديد: لا يمكن أن تُفهَم خواصُ الأجزاء إلا من ديناميَّات الكل. والتحوُّل الذي كان بالغ الإثارة في الفيزياء كان تحوُّلاً من رؤية العالم الفيزيائي بوصفه مجموعة من الكينونات المنفصلة إلى رؤية شبكة العلاقات. ولكن يمكن، لأغراض تعليمية فقط، فَصْلُ الجزء مؤقتًا.[20]

وكنَّا قد أشرنا إلى التطور الذي حدث في التحليل النفسي بالاتجاه إلى دراسة علاقة الإنسان بالآخرين وبالطبيعة وبنفسه. وجرى افتراض أن هذه العلاقة ذاتها التي تحكم الطاقة وتنظِّمها تظهر في المجاهدات الانفعالية للإنسان.

ووفقًا لذلك، عرَّف هـ.س. سوليفان H.S. Sullivan – وهو أحد روَّاد هذه الرؤية الجديدة – التحليل النفسي بأنه "دراسة العلاقات الشخصية المتبادلة". وقد قام بعض الباحثين بتصنيف فروم وسوليفان وهورني في مدرسة تحليلية نفسية واحدة، أطلقوا عليها "الفرويدية الجديدة" Neofreudianism. إلا أن فروم، الذي كان سبَّاقًا إلى نبذ التفكير الطولاني، قد اعترض على هذا التصنيف وقال:

على الرغم من أن هورني وسوليفان وأنا نُصنَّف عادةً في مدرسة "ثقافية" أو "فرويدية جديدة" واحدة، فإن هذا التصنيف يكاد يبدو غير مبرَّر. فعلى الرغم من أننا كنَّا أصدقاء، وعملنا معًا، وكانت لنا بعضُ الآراءُ المشتركة، – ولاسيما في الموقف النقدي من نظرية الليبيدو، – فإن الاختلافات بيننا أكبر من الاتفاقات، وبخاصة في وجهة النظر الثقافية. إن هورني وسوليفان آمنا بالنماذج الثقافية بالمعنى التقليدي، على حين أن منهجي قد تأسَّس على تحليل القوى الاقتصادية والسياسية والنفسية التي تشكِّل أساس المجتمع.[21]

ويقول فروم: "إذا عَزَلَ الراصدُ جانبًا للشيء من دون رؤية الكل، فلن يفهم بحق حتى الجانب الواحد الذي يدرسه." فإذا كان فروم قد قام بالفَصْل بين التوجهات في سيرورة العيش، فإنه قام بذلك بدايةً لأغراض تعليمية بحتة. يقول:

إنني، في وصفي الأنواعَ المختلفة من التوجُّهات غير الإنتاجية والتوجُّه الإنتاجي، قد عالجت هذه التوجُّهات وكأنها كيانات منفصلة، يتميِّز بعضُها بوضوح أكبر من الآخر. وقد بدا هذا النوع من المعالجة ضروريًّا لأغراض تعليمية، لأن علينا أن نفهم طبيعة كلِّ توجُّه من التوجُّهات قبل أن نمضي إلى فهم امتزاجها.

وإذا كانت الكلِّية في المبدأ الإرشادي الجديد في العلم ليست مجموع الأشياء، وإنما هي شيء جديد ينشأ عن العلاقة بينها، فإن من الأمثلة الناصعة عليها ما قاله فروم عن "الإنتاجية" productivity: فالإنتاجية تقوم على اتحاد قدرتَي الإنساني على إعادة الإنتاج وعلى التوليد؛ فإذا كانت إحدى القدرتين ضامرة، فالإنسان مريض. واللافت للنظر قولُ فروم الذي سنختم به:

أريد أن أؤكد أن الإنتاجية ليست مجموع كلتا القدرتين أو اتحادهما، وإنما هي شيء جديد ينشأ عن تفاعُلهما.

*** *** ***


 

horizontal rule

* تشكِّل هذه الدراسة مقدمة للترجمة العربية لكتاب إريش فروم الإنسان من أجل ذاته: بحث في بسيكولوجيا الأخلاق، الذي صَدَرَ عن وزارة الثقافة السورية. (المحرِّر)

[1] جاك دريدا، ما الذي حدث في حدث 11 سبتمبر؟، بترجمة صفاء فتحي، مراجعة بشير السباعي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص 119-120. ويشير الأستاذ محمد يوسف عدس في مقالته "نهاية الزمن: عقيدة الخوف والأمل في العقل الأمريكي" إلى تغلغل الفكر البروتستانتي الأصولي إلى التيار السياسي العام في الولايات المتحدة. ويقول: "ليس مستغرَبًا أن تسود مفردات هذه العقيدة على الخطاب السياسي للإدارة الأمريكية الحالية لأن المسيطرين عليها من المنتمين إلى هذه العقيدة – فمنها صيغت عبارات: "مثلث الشر"، و"إمبراطورية الشر"، و"الشيطان"، وغير ذلك من عبارات. والحقيقة أن التوجُّه الأمريكي العنيف ونزعته الإمبريالية الطاغية لا تقف وراءه فقط مصالح وأطماع اقتصادية وبترولية ورغبة في النهب والسيطرة." (راجع: مجلة الهلال، عدد مارس 2003)

[2] المقصود بالمصطلح فكر الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي–شتراوس ومن شايعه، من أمثال مالينوفسكي. (المحرِّر)

[3] راجع: جون كوتنغهام، العقلانية، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1997، ص 166.

[4] Richard Brand, Ethical Theory (Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice Hall, 1959), p. 271.

وراجع كذلك: عادل ضاهر، الأخلاق والعقل، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 1990، ص 148.

[5] Ibid, p. 271.

[6] John Galtung and Daisaku Ikeda, Choose Peace, trans. and ed. Richard Gage (East Haven, CT: Pluto Press, 1955), p. 127.

[7] راجع: العقلانية، ص 167.

[8] Karl-Otto Apel, “Do We Need Universalistic Ethics Today?,” in Universitas, vol. 35, Second Quarter, 1993.

[9] جاك دريدا، ما الذي حدث في حدث 11 سبتمبر؟، ص 147-148.

[10] راجع الفصل الثالث من كتاب الإسلام وعالمية حقوق الإنسان، بترجمة واختيار محمود منقذ الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1995.

[11] راجع: فلويد ماتسون، "النظرية الإنسانية: الثورة الثالثة في علم النفس"، بترجمة بلال الجيوسي، مجلة المعرفة السورية، العدد 184، حزيران 1977.

[12] Fritjof Capra and David Steindl-Rast, Belonging to the Universe (Harper Collins, San Francisco, 1992), p. 69.

[13] إريش فروم، أزمة التحليل النفسي، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، وزارة الثقافة، سلسلة "الدراسات النفسية" 18، دمشق، 1986، ص 67.

[14] أزمة التحليل النفسي، ص 119.

[15] نفسه، ص 50.

[16] راجع: جون كوتنغهام، العقلانية، ص 161-162.

[17] توماس كُون، بنية الثورات العلمية، بترجمة شوقي جلال، سلسلة "عالم المعرفة" 168، الكويت، ديسمبر (كانون الأول) 1992، ص 143.

[18] بنية الثورات العلمية، ص 165.

[19] Fritjof Capra, op. cit., p. 34.

[20] Ibid., pp. 83-84.

[21] أزمة التحليل النفسي، ص 37.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود