الإنسان مركز الكون

"الآيات الإنسانية"

 

حوار مع أدونيس

 

فيه من النعومة ما لا يقاوَم ولا يلين. هل هي نظرته؟ هل هو صوته؟ إنها النظرة والصوت معًا. لهذا الرجل الرشيق، المدوَّر الوجه، إلقاءٌ مُبين، رقيق، كأن كلَّ كلمة من كلماته مصقولة صقلاً. ومع ذلك، فإن لكْنته الشرقية تجعل هذه الكلمات سائغة في لغة مهذبة تعلَّمها في الرابطة الفرنسية l’Alliance Française في طرطوس إبان الانتداب الفرنسي على سوريا في الأربعينات من القرن الماضي، وتعلَّمها أيضًا في شعر بودلير وفي باريس الستينات. 

 

ولد علي أحمد سعيد إسبر في العام 1930 في عائلة ريفية قرب أنطاكية. وحين كان في الثانية عشرة، زار رئيسُ الجمهورية [شكري القوتلي] قريةً مجاورة، وتمكَّن الطفل الصغير من أن يلقي عليه أبياته، فتأثَّر الرئيس بذلك أيَّما تأثُّر، وحرص على أن يلتحق الشاعر الصغير بالثانوية. ثم لم يتوانَ عن الالتحاق بالآداب. واختار "أدونيس" اسمًا مستعارًا لشخصه، وهكذا فَرَضَ تحت هذا الاسم أشعارًا كانت رُفِضَتْ له عندما حاول نشرها باسمه الحقيقي. وبعد دراسته في دمشق ولبنان، حيث طالب بضرورة التجديد في الشعر، صار الشاعر يدير مجلات في الأدب. وبعدما أنهى الدكتوراه، أرغمتْه الحياةُ على الترحال دومًا بين لبنان وباريس.

في مكتبة دار النشر الكائنة في شارع دُه كونديه كان اللقاء في مكتب من الخشب القاتم والخزائن الفاتحة المغلقة التي امتلأت بكتب الدار. وكان أدونيس ما بين الكلمات.

***

 

في أغاني مهيار الدمشقي – وهو من دواوينك الأولى – كتبتَ: "خريطتي أرضٌ بلا خالقٍ/ والرفض إنجيلي." وفي 2003، في لمس الضوء، تقول: "إني أقوم، إني أفكر مجازًا." أول الجسد آخر البحر – هل هو من قبيل مجاز أم هو الرفض؟

الاثنان معًا. أو ما بين الاثنين. لست أدري إن كنت أستطيع أن أسمِّي هذا الديوان ديوان شعر "غزلي". بل إن الأمر يتعلق بتجربة، أو بمحاولة رؤية الجانب التراجيدي لتجربة الحب. تجربة تسعى إلى الحديث عن هاوية الحب.

إلى هذا اليأس، ثمة نوع من صوفية الحب تسكن هذه الصفحات: "علَّمتْني مراراتُ أيَّاميَ الرائيهْ:/ ليس للحبِّ إلاَّ طريقٌ عموديةٌ/ لا تُسمَّى،/ وإنْ قيل عنها/ لغةٌ في الهبوط إلى آخر الليل،/ في ناره العاليهْ." أليس في هذا عودة إلى المنقول وإلى شخصيات، مثل ابن عربي، حين يقول: "أدين بدين الحب..."؟

بلى! لكنها صوفية من دون إله، صوفية وثنية، إنْ صح القول. لكن لا بدَّ من القول إنني لا أفكر في إله بعينه – ولا في أيِّ دين – حين أتحدث عن الصوفية. وحين أذكر "عمودية" التجربة فإني أفكر في اختبار البُعد الأونطولوجي داخل تجربة الحب، وفي اختبار العلاقة ما بين الرجل والمرأة خارج التجربة.

عندما تكتب: "حَقًّا، أنتِ امرأةٌ/ أعمقُ مَا يحجبُها/ عُرْيٌ يكشفُ عنها." – أهذه كلمة تمرُّد – تمرُّدك أنت؟

قطعًا! ليس الإسلام وحده هو الذي ينبذ الجسد – أي جسد وليس جسد المرأة فقط! فكلُّ الأديان السماوية ترفض كلَّ ما هو مادي، "فيزيائي"، كي تثمِّن السمو الروحي أفضل تثمين. ولعلك لاحظت في هذا الديوان أنني أقف إلى جانب الجسد، إلى جانب ما هو بشري. فالكائن البشري هو الذي يمثِّل مركز الكون وليس الإله. فالإله فكرة مجردة، بعيدة. وهذا الفَصْل ما بين الإله والإنسان أسَّس لخطابٍ حول الجسد معادٍ للإنسان.

الفرد مستقلاً

لكنْ في اللغة العربية، الشخص، أي الفرد، كلمةٌ تؤخذ في معنى الوجود المجسَّد. هل يفسِّر ذلك أيضًا الريبة والشك حيال الفرد في بعض الثقافة العربية الإسلامية؟

في الديانة التوحيدية انفصل الفردُ لمصلحة المجموعة أو القبيلة، أي الأمَّة في الإسلام. فالفرد، بصفته شخصًا مستقلاً وحرًّا، لا وجود له تقريبًا. فالأجدر بنا أن نتجاوز هذه الرؤية. الأمر ليس يسيرًا؛ فهو في حضارتنا العربية الإسلامية كفاحٌ طويل وشاق.

"أي معنى لمنزل لا يعرف السَّفَر؟" هكذا كتبتَ يومًا. هل الهوية، في رأيك، تظل مرصودة للغربة؟

الشخص في الإسلام يعيش لكي ينجز ما هُيِّئ له سلفًا. والحال أن الهوية خلقٌ دائم: فالكائن البشري يخلق هويته حين يخلق عمله. كأن الهوية تأتي من المستقبل، وليس من الماضي على الإطلاق. فكل شخص يعيش في غربة دائمة في المعنى الذي يجعله يرفض ما هو مقرَّر له سلفًا؛ وهو يتقدم نحو ما هو غير موجود بعد. في هذا المعنى، فإن كلَّ واحد يعيش في غربة، حتى لو عشنا في قلب اللغة التي تعبِّر عنا. فكلما سعيتَ إلى اكتشاف هويتك أدركتَ أن هذه الهوية في حاجة دومًا إلى أن تحقِّقها وتعيد خلقها. أجل، فالغربة، في هذا المعنى، دائمة متجددة.

هل هذه الغربة وهذا الخلق المتجدد للذات مرتبطان بتغييرك لاسمك الذي أدخَلَكَ عالم الأدب؟ واختيار هذا الاسم، الذي نسمع فيه أيضًا اسم "أدوناي"، – وهو واحد من أسماء الإله في الدين اليهودي، – هل كان اختيارًا واعيًا عند الطفل الذي كنتَه ذات يوم؟

الآن أنا معروف باسم أدونيس. ولو أردتُ أن أكون مجهولاً لوقَّعت باسم الأسرة. هذا الأمر كشف لي، مع مرور الزمن، عن مسألة الهوية والاسم. تغيير الاسم يعني تغيير الحياة. فالاسم في الحضارة الساميَّة يكتسي بأهمية بالغة. لكن هل تظل الهوية مجمَّدة في ما هو مجرد اسم؟ أم أن الشخصية البشرية أوسع وأغنى وأكثر تناقضًا بكثير من مجرد الاسم هذا الذي تلخِّصه أحرف معدودة؟ تعدُّد أصوات اسمي ونغماته تطوَّرتْ مع الوقت. اكتشفتُ أن الكلمة لا يسعها أن تستنفد الشيء كلَّه. إذن فالشخص ليس سجين اسمه – ولن يكون! فهو يقع خارج حدود الاسم حتمًا. وهذا ما يجعلني أعارض تلك الذهنية القائمة على التفكير في أن تسمية الشيء باسم معيَّن هو إعطاؤه معنى نهائيًّا. فالأمر أوسع من الاسم وأغنى. ففي العربية، المفردات غنية في التعبير عن أيِّ شيء – لا بدَّ من كلمات كثيرة. فالكلمة تعبِّر عن جانب، عن هيئة، عن وجه من الوجوه، وليس عن الشيء في حدِّ ذاته، ولا بصفته شيئًا كاملاً. ومن حسن الحظ أن اللغة متجددة دومًا. ولذلك السبب فإن المهم ليس ما نعبِّر عنه، – المعروف، الظاهر، – بل هو الخفي المتواري في الأشياء وفي العالم. وهذا تحديدًا ما تلقِّنه لنا الصوفية.

هذا البحث عن الخفي – هل للغربة دورٌ فيه؟

لكي ترى رؤية أفضل عليك بالابتعاد. فعندما نكون في داخل الأشياء – في البلد، مع الأصدقاء – فنحن أمام مرآة. فأنت هنا لا تستطيع أن ترى وجهك حتى. أما إذا ابتعدتَ صارت كلُّ الأشياء أوضح. فالغربة، في نظري، بُعدٌ تكويني للكائن البشري. والفن يمكن أن يساعدنا في رؤية هذا البُعد.

في أول الجسد آخر البحر تأتي الـ"موسيقى" عنوانًا لبعض الفصول. هل هي كيفية من كيفيات العودة إلى الطرب، المتعة المطلقة في الصوت وفي الكلمة؟

الموسيقى، أي الصوت، شيء أساسي في الشعر العربي. كانت دومًا مترسخة في بعض الملفوظ، حتى في ما ندعوه قصيدة النثر. ومادمنا لا نستطيع أن نفصل الصوت عن الجسم، فإن الشعر أبلغ تعبيرًا عما هو شهواني وجسدي. ليس ثمة شعر يخلو من هذا البعد الملفوظ. أما الموسيقى فهي إيقاع الكائن. فكتابة الشعر تعبير عن إيقاع حياتي معيَّن. لذلك لا يسعني أن أكتب شعرًا خاليًا من الموسيقى. لكن هناك نوعين من الموسيقى: الموسيقى التقليدية التكرارية، ثم الموسيقى التي تخلق العالم.

الشعراء الكبار ضد الوحي

في الصلاة والسيف من كتاب "حديث البدايات"، كتبتَ أن "اللغة العربية لغةُ وحي وتفجُّر". وأنت توضح أيضًا أن اللغة العربية متأثرة أيضًا بالكلمة القرآنية. وبالفعل، فإن لغة التنزيل يُفترَض فيها أنها لغة كاملة، وتُفرَض على الشاعر؛ وعلى كلِّ امرئ أن يحذو حذو هذا الكمال في اللغة. هل يمكن التوفيق بين الوحي وما لا يقبل التجاوُز؟

إنها مشكلة حقيقية في حضارتنا. فالإسلام هو آخر وحي وآخر الرسالات السماوية، ومحمد هو آخر الرسل و"خاتم الأنبياء" – هكذا يقولون. وهذا يعني أمرين مهمين: أنْ ليس لدى الإنسان شيئًا يقوله، وبالتالي لا شيء جديدًا يبدعه؛ فهو يستطيع فقط أن يشرح ويفسِّر النصَّ الذي تلقَّاه في شكل نهائي. وفي هذه الحالة، حتى الإله لم يبقَ لديه شيء يقوله مادام أودَعَ رسالته الأخيرة. كان الشعر ما قبل الإسلام يدَّعي أنه اكتشف الحقيقة، لكنها الحقيقة النهائية؛ فكان كلُّ شاعر من الشعراء يمتلك حقيقته الخاصة. وبعد ذلك، تعرَّض هذا الشعر للتهميش، إذ لم يبقَ قادرًا على التعايش مع كلمة موحى بها من السماء. في تلك الأثناء، كان الشعراء الكبار كلُّهم ضد الوحي، لكنهم لم يجاهروا بذلك صراحة. كانوا يقولون ذلك داخل حياتهم الخاصة. كانوا يسعون إلى خلق وحيهم الخاص بهم، أي قرآنهم. إني أتحدث عن كبار الشعراء، من أمثال أبي النواس وأبي تمام والمعري والمتنبي. وبالمثل، أنشأ الصوفية تصوُّرَهم الخاص للإله، الذي لا صلة له بتصور القرآن. من هنا، إذن، كان تصورٌ جديد في العلاقات ما بين الإنسان والله، ورؤية جديدة للقيم وللحقيقة لم يُفصَح عنها إفصاحًا نهائيًّا. وكانت هذه ثورة معرفية داخل الإسلام. أما الذي خلق عظمة الشعر فليس الدين، بل على العكس. فالأصوليون اليوم ضدي، وأنا ضدهم أيضًا. لا بل أكثر من ذلك: اعترضتُ على التفسير التقليدي للإسلام، وفي شكل عام، على الديانات التي تحولتْ إلى مؤسَّسات رسمية. ظني أنها صارت معادية للإنسان. وعندي رؤية مختلفة لدين بلا سلطة، بوصفه تجربة روحية. فلكلِّ واحد حرية التعبير عن معتقده بصفته فردًا.

*** *** ***

ترجمة: مدني قصري

عن Le Figaro littéraire

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود