الصرخة السورية و"الإله" المفقود

 

نبراس شحيد٭

 

الصرخة:

يستولي على بعضنا شعورٌ عامٌ بالإحباط، فالنظام مسرفٌ في القتل، والآفاق السياسية شبه مغلقة، والكثير من الشباب يُساق إلى العنف، والمجتمع الدولي يتلاعب بنا، حتى "الله، قال لي أحد الأصدقاء، تخلَّى عنا"! كتبت عشتار على حائط "الفايسبوك": "إلهي لماذا تركتنا وحدنا؟؟ ألم نقضِ من العمر ما يكفي بحثًا عنك؟؟ فَلِمَ لا تجدنا؟؟ وجدناك منذ طفولتنا... تعمدنا... وقرأنا الفاتحة... بكينا الحسن والحسين... ولمْ تجدنا".

"إلهي، إلهي، لمَ تركتني؟":

قَبْل الصرخة هذه بألفي عام، صرخ في مثل هذا الوقت من السنة – بحسب المعتقد المسيحي – ناصريٌّ مصلوبٌ على خشبة: "إلهي، إلهي، لمَ تركتني؟". استطاع بعضهم تسكين شيءٍ من حدة الكلمات هذه حين تمَّ تأويلها انطلاقًا من أحد المزامير الذي يبتدئ بها، منتهيًا بتسليم الأمر "لله". لكن الإحالة على المزمور هذا، وإن هدَّأت شيئًا من قلق السؤال، فإنها لا تستطيع أن تنزع من الكلمات هذه صرختها وما تخبئُه من ألمٍ واستغرابٍ موجع، لتتضاعف حدَّتُها حين تُجرَّد من إطارها الإيماني، فتعبِّر حينها عن مأساة الإنسان في عالمٍ أشبه بالعبث. وهنا، يمكن الصرخة، حين تُؤَوَّل بطريقةٍ أشدّ راديكالية، أن تعبِّر عمَّا سمَّاه بعض الفلاسفة "موت الله"، للدلالة على سماءٍ صمَّاء لا تسمع صراخ الإنسان، أو على ما أطلق عليه بعض اللاهوتيين والفلاسفة أيضًا اسم "موت الله"، لكن مجازيًا، للدلالة على موت تصوُّراتنا القديمة عن "الإله"، أو على تبنِّي "الله" جوهريًا ألم الإنسان وموته.

في جدلية الألم:

أيًّا يكن توجهنا الديني أو الفلسفي، ستبقى الكلمات الموجعة هذه صرخةً في وجه اللامعقول. وكصرخة، ستقوم هذه الكلمات على حالةٍ جدليةٍ تقول شدة الألم، لكن لتقاومه من خلال التعبير عنه. بمعنىً آخر، تُبدِّلُ الصرخة من طبيعة الألم، عندما تصير الصرخة كلمة، ليصير الألم تعبيرًا، ويضيف السوريون: فنًا وشعاراتٍ وأغنيات! هكذا، تستحضِر الصرخة حياةَ الإنسان الداخلية بعريها، بعيدًا عن التزيُّن أو الحشمة، لكن، لتجعل من الألم كلمةً تتجاوز هيجان العواطف، فتقطع عليه الطريق كي لا يصير وحشًا، أو غصَّةً تخنق صاحبها في سكرات اليأس. هكذا، مثلاً، تحوَّلت حماة الثمانينيات، وللمرة الأولى، من صرخةٍ خام في ذاكرة السوريين إلى ثورة لغةٍ أفلتت من وجع الضمير وأقفاص الرقابة، فصارت في شباط المنصرم، وبعد ثلاثين عامًا، تظاهرةً بصرية، صوتية وكتابية، تواصلية، انتزعت من الألم مطلقيَّته، كما انتزعت منه سُميَّته لتجعل منه ذاكرةً قابلةً للشفاء!

في جدلية الحضور:

وكما أن الصرخة تقول الألم وتقاومه في الوقت ذاته، فكذلك نراها، على مستوىً جدليٍّ آخر، تتوجَّه إلى "الله"، لكن لتسأله بشكل غير مباشر عن صمته: "يا الله عجِّل نصرك يا الله!". وتذهب أحد الرسوم الكاريكاتورية لتصوِّر أناسًا باتوا يقولون: "يا الله، ما ضَلْ غيرنا يا الله"، ثم "يا الله، شو صار معك يا الله؟"، ليعقِّب أحدهم ببراءة: "استغفر الله، لكنها فشَّة خلق"! هكذا، يعبِّر المعلِّقُ هذا وغيره عن استغرابهم من "إلهٍ" يحضر في اللغة، ويغيب عن دائرة القرار السياسي؛ "إلهٌ" لا يكفُّ عنا، كما نتمنى، ظُلمَ المعتدين (أقلُّها في الدنيا، لمن يؤمنون بالآخرة)، ولا يحُول دون موت الأبرياء، وما أكثر الطغاة الذين ماتوا والابتسامة ترتسم على وجوههم! هكذا، تتوجَّه الصرخة إلى "الله"، معترفةً بشيءٍ من حضوره، ولو لغويًا، لتضع اصبعها في جرح غيابه الوجودي، فترسم شكلاً جديدًا من الحضور الذي لا ينفي الغياب بل يؤكده. وهنا، يمكن الصرخةَ، عندما تعي ذاتها، أن تشكِّل وعيًا جديدًا لا يرى في "الله" "حلَّال مشاكل"، بل، وقبل كل شيءٍ، مرجعيةً أخلاقية، وأحيانًا صوفية، تحترم صيرورة التاريخ، لتَغيب عنه سياسيًا، أقلُّها بشكلٍ مباشر، وتحضر فيه إنسانيًا. هكذا، تثور الصرخة على استقرار العالم القديم، فتضعنا أمام هوَّة الغياب وما تحمله من قلقٍ وآفاق خلاقة.

في جدلية "التجديف":

وهنا تَلِدُ الجدليةُ الثانية أخرى ثالثةً، فمَن أطلق الصرخة إلى "الله" مات بتهمة "التجديف"، فبعد استجواب الناصري، شقَّ رئيس الكهنة ثيابه وقال: "تجديفٌ! ما رأيكم؟"، فأجابوه: "إنه يستوجب الموت!" بالطريقة هذه، مات الصالحُ كمجدِّف، لأنه لم يدخل في القوالب الدينية الموجودة آنذاك، فكان موته ثورةً على مطلقية الدين (وكذلك كان لموته بعدٌ لاهوتيٌّ وآخر سياسيٌّ لن أخوض فيهما). هكذا "كُفِّر" الصارخ من عمق الناصرة، ومات "ملعونًا"، لأنه بشَّر "بإلهٍ" غريب يؤمن بالإنسان الحر ويتألم في شعبه! وهنا يمكن صرخةَ عشتار، صرختَنا، عندما تعي ذاتها، أن تكون ثورةً على سطوة القوالب الدينية على المجتمع، أقديمةً كانت أم تلك التي أنتجها واقع الثورة، من ثقافة اتكالية أو تكفيرية أو إقصائية أو أقلوية تجترُّ يأسها في مرارة التكرار، وتخاف من جديد الحياة.

ثورة الصرخة:

ولأنَّ الصرخة هذه لا تعيش من ثقل الحضور بل من تغلغل الغياب فيه، ولأنها تثور على حضور ألمٍ مطلقٍ غير قادرٍ على التعبير عن ذاته، ولأنها تثور على حضور "إلهٍ" مطلقٍ يهمِّش التاريخ، ولأنها تثور على حالةٍ دينيةٍ مطلقةٍ لا تعرف إلا لغة الخوف والوعيد، يمكن الصرخة، عندما تُعقلَن، أن تحمي منطق العدالة من آليات الانتقام. فالانتقام أيضًا قائمٌ على حضورٍ مطلقٍ للألم لا يملك من أساليب التعبير عن نفسه إلا الانفجار، أو الإحالة، في ساعة العجز، على "إلهٍ" يردُّ الصاع صاعَيْن مُشبِعًا مطلقية الألم؛ في المقابل، تقبل العدالة بوسيطٍ ثالث، لِتَسِمَ الحضور بنوعٍ من الغياب. هكذا، تشكِّل عقلنة هذه الصرخة ثورةً ثقافيةً مجتمعيةً، وأحيانًا دينية، قد تستطيع يومًا تفكيك شيءٍ من بُنى المطلق المتعدِّدة التي تعمل في ثقافتنا ولغتنا بشكلٍ لاواعٍ مقزِّمةً الإنسان. وهنا، يمكن حقيقة الصرخة، التي بدت يائسةً مُحبَطة، أن تتجلى أملاً، لا بل رجاءً في الحياة، يقع على عاتقنا جميعًا تحليلُها وعقلنتها ودفعها إلى الأمام.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ راهب يسوعي سوري.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود