الشيخ
لغةُ الشعر سرديَّة وزاهدة

 

محمد العشري

 

يفتتح الشاعرُ علي منصور مجموعته الشعرية الثامنة – الشيخ –، الصادرة في القاهرة لدى "دار شرقيات" للنشر، بإهداء موغل في الحزن: "إلى نبتة في البرية، قرب مثواي الأخير"، متكئًا على حالة صوفية، أقرب ما تكون إلى الزهد الخالص، جوهرها الرغبة في الخلاص من أثر الواقع وجموده، وإلى رومنطيقية جديدة تسعى إلى أنْسَنَة الأشياء والكائنات والنباتات – الأشجار على وجه الخصوص – من دون الانتقاص من دورها في تشكيل خرائط الحياة:

النباتات، يا صاحبي،/ النباتات!/ تهرب الحكمة من لغونا/ تلوذ بصمت النباتات!/ حتى إذا ما هرمنا،/ وصرنا شيوخًا... صامتين/ عادت أدراجها،/ وتوسَّدت/ تجاعيدنا.

يقيم علي منصور، في هيئته الصوفية هذه، تناصًّا مع الآيات القرآنية، ليس بغرض إبراز الملمح الديني والإلماح إلى هاجس مؤرِّق حول معنى الحياة، تُشحَنُ فيه روحُه بشاعرية تأتيه كلما أصاخ السمع إلى التلاوة القرآنية، بمذاهبها المختلفة، بقدر اهتمامه بتطويع اللغة وإكسابها دفقةً موسيقيةً عالية:

لكنَّها يده التي استبقتْني/ وهدهدتْ قلبي:/ "أنصِتْ لسورة الحديد، يا بني"/ وربَّت، ثانيةً، على كتفي/ ثم ابتسم للشجرة.../ الشجرة التي تقرأ/ برواية ورش عن نافع!

وهو يفعل ذلك في محاولة تجريد الكلمات من ضلالها، حين تخون المعنى ويصبح الوقوف أمام تركيبتها ضرورةً تستحضر السؤال والدهشة أمام القارئ، ليعيد هذا التفكير فيها من جديد.

يكتب علي منصور شعرًا متناهيًا في البساطة، غايته أن يشاركه العابرون لحظاتِه الأثيرة، من دون استعارات ضخمة، ولا لغة مقعَّرة تصير كأبواب المدن الموصَدة في وجه العابرين:

تفضل... ،/ أيها العابر الخفيف، تعال.../ هنا إلى جواري/ حيث نفسح للحكاية والدموع.

حين يطمئن إليه العابر، يفرش ماضيه بين يديه، ويقص عليه حكايةَ البنت التي كان يرتبك كثيرًا حينما يراها، البنت التي دقَّ قلبُه حتى فضحه عندما دنت منه، وفتحتْ في صدره نهرًا، وأنعشتْه بالياسمين حين تَزوجها.

يهيِّئ الشاعر قارئه، في أكثر من قصيدة، لتأمل حاله العربية السياسية الراهنة التي لا يملك فيها رأيًا أو قدرةً على المشاركة في صنع قرار يخصُّه، خاضعًا لمبرِّرات الهيمنة الخارجية؛ يدعوه إلى أن يجرب "حياة أخرى"، أن يترك أثرًا عربيًّا – غير الهوان – يستحق أن يعيش من أجله وأن يقتنص حياته من يد مغتصبيها:

الغرباء الذين تتابعوا هاهنا، خفية،/ وواقعوا نسوةً في الدُّبَر،/ مضوا.../ مخلِّفين وراءهم روائحهم السامة/ وبقايا/ آهاتٍ/ مقفَّاةٍ/ بقهقهات الشياطين.

حين يتربَّى الشعرُ على الحكايات ويحتل السردُ أعمدة بنائه، تصبح السيرةُ جزءًا من نسيج القصيدة، وتكون للراوي رائحةٌ ينجذب إليها الشاردُ ويستريح إلى ظلِّه المتعب. ذلك ما يوظِّفه علي منصور في مجموعته حين يدعو القارئ إلى الجلوس إلى راويه:

مساء جمعة من شتاء،/ – أمام بيتنا القديم –/ أشعل أبي النار في الخشب/ فالتففنا.../ على المصطبة.../ في اتجاه اللهب،/ تمامًا.../ كأسلافنا القدماء/ في لوحة/ على جدران مقبرة.

ويكتمل المشهد بـ"شيخ القراءات السبع"، الذي تمنَّى الشاعر أن يكونه، أو أن يكون له صوتًا، لِما تركه من أثر عميق في وجدانه، فبات يراه أينما حَلَّ.

وإمعانًا في الزهد، يبحر في الأبجدية، التي تبدأ بالألف وتنتهي بالياء، ليعود إلى مبتغاه، فيجرِّد الحروف من تضليلها للقارئ:

كم هو زائف، انتصاب تلك الألف!/ كم هو شكلي،/ وكله خداع!/ انظروا.../ وانظر، يا علي.../ إنه ينتصب على شيء دنيء!/ شيء متاع.

الجزء الأخير من المجموعة – "حَبَّ ونوَى" –، يخصُّه الشاعر بمجموعة من القصائد القصيرة، المكتنزة معنًى، التي تعطي مدلولها مباشرةً بوهج شاعريٍّ دافق، مغلَّفةً بنوع من حكمة الشيخ التي خبرها من حياته الأولى في بداية المجموعة الشعرية، مستعيدًا صوت الراوي وهو يجلس تحت شجرة المعرفة، يعلِّم الناس ويبث في أرواحهم ملامح الجَمال:

يمكنك أن تصبح جميلاً، فوق ما تتصور/ فقط/ اعتنِ بقلبك/ ودَعْهُ يحب الآخرين.

وإنْ لم يكن في مقدوره أن يجتاز ويسمو، فعلى الأقل يمكن له الإنصات إلى نفسه:

لا تكنْ حجر عثرة/ في طريق/ كُنْ قنطرة، بين ضفتين.

"الشيخ" علي منصور يعكف في معمله الصيدلي على نباتات الشعر وأشجاره، يحلِّلها ويجرب أن يستدل من النواة المتناهية الصغر على حياة الغابة بأكملها، يستقي من تفاعلاتها خلاصة التجربة الشعرية، يبثُّها في قصائده بزخم إنسانيٍّ فياض، ليؤكد إخلاصه لقصيدة النثر في ثماني مجموعات شعرية، بدأها بـالفقراء ينهزمون في تجربة العشق (1990)، واستمر في بناء مشروعه الشعري في صمت، وشُغف بتجريد اللغة من زوائدها واستخلاص روح الشعر، مستفيدًا من روح العصر، لكن من دون أن يتخلَّى عن تراثه العربي. وهو ما يستحق عليه التفاتةً نقديةً منصِفة.

القاهرة

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود