الخيرُ شرٌّ والشرُّ خيرٌ

 

دارين أحمد[1]

 

لكلٍّ منَّا مفاهيمُه عن الخير والشر التي غالبًا ما ترتبط بمفهومَي الخسارة والربح: فالخير أن تربح، والشر أن تخسر، دون أن توضع مقولةُ "ما تكسبه أنت يخسره سواك" في حسبان ضمير أيٍّ منَّا.

السطران السابقان هما موضوع هذه الافتتاحية التي ستتوسع قليلاً في مضمونهما، لا أكثر، طارحةً عدة أسئلة: هل حقًّا أن "ما تكسبه أنت يخسره سواك"، أم أن هذه المقولة هي مقولة العصر الحالي "الشيئي" الذي يحصر الخير والشر في الخير والشر الماديين، الملموسين، متجاهلاً إمكان صحة مقولة "ما تكسبه أنت يكسبه الآخرون"؟ – وهي المقولة المطروحة حديثًا في الفلسفة الإيكولوجية والساعية إلى أن تكون البديل الفعلي (الوحيد ربما) لما تخلِّفه المقولةُ الأولى من مشكلات أخلاقية وإنسانية وبيئية.

ما الذي نعنيه بـ"الضمير"؟ هل هو "الأنا الأعلى" (فرويد)؟ أم أنه يتجاوز المكتسَب ثقافيًّا ليصل إلى موقع طبيعي بذاته؟ – وفي هذا رهانٌ على الجانب الإيكولوجي في الإنسان.

كيف يمكن للخير أن يكون شرًّا وللشر أن يكون خيرًا، في تحليل لغوي بسيط للمعرَّف وغير المعرَّف، للمعلوم والمجهول؟ وما هي إمكانية استيعاء الفعل لدى القائم به، وإلى أي مدى يمكن له أن يقول: إن ما أفعله هو "الخير"؟

* * *

لم يعد خافيًا عن أحد عمقُ الأزمات التي نعيشها، فرديًّا ومجتمعيًّا، حيث تكفي إطلالةٌ بسيطة على أقنيتنا التلفزيونية لنشعر بالصداع، وتكفي إطلالةٌ بسيطة على "الاتجاه المعاكس"، أي على المشاهدين مسلوبي البراءة والفعل، مزخومي الأوهام والحقد، لنشعر بالأسى!

المشكلة مشكلة ثقافية، أولاً وآخرًا، على الرغم من تزيِّيها بزيٍّ اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو بيئي؛ وكونها كذلك يجعل نقطة الانطلاق في بحث معالجتها هي الإنسان ذاته. وتعزز ذلك رؤيتُنا المتفاوتة المستويات إلى الإنسان على أنه الكائن الوحيد في الكوكب الذي يقوم بفعل خارج السياق الطبيعي (الذي يمكن وصفه بالحكمة)، متكئًا على معتقداته النظرية التي ترتدي رداء "الصواب" معززًا بالخير، وفق معتقداته ذاتها، بحيث تختلط في ذهنه، اللعوب بامتياز، سويتا الخير الشخصي والخير العام، مستفيدًا من هذا التقسيم الذي صنعه بنفسه في تحقيق اتساق بين رغباته وإنسانيته.

"تعارُض المصالح" conflict of interests هو نقطة النزاعات القائمة، حتى لو سُمِّيَ هذا التعارض بتعارض فكري، اختلاف، إلخ. فالسائد هو أنوات تتصارع على نقطة افتُرِضَ أنها المكان الصحيح، الصواب، الخير. ولذلك يستطيع الراصد الذكي التقاط تشابُه النظريات المتعارضة كما يلتقط "صواب" الفهم الفطري لدى عامة الناس، المُعبَّر عنه باللامبالاة حيال ما يحدث في العالم، كما يقدَّم لهم.

هذا على مستوى المفهوم. فالناس لا تهتم له فكريًّا، لكنهم يطبقونه على أرض الواقع: بمعنى أن الرؤية الآلتية mechanistic "الإخضاعية" للطبيعة وللعالم، كما بدأت مع فرانسيس بيكون، هي منبع مختلف الاتجاهات النظرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، السائدة حاليًّا التي لا يُعنى بها الجمهورُ أصلاً، لكنه، من منطلق تعميمها كصواب وكخير، شكَّل أمثاله الشعبية وغاياته وآماله بما يتناسب معها كليًّا، بحيث يغدو من الصعب الحديث عن "هوة" بين المثقف والجمهور إلا من باب التنظير الفكري وحسب؛ أما من منظور الواقع، فإننا نرى أن ما هو ناجز مفهوميًّا هو عينه ما يسود الواقع.

إننا، مع الانتباه إلى العلاقة بين الواقع والمفهوم، نؤكد على أهمية المفهوم في خلق الواقع وتغييره: ونعني أن اختلاف طُرُق التفكير لدى بعضهم يقود بالتأكيد إلى تغيير فعليٍّ على أرض الواقع. وهو ما يقودنا إلى شرح مقولة "الكسب المشترك" الإيكولوجية قبل التحدث عن المتعارف عليه في موضوعَي الخير والشر، انتقالاً إلى الوضع الضميري.

تقوم الفلسفة الإيكولوجية على مبادئ أساسية، منها: التعامل مع الكوكب كحَرَم، الوفْر، الغنى المرتبط بالاستغناء دون الزهد، اعتبار الإنسان نفسَه جزءًا من مكونات الطبيعة الغنية، وتعلُّم كيفية احترام هذه المكونات في مجملها – ما يقود إلى إلغاء "المركزية البشرية" anthropocentrism، بوصفها "سيادة" الإنسان على الطبيعة، وإلى محاولة تأصيل النظرة إلى الطبيعة كأمٍّ حاضنة، لا كامرأة جامحة ينبغي على الإنسان ترويضُها[2]. وما ينبثق عن جملة هذه المبادئ هو اعتبار الإنسان إنسانًا بشبكة علاقاته بمن وبما حوله، بمدى اتساقه معها، واتساقها مع الكوكب ككل.

وإذن، تقوم هذه الفلسفة على نظرة "كلانية" holistic، جديدة كلَّ الجدة، إلى العالم. ويفضي ذلك إلى تربية إنسان غير منفصل، بطريقة تفكير لاانفصالية كذلك، بحيث يحل التعاضد محل التنافس. ومبدأ "التعاضد" interdependence مبدأ متوفر في الطبيعة بكثرة، ونستطيع تأمله في كلِّ مكان بدلاً من إسقاط أفكارنا "الغابية" عليها!

ولكن، حتى يتخذ الخير (= الصواب) موقعَه السليم كـخير غير منقسم إلى خير شخصي وخير عام، لا بدَّ من تحريره، أولاً، من شرط "الملموس–المادي". فالخير ليس المساواة المادية، كما تُطرَح حاليًّا، لأن في هذه المساواة دمارًا شاملاً للكوكب؛ والخير ليس التراكم المادي (فكريًّا واقتصاديًّا) لأن هذا الخير خير متحيز، يعزِّز نظرية الأقوى؛ والخير ليس أبدًا الربح، إذ قد تكون "الخسارة" خيرًا أعم.

* * *

على الرَّغم من أن النظرة الانفصالية ترسم حدودًا بين البشر أنفسهم، أولاً، وبينهم وبين الطبيعة، ثانيًا، ومع قيامها على تعزيز التراكم (= الامتلاك)، ينجم عنها أن تقدم إنسان ما مسافة خطوة يعني خسران الآخر للمسافة نفسها: بمعنى أن "ما تكسبه أنت يخسره الآخر". فقد كيَّف الإنسانُ ضميرَه بحيث اعتبر أن من حقِّه، اعتمادًا على ذكائه (= دهائه)، الحصول على هذا المكسب، حتى لو كانت أذية الآخر متضمنة فيه[3].

كيف يمكن لنا تعريف الضمير ضمن هذا السياق إذن؟ هل هو ضمير حواسي فقط: أي أن مجرد ابتعاد الفاعل عن ساحة الفعل "التدميري" يحرِّر ضميره من أية مساءلة حول هذا الفعل وآثاره؟ – هذا الابتعاد الذي يمكن تسويغه فكريًّا لصالح مفاهيم معينة تتعلق كليًّا بالخير، حتى لو تعارضت. أم أنه، انطلاقًا مما سبق، ضمير مبرمَج فكريًّا وعاطفيًّا[4]، بحيث إن تغيير الأطُر المفهومية التي يعمل ضمنها يؤدي إلى تغيير أسُسه وأحكامه؟ أم أننا يمكن أن نتساءل عن وجود "ضمير إيكولوجي" يعبِّر عن ذاته في شعور بالذنب "غير مُدرَك السبب"، كآبة متأصلة في عالمنا، وأخيرًا في اعتلالات جسمانية تزداد حدة وانتشارًا.

لا تنفصل التصنيفاتُ السابقة بعضها عن بعض إذا نظرنا إليها نظرة كلانية. فكون "الأنا" و"الأنا الأعلى" نتاجًا ماضويًّا متكئًا على الذاكرة الذهنية والوجدانية لا يعني سقف الإنسان بالماضي، كما فعل فرويد. فالحاضر، بإعادة تركيبه للماضي ودمجه له في لحظته الراهنة، يفتح آفاقًا للرؤى الجديدة – وإنْ كان الإنسان، في المقابل، قادرًا على إغلاق أيِّ منفذ، محولاً معطياتِ اللحظة إلى صنم مستنسَخ عن أصنامه ذاتها، المكيفة مسبقًا للمنفعة الشخصية، مهما اختلفتْ تسمياتُها.

* * *

يمكن لنا أن نتساءل، إذن، عن معنى الخير/الشر وفق ما يُعطى لنا كمتلقِّين، عاميين أو مفكرين، مدركين أن أي فعل يقوم به أحدٌ ما، في أيِّ مكان في العالم، مهما صَغُرَ هذا الفعل أو كَبُر، هو فعلنا نحن أيضًا. في المقابل، – وهذا هو الأهم، – يمكن لنا أن نتوقف أمام أفعالنا ذاتها موقف مساءلة ورصد، لا موقف تحكيم.

ضمن "الرؤية الكلانية إلى العالم" holistic worldview، لا يوجد فعل، كلمة، فكرة، شعور، إلخ، بلا معنى. فكل ما يحدث مرتبط بكلِّ ما حدث وما يحدث وما سيحدث. ومن هنا أناقش لغوية مقولة "الخير شر والشر خير" انطلاقًا من اعتبار اللغة مستودع أسرار الواقع.

إن قمة المعرفة هي إدراك الجهل. ولقد قيل سابقًا: "العارف لا يتكلم"، في صياغة معينة لموقف المعرفة الإنسانية من العالم. وفي صياغة أخرى لجوهر الفكرة، نقرأ رحلة موسى والخضر في القرآن[5]، حيث يمثِّل موسى للوضع الإنساني.

إذًا يمكن لكلمة "الخير"، المعرَّفة على مستوى العقل الإنساني، أن تكون شرًّا غير معرَّف على مستوى الكون ككل، والعكس بالعكس. وهذا ما يوجه أنظارنا نحو الحدس، الفطرة، وبشكل ما، نحو اللامنطق، للمشاركة في توجيه دفة مسيرتنا في محيط لا تكفي أنوارُ التقنية والعقل كلها لإضاءته.

إن نماذجنا الصحيحة، الخيِّرة، تستنتج ذاتها من الوضوح، السمة الذهنية الأهم. والوضوح يستنتج ذاته على قدر عزلنا للوقائع وتضييق نطاقها. وهكذا يُحال دون أيِّ مدافع شرس عن شكل إسقاط أية قيمة فكرية عليا واقعيًّا، في حال سمح للشبكة الكونية–العلائقية أن تبثَّ بعضًا من رأيها في موضوعه، على وضع فوضوي–طبيعي تتداخل فيه معطياتٌ لا يدرك منشأها، لكنه يتلمس آثارها، فوق قدرته على الإحاطة به ذهنيًّا. أو يمكن، كما نفعل غالبًا، التشبث بمنطق 1 + 1 = 2، منطق المقدمات السليمة نحو نتائج صحيحة، منطق التخلص من الخطأ، في حين تحلق فوق رؤوسنا ساحراتُ مكبث وهُنَّ ينشدن[6]:

Fair is fool, and fool is fair:
Hover through the fog and filthy air.

*** *** ***


[1] محرِّرة في معابر، موقعها الإلكتروني الشخصي: www.venusstar.50megs.com.

[2] راجع: "موت الطبيعة"، كارين ميرشانت، الفلسفة البيئية، ج 2، بترجمة معين رومية، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد 333، 2006.

[3] عبَّر أدبيًّا عن هذا الموضوع الكاتبُ الإيطالي دينو بوزاتي في قصته البذلة المسحورة، بترجمة محمد فري.

[4] يقول يونغ: "إننا نحكم أيضًا بعاطفتنا التي لديها منطقها الخاص، والأحكام التي تطلقها عاطفتنا ليست لاعقلية صرف؛ إنها مبنية على نحو منطقي، وهي مؤدى سيرورة داخلية متماسكة تماسكًا مطلقًا." (راجع: كارل يونغ، الإنسان يبحث عن نفسه، بترجمة سامي علام وديمتري أڤييرينوس)

[5] راجع: سورة الكهف 60-82.

[6] "الجميل هو الدميم، والدميم هو الجميل/ فهيا حمُّوا في حلكة من ضباب وقتام" (ترجمة جبرا إبراهيم جبرا).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود