تولستوي و"عدم مقاومة الشَّر بالعنف"

 Jean_marie Muller

جان-ماري مولِّر

 

في كتابه ماهو إيماني؟، المنشور في العام 1884، يروي ليف تولستوي كيف اهتدى إلى مذهب المسيح وكيف غيَّر ذلك حياته كلها. إن فقرتي الإنجيل اللتين صارتا بنظره "مفتاح كل شيء"[1] وفتحتا له معنى تعليم المسيح هما الآيتان 38 و39 من الإصحاح الخامس من إنجيل متَّى اللتان تلغيان شريعة "العين بالعين" وتدعوان المسيحي إلى عدم مقاومة الشر بالعنف: "سمعتم إنه قيل: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر".

أراد تولستوي أن يفهم هذا الكلام بمدلوله المباشر، طاعنًا في صحة كل مراوغة تتيح الالتفاف عليه. فمؤداه بنظره واضح:

لا ترتكبْ أبدًا عنفًا، بعبارة أخرى، لا ترتكب أبدًا أية فعلة مناقضة للمحبة[2].

هو ذا يدقق:

حالما أدركت معنى هذه الكلمات البسيط والدقيق، كما قيلت، سرعان (....) ما انصهر كل شيء في كلٍّ متناغم، كل جزء منه يكمل الجزء الآخر، مثل قطع تمثال محطم يتم جمعها بحسب الأصول. في الموعظة على الجبل، كما وفي سائر الأناجيل، من كل الأنحاء، كنت أرى مذهب عدم مقاومة الشر بالعنف نفسه يتأكد[3].

مقابلة العنف بالطيبة

غالبًا ما يقدَّم لفكر تولستوي وكأنه يقوم على مبدأ مجرد "عدم مقاومة الشر"، الأمر الذي لا بدَّ أن يولد سوء الفهم. لقد أكد لي سيركَييْ تولستوي، حفيد الكاتب الروسي، أن جده كان يستعمل دومًا عبارة "عدم مقاومة الشر بالعنف". ولقد عبر تولستوي تعبيرًا واضحًا عن رأيه في الالتباسات الكثيرة التكرار حول هذه الآية من الإنجيل:

بدلاً من أن يُفهم أنه قيل: "لا تعارض الشر أو العنف بالشر أو بالعنف"، يُفهم: "لا تعارض الشر"، أي كن لامباليًا بالشر، في حين أن مكافحة الشر هي الغاية الخارجية الوحيدة للمسيحية، وأن الوصية حول عدم مقاومة الشر بالعنف معطاة بوصفها الوسيلة الأنجح لمكافحته. قيل: "لقد تعودتم مكافحة الشر بالعنف وبالانتقام، وهذه وسيلة سيئة، أفضل وسيلة ليس الانتقام، بل الطيبة[4].

تولستوي مضطر فعلاً إلى إثبات أن الكنيسة الأرثوذكسية، حول هذه النقطة بالذات، لا تعلِّم الإنجيل الذي بشر به يسوع. فقد كتب:

منذ طفولتي، عُلِّمتُ أن يسوع هو الله وأن عقيدته إلهية، لكني كنت ألقَّن في الوقت نفسه احترام المؤسسات التي تكفل بالعنف أمني من الأشرار وكنت ألقَّن اعتبار هذه المؤسسات بوصفها مقدسة.

والمؤسسة التي تبدو له الأكثر تناقضًا مع تعليم المسيح هي الجيش:

كنت أعلَّم مهنة السلاح، أي مقاومة الشرير بالقتل، والجيش الذي كنت جزءًا منه كان يسمَّى "الجيش المحبوب للمسيح"، كان نشاطه يُستأجر وتُستنزَل عليه البركة المسيحية. فضلاً عن ذلك، منذ طفولتي وحتى سن الرشاد، لُقِّنتُ توقير ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع شريعة المسيح: الرد على المعتدي، الانتقام بالعنف للإساءات إلى شخصي، إلى أسرتي، إلى شعبي، لم يكن هذا كله لا يلام وحسب، بل كنت ألقَّن اعتبار أن هذا كله خيِّر ومطابق لشريعة المسيح[5].

وحين وجَّه انتباهه إلى ما يفعله البشر باسم الدين، وبالأخص أولئك الذين يدينيون بالمسيحية، "أرهِبَ" و"رُوِّع"[6]. وقد كتب بصدد الحرب بين روسيا وتركيا التي نشبت في العام 1877:

الروس، باسم محبة المسيح، راحوا يقتلون إخوتهم. كان من المحال عدم التفكير في ذلك. لم يكن بالمستطاع رؤية أن القتل شر مناقض للقواعد الأكثر أساسية التي يقوم عليها أي دين. وفي الوقت نفسه، في الكنائس، كان يصلى من أجل ظفر سلاحنا، كان فقهاء الإيمان يقررون هذا القتل كعمل مُستمَدٍّ من الدين[7].

بالمثل، فإن الحرب بين روسيا واليابان التي اندلعت في العام 1904 بدت لتولستوي مجابهة مميتة بين مسييحين وبوذيين يقتتلون فيما بينهم، خائنين بذلك تعليم مَن ينتمون إليه. وقد كتب:

رجال، مئات الآلاف من الرجال، يفصل بينهم عشرة آلاف فرسخ: من أحد الجانبيين، بوذيون لا يحرِّم دينهم قتل البشر وحسب، بل وقتل الحيوانات، من الجانب الآخر، مسيحيون يدينون بدين الحب – هؤلاء الرجال، كالبهائم المتوحشة، يطارد بعضهم بعضًا، برًّا وبحرًا، لكي يقتل بعضهم بعضًا ويشوِّه بعضهم بعضًا أفظع التشويه[8].

في أثناء ذلك، كانت الكنيسة الأرثوذكسية تبسط كل ما في حوزتها من مراسم لتبارك هذه الحرب:

وفي عموم روسيا، من قصر القيصر إلى أبعد القرى، يدعو رعاة الكنيسة التي تزعم أنها مسيحية إلى الله – هذا الإله الذي يأمر بمحبة الأعداء، إله المحبة – أن ينصر العمل الشيطاني، أن يعين على قتل البشر[9].

أما الناس الذين لم يشاركوا في الحرب فهم يبتهجون لنبأ مقتل الكثير من اليابانيين و

يشكرون مَن يسمونه الله على ذلك[10].

إن ما يرِّوع تولستوي أشد الترويع أمام هذا المقدار من العبثية هو "وعي عجز العقل البشري"[11].

القطيعة مع الكنيسة

في كتابة ملكوت الله فيكم الذي انتهى من وضعه في العام 1893 والذي نُشِرَ في العام نفسه في فرنسا بعنوان الخلاص فيكم، دقق تولستوي لماذا يعتبر هذا الدين الرسمي المسمى "مسيحية" من قبيل الهرطقة:

إنه برأيي يفترق عن دين المسيح في العديد من نقاط الخلاف التي تبينتُ في عدادها أول ما تبينتُ إلغاء الوصية التي تحرِّم علينا مقابلة الشر بالعنف. إن هذا التباين المذهبي، أكثر من أي تباين سواه، يبين بوضوح إلى أي حدٍّ شوهت الكنيسة الرسمية مبادئ المسيح[12].

ويخاطب تولستوي جميع الذين يشجبون تصوره للمسيحية بهذه العبارات:

كيف نوفق بين العقيدة التي عبَّر المعلم بجلاء والمحتواة في قلب كل منا – الغفران، التواضع، الصبر، محبة الجميع، أصدقاء وأعداء – وبين فريضة الحرب بكل عنفها على مواطنينا أو على الغريب[13].

فليس عنده أدنى شك في أنه "محرَّم على المسيحي إتيان أي عنف"[14].

لقد حرر مذهب الإنجيل البشر من عبء شريعة موسى التي تكدس السنن على السنن، فلم يستبْق إلا حكمة قائمة على الحقيقة والمحبة:

بدلاً من الترهيب بالعقاب على مخالفة السنن التي جاءت به الشرائع القديمة، دينية ومدنية، بدلاً من الترغيب بالثواب على التقيد بهذه السنن، لم يكن هذا المذهب يجتذب إليه إلا لأنه كان الحقيقة[15].

إن السبب الرئيس للتفسيرات الزائفة لرسالة الإنجيل بحسب تولستوي، كما نوَّه ألان رفالو،

... هو فكرة أن شريعة موسى القديمة (العين بالعين والسن بالسن) يجوز أن تتوافق مع شريعة يسوع الجديدة التي تقضي بعدم الرد على الشر بالعنف. شريعة يسوع تنطوي على نسخ شريعة موسى وتفرض هذا النسخ. فالشريعتان لا يجوز أن تتوافقا ولا تتكاملا لأنهما، بكل بساطة، تتناقضان تناقضًا جذريًّا حول مسألة أساسية هي شرعية اللجوء إلى الغضب والإدانة والعنف والحرب[16].

وقد كتب تولستوي:

بدلاً من إقرارنا إحداهما، شريعة موسى أو شريعة المسيح، ترانا نقرُّ بأن كلتاهما إلهية. لكننا، حين يتعلق الأمر بأفعال الحياة العملية، ترانا ننبذ شريعة المسيح صراحة ونتبع شريعة موسى[17].

يعتنق تولستوي هنا ما توصَّل إليه مرقيون الغنوصي بحدسه الروحي.

يطعن تولستوي في صحة عقائد الكنائس التي يندد بخاصيتها الضارة. إنه يعتبر أن التربية الدينية المفروضة على الأطفال هي السبب الأساسي لخراب الحضارة. حين يتوجه الطفل إلى الراشدين بالسؤال عن المبادئ التي يجب على الإنسان أن يسلك في حياته وفقًا لها فإنهم يجيبونه بما يسميه "الخرافة العبرانية" التي يكنُّ لها كراهية عميقة. فقد كتب بأننا نجعله يصدِّق على أنه الحقيقة

... أن مخلوقًا غريبًا ومتوحشًا، نسميه الله، خطر له منذ ستة آلاف سنة أن يخلق العالم، وأنه خلقه كما خلق الإنسان، وأن الإنسان وقع في الخطيئة، وأن الإله الشرير عاقبه على ذلك وعاقبنا نحن جميعًا معه.

نقول له إن

الهدف الشخصي لكل واحد التخلص من العقوبات الأبدية المخصصة لبضعة أشخاص[18].

في كتابه نقد لاهوت العقيدة، شدد تولستوي على "التناقض الواضح" بين طيبة إله الكنيسة وبين عدالته:

الله الطيب والعادل يعاقب بالعذاب الأبدي على الخطيئة الوقتية، وتقولون بأنه "يعاقب كالأب، لصالحنا الأخلاقي؛ وعقابه يشهد لطيبته ولمحبته".

لكن تولستوي لا يقتنع بمثل هذه الحجة، فيسأل:

أي تأديب ثمة هنا، أية محبة، حين يعاقب المرءُ على خطية وقتية بالاحتراق في النار الأبدية[19].

الكنيسة تؤكد إذن أنه في يوم الدينونة العامة "تعيِّن المحكمة للخطاة قصاصهم إلى الأبد". إذ ذاك كتب تولستوي معلقًا:

لا شيء يضاف إلى ذلك. الشعور الوحيد الذي كابدتُه لدى اقتباسي هذه السطور هو شعور بالهول، بالرعب، حيال الإثم الذي اقترفته وأنا أنسخها[20].

وبعد أن نقل "الحال الرهيبة" التي سيكون عليها الهالكون طرح هذا السؤال:

ولكنْ ماذا ستكون حال الله الطيب وهو ينظر إلى هذا المشهد إلى الأبد؟

على غرار مرقيون، يقابل تولستوي بين "الإله الشرير" للعهد القديم، الذي لا تزال الكنائس تكرِّمه، وبين "الإله الطيب" الذي كشف عنه يسوع. فالناس الذين يعتقدون بإله عنيف لا يتتلمذون على أهل الجدارة مطلقًا ولديهم بالطبيعة استعداد للجوء بأنفسهم إلى العنف حيال قريبهم. كتب في ذلك:

أناس يعتقدون بإله شرير وأرعن، لعن الجنس البشري ووقف ابنه للتضحية، كما وقف قسمًا من البشر للتعذيب الأبدي، أناس ليس بوسعهم أن يؤمنوا بإله المحبة. امرؤ يعتقد بإله–مسيح يدين الأحياء والأموات ويعاقبهم في أبهة امرؤ لا يستطيع أن يؤمن بمسيح يأمر بتحويل الخد الآخر للمعتدي، بعدم الإدانة، بالمغفرة، وبمحبة الأعداء. [...] امرؤ يعتقد بمذهب الكنيسة وبمواعظها المتعلقة بالتوفيق بين المسيحية وبين الإعدامات والحرب امرؤ لا يعود يستطيع الإيمان بأخوة البشر أجمعين[21].

الدولة هي العنف

لما كانت الكنيسة قد تخلت عن شريعة المحبة التي تنزع الشرعية عن العنف يصير للدولة كامل الحرية في تنظيم المجتمع بحسب شريعة العنف. فالدولة بنظر تولستوي هي العنف تنظِّمه أقلية من الأفراد بغرض إخضاع الأغلبية لسلطانهم. وبرأيه أن جوهر سلطان الدولة يتمثل في

ترهيب البشر بالحرمان من الحرية ومن الحياة وفي وضع هذا الترهيب موضع التنفيذ[22].

بذا ليس للدولة، للحكومة، للسلطان من غاية سوى إبقاء الشعب طائعًا خانعًا، أي مقهورًا:

حيثما يوجد سلطان بعضهم على البعض الآخر، لن يكون ثمة حرية، بل قهر بعضهم للبعض الآخر. لذا لا مناص من تدمير السلطان[23].

قوة الدولة تكمن في طاعة الأفراد الذين يقبلون بأنفسهم إعمال العنف الموجه ضدهم، فالانضباط يُفقد البشر الصفة الرئيسة من الصفات الإنسانية: "الحرية العاقلة"، بحيث "يصيرون بين أيدي رؤسائهم المباشرين سلاحًا طيعًا وآلة للقتل"[24].

إن تولستوي لا يجهل الحجة التي تبرر صنوف عنف الدولة متعلِّّلة بأنها من قبيل العنف المضاد الضروري والمشروع لإحباط عنف البشر فاقدي الصواب. لكنه رفض أن يعدَّ نفسه في عداد هؤلاء لأنه كثيرًا ما أتيحت له الفرصة للتحقق من أن البشر الذين يتولون الدولة هم أبعد ما يكونون عن العقل أو صنوف العنف التي يأمرون بها هي أبعد ما تكون عن الضرورة والشرعية. لقد كتب:

من الأمرين أحدهما: إما أن البشر كائنات عاقلة وإما أنهم ليسوا كذلك. فإذا كانوا كائنات غير عاقلة فهم إذن جميعًا كذلك، وكل شيء بينهم يجب أن يُحلَّ بالعنف، ولا مسوغ ثمة لأن يكون لبعضهم الحق في العنف فيما يُحرَم بعضهم الآخر منه. ومنه فإن عنف الحكومة عنف ظالم. إذا كان البشر كائنات عاقلة فإن الصلات فيما بينهم يجب أن تقوم على العقل، على الروح، وليس على عنف أناس اتفق لهم بمحض المصادفة أن يستأثروا بالسلطان. ولهذا السبب فإن عنف الحكومة لا يصح تبريره من أي وجه[25].

لا يجوز للمسيحي – وهذا يصح على كل إنسان يسمع إلى صوت ضميره – أن يتعهد بالطاعة لأي سلطان:

لذلك لا يجوز للمسيحي أن يعمل بوصايا الشريعة الخارجية عندما لا تتوافق مع شريعة المحبة الإلهية، مثلما يحصل حين يعمل بمقتضيات الحكومات، ولا يجوز له حتى الخضوع لأيٍّ كان ولا لأي شيء كان، ولا الاعتراف بأي تبعية. [...] فالتعهد المسبق بالخضوع للقوانين التي وضعها البشر هو من قبيل خيانة المسيحية التي لا تعترف، في مناسبات الحياة كلها، بغير شريعة المحبة الإلهية وحدها[26].

ليس للحكومة من سلطان غير الذي يخوِّلها إياه تعاون المواطنين الفاعل. إن البشر هم بأنفسهم الذين يضعون أعناقهم تحت النير الذي يقهرهم:

من الواضح أننا نعدم مَن يجلدنا إذا لم نفعل ذلك بأنفسنا، بما أن الحكومة عبارة عن ملوك، وزراء، موظفين، مسلحين بالأقلام، لا يستطيعون بأنفسهم إرغامي على شيء؛ ليس هؤلاء مَن سيجرجرونني قسرًا أمام محكمة، إلى السجن، إلى منصة الإعدام، بل مجرد بشر مثلي، في وضعي نفسه، لا يستحبون مثلي الضرب بالمقرعة[27].

من حقي، إذن، أن أخطو الخطوة الأولى برفضي كل تعاون مع أعمال الحكومة الخسيسة. ويأمل تولستوي بأن مثالي سوف يفتح عيون الآخرين وأن انعتاق البشر بذلك سوف يحصل.

بذا فإن تولستوي يعتنق ما توصل إليه حدس لابُويسي حين أكد أن طاعة الأفراد للحكومة هي علة شقائهم:

افهموا أنكم تتسببون لأنفسكم بكل الشر الذي تتكبدونه بطاعتكم إيعازات الحكام[28].

بناءً عليه،

إذا أراد امرؤ أن يحسِّن لا شرطه فحسب، بل شرط الآخرين أيضًا، يجب عليه هو ألا يفعل الشر الذي يؤدي إلى استعباده واستعباد إخوانه.

ولذلك يجب أن يرفض كل تعاون مع الدولة:

يجب عليه ألا يشارك، لا طوعًا ولا كرهًا، في أي فعل من أفعال الحكومة؛ وبالتالي، يجب عليه ألا يقبل [...] أية وظيفة مرتبطة بالعنف.

وبالأخص،

يجب عليه ألا يؤدي للدولة طوعًا أية ضريبة مباشرة أو غير مباشرة[29].

إن تولستوي يعترف قطعًا بأنه من المحال عمليًّا أن ينعتق المرء من كل تواطؤ مع عنف المؤسسات الاجتماعية والسياسية، لكن في إمكانه، على الأقل، أن ينعتق منه رويدًا رويدًا.

إن تولستوي موقن بأن الوسيلة الوحيدة المتاحة للفرد لمكافحة عنف الدولة المنظم مكافحة فعالة هو الامتناع التام عن المشاركة الشخصية في هذا العنف:

حَسْب الإنسان أن يستقيظ من نوام المحاكاة الذي الذي يعيش فيه وأن ينظر نظرة صاحية إلى ما تقتضيه الدولة منه حتى لا يرفض الطاعة وحسب، بل ويستشعر استغرابًا وسخطًا يفوقان الوصف من أن مثل هذه المقتضيات يُفرَض عليه[30].

كل إنسان متيقظ لمقتضيات الضمير العاقل، وبالأخص من يوفق بين حياته وبين مبدأ محبة القريب المسيحي والعالمي، لا يستطيع إلا أن يرفض الانصياع لأوامر الحكومة التي تأمره بأن يمارس العنف ضد أقرانه. ويؤكد تولستوي:

الدولة هي العنف؛ المسيحية هي المحبة؛ لذا فإن الدولة لا تطيق أن تكون مسيحية والإنسان الذي يريد أن يكون مسيحيًا لا يستطيع أن يخدم الدولة[31].

فما من أمر آتٍ من سلطة ما يمكن له أن ينكر

[...] هذه الوصية التي لا يجادل فيها أي إنسان لم تفسده المذاهب: "لا تفعل بسواك ما لا تريده أن يفعله بك". لذا لا يجوز للمسيحي أن يشارك في العنف، ولا في الخدمة العسكرية، ولا في التعذيب، ولا في قتل قريبه، مما تطلبه منه الحكومات[32].

لا للجيش الذي يلقََّن القتل

رأى تولستوي في الجيش الأداة الرئيسية لقهر الشعب. وإن لرأيه، مستعادًا في سياق النظام القيصري، ما يؤيده إلى حدٍّ بعيد. ذلك أن الدفاع عن الوطن، في نظره، ليس إلا ذريعة لإحكام إبقاء الشعب طائعًا. ضمن هذه الشروط، فإن أول واجبات مَن ينوي النضال ضد قهر الشعب هو رفض الخدمة العسكرية. تولستوي موقن أن أضمن الوسائل لـ

[...] تدمير الآلة الحكومية برمتها تدميرًا جذريًّا [...] هو رفض الخدمة العسكرية حتى قبل الوقوع تحت تأثير المخبِّل والمخزي للانضباط. [...] وهذه الوسيلة هي وحدها الممكنة، وفي الوقت نفسه، وحدها المُلزمة لكلٍّ منا[33].

غير أن الجنود الذين يحملون على المُضربين ينتمون إلى الشعب نفسه الذي ينتمي إليه العمال. ويسأل تولستوي: "لماذا إذن يحمل هؤلاء الجنود على أنفسهم؟" إنهم يفعلون ذلك لأنهم منوَّمون بالإشراط الوطني والديني الذي يلقَّنونه منذ طفولتهم ويوجَدون في حالة تمنعهم من التعقل ولا يعرفون إلا أن يطيعوا. المرء المعزول، الذي يتحلى بما يكفي من القوة لاسترداد صوابه وحريته، لا يستطيع أن يمنع الحكومة من استعمال الجيش ضد الشعب،

[...] لكنه يستطيع منع رجال الشعب من أن يصيروا جنودًا بألا ينخرط هو نفسه في الفوج وبأن يشرح لغيره من الرجال هذه الخديعة التي يرضخون لها بانخراطهم في الخدمة[34].

أسوأ ما في الأمر أن الكنيسة نفسها تحض الجندي على طاعة الدولة:

ينادون الرجال إلى الخدمة، وهناك يخدعونهم كما يحلو لهم، وذلك بجعلهم أول الأمر يقسمون على الإنجيل (المحرَّم فيه أداء القسم صراحة) بأنهم سيفعلون ما يحرِّمه الإنجيل؛ ثم يلقَّنون بأن قتل البشر بأمر من القائد ليس خطيئة، بل بأن الخطيئة هي عصيان أمر القائد، إلخ[35].

يثور تولستوي بكيانه كله وهو يرى الكنيسة، فيما هي تتبرج بتعليم المسيح، تبرر الخدمة العسكرية والحرب، فيهيب بالرجال أن يثوروا معه. هو ذا يناشدهم:

أفيقوا، أيها الإخوة. لا تصغوا إلى هؤلاء الدجالين الهرمين الذين يشيدون بالحرب باسم إله قاس ومنتقم اختلقوه، باسم المسيحية التي حرفوها[36].

فكيف لا يفهم فقهاء الكنيسة هؤلاء أن القتل الحربي على تناقض جذري مع تعليم المسيح حول عدم مقاومة الشر بالعنف؟ مهما تكن قلة حظ المرء من التعليم لا يجوز له أن يتجاهل بأن المسيح لم يسمح بالقتل، بل بشَّر باللطف والتواضع والصفح عن الإساءات ومحبة الأعداء، ومن المحال ألا يفهم أنه، بحسب العقيدة المسيحية، لا يمكن له سلفًا أن يسمح له بقتل جميع الذين سيُسمَح له بقتلهم[37].

فمادامت الكنيسة تبرر الحرب فإن هذه ستظل قضاءً محتومًا:

الحرب ستوجد، ليس فقط مادمنا نشارك فيها، ولكنْ مادمنا نقبل من غير تمرد ومن غير سخط بأن هذه المسيحية المزورة التي تسمى مسيحية الكنيسة والتي تجيز الجيش ومباركة المدافع وقبول الحرب كفعلة مسيحية[38].

بين الجرائم التي ترتكبها الدولة وتبررها الكنيسة فإن الجريمة التي يستنكرها تولستوي أكثر ما يستنكر، أكثر حتى من الحرب نفسها، هي عقوبة الإعدام. يستعصي عليه فهمُ إمكان فعلة بهذه القسوة تُرتكب بدم بارد، في حين أن مبدأ الدفاع المشروع عن النفس غير وارد أصلاً. فقد كتب:

أتفهَّم أن يتفق لرجل أن يقتل، بدافع الغضب، الكراهية، الانتقام، بدافع فقد وعيه بإنسانيته دفاعًا عن نفسه. وأتفهَّم أن يستطيع القتل تحت إيحاء وطني، تجمُّعي، متعرضًا للموت ومشاركًا في جريمة قتل حربية جماعية. أما أن يتفق لبشر، يتمتعون بكامل قواهم العقلية، أن يقبلوا في هدوء، في صورة موزونة بروية، ضرورة اغتيال واحد من أشباههم وإرغام مخلوقات على اقتراف هذه الفعلة المقززة للطبيعة الإنسانية – فذلك مما لم أتفهَّمْه قط[39].

إضراب الضريبة

من بين الوسائل الضرورية للدولة لكي تحافظ على كل هذه الأدوات للإكراه الذي يمارسه على الشعب، هناك الضرائب التي تفرضها على المواطنين. ومَن ينتوي رفض أي تعاون مع القهر الذي تمارسه الدولة لا مناص له إذن من رفض سداد الضرائب المطلوبة منه. وهاهنا أيضًا، كل مَن يريد أن يوفق بين حياته وبين وصايا الإنجيل العالمية يجب أن يطيع الله بدلاً من إطاعة البشر ويرفض إعطاء ما لله لقيصر:

كل مَن يحيا بحسب الله لا يجوز له، بملء إرادته، أن يدفع الضرائب. إذا كان مالي أو عملي ضروريين لعمل صالح، يقول هذا الرجل، سأقدمهما من تلقاء نفسي، لكني لا أستطيع أن أقدم مالي للسجون، للأصفاد، للبنادق، للمدافع، لرواتب الجنرالات. الله لا يأمرني بذلك ولن أقدمه ما لم أكن مُكرهًا عليه[40].

لا يجهل تولستوي أن كل رفض يقابل به فردٌ فرائض الحكومة سوف يكلَّفه مكابدة الاضطهاد. سيكون للدولة السلطان كله عليه وهي تستطيع أن تسلبه خيراته، أن تحرمه من حريته، وحتى أن تميته. وهذا بالضبط ما حصل للمسيح، وهذا الأخير لم يفتْه أن يحذِّر الذين يتبعون تعليمه أنهم سيُضطهدون أسوة به. لكن هذا يجب ألا يُفزع صاحب اليقين بأنه ينجز إرادة الله والمقتنع بأن هذا الإنجاز وحده من شأنه أن يضفي معنى على حياته. غير أن تولستوي واع تمامًا بأنه قد يكون فوق طاقة العديد من الأفراد تكبُّد مثل هذا الحرمان ومثل هذا العذاب. بذا فهو لا يتوقع من جميع الناس أن يرفضوا من فورهم كل تعاون مع الدولة، بل أن يحدُّوا من تعاونهم معها ما أمكنهم ذلك. هو ذا يعترف:

صحيح مطلق الصحة أنه يصعب على الإنسان أن يتخلى عن كل إسهام في عنف الدولة؛ ولكن ولكن إذا لم يكن بوسع كل إنسان أن ينظر في حياته بحيث لا يشارك البتة في هذا العنف، أيعني هذا أنه ليس في مكنته أن ينعتق من هذه المشاركة رويدًا رويدًا؟[41]

الكنيسة تنزل به الحِِرْم

إن موقف العداء السافر الذي ما انفك تولستوي يبديه حيال الكنيسة الأرثوذكسية قد دفعها إلى إدانته علنًا. وقد سرى مفعول حرمانه في 24 شباط 1901 بمرسوم من السنودُس المقدس. هي ذي فقرة من هذا المرسوم:

ظهر في أيامنا فقيه كاذب، هو الكونت ليف تولستوي. [...] لقد زيَّن له غرور ذهنه الجرأة على التمرد على الله ومسيحه وعمله المقدس. فتنكَّر علنًا، أمام الجميع، لأمِّه الكنيسة الأرثوذكسية التي غذته وأنشأته، مكرسًا نشاطه الأدبي والموهبة التي منحه الله إياها لينشر بين الشعب مذاهب مناقضة للمسيح والكنيسة[42].

وفي الأول من نيسان، أجاب تولستوي السنودُس المقدس بهذه العبارات:

لقد أنكرتُ الكنيسة التي تزعم أنها أثوذكسية – وهذا صحيح كل الصحة. لكني لم أنكر الكنيسة لأني تمردت على الله، بل بالعكس لأنني أردت بكل قوى نفسي أن أخدم الله[43].

وقال عندئذٍ ما هو إيمانه:

أومن بالله الذي أفهمه روحًا ومحبة وبداية الكل. أومن بأنه فيَّ مثلما أنِّي فيه. أومن بأن مشيئة الله لم يعبَّر عنها يومًا بوضوح أكبر مما عُبِّرَ عنها في عقيدة المسيح الإنسان. لكنْ لا يجوز، برأيي، اعتبار المسيح بوصفه الله ورفع الصلوات إليه من غير ارتكاب إثم هائل. أومن بأن الخير الحق للإنسان هو في العمل بمشيئة الله، ومشيئة هي أن يحب البشر بعضهم بعضًا ويسلكون حيال الآخرين كما يودون أن يسلك الآخرون حيالهم – وهذا، كما ينص الإنجيل، يلخص الشريعة كلها والأنبياء. أومن بأن معنى الحياة لكل منا هو تنمية المحبة فيه وحسب[44].

وفي الحاصل، ألا ينبغي لهؤلاء أنفسهم الذين يؤمنون بأن المسيح ابن الله أن يكون أوائل مَن يشاركون تولستوي تصوُّرَه عن الحياة المسيحية؟

تولستوي وغاندي

لعل أحسم الأثر الذي تركه تولستوي هو الأثر الذي تركه على غاندي. ففي العام 1958، بينما كان غاندي في جنوب أفريقيا، قرأ كتاب تولستوي ملكوت الله فيكم، فكان لهذه القراءة تأثير حاسم عليه. وقد كتب لاحقًا:

في تلك الآونة كنت أومن بالعنف، وجاءت قراءته وأبرأتني من تشككي وجعلت مني مؤمنًا باللاعنف لا ينثني[45].

ومن بعدُ، عكف على "دراسة مكثفة لكتب تولستوي" التي "تركت عنده انطباعًا عنيفًا"[46]. وفي العام 1928، بمناسبة الذكرى المئوية للكاتب الروسي، كرَّمه غاني بهذه العبارات:

كان أكثر رجال عصره صدقًا. اتسمت حياته بجهد دؤوب محموم للبحث عن الحقيقة ولوضعها موضع الممارسة حين يُعثر عليها. [...] إنه أكبر رسل اللاعنف الذين شهدهم عصرنا. ما من امرئ واحد في الغرب، قبله أو بعده، كتب أو نطق بخصوص اللاعنف بهذه المهابة وبكل هذا الإصرار والنفاذ والبصيرة[47].

في الأول من تشرين الأول عام 1909، بينما كان غاندي مقيمًا في لندن، وجه رسالة إلى تولستوي كتب فيها:

لقد تشرفت بدراسة كتاباتك، وقد انطبعت في ذهني انطباعًا حيًا.

وقد حكى له عن نضال هنود جنوب أفريقيا المنخرطين في حملة عصيان مدني لقانون يعتبرونه مخزيًا. وقد أودِعَ المئات منهم السجن لرفضهم الانصياع لهذا القانون. وسأله الموافقة على نشر 20000 نسخة من رسالة إلى هندوسي حول الاضطرابات في الهند وتوزيعها. وهذه عبارة عن رسالة كتبها تولستوي في 14 كانون الأول 1908 ردًا على المثقف الهنوسي تاركوتا داس الذي كان سأله رأيه في الوضع في الهند. كان داس، من جانبه، يظن أن من شأن العنف وحده أن يتيح للهنود التحرر من النير البريطاني. فأجابه تولستوي بأنه لا يشاركه رأيه البتة. عبَّر له عن استغرابه من تمكُّن ثلاثين ألف شخص من استعباد 200 مليون فرد. كتب:

ألا تُظهر الأرقامُ إظهارًا صارخًا أن الإنكليز ليسوا هم مَن استعبد الهندوس، بل إن الهندوس هم مَن استعبدوا أنفسهم بأنفسهم؟

ألا نجد في كلام تولستوي هنا نبرات إتيان دُه لابويسي نفسها حينما تكلم على العبودية "العبودية الطوعية"؟

يوصي تولستوي الهنود بالكف عن التعاون مع المؤسسات الاجتماعية التي تقهرهم:

لا تقاوموا الشر، ولكن كفُّوا أيضًا عن المشاركة أنتم في الشر، في الأعمال العنيفة للإدارة، للمحاكم، لجباية الضرائب، والأهم منها، في الأعمال العنيفة للجنود – ولن يكون بوسع أحد أن يستعبدكم[48].

ولا ريب أن نظرات الكاتب الروسي هذه قد شددت من قناعة غاندي بأن إستراتيجية اللاتعاون والعصيان المدني هي الطريق الفضلى أمام جالية أو شعب للتحرر من نير القهر.

وقد أجابه تولستوي في 7 تشرين الأول 1909 بأنه قرأ رسالته بكثير من المتعة: "لا يسعني إلا أن استحسن ترجمة رسالتي ونشرها". وفي 7 أيلول 1910، قبل وفاته بأسابيع قليلة، كتب تولستوي آخر رسائله إلى غاندي. ومما جاء فيها:

كان المسيح يعرف ما لا يستطيع أي مخلوق عاقل أن يتجاهله، أن استعمال العنف والمحبة لا يتوافقان، المحبة بوصفها قاعدة الحياة الأساسية، وأن المرء ما إن يقر بالعنف، مهما تكن الظروف، حتى يعترف بقصور شريعة المحبة، وبالتالي، ينفيها. والحضارة المسيحية، التي تظهر بكل هذا البريق الخارجي، تقوم برمتها على هذا التناقض وسوء الفهم البيِّن والعجيب، الواعي أحيانًا، غير الواعي في أغلب الأحيان.

تبين هذه المراسلة المدهشة أن الحكيمين، وكل منهما يرجع إلى تراثه الثقافي الخاص، يجتمعان على القناعات الأخلاقية نفسها بخصوص العنف والقتل. وهذه المراسلة يمكن لها أن تُعتبَر من قبيل مجاز العبور بين حكيم روسيا وحكيم الهند. إن عظمة تولستوي تتمثل في أنه فهم الأهمية الحاسمة لمبدأ "عدم مقاومة الشر بالعنف"، وبذلك ردَّ للإنجيل معناه كله. لكن محدودية فكره هو اعتقاده أن الممسك الأوحد الذي يملكه الفرد للعمل في المجتمع هو العمل على نفسه، أن تغيير ما بالنفس وحده يستطيع أن يغير هيكليات المجتمع.

لذا تراه، في الحاصل، لم يهتم لمبادئ "مقاومة الشر بالعمل اللاعنفي" ولمناهجه. أجل، صحيح أنه أوصى باعتراض الضمير، بالعصيان، بعدم تعاون الفرد مع المؤسسات الاجتماعية التي حمَّلها مسؤولية القهر والحرب، لكنه لا ينظر قط في إمكان تنظيم عمل جماعي منسَّق لإحلال مجتمع جديد. بيد أن غاندي، آخذًا بكل توكيدات تولستوي حول الفرائض الأخلاقية للمحبة وعدم مقاومة الشر بالعنف، إنما متصورًا وواضعًا موضع التطبيق إستراتيجية للعمل تتيح للشعب تنظيم نفسه مناضلاً ضد القهر، أعطى الحقائق التي اكتشفها حكيم ياسنَيا پوليانا مغزاها كله.

تحية جان جوريس

تتصف حياة تولستوي بخاصية مثيرة للشجن حقًا. لقد أراد أن يكافح، بكل قوته، بطاقته كلها، جميع الأكاذيب المسيطرة على مجتمع زمانه. لكن موازين القوى الفاعلة كانت أبعد ما تكون التكافؤ. فما كان لشهادة تولستوي أن يكون لها ممسك على قوى الكنيسة والدولة والجيش مجتمعة – وكان يعرف ذلك. أجل، لقد حاز على إعجاب أوروبا بأسرها، لكن وجوده ظل وحيدًا. ويتساءل رومان رولان في الصفحات الأخيرة من كتابه عن تولستوي:

ماذا سيفعل ذلك الذي حباه القدر موهبة رؤية الحقيقة الرائعة والقتالة، حين لايستطيع البتة إلا إن يراها؟ مَن بوسعه أن يتكهن بما كابده تولستوي من التباين المستمر خلال أواخر سنيه بين عينيه عديمتَي الشفقة التين كانتا تريان هول الواقع وبين قلبه الشغوف الذي ما انفك ينتظر المحبة ويؤكدها![49]

في 28 تشرين الأول 1910، حوالي الساعة الخامسة صباحًا، غادر تولستوي، وله من العمر آنذاك اثنتان وثمانون سنة، مزرعته في ياسينيا پوليانا سرًا على متن عربة ذات عجلتين وحصان، لا يرافقه سوى طبيبه. وقد كتب قبل أن يمضي كلمات قليلة إلى زوجته جاء فيها:

إني فاعل ما درج على فعله الشيوخ في سني إذ يغادرون العالم ليصرفوا أواخر أيام عمرهم في الصمت والسكينة.

وبعد أن أقام في ديرَي أوبتينو وشاموردينو، استقل القطار من محطة كوزلسك في صحبة ابنته الكسندرا التي انضمت إليه. لكن تولستوي ما لبث أن أصابته حمى جعلت من المحال مواصلة السفر. فنزل في محطة أستابوفو حيث استضافه رئيس المحطة في منزله. وقد سرى نبأ هرب تولستوي في العالم أجمع، فتقاطر الصحافيون إلى أستابوفو. وما لبث تولستوي المصاب بذات الرئة أن فارق الحياة فجر السابع من تشرين الثاني.

وقد رفع جان جوريس، على نحو مفاجئ بعض الشيء، تحية من أجمل التحيات إلى تولستوي. ففي مقال مؤرخ في الأول من كانون الثاني 1911 ومنشور في مجلة التعليم الابتدائي والعالي، حيَّا جوريس "الروح الثورية" التي حركت تولستوي:

لقد ناضل ضد القوى المسيطرة، ضد جميع قوى التسلط، ضد جميع التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية التي من شأنها قهر الفرد أو كسر انطلاقته نحو العدالة المطلقة أو الحد منها.

ولقد هزت نهاية حكيم ياسنيا پوليانا مشاعر جوريس الذي تكلم عليها بهذه العبارات:

كانت أيامه الأخيرة فعلاً ثوريًّا ومأسويًّا لا مثيل له: إن لفي قطيعة هذا الشيخ الجليل مع كل الوسط الذي كان يكابده مرتعشًا، إنما الذي كان يثقل عليه بتلك المآخذ السرية والعميقة التي ليس بمقدور أي كان أن يتملص منها، عظمة مؤلمة ومؤثرة. لقد كان قد تساهل نوعًا ما إبان سنين طويلة مع قوانين الحياة المشتركة، فأراد قبل موته أن يزيل من نفسه كل تناقض ويهرب نحو المطلق. لكأنه قبل أن يحقق كمال مثاله لم يكن يشعر أنه جدير بالموت. ولكن أية شجاعة خارقة يتطلبها أن يُنزل المرءُ بنفسه – في ساعة إنْ لم تكن طاقاته على جري العادة قد نفدت بعدُ فهي قد سكنت على الأقل – ألمَ مثل هذا الاقتلاع! وذلك لكي يفتش عبر كرب أقصى النزاع عن سكينة علوية!

في المقال نفسه، يبين جوريس أن الفوضوي الذي يحيا في تولستوي "لا يعترف إلا بشريعة واحدة: الإنجيل." وإننا لنستشف أن جوريس يعتنق تصور تولستوي عن المسيحية، وهو تصور منشق يفترق عن جميع الأرثوذكسيات:

أما الإنجيل فهو ينتوي تأويله بمفرده. فلقد تبين أن كلمة الخلاص قد زُيِّفت منذ قرون، لا بل من اليوم الذي ختم فيه الصمتُ على شفتي المسيح. الملوك، الكهنة، الأغنياء، الجنود، الجلادون – كلهم تظاهر بأنه يقرأ في الكتاب الإلهي شيئًا آخر غير ما يحتويه. وتولستوي ينقب في الركام الهائل من الأكاذيب الأنانية عن الينبوع الحي المطمور تحته. إنه يدعي العثور على المسيحية من جديد، يدعي خلقها من جديد.

وفي العاشر من شباط 1911، بعد مرور ثلاثة أشهر على وفاة تولستوي، ألقى جوريس في تولوز محاضرة حيَّا فيها الكاتب الروسي تحية تهز المشاعر[50]. إن جوريس، مشددًا على تركيب الشخص المعقد، ينتوي الاكتفاء بإظهار سمته الجوهرية:

قوة التوق الأخلاقي والديني، التشوق لا إلى الأفضل بل إلى الأكمل، الذي نهض بهذه النفس وبرَّح بها.

هو ذا يستعيد ظروف موته:

أيًّا ما كان الأمر، وسواء كان السبب المباشر والمحدد للقطيعة، فإن هذه القطيعة، هذه المفارقة، هي بالفعل النتيجة المباشرة أو غير المباشرة لمثال الزهد والتقشف الذي بشَّر به. وإنه لأمر مأسوي، أمر ممض، أن نرى هذا الشيخ الكبير ينفي نفسه في جنح الليل من البيت الذي فكر فيه وأحب. ولقد خرج منه، هرب من ياسنيا پوليانا كالسجين الهارب من السجن.

ويروي جوريس، معبِّرًا عن قوة قناعته كلها، اهتداء تولستوي العجيب إلى المسيحية:

إذ ذاك أعلن أنه اتخذ الإنجيل قاعدة لحياته، لا إنجيل الأرثوذكسية، لا إنجيل الكهنة، بل إنجيل الفقراء الأبدي بالغريزة، وحتى يؤمن به مثلهم، قال لنفسه: يجب علي أن أصير مثلهم، يجب علي أن أؤوِّل الإنجيل وفقًا لصرامته الأخلاقية. كان البشر، حتى ذلك الوقت، عن جبن أو أنانية، قد تساهلوا في الإنجيل. [...] الإنجيل ينطق بكلام المحبة والسلام. لكن هناك ملايين ملايين البشر الذين يُخيَّل إليهم أنهم مسيحيون، بينما هم يسلبون أخوانهم ويعذبونهم، مجاهرين من طبقة إلى طبقة، ومن أمة إلى أمة، بذبح البشر.

وبعد أن يقاطعه بضع لحظات تصفيق القاعة، هو ذا الخطيب يتابع:

أما أنا، قال تولستوي، فأريد أن أطلب من البشر، فوق القوانين، ومن فوق رجال الدين، أن يكونوا رجال الإنجيل، ولا أقول لهم: اخضعوا، ولا أقول لهم كذلك: تمردوا بالقوة، بل أريدهم أن يحصلوا على السلام وأن يفرضوه بوسائل سلمية؛ ولا أريد للأذلة المسحوقين أن يريقوا دم الأقوياء؛ أريد لهم أن يستمسكوا بالتمرد السلبي، أن يستمسكوا برفض إطاعة المتسلطين الظالمين، ويوم يتمكن ملايين الفقراء، من غيرعنف، من غير محاكاة وحشية المتسلطين، من غير ثورة مأسوية على الطريقة الغربية، من منع قلوبهم وأذرعهم عن فعلة الظلم والحرب والقتل، يومذاك سوف تنحل سلطات الكذب والقهر البالية من تلقاء ذاتها.

كيف لا نُعجَب بمثل هذا الفهم الثاقب الذي يبديه الاشتراكي جوريس للمسيحي تولستوي؟ هذا الفهم ينفتح فعلاً على العالمية. مَن يقرأ تولستوي اليوم؟ أجل، إن رواياته يعاد نشرها بانتظام وما فتئت تكرس شهرته. أما الكتب التي يعبِّر فيها عن فكره الديني، والتي نُشِرَ معظمها في فرنسا منذ ما يناهز المئة العام، فهذه لم يُعَدْ نشرُها قط، وبات أيجادها متعذرًا، ليس في متاجر الكتب وحسب، بل وفي غالبية المكتبات العامة. لماذا؟ لماذا أراد مجتمعنا إسكات الصوت العظيم الذي ارتفع من الأرض الروسية؟ ربما لأن الشيخ قد حطَّم من اليقينيات الراسخة أكثر مما هو مسموح به... ربما لأن سدنة العقيدة في الكنيسة وفي الدولة وفي الجيش ما كانوا ليطيقوا أن تنشر بدَعُه المنذرة بتلغيم السلام الأهلي... ربما أيضًا لأن نداءاته إلى الحياة بالحق مزعجة للغاية...

ترجمة: ديمتري أڤييرينوس

*** *** ***

نصٌّ أعدّه المفكر الفرنسي اللاعنفي جان-ماري مولِّر لجامعة "أونور" (جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي، تولّى، university@houkoukmadania.org ومقرُّها لبنان)، في سياق مادة "فلسفة اللاعنف" التي يدرِّسها في الجامعة. ترجمه إلى العربية ديمتري أڤييرينوس، ويُنشر ضمن اتفاق خاص مع "أونور".
 

horizontal rule

[1] Léon Tolstoï, Quelle est ma foi?, Paris, Stock, p. 12.

[2] Ibid., p. 18.

[3] Ibid., pp. 15-16.

[4] Léon Tolstoï, Rayons de l’aube, Paris, Stock, 1901, p. 36.

[5] Ibid., p. 21.

[6] Léon Tolstoï, Confessions, Paris, Stock, 1908, p. 115.

[7] Ibid., p.115.

[8] Léon Tolstoï, Dernières paroles, Paris, Société du Mercure de France, 1905, p. 228.

[9] Ibid., p. 13.

[10] Ibid., p. 14.

[11] Ibid., p. 18.

[12] Léon Tolstoï, Le salut est en vous, Paris, Perrin, 1893, p. 1.

[13] Ibid., p. 36.

[14] Ibid., p. 38.

[15] Ibid., p. 56.

[16] Alain Refalo, Tolstoï, la quête de vérité, Paris, Desclée de Brouwer, 1997, p. 39.

[17] Quelle est ma foi?, op. cit., pp. 79-80.

[18] Rayons de l’aube, op. cit., pp. 196-197.

[19] Critique de théologie dogmatique, Œuvers complètes, tome xx, Paris, Stock, 1909, p. 74.

[20] Ibid., p. 434.

[21] Le salut est en vous, op. cit., p. 81.

[22] Dernières paroles, op. cit., p. 118.

[23] Ibid., p. 121.

[24] Rayons de l’aube, op. cit., pp. 373.

[25] Ibid., p. 387.

[26] Le salut est en vous, op. cit., p. 227.

[27] Ibid., pp. 234-235.

[28] Rayons de l’aube, op. cit., p. 289.

[29] Ibid., pp. 382-383.

[30] Dernières paroles, op. cit., p. 107.

[31] Rayons de l’aube, op. cit., p. 5.

[32] Ibid., p. 30.

[33] Ibid., p. 410.

[34] Ibid., p. 410.

[35] Ibid., p. 127.

[36] Ibib., p. 119.

[37] Ibid., p. 125.

[38] Ibid., p. 166.

[39] Léon Tolstoï, Socialisme et christianisme, correspondance Tolstoï-Birioukof, Paris, Grasset, 1960, p. 64.

[40] Léon Tolstoï, Une seule chose est nécessaire, Paris, Librairie unverselle, 1906, p. 191.

[41] Rayons de l’aube, op. cit., p. 384.

[42] Léon Tolstoï, Paroles d’un home libre, Paris, Stock,  1901, p. 391.

[43] Ibid., p. 406.

[44] Ibid., p. 413.

[45] D. G. Tendulkar, Life of Mohandas Karamchand Gandhi, New Delhi, Publication Division, Patila House, 1969, p. 39.

[46] M.K.Gandhi, An Autobiography or the story of My Experiment with Truth, Paris, tr. Mahadev Desai, Ahmedabad, Navajivan, Publishing House, 1966, p. 119.

[47] M.K.Gandhi, Tous les homes sont frères, Paris, Gallimard, coll. Idées, 1969, p. 292.

[48]  نشرت "رسالة" تولستوي إلى الهندوسي، كما والنصوص الكاملة للمراسلات بين الكاتب الروسي وغاندي، في مجلة Alternatives Non-Violence، العدد 93، شتاء 1993.

[49] Romain Rolland, Vie de Tolstoï, Paris, Hachette, 1921, p. 203.

[50] Cité dans Jaurès, Rallumer tous les soleils, ‘ Le grand Tolstoï ‘, Paris, Omnibus, 2006, pp. 823-839.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود