أمكنةٌ لكينونة المكان

أبو القاسم المشاي*

 

إلى ديوجينِس

 

في المكان الذي:

صارَ مزاميرَ لصهيلِ الموت/ سافَرَ أفقُه على بساطِ الهبوب،

وأصدَرَ شهائدَ ميلادٍ للقبور،

تكاثرتْ أنيابُه، تمدَّدتْ مخالبُه، تضاعفتْ أحشاؤه،

فكأن الأفقَ مرتجًى لانتزاع النَّبْض من مَعْقلهِ الكتيمْ.

 

في المكان الذي:

صارَ سماواتٍ عجافَ، وجُبٍّ تصدَّعتْ جدرانُه على تاج الماء/

سالَ جفافُ الرِّيق على جثة الرمل، وانتهكَ البنفسجُ سِرَّهُ القديمْ.

 

في المكان الذي:

صار مسكنًا للزوابع ولكثيرٍ من الظلام/ لا أحد يعرف الجهات،

تصبح المعرفةُ صدًى للفحيح، والناس مدلهمِّين للعويل والنباحْ.

 

في المكان الذي:

يحتفي بالغبار والمكانس، أعيادُه كثيرةٌ وعديدة، يسمُّونها:

أعيادَ النطح، أعيادَ الجحيم، أعيادَ التجاعيد،

يرتَدُون في حضرتها الجلابيبَ الشائكة،

ويحدِّقون في الدخانْ.

 

في المكان الذي:

صار اسمُه مقبرةً للسكوت/ خشيةَ إملاقٍ،

التصقتِ الجلودُ على العظام/ وسقطَ سقفُه قبل حلول الظلام،

قبل دنوِّ اليقظة، ولم يعدْ اسمُه مكانْ.

 

في المكان الذي:

يأكلُ الجوعُ جوعَه ويتحوَّل الزمانُ إلى أعضاء عارية

على قارعة الطريق/

ولا شيء سوى صوت الزفير والشهيق، وصدى الصَّرير والنقيق،

لا شيء سوى الفضلات وقرقعات الأمعاءْ!

 

في المكان الذي:

لا تقال الأشياءُ على حقيقتها، ولا يُنادى أحدٌ باسمه،

ثمة رؤوسٌ تتدلَّى من السقف،

وأوثانٌ منتصبةٌ على امتداد البصرْ.

 

في المكان الذي:

يعلو فيه صوتُ الجهل ويطغى على لون الوجود،

لا أحد يعرف أحدًا، لا أحد يسمع أحدًا،

وتصيرُ الريشةُ أثقل شيء يكون،

والحبرُ يسيلُ من جفاف القول، والشتيمةُ تتكاثرُ بالمجانْ.

 

في المكان الذي:

لم يبقَ منه غير نصٍّ مكتوب بِدَمٍ خائر، والمساحات جميعًا مهددة بالاختناق،

والحياة مهددة بالانقراض،

تصير القرون والنطح "عنوانًا" و"مكانْ"!

 

أنا هنا الآن:

وفي أبد الأمس تشكَّلتْ أعضاءُ التلفُّظ خُلْسَة، ومن أتون الهيولى،

صارتْ للمكان شفةٌ طازجة،

فانزلق لسانُ التسابيح يرتِّل للفجر أناشيدَ الزائرين/

كي يوقظ غبش المعنى.

 

أنا هنا غدًا:

في يدي تذاكرُ المعراج السَّماوي، أستجوبُ قطراتِ الماء/ قطرةً، قطرة/

وعن كلِّ حيٍّ أحدِّقُ فوق أسطُحِ تشكُّل الغيم وأجهشُ في المدى.

 

أنا هنا أمس:

في يدي فانوسُ ديوجينِس، أنثر من رماد الروح على سُدْرَة النزيف،

وعيناي معلَّقتان في نَبْضِ الأبد، أهزُّ بكِ جَذْعَ الشجرة الأولى،

أعصرُ ثمارَها في أوْجِ خصوبتكِ،

وأتركُ حفيفَها معلقًا على حبال العاصفةْ.

 

أنا هنا من زمن الرعد الأول:

في يدي فتيلُ اشتعال الموقد، أنتظر بيانَ الصورة على صفحة اليمِّ،

وأطوفُ على حواف النَّغَم،

وأشدُّ بأوتار الأسماء على خاصرة الفصولْ.

 

أنا هنا مند أزمنة:

في يدي جَمْرٌ وسؤال، أقايضُ خسارةَ العمر بخضوع الحكمة لبيان الجنون،

وأُسْدِلُ ستارةً تفتِّقُ الدهشةَ على حُلُمٍ يسرُّ الناظرينْ.

طرابس (ليبيا)، 2004

*** *** ***


 

horizontal rule

* كاتب ليبي.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود