مفهوم الوحدة

 

محمد علي عبد الجليل

 

الوحدة هي تعدُّد مختلِفٌ يتكامل. فلا وحدة بلا تعدد، ولا وحدة بلا اختلاف، ولا وحدة بلا تكامُل. الجسم البشري لا ندركه إلا بتركيبٍ متناسق متكامل لجميع أعضائه. فلا يمكن لليد، مثلاً، أن تمثل الجسمَ كلَّه. ولا يمكن أن نجعل أعضاء الجسم نسخًا بعضها عن بعض – وإلا فلا داعي لوجودها. يجب أن يكون كلُّ عضو مختلفًا عن الآخر، لكنه منسجم معه ويعمل معه، لا ضدَّه. فلا يمكن للقلب، مثلاً، أن يعمل بلا دم، ولا للدم أن يعمل بلا شرايين، ولا للشرايين أن تعمل بلا لحم، ولا للَّحم أن يعمل بلا عظام، وهكذا.

ومَن يجعل الأعضاء نسخًا واحدة متماثلة فإنه يلغي وظيفتها، أي يلغي علَّة وجودها، أي يلغي وجودها، وبالتالي يلغي وجود الجسم ككل. ومن يفصل الأعضاء بعضها عن بعض، يلغي وجود الجسم ككلٍّ متكامل. يجب أن تكون الأعضاء مختلفة لأن وظائفها مختلفة – على أنْ تتناغم في وحدة متكاملة تشكِّل الجسم. فالجسم، إذًا، ليس تجميع الأعضاء بعضها إلى بعض فقط، بل الجسم هو أكثر من مجموع الأعضاء: هو مجموع الأعضاء + تَكامُلها.

"مجتمع" الحيوان هو تجمُّع فرديات متشابهة مكرَّرة؛ و"مجتمع" الإنسان هو اجتماع شخصيات مختلفة متكاملة. والتكامل يتحقق بالعمل الذي يعود بالفائدة على الفرد وعلى الآخر في تكامُل.

الغاية من الوجود المعرفة؛ والغاية من المعرفة العمل؛ والعمل يقلِّص الأنا لصالح الكلِّ المتكامل دون أن يلغيها. وبذلك تُحقِّق الأنا ذاتَها في إطار الكل. والأنا المتضخِّمة المتكبرة لا تعمل لصالح الكل، لأنها لا تعترف بالكل، بل لصالح ذاتها وحسب، وبذلك تخسر ذاتها. والأنا التي لا تعمل لصالح الكل لا تعمل أصلاً، والأنا التي لا تعمل تفقد ذاتها – وإن ظنَّتْ أنها تحقق ذاتها؛ كالغصن الذي لا يعمل لصالح الشجرة لا يعمل أبدًا، والغصن الذي لا يعمل أبدًا ييبس والأحرى به أن يُقطَع ويُلقى في النار، كما قال السيد المسيح معبِّرًا عن الوحدة (إنجيل يوحنا 15: 1-6):

أنا الكرمة الحق، وأبي هو الكرَّام. كلُّ غصن فيَّ لا يثمر يفصله... وكما أن الغصن، إنْ لم يثبت في الكرمة، لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك أنتم لا تستطيعون أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان... مَن لا يثبت فيَّ يُلقَ كالغصن إلى الخارج فييبس، فيجمعون الأغصان ويلقونها في النار فتشتعل.

لهذا يقال إن المتكبر لا يدخل الجنة، – أي لا يدخل في الوحدة التي هي ملكوت الله، – بل يُلقَى في النار، لأنه لا يحق للجزء أن يتكبَّر على الكل، لأن الجزء لا يوجد إلا بوجود الكل. والذي يعمل ما لا يحق له لا يحق له أن يكون في الكل. والغصن الذي لا يعمل لصالح الشجرة التي منها يستمد وجوده لا يحق له أن يكون أصلاً في الشجرة.

فالغصن الذي يثبت في الشجرة يعمل، إذًا، لصالح نفسه ولصالح الشجرة، فيحقِّق نفسَه. والغصن الذي لا يثبت يموت، فيخسر نفسه ويخسر الشجرة، بينما تستمر الشجرة في الحياة.

المشكلة، إذًا، تكمن في الأنا. والأنا، في الحقيقة، كقطرة المطر النازلة من السحاب إلى النهر أو البحر، ليس لها وجود بذاتها، بل بانصهارها. والنهر أو البحر ليس إلا مجموعة قطرات.

والأنا هي مصدر كلِّ ألم. ولا يُلغى الألم إلا بخلع الأنا للدخول في الوحدة، كما ورد في القرآن الكريم: "إني أنا ربُّك فاخلعْ نعليكَ إنكَ بالوادِ المقدَّس طُوًى" (سورة طه 12) – أي اخلعْ نفسَك. ومما وَرَدَ عن النفَّري:

وقال لي: ترى نفسَكَ، وأنا أقربُ إليكَ من نفسِكَ – ذلك هو البُعد.

ما بقيَ بيني وبينكَ شيء فأنتَ عبدُه ما بقي.

بيني وبينكَ حبُّكَ لنفسكَ.

وقال الحلاج:

بيني وبينكَ إنِّـيٌّ ينازعُني * فارحم بلطفِكَ إنِّـيَّ منَ العدمِ

لكي ندخل إلى الـ"هو" يجب أن نعدم الأنا، لأن الـ"هو" هو مملكة ما فيها لا أنا ولا هو ولا هي. فالوجود، في جوهره، واحدٌ ساكنٌ، تعدَّدَ وتحرَّكَ، فتمايزَ. الأنا لا وجودَ حقيقيًّا لها. الأنا وَهْم. والوجود، بحسب ما يقول الشيخ أحمد حيدر، هو مادة، والمادة طاقة، والطاقة نور وإشعاع، والنور هو أصل الأشياء. الأنا وَهْمٌ.

والوجود، بحسب الفيثاغوريين، هو أرقام منسجمة متناغمة كالموسيقى. والعالم، في نظرهم، نغمٌ ورقم (أي موسيقى وعدد). والكون ليس إلا سكونًا يهتز ليعطي المادة التي تختلف باختلاف درجة الاهتزاز.

الوجود وحدة. وفي الوحدة لا وجود للأنا.

***

فأين "الوحدة العربية" التي تعج بالأنَوات المتناحرة من مفهوم الوحدة؟! وأين الحل؟ أو بالأحرى: أين المشكلة؟!

المشكلة، ربما، تكمن في أن الفكرة التي يرى فيها بعضُهم خلاصًا لنا يرى فيها الآخرون عينَ المشكلة. فبينما يرى الأصوليون أن حلول مشكلات الأمة وتطورها يكمن في طريق واحد هو التطبيق الحرفي للإسلام، يرى المتنوِّرون أن المشكلة هي في وجود مثل هذه الأفكار عند الأصوليين، بل وحتى في وجود الأصوليين أنفسِهم!

إنَّ السكِّين، مثلاً، التي يستفيد منها شخصٌ ما، في وقتٍ ما، لإعداد طعامه ربما تكون هي نفسُها التي يقتل بها شخصًا آخر في وقت آخر! ربما يكون الإسلام الذي أدَّى، فيما سبق، إلى نهوض العالم العربي هو نفسُه الإسلام الذي يؤدي الآن حتمًا إلى تخلف العالم العربي، فيما لو طُبِّقَ على الشكل الذي كان عليه في القرون الوسطى. هو نفسُه وهو غيرُه في آنٍ معًا.

ولو قبِلنا بأن الطريق الوحيد للخلاص هو في تطبيق الإسلام الحرفي أو الظاهري، ستواجهنا مشكلةٌ – بل مشكلات – تتلخَّص في السؤال: أي تطبيق لأيِّ إسلام؟ وعلى أية درجة؟ ومن قِبَل مَن؟

ربما يكون تطبيق الإسلام القَرْوَسَطي هو الطريق الوحيد للخلاص. لكن للخلاص من بقايا الحرية، من بوادر المساواة بين الجنسين، من علامات المحبة، ومن اللاعنف! ربما يكون الإسلام القَرْوَسَطي هو أقصر الطرق للخلاص من عناصر التطور. أقول: ربما.

لقد طُبِّقَ إسلامٌ ما في قرنٍ ما، ونجحَ إلى حدٍّ ما. وعندما سقطت الاشتراكية قالوا: "إنها طُبِّقَتْ تطبيقًا خاطئًا." على أية حال، فإنهم طبَّقوها بطريقة ما، ولم تنجحْ "بطريقة ما".

أما عن المسيحية، فكما قال تيودور مونو: "لا أقول إن المسيحية أخفقتْ، بل إنها لم تجرَّبْ بعد." فإذا كان الإلحاد الحالي هو ثمرةُ المسيحية الأوربية، فأية مسيحية كانت مطبَّقة إذًا؟

المسيحية لم تُطَبَّقْ بعد. ربما سيكون الزمن القادم هو زمن المسيحية الإسلامية أو الإسلام المسيحي، وليس زمن اللادين – لأنه، كما قال أندريه مالرو: "القرن الواحد والعشرون إما أن يكون متديِّنًا، أو... لا يكون!"

والكنيسة الكاثوليكية تقوم حاليًّا باتخاذ مواقف جريئة ومهمة تستدعي الانتباه، وتعدِّل من مواقفها تجاه الأديان غير المسيحية؛ إذ لم تعد تحكم عليها بأنها ضالَّة وخاطئة، وتقول بأن أتباعَ الأديان الأخرى يمكن لهم بلوغ الخلاص. وقد أكد الفاتيكان في الآونة الأخيرة على أهمية الحوار، حيث عبَّر المجمع الفاتيكاني عن موقف الكنيسة بالقول:

... وفقًا لمهمتها في دعم الوحدة والمحبة بين البشر، تنظر الكنيسة، قبلَ كلِّ شيء، إلى ما هو مشترك بين الناس، ومن شأنه أن يقودهم إلى الشركة بعضهم مع بعض.

إن موقف الكنيسة الحالي مثال يمكن للأديان الأخرى أن تقتدي به.

إن التأخر المادي للعالم الإسلامي ليس إلا نتيجة أو صورة لتخلف أعمق، وليس إلا تخلفًا على صعيد مهمٍّ رئيسي أدى إلى تخلف آخر على صُعُد فرعية، منها الصعيد الاقتصادي والسياسي والعلمي. يقول الأصوليون إن العالم الإسلامي تخلَّف لأنه لم يطبِّق الإسلام. فلماذا، إذًا، تقدَّم العالم الغربي، مع أنه لم يطبِّق الإسلام؟!

هذا، يعني، ربما، أن التقدم لا يرتبط بتطبيق نظام ديني ظاهري معين؛ بل ربما يرتبط التخلف بتطبيق نظام ديني ظاهري غير منسجم مع الباطن.

إن المسلمين الأوائل أبدعوا طريقة خاصة لتطبيق فهمهم الخاص. فجاء التابعون ليخلطوا بين الفكرة وبين طريقة تطبيقها وجعلوهما شيئًا واحدًا. فعندما أخذ المسلمون الأوائلُ الدينَ، إذا صحَّ التعبير، ابتدعوا طريقة منسجمة مع فهمهم لتطبيق هذا الدين. فجاء التابعون وأخذوا طريقة الأولين ونَسَوْا الدين، وظنوا أن طريقة تطبيق الدين هي نفسها الدين، فطبَّقوا الطريقة دون أن يعرفوا الفكرة. وكلما تشددوا في طريقة تطبيق الطريقة ضاعوا وتخلَّفوا.

عندما تصبحُ العاداتُ والتقاليدُ دينًا، أو عندما يصبح الدينُ عاداتٍ وتقاليدَ، يتخلف المجتمع. أما عندما يصبحُ المسلمونَ مسلمين (أو مسيحيين، لا فرق) وعندما يصبح المسيحيون مسيحيين (أو مسلمين، لا فرق)، فإن المجتمع يتقدَّم.

***

لستُ أدري لماذا يعتبر العالم الإسلامي أن الغرب عدوٌّ له، بينما هو يقلِّده حرفيًّا؟!

المشكلة، ربما، هي أننا لا نعرف. لكن ماذا علينا أن نعرف؟ وكيف نعرف؟

ربما أننا لا نعرف، إلى الآن، ما هو مفهوم الوحدة.

لكن... ما هو مفهوم الوحدة؟

الجمعة 28/11/2003

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود