في معنى أن تكون حداثيًا اليوم أو الوعي الشقي وميلاد العقل

 

موريس أبوناضر

 

يجد الباحث اليوم عن معنى الحداثة صعوبة في كشف مظاهرها في الحياة الفكرية. فعلى رغم قول البعض هذا شاعر حديث، وذاك روائي حديث، وعلى رغم قول آخرين هذا عمل فلسفي حديث وتلك حركة سياسية حديثة، فإن التدقيق في الأمور يكشف أن شروط الحداثة لا تتوافر بسهولة عند أدعياء تحقق الحداثة في أعمالهم الأدبية والفكرية، والسياسية والاجتماعية. فقد يعاصرنا أشخاص لا علاقة لهم بنا ولا بالحداثة. أناس ينتمون عقليًا وذهنيًا لمرحلة القرون الوسطى، فيما توجد شخصيات في القرون الوسطى أكثر حداثة، وانتماء إلى عصرنا.

تمتاز الحداثة، التي ترادف في اللغة العربية الجدة والتجديد، بأنها مرحلة مرتبطة بالتاريخ الأوروبي في نشأتها وتطورها، وتمثّل نمطًا حضاريًا يتم فيه الانفصال والقطيعة مع الماضي، كما يتم فيه التحوّل من نمط معرفي إلى نمط معرفي آخر، يختلف عنه جذريًا، قوامه تحرير العقل من العلية الدغمائية، والنظر العلمي إلى الاجتماع البشري، والدفاع عن حرية الذات الإنسانية في خياراتها الإيمانية والاجتماعية والسياسية.

بلغت الحداثة الفلسفية ذروتها بعد تطوير ومراجعة في الفلسفة المثالية الألمانية وبخاصة مع المثالية المطلقة مع هيغل الذي ألّف منه المفكر المغربي محمد الشيخ كتابه فلسفة الحداثة في فكر هيغل الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت. وهو كتاب لافت بتحليله لفلسفة الحداثة عند هيغل التي دخل عليها محمد الشيخ انطلاقًا من أصولها، ومجالاتها، ومنجزاتها المادية، وآثارها الروحية.

لا يمكن فهم نظرية هيغل في الحداثة إلا بالعودة إلى نظريته في أمر الإنسان، بما هو إنسان فاعل، وفعله لا يتوقف إلا حين يتحقق له الرضا. والإنسان دومًا توقٌ ورغبة. وما تاريخه سوى تاريخ رغائب جد في تحقيقه. وكان من شأن أسمى الرغبات عند الإنسان أن تحققت في العصر الحديث، وهي العاقلية والحرية والذاتية، وبذلك صار الانسان الحديث هو الكائن الفرد العاقل الحرّ.

إن النظرة الهيغلية للإنسان والحداثة كانت نظرة سياسية حقوقية فلسفية دائرة على الشغل والصراع، تمظهرت في ثلاثة محاور هي: العقلانية والحرية والذاتية.

العقلانية كما هو معلوم بدأت مع ديكارت من خلال كلامه عن العقل كأفكار متعقلة، وكحد يعرف الانسان بكونه ذاتًا عاقلة، ثم جاء لايبنتز ليعتبر أن الانسان الحديث هو الكائن المستعقَل، أي الموجود الدنيوي الوحيد الذي من شأنه وحده أن يبرر وجود الأشياء، ويسوغه ويعلله. أما هيغل فقد تناول العقل من حيث هو شأن تاريخي، ونتيجة صيرورة، وحصيلة تطور، ثم عرّفه بكونه «التوحيد الأسمى بين الوعي (بالموضوع) والوعي بالذات»، أو قل: «التوحيد بين العلم بالموضوع والعلم بالذات»، واعتبره الملكة التي أزالت عن العالم غرابته، وأزالت عن الذات فرادتها. ويتصور هيغل أن ظهور العقل إنما تعلق بالتحوّل من فكر عهد الكنيسة في القرون الوسطى إلى فكر عهد النهضة وما تبعه من الأزمنة الحديثة. وبلغة الفينومينولوجيا التحول من الوعي الشقي المنفصل عن العالم إلى الوعي الحديث المحايث للعالم والمترافق مع ميلاد العقل والعقلانية. ويتتبع هيغل ميلاد العقلانية الناشئة وتطورها من وصف الأشياء إلى البحث عن القوانين العلمية وتحقيقها، ومن البحث عن الأسباب إلى الاهتداء إلى الغايات التي تحركها. وهكذا قام الانسان الحديث يمسح عينه من غشاوة قرون من «الشعوذة» صورت فيه المقامات الدينية (الكنيسة) له فيها خبز الضحية قربانًا، وعظام الأولياء رفاتًا وقوانين الطبيعة معجزة... فما عاد هو بالمؤمن بهذه الخرافات، ولا بقي هو بالمصدّق بهذه الشعوذات.

بعد أن أبرز هيغل المنجزات التي حققها العقل في درسه للطبيعة وكيف آنسها واستأنس بها، أدار الفكر - بحسب تصوره - وجهه نحو الروح، إذ تم النظر إلى الحق، والأخلاق والحرية، بصفتها تنهض على حقل الإرادة الإنسانية القائم الحاضر، وذلك على حين كان ينظر إليها، من قبل، على أنها وصية الله المدونة في العهدين القديم والجديد المفروضة من الخارج فرض التقليد، أو المكتوبة في دروس أصحاب الامتيازات من علياء القوم. بكلام آخر يرى هيغل أن الحرية في العهد القديم كانت في أساس البحث عن الحق السياسي، ولكن مع ولادة العقل شرع البحث عن الحرية في ذات الإنسان نفسه وبتاريخه، وأخذ أصحاب العقل يبحثون في طبيعة الغرائز الإنسانية التي على الدولة أن ترضيها، وذلك كله بغاية استنباط المعرفة بالحرية دليل الإنسان إلى نفسه، سواء تعلق بإنسان الماضي، أم بإنسان الحاضر. وهكذا ترتسم معالم رؤية الحرية بين القدامة والحداثة. هناك دائرة الحق القديم التي وجدت لها أسمى تعبير عند الرومان، وهنا دائرة الحق الجديد المتولد أساسًا من القانون المدني الذي وضعه نابوليون. هناك استناد السلطة السياسية إلى التقليد حيث الاحتكام إلى مبدأ حق الأباطرة الإلهي، وهنا السلطة السياسية المستندة إلى مبدأ الحرية. هناك أساتذة الفكر أنبياء ورجال دين شأن سليمان وداوود وشاوول، وهنا أساتذة حق طبيعي أمثال جون بودان، وسبينوزا، ومونتسكيو، دأبهم أن يستندوا إلى مفهوم الإنسان لا إلى مفهوم الأفكار العلوية. وبذلك يتحدد فهم الحرية عند هيغل بما هي لا تعني العمل طبقًا لرغبة ذاتية، أو هو ميل، أو رأي ظني، أو شعور ذاتي صرف، وإنما التصرف طبقًا لما يتطلبه الحق ويفرضه الصواب ويريده الخير والعدل، إنها حرية عينية، مرتبطة أولاً وقبل كل شيء بمسألة الإرادة، فحيثما أمكن الحديث عن الإرادة فاعلم، كما يقول هيغل، أن ذلك وجه من أوجه الحرية وأن

من شأن من يريد الحق أن يريد الحصول على حريته. ومن شأن الشعب الذي يريد أن يكون حرًا أن يخضع رغباته وغاياته الخاصة ومصالحه المخصوصة إلى الارادة العامة أي إلى الحق والقانون.

ويعتبر هيغل أن الحداثة هي ايلاء الأولوية للذات الانسانية ولمبدأ الأنا مقابل النحن. والذاتية كانت من النتائج الأساسية لما قامت به الحركة الاصلاحية اللوثرية بانسلاخها عن الكنيسة وتقديرها أن قلب الإنسان قمين بمعرفة الروح الإلهية دون وسيط. ومبدأ الذاتية الذي عمّ فكر الإنسان وعلمه وفعله وحقه وملكه وثقته بنفسه حَمَل الانسان على أن يجد المتعة كلها لا في ما قرره التقليد أو أفتى به رجل الدين أو أمر به القوم، وإنما في أعماله وأفعاله بما هو فرد حر عاقل، شأنه أن ينظر إليها نظرته إلى الشيء المشروع المعقول، الذي هو وحده يملك حقه، ويعبّر عن حاجته وإرادته.

إن عودة الذات إلى ذاتها مع بزوغ فجر الحداثة هي العودة التي عبّر عنها هيغل بوسم «الذاتية اللانهائية العديمة الموضوعية». إنها النزعة الشكلية من حيث كونها سلوكًا سلبيًا خالصًا تجاه الوجود الخارجي المتعين، وضد كل خارجية وكل تحديد أو تعيين، أو صدق أو حقيقة، وإن في هذه العودة رضى للذات وإشباعًا لرغباتها، لكنه رضى تم على حساب الواقع لا بل اعتبر هروبًا من الواقع نحو «التجريد الخالص اللانهائي» الذي بدأ يتبين في حركة ما بعد الحداثة وبخاصة في فكر التفكيكيين.

ها قد تحصل لنا إذًا أن الحداثة، من حيث أسسها الفلسفية، قامت على مبادئ ثلاثة: العقلانية والحرية والذاتية. بقي أن نقيس إذا ما كان فهمنا للحاضر عقلاني وحر وذاتي، وأن نستطلع وجوه الحداثة المزيفة عند الكثيرين من الأدعياء الذين يوهمون بنتاجهم الأدبي والفكري والاجتماعي أنهم حداثيون قولاً وفعلاً وهم بالفعل يعيشون في القرون الوسطى.

الحياة، 21-12-08

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود