الفلسفة علم جبر التاريخ
مئة على ولادة الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي

باسكال تابت

 

"كلّ فلسفة عظيمة مهما تقادمت هي فلسفة حاليّة، لأنها تعبّر عن الحياة بكل تدفّقها"، يقول هوسرل في الفلسفة كعلم بتشدّد. ربّما يكون هذا ما يدفعنا إلى الكتابة عمّن أغنوا تاريخ البشريّة بفيض الحياة المتدفّق من ريشتهم. في هذا الإطار، كُرّم أخيرًا الفيلسوف الفرنسي الظاهراتي موريس ميرلو بونتي لمناسبة مرور مئة عام على ولادته، وهو الذي كان من أوّل الفلاسفة الذين أدخلوا الفينومينولوجيا إلى فرنسا، وهي المنهجية الفلسفية الجديدة التي لعبت دورًا بارزًا وأساسيًا في القرن العشرين، وكانت أهمّ منهجيّة فلسفيّة في النصف الأوّل من القرن، وقد أسّسها في ألمانيا إدموند هوسرل (1859 - 1938) الذي اشتُهر بـ"أبي الفينومينولوجيا". وكان الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر (1889- 1976) أوّل من طبّقها في ألمانيا، وطبّقها في فرنسا الوجودي جان بول سارتر (1905- 1980) وإيمانويل ليفيناس (1906- 1995) وغيرهم من الفلاسفة. يجدر الذكر أنّ الفينومينولوجيا لا تزال حتى اليوم تلعب دورًا بارزًا في المسيرة الفلسفيّة، وبخاصّة في فرنسا مع ميشال هنري (1922 - 2002)، وجان لوك ماريون وإيمانويل هوسّيه وغيرهم من الظاهراتيين المعاصرين. وقد نشأت في داخلها مدارس متعدّدة إلى أن أضحينا اليوم نقرأ الأشياء على ضوئها.

ولد موريس ميرلو بونتي في 14 آذار 1908 في منطقة روشفور سور مير. بعدما أنهى دراسته الثانويّة في ليسيه لوي لو غران في باريس، دخل دار المعلّمين العليا حيث كان زميلاً لجان بول سارتر. درّس الفلسفة في جامعة ليون (1945- 1948) ثمّ انتقل إلى السوربون حيث درّس علم نفس الطفل، والتربية بين عام 1949 و1952. أصبح ميرلو بونتي أستاذًا في الكوليج دو فرانس منذ عام 1952 وكان يبلغ من العمر آنذاك 44 عامًا، ومن المعروف أنّه من الصعب جدًّا دخول الكوليج في مثل هذه السن المبكّرة. وظلّ الفيلسوف يدرّس فيها حتى وفاته في 3 أيّار 1961 إثر نوبة قلبيّة.

بدأ مسيرته الفلسفيّة بكتابه الذي يختصر كلّ عمله اللاحق بنية السلوك عام 1942. يميّز فيه بين الجسد كأحد الموضوعات الموجودة في الزمان والمكان، والتي نراها في العالم مثل أيّ امتداد جيومتريّ فيزيائيّ، وهو ما يسمّى بالبدن أو الجسم، وبين الجسد بالمعنى الحقيقي كمفهوم جاء عن مفهوم ألمانيّ للجسد ويسمّيه "الجسد الخاص". لا يشبه الأشياء الحيزيّة الخارجيّة الأخرى بل هو جامع بين الداخل والخارج.

أما الثورة الميرلو بونتيّة فجاءت في كتابه الشهير فينومينولوجيا الإدراك (1945) الذي جاء متزامنًا مع كتاب سارتر الوجود والعدم (1943). فيه يظهر الفيلسوف الإستعصاء الناتج من العلاقة بين الوعي والعالم. هنا، يتعارض مع هوسرل الذي ذهب إلى نوع من المثاليّة الألمانيّة القائمة على سلطان الوعي. فهذا الأخير قصديّ أي أنّ "كلّ وعي هو وعي لشيء معيّن"، والمعرفة لا تتمّ إلاّ من خلال هذا الوعي أو بالحري من خلال ما يسمّيه هوسرل "معيش الوعي". فإذا نظرت مثلاً إلى المطر من النافذة صباحًا، فالمهمّ ليس المطر بذاته بل كيف أعيش بوعيي هذا المطر. وحده الوعي القصديّ يعطي الأشياء المعنى. ويعتبر الفيلسوف الفرنسي أنّ هذه المثاليّة تؤدّي إلى نوع من علم الأنا لتصبح تفخيمًا للكوجيتو الديكارتي المطلق. وقد تعارض ميرلو بونتي مع ديكارت إذ قال بضرورة هدم أوليّة "الأنا أفكّر" على حساب "الأنا موجودة". فلا وعي منعزلاً متوحّدًا يعطي الحقيقة والوجود والمعنى. الحقيقة التي توصّل إليها هي حقيقة التعولم، أي الوجود في العالم ووجود العالم في داخلي. يقطع الفيلسوف الفرنسي مع مفهوم الذات الكلاسيكي، أي الذات المتعالية، سيّدة هذا العالم تسوده بعقلها وفكرها وحقائقها المجردّة المثاليّة.

أوّليّة الوجود في العالم قائمة على الإدراك الذي يتمّ من خلال الجسد الكائن في الوجود؛ "الجسد الخاص موجود في العالم مثل وجود القلب في الجسم"، يقول ميرلو بونتي. هنا أيضًا قطيعة مع الثنائيّة الديكارتيّة، أي ثنائيّة العقل والجسد، وإعطاء الأوليّة والأفضليّة للأوّل على حساب الثاني، ليصبح الجسد مهمشًا بل مصدر خطأ وريبة. يتخطّى ميرلو بونتي هذا الإستعصاء بحقيقة العالم التي يسلّم بها؛ هذا العالم الذي يشعر بنا كما نشعر به.

عام 1953 كتب تقريظ الفلسفة، وهو عبارة عن درس افتتاحيّ في الكوليج دو فرانس، يتحدّث فيه عن دور الفيلسوف ويقول بعدم وجوب بحث الفيلسوف عن الحقيقة منعزلاً عن الناس، والبحث عن المطلق خارج حياته مع الآخرين. فالفيلسوف كائن يعيش مع الآخرين من خلال جسده ولا يمكنه الخروج على هذه الحقيقة التي هي الآخر وعالمه. والفيلسوف الحق لا يبحث عن ذاته بعيدًا عن الآخرين وهم أجساد مثله. تتجلّى لنا مرّة جديدة أهميّة الجسد عنده من خلال هذا الكتاب؛ فكلّ كائن هو كائن متجسّد، "أنا جسدي"، يقول ميرلو بونتي في موضع آخر.

يدعو الفيلسوف الظاهراتي إلى العودة إلى "عالم الحياة"، إلى "الأشياء عينها". على الإنسان أن "يختبر تجربة العالم، واتصالاً معه يسبق كلّ فكر عن العالم". هناك إدراك للعالم يسبق المعرفة. وبما أنّ العالم محمّل بالمعاني، فالإدراك هو إذًا إدراك معنىً لأنّ كلّ إحساس مرتبط بالمعنى. الوجود مزوّد المعنى ومدوّن في تركيبة العالم. يصبح هذا الوجود جليًّا لي وللآخر من خلال جسده، وتاليًا لا مجال لتكوّن الأنا خارجًا عن البينذاتيّة. وخلافًا لسارتر، يقطع ميرلو بونتي مع مفهوم الوعي (الفكر) المحض الواضح لذاته، أي الفكر غير المتجسّد. "كلّ وعي هو وعي مدرك" عنده. والإدراك يتمّ في فلسفة الرؤية التي تتمّ بالجسد. تشكّل هذه الفلسفة مفترقًا كبيرًا في تطوّر الفينومينولوجيا، وتدعو إلى إعادة النظر في تكوين المفاهيم انطلاقًا من الأشياء على ضوء الإدراك.

وفي شارات عام 1960، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات أهمّ ما فيها القطيعة الكاملة مع فلسفة التاريخ. قام ميرلو بونتي ضدّ ماركس وهيغل القائل بجدليّة التاريخ. وللجدليّة معنىً إن من حيث المنهج أو من حيث المضمون والغاية، وتاليًا يكون التاريخ محمّلاً المعاني من خلال تطوّره ومروره بمراحل متعدّدة لبوغ مرحلةٍ تكون مزيج المراحل التي سبقتها لكنّها تتخطاها أهميّة. أما ميرلو بونتي فلا يرى منطقًا في التاريخ؛ من يعتقد بوجود حوادث منطقيّة، جليّة، واضحة، هو ضحيّة أوهام تخدعه. فالتاريخ أرعن، لا يبوح قط بحقيقته وبذاته. كلّ الأجوبة التي نجدها في التاريج تبقى ناقصة. فالتاريخ ليس ضرورة بل مجرّد احتمال يتعذّر علينا بلوغ المطلق من خلاله (خلافًا لهيغل الذي اعتبر أنّ المطلق يظهر ويتجلّى في التاريخ في كتابه فينومينولوجيا الروح). المهمّ في فلسفة ميرلو بونتي هو العودة المستمرّة إلى الملموس والمحسوس. العالم الآخر هنا! إنّه ليس في التاريخ الذي تخلو حوادثه من التسلسل المنطقيّ. كلّ السماء هنا، كلّ الحقيقة هنا، موجودة في قلب العالم. تجدر الإشارة إلى الخلاف بين ميرلو بونتي وسارتر الذي اعتبر أنّ الماركسيّة هي الفلسفة التي لا يمكن تجاوزها. اللافت في سارتر المشاحنات بينه وبين الفلاسفة والمفكّرين الآخرين. فهو اختلف أيضًا مع كامو في ما يتعلّق بقضيّة الجزائر آنذاك لأنّ هذا الأخير لم يتّخذ أي موقف من قضيّة احتلالها.

لم يكن لميرلو بونتي نظريّة سياسيّة بكلّ ما للكلمة من معنى ولم يتبنَّ أيّ نظريّة، لكنّه كتب مقالات عديدة في السياسة، بخاصّة في مجلّة الأزمنة الحديثة التي أسّسها مع سارتر قبل القطيعة معه والانسحاب من عمله فيها. عام 1947 تتجلّى القطيعة مع فلسفة التاريخ في أجلى تجلّياتها وأنصعها إذ يطرح مسألة قمع الحريّات الفرديّة وجعل الناس كما لو كانوا مجرّد وسائل باسم إيديولوجيا معيّنة.

وتجلّت فلسفته في كتابه الصادر بعد وفاته المرئي واللامرئي (1964) حيث يطرح مسألة الجسد الخاص، وهو شرط أساسيّ ومستمرّ لانفتاح الإدراك على العالم، الذي هو الإيمان بالعالم، وتاليًا تكون التجربة تجربة كلّ إنسان بشكل خاصّ. يتوصّل ميرلو بونتي إلى أنّ الإدراك يلفتني إلى سرّ الآخر.

يطرح في هذا الكتاب نوعًا جديدًا من الوجود؛ ينطلق من الوعي أمام العالم لكنّه يتحدّث عن انفتاح يعطي علاقة مباشرة مع العالم وانفتاحًا على الوجود، ويندمج الرائي مع المرئي.

يعود الفيلسوف الفرنسي في هذا الكتاب إلى مفهومه للجسد ليوسّعه ويشرحه. فالجسد الخاص يحسّ كما أنّه محسوس في آن واحد، إنّه متجانس ومتلاحم مع المحسوس. يخرج هذا الجسد من رؤية المحسوس، يعطي ذاته لذاته وينفتح على المحسوس: يعطي ذاته لذاته إذ يخرج من ذاته، إنّه يَرى ويُرى، لامسٌ وملموس، متكلّم وسامع. في هذا الجسد الخاص ثنائيّة داخليّة. ويقول ميرلو بونتي بوجود جسد مكشوف في ارتقاء المحسوس إلى ذاته ولكنّ هذا التكوّن للجسد هو في عمقه تطوّر الكائن الفرد على قدر ما تعني حركة بروزه أنّ الوجود هو جسد. خاصّةُ الجسد أنّه بارز في العالم. إنّه كامن في قلب العالم؛ وإن كان شيئًا بين الأشياء، فهو أعمق من كلّ الأشياء لأنّ العالم جسد كونيّ كلّي. وكما أنّ الانعكاس موجود في قلب الجسد إذ هو حسّ ومحسوس، لامس وملموس، فكذلك العلاقة بين المرئي واللامرئي. هذا الأخير ليس نقيض المرئي كما يعتبر سارتر في أنطولوجياه في كتاب العدم والوجود، لكنّه بطانته، إنّه "عمقه الجسديّ".

يتجلّى اللامرئيّ في أبهى حلله في نظريّة ميرلو بونتي في الفن وبخاصّة فنّ الرسم التي شرحها وطوّرها في كتابه العين والروح. وهو يرى أنّ الفلسفة المرتكزة على المفاهيم لا تلج الأشياء ولا تسكنها. إنّها مجرّدة كهيكل عظميّ، كطيف. من هذا المنطلق أخذ يبحث عن فلسفة تستطيع ولوج الأشياء، عن أنطولوجيا لا تتّخذ المفهوم سبيلاً للوصول إليها، بل تفوق المفهوم، قادرة أن تدخل الأشياء من دون أن تقدّم البراهين والأحكام العقليّة والمنطقيّة. عنده، هذه الأنطولوجيا هي الرسم لأنّه "يحق للرسام وحده النظر إلى الأشياء من دون أي واجب إعطاء رأي". هنا يتعارض الفيلسوف الظاهراتي مع ديكارت وباسكال اللذين نظرا إلى الرسم على أنّه مجرّد صورة أو نسخة عن الأشياء الممتدّة والموجودة. يرى ميرلو بونتي في الرسم ما هو أكثر عمقًا وجوهرًا. فالرسّام يمنح جسده للعالم، وتاليًا يحوّله إلى رسم. يعود هذا التحوّل إلى جسد الرسّام الذي يشكّل انشباك رؤية وحركة. فالذات التي ترى عنده هي الجسد الفاعل وبالفعل، وليس الفكر كما عند ديكارت، أو الإدراك بحسب مفهوم كانط.

ولأنّ الرسام يرسم بجسده فالرسم يدخلنا في وجود العالم الحسيّ؛ يقدّم إلينا أنطولوجيا الرؤية. من هنا وظيفة الرسم الميتافيزيقيّة؛ فهو العمليّة التي تحدّد ولوجنا إلى الوجود وتعطي "صورة دون مفهوم عن الوجود الكلي". فالرسم إذًا اختزال فينومينولوجي، عودة إلى الأشياء عينها، إلى ظاهرة تجلّيها قبل أي مفهوم وخارج تكوّنها كموضوع معرفة نظريّة. يحصل هذا بواسطة القرابة الأنطولوجيّة بين جسدي المتحرّك والعالم المرئي، اللذين يشكّلان جزءين كاملين من الوجود نفسه الذي نرقى إليه بواسطة موجودات أعطيت لنا في الرؤية كأبعاد للوجود الكليّ. هكذا يتحوّل الرسم مع ميرلو بونتي إلى فلسفة. وحدها هذه الأنطولوجيا تنير معرفة الجسد والعالم. فالرسم يفوق كلّ خطاب ويتخطّى الـ"لوغوس" الذي ادّعى الفلاسفة تفسير العالم وامتلاكه من خلاله. تصبح اللوحة في هذا الإطار صورة للوجود وليس مجرّد تقليد وتصوير للطبيعة. من هنا يصعب عليَّ النظر إليها وتحديدها كموضوع حيّزيّ لأن "نظري يسير فيها كما في هالات الوجود، أرى من خلالها ومعها أكثر ممّا أراها". كلّ تجلّيات الوجود تصبح مرئيّة في اللوحة، تلج الرسمَ الذي يعطي الوجود الكليّ وجودًا مرئيًّا. ترينا اللوحة مرئيًّا لم تعتد رؤيتنا المدنّسة النظر إليه فأصبحت تعتقد أنّه لامرئيّ. تخرج الروح من العين لتذهب إلى الأشياء، لتذهب إلى الوجود.

ما الذي يدفع الرسّام إلى الرسم؟ يجيب ميرلو بونتي أن الأمر يعود إلى تكوّن الأشياء الصامت في جسد الرسّام الذي رأى هذا التكوّن. وهذه الرؤية لا تتمّ بواسطة الرسّام بل فيه. هو يعكس ما يراه في داخله. من هنا تنقلب الرؤية والأنظار كما اعتبر كبار الرسّامين ومنهم كلي الذي قال إنّه ذات يوم، حين كان يتنزّه في الغابة، شعر أنّها هي التي تناديه، تنظر إليه وتحدّثه. من هنا جاء قول الفيلسوف الفرنسي أنّ الوحي "تنفّسٌ في الوجود"، "شهيق الوجود وزفيره"، بحيث لا ندرك بعد ذلك من الذي يَرى ومن يُرى، من يرسُم ومن يُرسَم.

في هذا المعنى، تحمل اللوحة فلسفة الرؤية وتَحَوُّلَ الرائي والمرئي. هذا التحوّل صفة جسدنا ودعوة الرسّام. الرسم هو هذا "المنفذ نحو قلب الوجود" وليس امتلاكًا فكريًا. إنّه ليس مجرّد تقنية تظهر الأبعاد الثلاثة: العلو والعرض والعمق، لأنّ هذا الأخير لم يعد مع ميرلو بونتي مجرّد بعد ثالث بل أصبح تفجّر الوجود في أشكال المكان. هكذا يكون الرسّام حرفيّ الوجود في المرئي حيث يتكوّن العلو والعمق والعرض. نرى الوجود من خلال العمق واللون في اللوحة. فللرسم "لوغوس" خاصّ هو "لوغوس" الألوان والخطوط والأضواء. إنّه "لوغوس" يتخطّى كلّ مفهوم. تتعدّى الخطوط والألوان محطّ أنظارنا، ويتكوّن المرئي بواسطتها "بما أنّ المرئي الكامل موجود دائمًا خلفَ، أو بعد، أو بين الأبعاد التي نراها، ولا يمكن بلوغه إلاّ بتجربة خارجة عن ذاتها مثله". وهذه التجربة أنطولوجية عند ميرلو بونتي؛ إنّها الرسم كظاهريّة الوجود.

يربط الفيلسوف بين الرسم والزمن. فالرسم ليس خارج الزمن والوقت لأنّه ملتصق بالجسد وبمنطقه. يبدو الزمن في اللوحة أكثر حقيقة منه في الصورة الفوتوغرافيّة. خير دليل على ذلك المثل الذي يعطيه ميرلو بونتي في كتابه، وهو الخيل الذي يركض وقد اتّخذت له صورة فوتوغرافيّة يبدو فيها من دون حراك، بينما خيول جيريكو تبدو جارية في اللوحة، ممّا يجعلنا نقول إنّ اللوحة أكثر صدقيّة من الصورة لأنّ الزمن لا يتوقّف في الواقع، ونحن في حركتنا نتسابق مع الوقت والزمن فتأتي اللوحة في هذا الإطار تجسيدَ الأبديّة بالخطوط والألوان.

هذا كله يجعل من الرسم أنطولوجيا حقيقيّة لا طرق متباينة ومتعارضة فيها كما في الفلسفة القائمة على التفكير والمفهوم، وذلك لأنّ "العمق، اللون، الشكل، الخط، الحركة، الدائر، والمظهر، جميعها أغصان الوجود وفي إمكان كلّ منها أن تعيد الباقة كاملة". تستدعي لقية هذه الباقة أبحاثًا أخرى باستمرار. من هنا الإسهاب في اللقية والبحث في الرسم، لأنّ عمل الرسّام لا ينتهي قط إذ أنّ الوجود الذي يتجلّى ويتجسّد فيه، واحد ولامتناهٍ.

مفهوم ميرلو بونتي للرسم خير دليل على عمق فلسفته وفينومينولوجيته. فاللامرئي الذي يتجلّى في المرئي ليس إلاّ الوجه الآخر له. والإدراك الذي يحمل كلّ شيء ببساطته هو أنطولوجيا متعولمة. في هذا الإطار، يتعارض ميرلو بونتي مع عودمة كلّ شيء التي قال بها سارتر. فالمطلق عند هذا الأخير هو القدرة العادمة لكلّ شيء والشرط الأساسي للحريّة. الوجود الحقيقي عند سارتر هو العدم، وهذا ما عابه عليه بول ريكور. يذكر هذا الأخير في كتابه بعد طول تفكير، أنّه عندما عاد من الأسر عام 1945 مع نهاية الحرب العالميّة الثانية، وبعد قراءته للكتابين الرائجين آنذاك الوجود والعدم لسارتر وفينومينولوجيا الإدراك لميرلو بونتي، فضّل الثاني لأنّه يستحيل بناء فلسفة على العدم، كما يعتقد مع ميرلو بونتي أنّه في ظاهرة الإدراك شيء مهم في حياة الإنسان هو هذا المطلق المتجسّد بين الناس.

عند وفاة ميرلو بونتي، شعر الفرنسيّون بأنّهم فقدوا "الفيلسوف" الذي يمثّل فكرهم. ذلك لأنّ غبريال مارسيل كان من جيل آخر في حين أنّ سارتر وكامو كانا أديبين إلى جانب الفلسفة، وكان سارتر منهمكًا في المشاحنات السياسيّة. فلسفة ميرلو بونتي خير إثبات لقوله أن "الفلسفة ليست وهمًا: إنّها علم جبر التاريخ".

*** *** ***

عن النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود