ثلاث قصص قصيرة

 

منصف بندحمان

 

كلب السيدة

وقفت بجانبها، وكنا أربعة: أنا، وكان لوني يميل إلى الصفرة وجسدي يتلعثم، السيدة لونها هجين وذميم، الخادمة سمراء وبها لمسة فنية دقيقة، أنوثتها بادية، بدوية تتقطر الشهوة من فيها؛ رابعنا كلب السيدة، وكان مصابًا بلعنة، سوادٌ في اللون وفي الأعماق. كلبٌ مزعج منزعج طولاً وعرضًا وسمكًا، نظرة حزينة، وجه محطم، وروح جوفاء.

قالت: إن هذا الكلب شبيهي. ثم تقلصت. تقلص وجودها في لحظة بعدما كانت منشرحة.

أصابني عدويان: عدوى الكلب وعدوى الخادمة. أحسست أن في المكان لوثة منذ أول وهلة. تجمعت في ذهني كل الأفكار المقلقة. الهواء لافح هذا الصباح والمدينة مكتئبة. حيطان البيت، المرايا، العيون وحتى الأفئدة. ما يجري في هذا المكان تقشعر له الأبدان.

فتحت فمي ثم أغلقته. صوتي غاب عني والهواء خانق. هربت من الفضاء الملوث وابتعدت كثيرًا حتى وجدتني أفترش جسدها، أفترسه.

قالت: انظر إليه، إنه يتألم، تتقطع أوصاله.

يتابع خطواتنا لاهثًا، يشاركنا المتعة.

انتفضت. أبعدتني عنها. ابتعدت، ثم قالت: إنه زوجي، يعذبني، لا يتوقف عن شرب الخمر وعن المضاجعة، إنه كلب السيدة.

هذا فظيع، كدت أن أقولها، لكني اخترت أن أبقى صامتًا. لم أختر أبدًا. أنا لم أختر في حياتي شيئًا. كبلني حينها الصمت، فأذعنت راضخًا. ما أحببت، لكني في شركها سقطت.

قالت: هذا الكلب حيرني، أهانني، يتوغل في داخلي، يتحرك في أعماقي.

قلت متلعثمًا: ماذا؟

- أنت لن تفهم. انظر إلى عينيه جيدًا، سترى بئرًا عميقة، جرحًا غائرًا.
  نعم، إنه زوجي. الكلب يعشقني، يبغضني، يكاد يلتهمني.

بعدها قالت: هل سمعت كلامه؟

- ماذا تقولين؟

- لقد قال إنه سئم عشرتها وسيرحل بعيدًا.

انزعجتُ، ظننتُ بها الظنون، لولا أني سمعت الكلب يصرخ فينا أن نكف عن هذا المزاح البغيض.

من فرط خوفي وانفعالي ارتميت في هدير جسدها أنهش منها ما تبقى، والكلب يمسح فمه بلسانه وقد ارتخت أعصابه، أنتفت أعطابه، وارتخى ذيله.

* * *

على الحافة

إلى الفنان الصادق محمد بوري اعترافًا وتقديرًا

في المقهى يجر أذيال الخيبة. يمشي متعثرًا. عيناه تعتصران جسده النحيل. يقف لحظة، وهو ينزف، مستجمعًا ما تبقى من قواه. ينطلق مواجهًا قدره.

- كأس قهوة

- نعم.

- ألا تسمع؟

ينظر نحو الزبون بحنق. ينفعل الزبون آمرًا إياه أن يسرع في تلبية طلبه. مرتبكًا، يحمل ساطورًا، يضرب رأس صاحبه الذي يسقط صريعًا ودماؤه تنزف. يتجمع الرجال من حولهما. يلفونهما في قماش أبيض.

بمشيته المعهودة يحمل الصينية والكأس ويندفع نحو صاحبه يصب جام غضبه في قلبه. يتذكر الزوجة والأولاد ثم يتنهد.

المقهى يضج بالزبائن. منهم الموظف والأمي، الشرطي والمقدم، المتقاعد والمتقاعس، المعافى والحاقد، الخبيث والأخبث، المدلل والمخنث. فيهم المتعب والعنين، الساقط والسفيه، العديم الفائدة والعقيم، وهلم بشرًا وهجنة وأمصارًا. كلهم يجلسون متقاربين. أعينهم تقبض على شاشة التلفاز. يصرخون في وقت واحد. يفرحون ثم تكفهر وجوههم وتختنق كأنهم يعانون من أزمة في الدماء أو الأعصاب. لا بد من أعطاب حتى تتجمع هذه الحشود كل ليلة أمام الشاشة لتتفرج على كومة من المباريات. يحتجون على إصابة لم تقع، على تخاذل أو تواطؤ الحكام. يصنعون الأوهام.

المقهى يضج بالمرضى والمعتوهين والمنبوذين والمهمشين. فيه يتعملقون.

- أسرع.

- حاضر.

- كم أنت متهاون، لا أطيق خدمتك.

هذه المرة لا يحمل ساطورًا. بيديه معًا يضغط على عنق صاحبه حتى تزهق روحه. يتجمع حوله رواد المقهى. يضعون الميت في كفن، ويحملون المجرم في قفص إلى داخل المقهى. يستمرون في مشاهدة مبارياتهم والنادل داخل سجنه يحرك عينيه يمنة ويسرة منتظرًا الأوامر والطلبات. يحس بالتجاهل. يصرخ بأعلى صوته، لكن احتجاج الزبائن الأقوى يطغى على وجوده، يستثنيه. يحمل رأسه بين يديه ويلويه.

* * *

على سطح البيت

يختزن في ذاكرته رصيدًا من المشاهد والأحاسيس. رضع من بحر الأمومة ربيعًا، من نهر الحي شتاء، من حبل الأبوة مسربًا. تغذى أيضًا من شغف الصبا وشغبه.

البيت يحفل بالرجال، لا لحى ولا تجهم. يقرؤون البردة والهمزية، يبتسمون ويفرحون. المرح سيد المكان، البهجة تجلله. كؤوس الشاي والحلوى توزع على الحاضرين. تلتقي الأحاسيس والنظرات، ترتقي العواطف والخلجات، لا يفسد الفرح جو القراءة والابتهالات. الحديث عن الصداقة وعن الحب وعن الحياة، كل الود هنا مؤتلف.

جماعة هادئة، متناغمة، مسالمة.

الغسيل فوق السطح والجو حار، يتخلله نسيم بارد هذا المساء الصيفي الجميل. الصغير يجلس متخفيًا يتلصص على مشهد في السطح المجاور، يثير شهوته المتسرعة. يداعبها، تتأوه، يقبلها، تتأوه. يعتصر جسدها، دبيب آهاتها يرتفع، ثم ينغمسان في لهيب الجسد.

يمر قربهما، يفتعل الحركة وهما ينعمان، في لذتهما يسبحان.

ينزل الى البيت متفقدًا الأحوال. لا زال الفرح سيدًا، والذكر رسولاً بين الأحباب. يطمئن للأحوال فيصعد ثانية. جاذبية السطح تحمله الى الأعلى. يعلو فتعلو الحرارة والآهات. تثيره حميمية الجسدين ولحمتهما، دفئهما وجمال المشهد يغوي طفلاً ينتشي بالبدايات. تشده الرعشة الأولى وهما ينتفضان، ينتفضون جميعًا فتشمل الرحمة البيت. يقف الجمع وقفة خشوع روحية حيث تتجلى لحظة الميلاد. يقف العاشقان وهما ما زالا متناغمين. يهم الواحد أن يودع الآخر، فيأتي صوت الأم أن ينزل من السطح، فالبرد اشتد والمطر على أهبة. ثم ينزل المطر. ترفع الجماعة أكفها، ويعود الشابان إلى حضن بعضهما لا ينفلتان.

بالباب يقف صحبة والده مودعًا، والجماعة امتلأت بالمحبة والأشعار. امتلأ ذهن الصبي بالصور المتناسلة.

في أحلامه تتجمع الفتيات من حوله بنهود وخصور دافئة، تحملن البخور وترتلن الأذكار. في أحلامه يستحم بالصور والأشعار.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود