أوراقٌ سافرة... من دفتر عربية مسافرة

 

ثناء درويش

 

3
"شمس الحقيقة"

وبعد، أنبتدئ من ظلمة النور، أم من نور الظلام.

أنستعرض تاريخ السواد في حياة المرأة في الشرق، أم نهتك الحجب، لتشرق شمس الحقيقة بجناحيها، من غير انفصام.

لا يمكن أن نرسم خريطة الله على الأرض كما أرادها واجدها، إلا إذا أزلنا المراسيم القديمة، ولا يمكن أن نحيا الواقع بجماله، إلا إذا حطمنا زخرف الأسطورة الخادعة، وأقصد بالأسطورة الخيال الجمعي المتراكم. وأتساءل وأنا أخطُّ بياض صفحتي بسواد حبري، ترانا نحتاج إلى سنين نهدم فيها صروح الوهم والخيال، بقدر تلك السنين التي مرَّت على الخيال ليلبس قناع الحقيقة؟! لا أحد يدري، أو يقدر أن يجزم، متى أو كيف سيحدث التغيير، وكم من الوقت سيستغرق ذلك، فلندع حسابات الزمن جانبًا، ولنعد لنرى ما تقول الأسطورة، تلك التي استمدت نسغها من الدين وما ارتوت.

والأسطورة تقول: أن الحيَّة والمرأة توءمان متلازمان. الحيَّة أغوت حوَّاء، وحواء أغوت الرجل، فأكل تفاحة الخطيئة من غير جوع، فتوجَّب أن يهبط ويستر عريه، ويشقى ويتعب ليكفِّر عن هذه الخطيئة، لتصبح المرأة هي رمز الغواية، وسمُّ الحيَّة، وعورة الرجل، وخطيئة آدم، منذ الأزل وإلى الأبد.

والأسطورة أيضًا تقول: أن المرأة مخلوق ناقصٌ قاصرٌ، خلقت من ضلع آدم، لتكون تابعة له، ومجنَّدة لخدمته، تستمد قيمتها وحضورها، من اقترانها به، فهي كينونة ناقصة، ولا كمال لها إلا مع الرجل.

وكأيِّ مخلوق، كانت الأسطورة صغيرة في أول عهدها وضعيفة، ولدت بعد "هبوط" الرسالات السماوية، ومع مرور الزمن، تكاثرت ونمت، ومدَّت جذورها في الفكر العشائري الصحراوي المجدب، قرنًا بعد قرن، فإذا بها مشتركًا في الوعي الجمعي، وحقيقة موهومة، في عقل مجتمع برمَّته، تستمد قوتها من تراكم التأويلات والتفاسير للنصوص الدينية "المقدسة"، والتي لا ندري هل حقًا جميعها قد قالها أصحابها، أم نُقل الكثير منها عن ألسنتهم، لتعزز حضورها الدنيوي باتكائها على اسم نبيٍّ أو وليٍّ أو قديس. وهكذا صار الوهم حقيقة، وضاعت دعوة الدين لوجود إنسانيٍّ مكرَّم، تشترك فيه المرأة مع الرجل، جنبًا إلى جنب، لعمارة الكون، لتسود الغلبة للتاريخ المكتوب على أسرَّة الجواري والمحظيات. أو بأقلام مأجورة باعت نفسها للساسة والقادة والحكام.

جاء الدين عرفانًا ونورًا ورحمة للعالمين، وكطريق للخلاص، ورؤى حاول أصحابها فتح آفاق جديدة للبشرية، لتحيا حضورها بكرامة وسعادة وحرية.

وجاء الدين ليرتفع بالبشرية نحو الإنسانية الرحبَّة الخلاَّقة المبدعة، وليفجر طاقات كامنة، لا يمكن الوصول إليها إلا في مناخ الحريَّة.

وجاء الدين ليتوِّج الإنسان ربًا، وليرفعه إلى مصاف الملائكة من حضيض شهوانيَّة تجذبه لدرك الحيوان.

جاء الدين خطابًا راقيًا، يخاطب القلب، مهبط الوحي، للرجل ولا المرأة معًا، بلا تمييز.

بسيطًا جاء، وواقعيًا، يعلمنا كيف نستخرج اللؤلؤ المكنون، في أعماق كلٍّ منا، ويهبنا أجنحة الطيور، ندور في مدارات الإنسانية، ونفتح مغاليق الغيب والمستور.

فما الذي بقي من ذلك الدين القيِّم إلا رسومه البالية، وأساطير وأوهام الديَّانين والمتدينين، ودروبًا مرسومة ومحددة، وقوالب جاهزة، وركامًا من التأويلات والتفاسير، ونصوصًا وكتبًا وأحاديث، وفرقًا متناحرة ترفع شعارات التقارب بين الأديان، وتتفوَّه بحق إبداء الرأي، فلا يتجاوز القول لسانها، ليتحوَّل الحوار إلى سجالات وجدل، وبعدها يحلُّ سفك دم كلِّ من يحاول التعبير بحرية عن رأيه أو رؤاه، أو يكفِّر ويخرج عن الله ودينه، طالما كلُّ فئة ترى أنها وحدها القابضة على الحقيقة دون سواها، ووحدها تعرف الله حقَّ معرفته، ووحدها المعنية والمسماة بالفرقة الناجية، وهكذا تصلَب الحقيقة على صليب النص باسم الدين نفسه الذي جاءت تنطق به، بسيطًا وشفيفًا، لأنه الحب.

لم أخرج عن الموضوع، ولا شططت، بل أردت أن أبين أن الدين لم يوجه خطابه للرجل دون المرأة، ولا اختصها بنصٍّ دونه، لكننا جيَّرنا النصوص كلها لتخدم ما نراه، وعززنا ما عندنا من نصوص مقدسة بأخرى مصنوعة موضوعة، وعبدنا الأسطورة ورفعناها صنمًا حرفيًا مقدَّسًا لا يقبل النقد أو النقض، وحجبنا سيرة ومسير صاحب النص بفهم عاجز أو أعرج لما قاله. فما كانت أقواله إلا رؤاه القلبية، تتبدل بين اللحظة واللحظة، حسب تنقله في المدارات الإنسانية. وبالتالي فإن تلك الرؤى إنما هي مخاض سلوكه في دربه الفردي الخاص، ونحن أعجز عن رؤية ما رآه، أو حتى فهمه وإدراكه، إلا إذا أفرغنا الفكر من المفاهيم الكسبية، ليعود القلب مرآة صافية تعكس الحقيقة كما هي على بساطتها.

ولعلَّنا بقراءة جديدة ومتجردة للنص الديني في كتبنا السماوية المقدسة الذي حكمنا به على المرأة بالنقص والدونية نجد وجهًا لصالحها لا ضدَّها، كأن تكون المرأة هي الخطيئة حقًا، ولكن ليس بمفهومنا للخطيئة على أنها تضاد للعصمة، بل بتجريد الكلمة من مفهومها المكتسب للوصول إلى معناها الأولي، لنرى المرأة-الخطيئة بوابةً لرفع آدم ليكون خليفة، فلولا أكل آدم تفاحة الغواية التي تميِّز الغثَّ من الثمين، ولولا عصى ربَّه وغوى، ما استحق التوبة، ولا كان علَّمه الأسماء كلَّها، وجعله في الأرض خليفة، فمن المتفق عليه عمومًا صحة الحديث الشريف "إن الله يحب المفتن التوَّاب" ،أو الحديث "كلُّ ابن آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابين".

وأما خلقها من ضلع الرجل، فليكن، وأي ضير في ذلك، ولكن لا عن تصوُّر نقصها وكماله، بل هو أشبه بالفيض، وانبثاقها منه، كانبثاق الشمس من الصبح، فهل الشمس ناقصة والصبح كامل!؟ بل هو الحب أشرق به الجمال على الكون في هيئة امرأة، وبالحب وحده ستعود ضلعًا إلى صدره، بل وقلبًا يحتويه، لأنها الحياة.

وهاهي قصص الأنبياء بسيطة وواضحة بلا تفسير ولا تأويل، تروي لنا كيف كان في حياة كلِّ نبيٍّ أو رسول امرأة ترافقه بالحب، تسنده وتقويه معنويًا وروحيًا، وكان بدوره يجلِّها ويحترمها، لأنه يعرف حقيقتها، ومكانتها الروحية، وقربها من السماء أكثر منه، لأن المرأة موصولة بقلبها، في الوقت الذي يحتاج به الرجل لوصلة الإيمان.

فالجنة تحت قدميك، والسلام عليك، يا آسية، ويا مريم الأولى والثانية، ويا زليخة، ويا خديجة، ويا فاطمة، ويا نظام، ويا سوسنة، ويا كلَّ امرأة ذكرت أو بقيت مجهولة، كرِّمت أو خلِّدت حين وئدت.

وأراني أعود هنا من جديد إلى نص ذكرته يومًا في مكان غير هذا، يعتمد عليه الرجل لإثبات قوامته على المرأة، ينسب إلى علي عليه السلام، حيث قال: "ناقصات عقل وحظٍّ ودين"، ولنجرب أن نأخذه على أحسن وجه لصالح المرأة إن كان قد قاله حقًا، فنعتبر نقص عقلها ليس بمنقصة وفق وظيفتها التكوينية بل هو ميزة لها، لأن العقل ليس المقياس الأول والأخير في التقييم لمكانة الإنسان عند الله، بل القلوب الواعية السليمة. بينما دور العقول التدبر وتعقل الحضور الوجودي الظاهري للإنسان في الحياة فهو ميزة ظاهرية دنيوية، بينما القلب هو الميزة الإنسانية العظمى بالنسبة إلى الله وهو محل كمال الإنسان، والمرأة ليست كائنًا عقليًا لأنها في الحقيقة لا تحتاج إلى ذلك الكم العقلي كما يحتاجه الرجل لاعتبارات معروفة، ولكنها تحتاج إلى كم قلبي ودفق روحي أعظم من الرجل لاعتبارات أمومتها!! ولذا وهنا فعلاً يصبح نقصان عقلها ميزة لها لأنه عنوان لكمال قلبها ودقة إحساسها ومشاعرها المعنوية، والتي تجعل الجنة تحت أقدامها.

وأما نقص حظها من الإرث، مقابل حصول الرجل على حصة مضاعفة، فهو تكريم لها أيضًا وميزة أخرى اختصها بها الله سبحانه وتعالى، لعدم حاجتها إلى لعب دور الرجل في الخدمة الظاهرية التي حملته أعباء وهمومًا وواجبات أرتأى الله جل وعلا أن يجعل حظه (الظاهري المادي) أعظم منها لكي يقوم بالتالي بخدمتها، وفي ذلك إعلاء لشأنها لا حطٌّ منه.

وأما نقص إيمانها فلقوة ارتباطها المعنوي بالله، باعتبار أن الأيمان هو الوصلة ما بين الإنسان والله، وهي متحققة فعلاً فيما لم يتحقق به الرجل من صلة مع الله – أقرَّ بذلك أم لم يقرّ – وهي ميزة (ملائكية) أخرى، أجلُّ وأعظم.

إن رؤية كهذه الرؤية ستسحب البساط من تحت قدمي الرجل، وتزلزل الأرض تحته، وسيعتبرها هدمًا لعرش من التأويلات والتفاسير يتربع عليه، تنظر بدونية للمرأة، وفق مفهوم الخطيئة الأولى لآدم بسبب حواء، ووفق مفاهيم التخلف التكويني للمرأة عن الرجل، في عرف الأديان، حيث سيبقى الرجل لوقت غير مسمى يعتز بقوامته على المرأة والتي حباها إياه كما يرى "الدين"، والدين من آراء فكره ومفاهيمه براء، فما هذه القوامة إلا دور ظاهري له، تكريمًا لها، لا عبودية وتبعية لربٍّ قد يجود بالحرية على المرأة إن كان كريمًا، وقد يحرمها منها، طالما هو صاحب الكلمة الفصل، وبيده صك الحل والربط. فإذا وهب المرأة بعض حقوقها شكرته وبقيت ممتنة لكرم أخلاقه وفضله عليها، وكأن الحرية حقٌّ مكتسب لا هبة من الله، لكلٍّ من الرجل والمرأة، ولا يحقُّ لمخلوق على وجه الأرض مصادرة هذه الهبة أو سلبها، أو وضعها في بوتقة الأهواء والنزعات والرغبات، والتحكم بها، ورسم صور لها، كما يحلو لوعي شرقي عشائري جمعي أن يتخيل.

وللحديث بقية...

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود