خواطر وملاحظات وآراء شخصية حول مقالة الكاتب توبي ليستر: ما هو القرآن٭

 

محمد عيد دياب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ظهرت دراسة في الدورية الثقافية الأمريكية The Atlantic Monthly الصادرة في الشهر الأول من عام 1999 تحت عنوان رئيسي كبير ما هو القرآن بقلم الكاتب Toby Lester، يتصدر غلاف هذه الدورية صورة للقرآن الكريم وفوقه عدسة قراءة مكتوب بداخلها: "العلماء يتفحصون القرآن بنفس الطريقة التي تفحصوا بها الإنجيل وعليهم أن يكونوا حذرين جدًا في هذا العمل". ويختصر هذا العنوان محوري المقالة الرئيسين: الأول تفحص القرآن بوسائل وأدوات النقد الأدبي، والثاني ردود فعل المسلمين تجاه ذلك.

نظرًا لصعوبة النص الإنكليزي الأساسي بسبب شدة تركيزه ولاحتوائه على المصطلحات الدينية ومصطلحات علم النقد الأدبي، وخوفًا من أن تأتي الترجمة ركيكة أو غير معبرة بدقة عن النص الأساسي، فقد أدرجت مع الترجمة النص الأصلي باللغة الإنكليزية كي يمكن لمن أراد الإطلاع على خلفية الموضوع من مصدره الأساسي.

سأكتفي في ورقتي هذه بتقديم بعض الخواطر والملاحظات والآراء الشخصية حول ما جاء في مقالة Toby Lester مع إشارات إلى ما يجري على الساحة العالمية من دراسات حول القرآن الكريم بهدف زعزعة مكانته لدى المسلمين.

لقد كان بالإمكان غض النظر عما جاء في هذه المقالة واعتبارها جزءًا من الهجوم القديم والمستمر من جانب أعداء الإسلام منذ أول يوم من أيام البعثة المحمدية وحتى يومنا هذا لولا أن عناصر الهجوم على القرآن أخذت في أيامنا هذه ترتدي ثيابًا إسلامية فأصبحنا نرى كتابًا مسلمين يحملون ألقابًا علمية كبيرة ويحتلون مراكز علمية وأكاديمية عالية يشاركون في هذه الهجمة، لذا كان لا بد من محاولة تسليط الضوء على ما يجري على الساحة القرآنية فيما يمكنني أن أطلق عليه اسم معركة القرآن كي نكون واعين على الأقل عند التعامل مع هذه الهجمة ريثما يقيد الله لنا من يتمكن من قيادة معركة الدفاع عن القرآن.

وفيما يلي بعض الخواطر والملاحظات والآراء الشخصية مرتبة حسب ترتيب الفصول الرئيسية للمقالة الأصلية للكاتب Toby Lester، ومن المفيد قراءة النص الأساسي باللغة الإنكليزية أو الترجمة العربية قبل قراءة هذه الخواطر.

النظر إلى القصاصات Looking at the Fragments

يلخص الكاتب Lester في الصفحة رقم 3 مجمل ما وجده العالم الألماني Puin المتخصص في الخط العربي والكتابة القرآنية والذي يشرف على الرقاع اليمنية فيقول:

أدرك Puin قدم بعض القصاصات والرقاع واظهر بحثه المبدئي أيضًا ترتيبًا للآيات غير الترتيب التقليدي واختلافات نصية بسيطة وأنماطًا نادرة من الضبط الإملائي والتزينات الفنية، كما كانت مثيرة أيضًا صفحات من القرآن مكتوبة بخط عربي حجازي قديم إنها قطع من أقدم قطع القرآن التي وجدت إلى الآن، وكان هناك أيضًا ألواحًا كتب عليها كما هو واضح قبل ذلك ومسحت ثم كتب عليها ثانية.

نظرة تاريخية:

لابد لنا من أن نتصور أولاً الطريقة التي كانت تكتب فيها المصاحف في القرنين الأولين للهجرة، فمن المعلوم أن القرآن كان ينسخ بواسطة النسَّاخ على رقاع من الجلد أو ورق البردي أو الألواح الطينية أو العظمية، ولكن يظهر من سياق المقال، ومن صورة للرقاع المكتشفة، أن الرقاع كانت إمَّا من الجلد أو من ورق البردي، وكان الناسخ يقوم بالكتابة على هذه الرقاع كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، إذ لم يكن هناك من وسيلة لتكرار الكتابة كما هو الحال في وسائل الطباعة التي اكتشفت وطورت في القرن السابع عشر ميلادي، أي بعد ألف سنة من التاريخ المفترض للرقاع اليمنية. وكان لا بد من وجود أخطاء في الكتابة، سواء بمضمون الكلمات أو بالشكل والنمط. ونظرًا للقداسة العالية لكلمات القرآن، التي هي كلمات الله في التصور الإيماني عند المسلمين، لذلك فقد كان وما يزال هناك تقليد في أن يتم حرق أو دفن مثل هذه الرقاع المحتوية على خطأ أو التالفة.

بعد هذه المقدمة الموجزة يمكن لي أن أبدأ في إعطاء بعض الملاحظات على ما أورده الكاتب في النص المقتطف أعلاه.

أولاً: استنتاجات Puin

في تاريخ الرقاع: يقول Puin إن هذه الرقاع لم تكن كلها من تاريخ واحد، وأن بعضًا منها كان قديمًا ويعود إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين. ولم يذكر لنا الكاتب تاريخ بقية الرقاع، ذلك أن تاريخ أحدث رقعة يعطينا فكرة فيما إذا تم دفن كل هذه الرقاع دفعة واحدة نتيجة لحدثٍ هامٍ ما جرى في ذلك الوقت أم أن الدفن جرى بالتدريج لكل صفحة منسوخة وجد ناسخها أن بها خطأ ما. ونحن ميالون، في غياب توضيح هذه النقطة الهامة، إلى الأخذ بالرأي الأخير، أي بالاعتقاد بأن القبر كان مقبرة لكل صفحة منسوخة وجد ناسخها أن بها خطأ ما. ويجب أن لا يفوت عن بالنا أن المسجد كان في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب جدًا، هو المدرسة ومركز كل النشاطات الدينية والفكرية ومركز نسخ القرآن ومطابقة المنسوخ مع النص المضبوط فمن المنطقي جدًا أن تكون الرقاع المكتشفة هي تلك التي كتبها تلاميذ يتعلمون ويتدربون على نسخ القرآن والتي ظهر فيها خطأ ما في النسخ.

في الاختلافات بين النص الموجود في الرقاع والنص القرآني المتعارف عليه:  يقول Puin إن هناك اختلافات نصية بسيطة ولكن مثيرة للإهتمام. ولم يذكر لنا الكاتب نموذجًا عن هذه الاختلافات كي نتمكن من تصور ماهية هذه الاختلافات ونعلل سبب وجودها. ولكنني أستطيع أن أتصور أن الاختلافات البسيطة هي نتاج عملية النسخ حصرًا، فالناسخ لنص قدسي محفوظ على ظهر الغيب في القلوب كالقرآن الكريم لا يمكن له إلا أن يخطئ أخطاء طفيفة، وليس لنا أن نتوقع وجود أخطاء فادحة أساسية. وفي رأيي أن هذه الأخطاء تشابه الأخطاء التي يرتكبها الأئمة أثناء التلاوة في الصلاة. وهذا ما يؤيد ما سبق أن أشرت إليه من أن الرقاع الموجودة في القبر ما هي إلا الرقاع المخطوءة بالنسخ. والكاتب يحاول أن يوحي إلينا أن ما هو موجود بالرقاع هو نسخة سابقة من القرآن بالمفهوم الذي نشاهده في تطور الكتب، إذ أننا نجد طبعة أولى ومن ثم طبعة ثانية مزيدة ومنقحة وهكذا دواليك، إذ يستمر الكاتب العادي في تطوير وتنقيح مؤلفه، وهذا ما يحاول الكاتب الإيحاء بأنه قد حصل مع القرآن الكريم حتى وصل إلينا في طبعته الأخيرة التي يدعوها بالمدونة الرسمية للقرآن.

في الأنماط النادرة من الضبط الإملائي: يقول Puin إن الرقاع اليمنية قد أظهرت وجود أنماط نادرة من الضبط الإملائي والعناصر التزينية. إن هذا الأمر ليس مستغربًا، فمن المعلوم أن قواعد الضبط الإملائي قد ابتدأت من عهد أبي الأسود الدؤلي وتطورت عبر القرون الأولى وما زالت تتطور بتطور وسائل الكتابة. وهذه الأنماط بحد ذاتها ليست من المقدسات الإسلامية التي لا يجوز المساس بها. وهناك أنماط كثيرة ما زالت منتشرة حتى وقتنا الراهن، فمثلاً القرآن المكتوب في المشرق يختلف بنمطه عن القرآن المكتوب في المغرب، ولكن الكلام واحد بل حتى الحروف واحدة، ومن الممكن أن يكون لليمن في ذلك الوقت نمط وضبط إملائي خاص بها. أما التزيينات الفنية فهي عبارة عن فن لا علاقته له من قريب أو بعيد بالنص القرآني أو بالمعتقد الإيماني.

في الكتابة فوق ألواح منسوخة ثم ممسوحة: يقول Puin إن هناك ألواحًا كتب عليها قبل ذلك ثم مسحت ثم كتب عليها ثانية. أقول إن هذا أمر طبيعي في وقت كانت الرقاع فيه غالية الثمن نادرة الوجود، فمن الطبيعي أن يمسح الناسخ الصفحة التي أخطأ بها ومن ثم يعيد نسخها من جديد. ويجب أن نستبعد الإيحاء غير المباشر الذي يحاول الكاتب الإيحاء به ألا وهو أن الناسخ كان يقوم بعملية تطوير للنص القرآني أو إعادة تأليفه.

في ترتيب الآيات والسور: يقول Puin إن بحثه دله على وجود ترتيب مختلف للآيات عن الترتيب التقليدي. لم يشر الكاتب بوضوح إلى طبيعة الترتيب المختلف؛ هل هو للسور المتتالية من الفاتحة إلى البقرة وهكذا حتى السورة رقم 114 سورة الناس، أم أن الاختلاف هو في ترتيب الآيات ضمن السورة الواحدة. ونظرًا لغياب أي مثال عن هذه الاختلافات فإنني أكتفي بالقول إن وجود اختلاف في ترتيب الآيات ضمن السور، والذي وصف سابقًا بأنه طفيف، يمكن أن يكون منشأه الضعف في الحفظ نظرًا لوجود كثير من الآيات متشابهة الألفاظ، وهذا ما نشاهده كما أشرت إليه سابقًا عند استماعنا للتلاوة في الصلاة. أما ترتيب السور فهو أمر فيه اختلاف في وجهات النظر: هل هو توفيقي من الله تعالى أم أنه ترتيب بشري.

ثانيًا: القيمة التاريخية للرقاع اليمنية

لم يذكر لنا الكاتب، صراحة أو تلميحًا، كيف أن رقعًا موجودة في قبر مهجور، وذات تاريخ ممتد عبر قرون، تحمل قيمة علمية أعلى من القرآن الذي وصلنا مشافهة عن طريق الصدور بواسطة سلاسل متنوعة من الحفاظ أطلق عليها لقب السلاسل الذهبية، وهي منتشرة في جميع أصقاع العالم الإسلامي، ولا يكاد يوجد بينها أي ترابط أو تقاطع، ومع ذلك فالنص المتواتر بالمشافهة واحد لا تغيير فيه ولا تبديل عبر مئات السنين وعبر جميع الظروف السياسية والمذهبية والطائفية، والفروقات بين هذه القراءات لا تكاد توجد، وإن وجدت فهي مضبوطة ومحصورة. وحتى يومنا هذا، ورغمًا من انتشار وسائل المعلوماتية وانفجارها الكبير، فما زال انتقال القرآن يتم عبر الحفظ وعبر سلاسل الحفاظ الذين يرفضون إعطاء الإجازة بحفظ القرآن لمن يحفظ القرآن من الكتاب المطبوع بل هي مختصرة على من حفظ القرآن من صدر شيخه.

التاريخ المبدئي للرقاع اليمنية القديمة منها يشير إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، وهو بشكل مبدئي ولكنه واضح الدلالة يأتي بعد عهد التدوين الرسمي الأول إن صح التعبير، والذي قام به الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن المعروف لدى معظم دوائر الاستشراق التي تحاول التشكيك بالقرآن أن القرآن بعد هذا التدوين لم يطرأ عليه أي تعديل أو تبديل. إذًا، يمكننا الاستنتاج أن ما يوجد في الرقاع هو نسخ مغلوطة النسخ وليس نسخًا في طور التطور.

في فترة التدوين الرسمي الأول، وهي الفترة التي يحاول أن يركز عليها قسم كبير من البحاثة الأجانب والمستشرقين ومن يتبعهم من المسلمين بأنها الفترة التي تم فيها التلاعب بالقرآن عبر إتلاف نسخ مصاحف الصحابة الذين لا يسيرون على الخط الرسمي السياسي والاقتصادي للخليفة عثمان والمتهم من دوائر الاستشراق بأنه أموي النزعة ومحسوبًا على طبقة كبار التجار، وهذا من وجهة نظرهم أثَّر على النص القرآني، بل وذهب بعضهم، ومنهم بعض مسيحي الشرق في الآونة الأخيرة، إلى اعتبار أن القرآن الموجود بين أيدينا لا يمت بأي صلة إلى قرآن محمد. أقول في مواجهة هذه الآراء: إن فترة الخليفة الثالث شهدت أكبر وأخطر وأطول انقسام في الأمة الإسلامية ما زالت آثاره مستمرة حتى يومنا هذا، ولا يبدو أنها ستزول في المستقبل، هذا الانقسام هو انقسام الأمة الإسلامية إلى سنة وشيعة، ومع ذلك فقرآن أهل السنة لا يختلف حرفًا عن قرآن أهل التشيع، ولو كان القرآن الذي جمعه الخليفة الثالث ممالئًا لأهل السنة والأغنياء لكنا وجدنا قرآن أهل التشيع ممالئًا لأهل البيت وللفقراء، خاصة وأن الخليفة الرابع سيدنا علي بن آبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه قد استلم الخلافة بعد سيدنا عثمان، وهو على نقيضه تمامًا كما يحلو للمستشرقين أن يبينوا، فهو طالبي النزعة ومحسوبًا على طبقة الفقراء، ولو كان هناك أي شك في أي حرف أو كلمة أو نص أو جملة أو أمر في القرآن الرسمي لعمل على تعديله رسميًا أو بين أتباعه الشيعة على أقل تقدير.

ثالثًا: في الخلفية العلمية للباحثين Puin وزميله Bothmer

يذكر الكاتب Lester أن Puin متخصص في الخط العربي والكتابة القرآنية القديمة، كما يذكر أن Bothmer متخصص في تاريخ الفن الإسلامي. الاثنان حسب هذا التصنيف ليسا بخبيرين في النصوص الإسلامية القرآنية وفي فقه اللغة وفي اللاهوت الإسلامي، إن صح لي أن أستخدم تعبير المستشرقين. وفي رأيي أنه كان من الأحرى بجامعة Saarland، التي اطلعت بمهمة دراسة الرقاع اليمنية، أن تدعم فريق البحث بعلماء متخصصين في علوم القرآن واللغة العربية من ألمان أو عرب. وفي رأيي أن بقاء فريق البحث على تركيبته الحالية يضعف من مصداقية كتابات واستنتاجات هذين الباحثين.

يقول الكاتب Lester إن Puin وBothmer قد نشرا مقالات قليلة ومختصرة ولا تشفي الغليل عما وجداه في الرقاع اليمنية، وعلَّل هذه الحالة من الغموض بالخوف من أن تحرمهما الحكومة اليمنية حرية الوصول إلى الرقاع، ولكن الكاتب يقول في مكان آخر من مقالته بأن Bothmer قد قام بتصوير 35000 صورة للرقاع وأوصلها إلى ألمانيا، أي أنه أصبح في مأمن من السيطرة اليمنية.

والآن، وبعد مرور 18 سنة على عمل Puin وBothmer في دراسة هذه الرقاع، أليس من الواجب العلمي أن يعرف العالم بأسره ماذا يوجد في هذه الرقاع بدلاً من الإشارات المبهمة والمعلومات المختصرة التي لا تشفي الغليل، وبدلاً من إعطاء الانطباع بأن ما في هذه الرقاع خطير جدًا وسيغير المفهوم الإسلامي والفكر الإسلامي والاعتقاد الإيماني الإسلامي وسيزعزع مكانة القرآن عند المسلمين.

ما أعتقده هو أنه:

أ‌.       إما أنه لا وجود البتة لأي شيء مهم في هذه الرقاع يستحق نشره علميًا.

ب‌.  أو أن Puin وBothmer لم يستطيعا إثبات أن المرجعية التاريخية للرقاع اليمنية هي أعلى من المرجعية التاريخية للقرآن المتداول بشكله المعروف اليوم.

ت‌.  أو أن Puin وBothmer، نظرًا لخلفيتهما العلمية، ليسا قادرين على دراسة محتويات الرقاع، وأن غيرهما يقوم حاليًا أو سيقوم في المستقبل القريب بدراسة هذه الرقاع.

ث‌.  أو أن هذه المقالة هي بالون اختبار لمعرفة ردود فعل مثقفي العالم الإسلامي باتجاهاتهم المختلفة تجاه طرح موضوع أصل القرآن، وهو الموضوع الذي اعتقد أنه قد تمت الاستعدادات الكاملة لطرحه بشكل عنيف على كل الجبهات.

ج‌.    أو أن طبخةً ما ما زالت قيد الطبخ في مراكز الاستشراق، وأن هدف مقالة Lester هذه هي التمهيد فقط لتعريف العالم بالرقاع اليمنية ومن ثم بناء طرح ما على هذه الرقاع.

رابعًا: في استنتاجات الكاتب Lester

يوحي الكاتب في أكثر من مكان إلى أن القرآن عبارة عن نص قد تطور مع مرور الزمن وليس كلام الله الثابت كما نزل بتمامه على النبي سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي في فترة البعثة المحمدية. ويستند في كلامه هذا إلى شعور Puin بذلك من خلال دراسته للرقاع اليمنية، ويستند أيضًا إلى كلام Andrew Rippin الأستاذ في جامعة Calgary الكندية وأحد أكثر العاملين في الدراسات القرآنية حاليًا، والذي بدأ يستخدم الرقاع اليمنية ليقول بأنها

تشير إلى أن تاريخ النص القرآني المبكر هو مسألة مفتوحة للحوار أكثر بكثير مما كان الكثيرون يظنون. فالنص أقل ثباتًا ولذلك فإن له سلطة أقل مما كان يقال دائمًا.

هذا القفز إلى الاستنتاجات قبل نشر محتويات الرقاع يشير بوضوح إلى الطريقة التي سيتم بها استثمار هذه الرقاع في زعزعة ثبات النص القرآني، وهذه هي طلائع معركة القرآن التي سنواجهها بقوة في العقد القادم. فالنص القرآني يجب أن يفقد أساسه، وبالتالي سلطته، ومن ثم لن يعود هناك إسلام، وهذا هو المطلوب من مجمل أعمال الاستشراق والدراسات الإسلامية والقرآنية في العالم الغربي.

إن محاولة وضع تاريخ للقرآن الكريم هي المحور الذي ترتكز عليه مقالة Lester، فهذا التاريخ ينفي ألوهية مصدر النص القرآني، ويجعله نصًا بشريًا تطوَّر عبر مئات السنين مما يفقده حتى إنتمائه إلى محمد بن عبد الله البشر. وهذا ما سأحاول التركيز عليه أثناء إبداء ملاحظاتي على الفقرات القادمة من المقالة إن شاء الله.

تصحيح كلام الله Copyediting God

يشرح الكاتب Lester في هذا الفصل – الذي يمكن اعتباره من أكثر الفصول خطورة – ملامح الدراسات القرآنية الجارية حاليًا في العالم لإثبات وجود تاريخ للقرآن وآراء المستشرقين حول ذلك.

معنى وجود تاريخ للقرآن

المقصود بتاريخ القرآن من وجهة نظر الاستشراق والدراسات القرآنية الغربية هو بيان أن ما هو موجود بين دفتي المصحف ليس هو كلام الله الذي أنزل على رسول الله محمد بن عبد الله بواسطة الوحي بتمامه وكماله حرفيًا بدون تبديل أو تغيير – كما يعتقد كل من يؤمن بالإسلام – بل هو:

-       إما أنه نص موضوع في وقت لاحق منقول من كلام سيدنا محمد بن عبد الله كما حدث تمامًا مع الأناجيل التي كتبت بأقلام وصياغة الرسل (الحواريون) في وقت طال أو قصر بعد انتقال سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء. وهذا اتجاه ينادي به المستشرقون الأكثر قربًا إلى الإسلام.

-       أو أنه نص تطور من قبل اتباع محمد بن عبد الله مع تطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية في القرنين الأولين للهجرة نتيجة للتوسع الاستيطاني الواسع للعرب الخارجين من الجزيرة العربية والفاتحين لمعظم العالم القديم آنذاك. وهذا الاتجاه ينادي به معظم المستشرقون والكتاب الغربيون. ولهذا فإن الرقاع اليمنية تشكل مادة خصبة لهم في هذا المجال.

-       أو أنه نص كتب قبل بعثة محمد بن عبد الله بوقت طويل من قبل جهات مجهولة يحاولون البحث في هويتها بتأثير الديانة المسيحية الأريوسية المندثرة، ولعل في محاولة إثبات وجود كنسي في مكة بزعامة شخصيات قرشية على رأسها ورقة بن نوفل تعبير عن هذا الاتجاه. (انظر ملاحظاتنا على كتاب قس ونبي بحث في نشأة الإسلام للمؤلف أبو موسى الحريري).

-       أو أنه نص تلفيقي لم يتنزل مطلقًا على محمد بن عبد الله، وتمت كتابته وتطويره من قبل جهاتٍ ما يسعى المستشرقون لمعرفتها، وأن محمدًا بن عبد الله نفسه شخصية أسطورية لا وجود لها، وكذلك شخصيات الصحابة، وكذلك كل أحداث فترة البعثة النبوية والهجرة والدولة الإسلامية في المدينة فهي أحداث لا وجود لها بل ملفقة ومكتوبة لأسباب سياسية واجتماعية. وهذا الاتجاه ينادي به غلاة المستشرقين وأعداء الديانة الإسلامية.

أهداف محاولة وضع تاريخ للقرآن

لعل أفضل ما يوضِّح خلفية وهدف محاولة وضع تاريخ للقرآن هو ما ورد على لسان أحد المستشرقين أنفسهم، وهو Stephen Humphreys أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا، حيث قال:

إن عمل تاريخ للقرآن سوف يؤدي بالنتيجة إلى نزع الشرعية عن كل الحياة التاريخية للمجتمع الإسلامي، فالقرآن هو دستور المجتمع والوثيقة التي استوعبت وجوده. ومن الناحية المثالية كان التاريخ الإسلامي هو الجهد لمتابعة وتنفيذ أوامر القرآن في حياة البشر. فإذا كان القرآن وثيقة تاريخية فإن كل الكفاح الإسلامي على مدى أربعة عشر قرنًا هو بالتالي لا معنى له.

إذًا، يتضح لنا بدون أدنى شك أو ريبة أن الهدف الرئيسي من محاولات وضع تاريخ للقرآن، والتي تكتسب طابع البحث العلمي والاجتهاد الأكاديمي الجامعي النزيه، هو زعزعة مكانة القرآن حتى يصبح التاريخ الإسلامي، ومن ورائه الاعتقاد الإيماني الإسلامي، لا معنى له ولا أساس، وذلك بعد أن فشلت خلال القرنين الماضيين محاولات زعزعة الإسلام عن طريق الاستعمار والبعثات التبشيرية وحملات الاستشراق، كما فشلت في النصف الثاني من القرن الحالي حملات الاستعمار الاقتصادي والغزو الثقافي والإعلامي، ولم يبق أمام أعداء الإسلام سوى إطلاق معركة نهائية على القرآن أساس الإسلام، وها هي تلوح في الأفق معالم هذه المعركة.

محاور الهجوم على القرآن

يستعرض الكاتب Lester كتابات ودراسات وآراء بعض المستشرقين والمهتمين بالدراسات القرآنية من علماء الغرب، ومن هذا الاستعراض يتبين لنا المحاور الرئيسة للهجوم على القرآن. ويمكن لي أن أبين بشكل مختصر هذه المحاور مبديًا في الوقت نفسه بعض الآراء حول هذه الكتابات وأصحابها:

-       أولاً: محور محاولة الادعاء بأن القرآن والأصول الإسلامية الأخرى المتواجدة بين أيدينا قد خضعت لتحريف كبير: ويمثل هذا الاتجاه حاليًا كل من Gunter Luling وJames Bellamy. فالأول يتحدث عن "القدر الكبير الذي حرِّف به كل من نص القرآن والدراسة الإسلامية لأصول القرآن"، والثاني يتحدث عن سلسلة من التنقيحات التي أجراها هو بنفسه على النص القرآني، والتي نشرها في مجلة الجمعية الاستشراقية الأمريكية.

-       ثانيًا: محور محاولة استخدام الاكتشافات الأثرية كدليل حسي على اختلاف الأصول الإسلامية عن تلك المتداولة بين أيدينا حاليًا: ويمثل هذا الاتجاه حاليًا الكاتبة اليهودية Nevo Yehuda التي نشرت مقالاتها في مجلة تصدر عن مركز القدس للدراسات العربية والإسلامية اليهودي الصبغة (وهذه نقطة تستحق الانتباه والتوقف عندها لمعرفة الخلفية الحقيقية لمثل هذه الكتابات التي تنشر تحت غطاء من المعرفة العلمية والبحث العلمي المجرد)، والتي تدَّعي فيها أن نقوشًا على صخور في صحراء النقب ستثير عند نشرها مشاكل كبيرة بالنسبة للتصور الإسلامي التقليدي. كما يمثل هذا الاتجاه الرقاع اليمنية وكتابات Puin وBothmer عنها.

-       ثالثًا: محور نفي الصلة بين القرآن والأصول الإسلامية الأخرى وبين الرسول: ويمثل هذا الاتجاه الكاتبة اليهودية Patricia Crone التي نشرت مقالاتها أيضًا من خلال مركز القدس للدراسات العربية والإسلامية. هذه الكاتبة يقول Lester عنها بأنها واحدة من أكثر العلماء تهجمًا على المعتقدات الدينية. وقد قامت بالاشتراك مع Michael Cook بنشر كتاب تحت اسم الهاجرية – بناء العالم الإسلامي، والذي تدَّعي فيه بأن القرآن قد ظهر بعد فترة حياة محمد بن عبد الله وفي منطقة تقع شمال غرب الجزيرة العربية في إشارة إلى القدس، وادَّعت أن الحلم اليهودي بالمخلص قد تحقق على يد الفتوحات العربية، وادَّعت أيضًا أن فكرة الهجرة وتأسيس دولة الإسلام في المدينة قد نشأت بعد موت سيدنا محمد بزمن طويل، وأن من قام بالفتوحات العربية لم يكن يطلق عليهم اسم المسلمين أصلاً.
ويشترك في هذا المحور أيضًا، ولكن من خلفية مختلفة جدًا، مجموعة العلماء الروس السوفييت انطلاقًا من الفكر الماركسي اللينيني، إذ ادَّعى بعضهم أن الإسلام قد برز للوجود بعد الحروب الصليبية، كما ادَّعى بعضهم أن الإسلام هو حركة ناتجة عن التطور المادي للمجتمع البرجوازي التجاري في مكة والمدينة، وبعضهم قال إن الإسلام كان حركة اجتماعية دينية نشأت في مجتمع يقتني العبيد في حقبة ما قبل الإقطاع بحسب تصنيفاتهم للتطور المادي للمجتمع، وهذا تصنيف خاص وغير معروف في السلسلة اللينينية لتطور المجتمعات.
ومن الغريب أن تظهر آراء تقول إن القرآن عبارة عن كتابات قبل ظهور محمد بن عبد الله، وعلى هذا المحور يحاول
Puin أن يفسر الرقاع اليمنية. المهم لدى جميع الكتاب الغربيين هو التفريق بين القرآن ومحمد بن عبد الله، سواء بالادعاء أن القرآن وجد قبله أو بعده، أو أن محمدًا نفسه شخصية أسطورية أي لا علاقة له بالقرآن.

-       رابعًا: محور ربط منشأ الإسلام بأحد الفروع المندثرة للديانة المسيحية وهو الفرع الأريوسي: ويمثل هذا الاتجاه القسيس السوري يوسف ندرة الحداد في مؤلفه المطول القرآن دعوة نصرانية. والكتاب الذي سبق أن لخصناه للكاتب اللبناني المجهول أبو موسى الحريري بعنوان قس ونبي. ويظهر أن أصول هذين الكتابين مستقاة من الكاتب الروسي السوفيتي Morozov في كتابه المسيح الذي يقول فيه: "أنه حتى العصور الوسطى كان الإسلام مجرد فرع للآريوسية استلهم بواسطة حدث جوي وقع في منطقة البحر الأحمر قرب مكة".

-       خامسًا: محور التخلي عن النظرة التقليدية لظهور القرآن: وتتزعم هذا الاتجاه الكاتبة Patricia Crone نفسها، وتبرِّر السبب في التخلي عن النظرة التقليدية لظهور القرآن بأنها الوسيلة الوحيدة الممكنة لفهم وتوضيح المقاطع ذات الإشكالية في النص القرآني.

-       سادسًا: محور رفع القداسة عن النص القرآني: يتزعم هذا الاتجاه علماء من أصول إسلامية، وخاصة محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، فالأول يقول في كتابه الذي صدر في أوائل هذا العام تحت اسم الفكر الأصولي واستحالة التأصيل بأن النص القرآني يسحق الباحث فيه، ولكي يستطيع الباحث فهم النص فيجب عليه أولاً أن يزيل القدسية عنه. ويقول الثاني في كتابه نقد الفكر الديني بأن القرآن منتج ثقافي ويجب دراسته على هذا الأساس. وسأحاول في الفصل القادم التركيز على الرد على هذا المحور الذي يتزعمه مسلمون.

بعد أن ذكرت باختصار عناوين وملامح محاور الهجوم على القرآن يمكن لي أن اذكر فيما يلي بعض الملاحظات حول خلفية الدراسات التي تجري حاليًا في الغرب والشرق حول الإسلام بشكل عام والقرآن بشكل خاص قبل أن انتقل إلى إبداء بعض الملاحظات على الأفكار التي وردت في مقالة Lester في فصل تصحيح كلام الله.

-       الملاحظة الأولى: مما يلفت النظر أن معظم الدراسات التي ذكرها الكاتب Lester في مقالته قد صدرت عن أكثر مراكز الاستشراق عداوة للإسلام في الوقت الراهن، وهي مراكز هولندا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. ولعله من المناسب أن نتذكر أن أكثر دول أوروبا خضوعًا للتأثير الإسرائيلي هي هولندا، وسيطرة اليهود على المراكز الثقافية والإعلامية في أمريكا موضوع أصبح معروفًا ولا حاجة لإثباته. من هنا يمكن لنا أن نتعرف على الخلفية الخطيرة للدراسات الإسلامية في دوائر الاستشراق الحالية في هجومها الجديد على القرآن والأصول الإسلامية الأخرى. وهذا في رأيي استمرار لمحاربة اليهود لهذا الدين منذ أيام البعثة المحمدية الأولى. ويجب أن نتنبه إلى أن القرآن من جهته قد فضح اليهود أكثر من أي قوم أو دين آخر فالآيات الكريمة التي تتحدث عن اليهود في القرآن، سواء من حيث تبيان حقيقة نشوء اليهودية كفرع من الديانة الإسلامية التي نزلت على سيدنا إبراهيم أو من حيث تبيان حقيقة تاريخ ونشوء الشعب اليهودي ونزول الوحي وبعثة سيدنا موسى ومن ثم مسيرة الشعب اليهودي وقتله للأنبياء ومحاولة قتل سيدنا عيسى وصولاً إلى يهود يثرب وما فعلوه بسيدنا محمد في الأيام الأولى لبناء الدولة المسلمة في المدينة، أقول إن آيات القرآن هذه تكاد تصل إلى عشر القرآن الكريم، وهي تمثِّل أكبر مجموعة في القرآن بعد المجموعة الإيمانية. لهذا فليس من المستغرب أن يقوم اليهود بالهجوم الجديد على القرآن لتحقيق هدفين مزدوجين في وقت واحد: الأول زعزعة العقيدة الإسلامية من أساسها أملاً في أن يتمكنوا من نزع الإسلام نهائيًا من الأرض، والثاني إزالة مرجعية النص السماوي الذي يفضح ديانتهم المحرفة وأخلاقهم وتصرفاتهم تجاه أبناء العالم غير اليهود "الغونيم" وتجاه الأنبياء والمصلحين من اليهود أنفسهم، وجعلها مرجعية بشرية من جهة مجهولة.

-       الملاحظة الثانية: استشهد الكاتب Lester أيضًا بآراء المستشرقين الروس السوفييت في الحقبة السوفيتية التي اندثرت. وفي الواقع أن التأثير اليهودي ليس ببعيد عن مجريات الأحداث الثقافية والفكرية في روسيا السوفيتية، فمن المعلوم أن غالبية أعضاء المجلس الأعلى للعلوم والثقافة السوفيتي هم من اليهود على مر السنوات السبعين للحكم السوفيتي، ومن جهة أخرى نجد أن العداء التاريخي بين الإمبراطورية الروسية والإسلام المتمثل بالإمبراطورية العثمانية ومجموعات المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى كان وما زال مسيطرًا على العقلية الروسية في التعامل مع الإسلام. هذه العقلية التي نشاهد آثارها السياسية والعسكرية في كوسوفو والشيشان. وحاليًا فإن النشاط الاستشراقي الروسي غير واضح وذلك نتيجة للفوضى الاقتصادية والسياسية بعد زوال الاتحاد السوفيتي. إلا أنه يجب أن ننتبه إلى أمر خطير ألا وهو أن معظم المسيحيين في سوريا والأردن وفلسطين يتبعون الكنيسة الشرقية التي مركزها موسكو، وفي الحقبة السابقة حاولت الدولة السورية اعتبار كرسي إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس، الذي مقره دمشق، بديلاً عن كرسي روسيا وسائر الكنائس الشرقية مما أوجد نوعًا من المرونة والتفهم في فكر وتصرف مسيحي سوريا تجاه الغالبية المسلمة لا يعكس، ظاهرًا على الأقل، أفكار وتصرفات الأرثوذوكس الروس والأوربيون. إلا أن زوال الفكر اللينيني وسيطرته على الكنيسة الروسية سيعيد قريبًا جدًا ربط مسيحي الشرق العربي بالكنيسة الروسية، وبالتالي فلنا أن نتوقع وصول أفكار الاستشراق الروسي ومواقفه من الفكر الإسلامي ونموذج تصرفاته تجاه المسلمين إلى عقر دارنا مباشرة مستخدمًا لغتنا العربية ومستعملاً وسائل إعلامنا نحن.

-       الملاحظة الثالثة: إن الكاتب Lester بعد أن سرد كافة آراء المستشرقين وجد نفسه مضطرًا إلى الاعتراف بأن هذه الآراء لا تنبع عن دافع علمي حقيقي أو بحث علمي مجرد ولكنها آراء تدفعها المصالح السياسية للقوى الغربية وتراكمات الصراع الفكري والديني بين المسلمين والمسيحيين، فقال: "لا يوافق الجميع على هذه الآراء خاصة لأن الدراسات الغربية التقليدية للقرآن قد بدأت في جو من العداء السافر بين المسيحية والإسلام، وأن الحركة الاستشراقية قد أصبحت في السنوات الأخيرة عرضة للهجوم بسبب عرضها لنزعات مماثلة من العداء". إلا أنه لم يستطع أن يستمر في شرح خلفية الاستشراق واكتفى بالاستعانة بنص لكاتب إيراني مسلم هو بارويز منصور عن الاستشراق يعبر بصورة رائعة عن موقف واضح من الاستشراق وأهدافه. هذه المواقف من الاستشراق والدراسات الإسلامية يجب أن تعمق وتشرح للغربيين فإنه ما يزال يوجد في بعضهم استعداد لتقبل الحقيقة والعمل بها إن هي عرضت لهم على طريقتهم العقلية التحليلية.

بعد أن بينت بشكل موجز خلفيات الاستشراق سأقوم بإبداء بعض الملاحظات على الأفكار الواردة في هذا الفصل.

تقول الكاتبة Yehuda Nevo إن هناك

أحجارًا عليها كتابات تعود للقرنين السابع والثامن الميلادي يمكن أن تثير مشاكل كبيرة بالنسبة إلى التصور التقليدي عن تاريخ الإسلام.

إنني أتساءل لماذا لم تنشر هذه الكتابات خاصة وأنها موجودة في النقب في فلسطين المحتلة ومكتشفة منذ أكثر من عشر سنوات، والدولة العبرية لا تخشى من غضب الشارع الإسلامي كما يقال عن دولة اليمن بالنسبة إلى الرقاع اليمنية. مثل هذا الاكتشاف الكفيل بزعزعة وضرب أساس العقيدة الإسلامية هو أفضل سلاح يمكن أن تستخدمه إسرائيل للتخلص من عدوها الرئيسي الإسلام؟ وأنا أتساءل لماذا ما زالت هذه الاكتشافات ومثيلتها الرقاع اليمنية حصرًا على نخبة النخبة في العالم في وقت عصر المعلومات؟

تقول الكاتبة Patricia Crone:

إن توضيح المقاطع ذات الإشكالية في النص القرآني ربما يكون ذلك ممكنًا فقط بالتخلي عن النظرة التقليدية لكيفية ظهور (ولادة) القرآن.

إنني أتساءل أولاً عن ماهية المقاطع ذات الإشكالية في القرآن: هل هي صفات الله، أم خلق الكون ومن ثم آدم، أم المصير يوم البعث، أم أنها أشياء أخرى تدور في خلد المستشرقين كالكلمات الغريبة في القرآن التي يحاولون ربطها بكتابات سابقة أو تنقيحات لاحقة. إنني أتساءل ثانيًا إذا ما تخلينا عن النظرة التقليدية لكيفية ظهور القرآن، أي عن طريق الوحي الإلهي لسيدنا محمد، فما هو البديل العلمي المنطقي والمدعوم بدليل مادي علمي لا دافع له والذي تتصوره السيدة Crone الذي يعطينا التصور الحقيقي لظهور القرآن؟ وأتساءل أخيرًا لو أننا صدَّقنا السيدة Crone وتخلينا عن فكرة أن القرآن قد ظهر عن طريق الوحي فهل سنتمكن من توضيح المقاطع ذات الإشكالية في النص القرآني على حد تعبير Crone؟ ما أتصوره أننا إذا ما تخلينا عن فكرة ظهور القرآن التقليدية بالوحي فإننا سنجد أمامنا نصًا لا صاحب له، فنحن نزعنا عنه صفة الألوهية. ومحمد بن عبد الله بحسب أقواله وبحسب النص القرآني نفسه ليس هو بكاتب أو مؤلف القرآن، فمن أين جاء القرآن إذًا؟ هل هو مجموعة من بقايا الكتابات الأريوسية المسيحية أم أنه تأليف رجال دين بتأثير من تجار التوابل وتأثير نظام مجتمع العبيد مجتمع ما قبل الإقطاع؟ أقول إنه بمجرد اعتبار الطريقة التقليدية لظهور القرآن لاغية فالنتيجة الحتمية هي انهيار قدسية القرآن وتحوله إلى كتاب عادي لا أهمية علمية أو تاريخية له، ويصبح تاريخ وعمل وجهاد المسلمين عبر أربعة عشر قرنًا سعيًا وراء وهم لا معنى له. وهذا في رأي الهدف المخفي من دعوة السيدة Crone. أليس هذا هو ما عبَّر عنه Stephen Humphreys والذي أشرنا إليه في أول هذا الفصل. إلا أن الغريب أن الكتاب المسلمين من أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون يتبعون السيدة Crone في آرائها وينطلقون من هذه النقطة بالذات أي نقطة نزع القداسة عن النص القرآني واعتباره نصًا ومنتجًا ثقافيًا حتى يتمكن الباحثون من دراسته مع إبقائهم على فكرة أن مصدر القرآن هو من عند الله وهذا نوع من النفاق العلمي.

ترك الكاتب موضوعًا هامًا بشكل مبهم، وهو موضوع التنقيحات التي أدخلها السيد Bellamy على القرآن، فلم يشر إلى نوعية التنقيحات: هل هي في الشكل، أي ما يعرف بالرسم العثماني، أم تنقيحات في الكتابة الحديثة بعد إدخال التنقيط والحركات والاختلافات الموجودة نتيجة لذلك بين القراءات القرآنية العشر المتواترة أو في غيرها من القراءات المندثرة التي يحلو للمستشرقين الأوائل النبش فيها عسى أن تقدم لهم يد المساعدة في زعزعة القرآن، أم أن هذه التنقيحات هي في إدخال آيات مزعومة على النص القرآني موجودة في كتب التفسير القديمة كالطبري وقصة الغراديق مثلاً؟ ومن الممكن، وهو الأخطر، أن تكون هذه التنقيحات هي في تغيير مكان ورود الآيات ضمن السورة نفسها أو بين السور الأخرى أو تغيير في صياغة بعض الآيات.

في موضوع تأريخ القرآن نلاحظ أن مجمل الكتاب يحاولون وضع تاريخ للقرآن وذلك لنسف أساسه الإلهي كما سبق وأشرنا، ولكن لا أحد منهم يستطيع إثبات وجود هذا التاريخ، فالكاتبة Patricia Crone، التي وصفها الكاتب Lester بأنها أحد أكثر العلماء تهجمًا على المعتقدات الدينية، تقول في كتابها عبيد على ظهور الخيل:

إن القرآن نزل إلينا ملفوفًا بإحكام في تقليد تاريخي منيع تمامًا على النقد والتحليل.

وتقول في مكان آخر:

إن القرآن كتاب له تاريخ مثل أي نص آخر – إلا أننا لا نعرف هذا التاريخ.

هل في هذا التصريح من شخص معروف بعدائه للمعتقدات الدينية إلا شهادة فشل في إثبات تاريخ للقرآن أي إثبات بشرية القرآن بعد كل هذا الجهد الهائل المبذول على مدار القرنين الماضيين من قبل دوائر الاستشراق ومراكز البحث الغربي المسيحي والعلماني؟! ومع ذلك تبقى هذه الكاتبة، ومعها كافة الدوائر الاستشراقية والغربية، مصرة على البحث لإثبات وجود تاريخ للقرآن. وتبقى كافة محاولاتهم رهينة عدم إيمانهم بأن القرآن كلام الله، فلو اعتقدوا، ولو للحظة، بأن القرآن كلام الله لانقلبوا مسلمين موحدين كما حدث مع البعض منهم، ولعل روجيه غارودي يعتبر مثلاً على ذلك.

مشكلتنا مع الكتاب الغربيين المسيحيين في دراسة القرآن هي أنهم يدرسون نصًا لا يعترفون أساسًا بصلته بمؤلفه (أي الله)، وهم بذلك قد وضعوا أنفسهم مباشرة في مواجهة المسلمين قبل أن يبدءوا في قراءة ودرس أول حرف فيه، لأنهم لو اعترفوا بهذه الصلة لأسلموا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن للإنجيل تاريخ يعترف بوجوده كل القساوسة والرهبان والمرجعيات الدينية المسيحية مع بعض الاستثناءات كالتي حاول الكاتب Lester الإشارة إليها باقتباس قول العالم الإنجيلي John William Burgon في القرن التاسع عشر، والذي إعتبر الإنجيل وحيًا شفهيًا من الله. لذلك فإنه يصعب على الكتاب المسيحيين تصور أن يكون القرآن مختلفًا في نشأته عن الكتاب المقدس.

مهزلة مروعة A Macabre Farce

يشرح الكاتب Lester في هذا الفصل معاناة الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد في إشارة إلى مدى حساسية الإقتراب من مواضيع تمس أصل القرآن ومحاولة وضع تاريخ له ومحاولة إخضاعه للتقنيات الحديثة للنقد التاريخي والنصي الأدبي. ولم يشر الكاتب مطلقًا إلى فحوى الدراسات التي قام بها أبو زيد وأركون وأمثالهم، والدور الذي يقومون فيه باعتبارهم مسلمون وموجودون في مراكز أكاديمية عالية متخصصة في الدراسات الإسلامية. وقد ترك الكاتب هذه النقطة إلى آخر مقالته في الفصل المعنون حركة المراجعة النقدية داخل العالم الإسلامي Revisionism Inside the Islamic World. وأحب أن اذكر بعض الملاحظات السريعة حول دور المفكرين المسلمين تاركًا التوسع إلى نهاية المقال عند دراسة الفصل المعنون أعلاه.

إن نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وأمثالهم من الكتاب المسلمين قد تأثروا بأسس النقد الفكري الغربي، وأحبوا أن يطبقوه على القرآن كما طبقه المسيحيون على الإنجيل. إلا أنني أستغرب كيف أن شخصيات علمية مسلمة مثلهم تفكر في تطبيق نفس الأسس والمناهج على نصين مختلفين في طريقة الإنشاء؛ فالإنجيل كما قلنا سابقًا يعترف أهله قبل المسلمين بأنه قد كتب بعد رفع سيدنا المسيح إلى السماء من قبل عدد من أتباعه، فجاء كما نعلم على عدة نسخ تحتوي تباينًا واضحًا فيما بينها لغويًا وفي بعض الأماكن تباينًا عقائديًا، وقامت المجامع الكنسية المتعاقبة خلال القرون الثلاثة الأولى بمنع تداول عدد من الأناجيل كإنجيل برنابا والإنجيل بحسب العبرانيين وأدخلت تعديلات عدة على الصياغة الرسمية للأناجيل الأربعة المعتمدة. أما القرآن فلم يتعرض لمثل هذه المواضيع تاريخيًا وتم حفظه في الصدور وتم تدارسه سنويًا بين الرسول والملك جبريل كي يتم ضبطه، وأصبح حفظ القرآن وتلاوته جزءًا من التعبد الإسلامي. ومع ذلك يصر هؤلاء الكتاب المسلمون على تطبيق نفس الأسس النقدية على القرآن. هل هذا قصور علمي فكري لديهم أم إنبهار شديد بالثقافة الغربية المسيحية جعلهم ينقادون وراءها بدون تفكير أم شيء آخر أدهى وأمر؟!

ظاهر القول عند معظم الكتاب والمفكرين المسلمين ذوي نزعة الحداثة أنهم يدعون بأن كتاباتهم وهدف أبحاثهم هو رفع مستوى الفكر الإسلامي إلى المستوى العالمي واستخلاص طاقات جديدة في الفكر الإسلامي تساعده على الانطلاق عالميًا في زحمة الأفكار والنظريات والتحديات الجديدة العالمية وفي زمن العولمة والحرية والديمقراطية والانفتاح الفكري. وأنهم بعملهم هذا يساعدون المسلمين على رفع مستوى الإسلام وجعله قابلاً للتطبيق بشكل جديد مع الإبقاء على روحه.

الملفت للنظر أن قسمًا من هؤلاء الكتاب المسلمون ذوو نزعة الحداثة يستخدمون وسائل فكرية على غاية من الخطورة، فهم يعتمدون وسيلة الهدم من أجل إعادة البناء، وتتجلى هذه الوسيلة أوضح ما تتجلى عند دراسة القرآن الكريم بالدعوة إلى نزع القداسة عن النص القرآني في سبيل اكتشاف معانيه السامية وإطلاق روحه الخلاقة من جديد. فأبو زيد يقول في كتابه أصول النقد الفكري في الإسلام: "إن القرآن نص أدبي والطريقة الوحيدة لفهمه وتفسيره وتحليله تكون من خلال أسلوب أدبي". ويقول في مكان آخر من كتابه نقد النص: "إن القرآن منتج ثقافي..."، وفي هذا هدم لأساس مرجعية النص القرآني ومصدره. محمد أركون في المقابل كان أكثر صراحة، ولعل السبب في أنه يكتب من باريس وباللغة الفرنسية. قال في كتابه الأخير الصادر هذا العام بعنوان الأصولية الإسلامية واستحالة التأصيل: "إن النص القرآني يسحق الباحث فيه بسبب قدسيته، ولكي يتمكن الباحث من تفسير النص وتحليله فعليه أولاً أن يزيل القدسية عنه". كلام في منتهى الوضوح ولا يمكن تفسيره إلا بأنه يسحب اعتبار النص القرآني كلام الله المقدس.

إنني أتساءل هل إذا ما قمنا نحن المسلمون عبر مفكرينا المسلمين طواعية بهدم الأسس والمرتكزات الأساسية للإسلام في سبيل أن ندرسه ونحلله ونفهمه كي نستخلص منه حقيقته السامية وحيويته المتجددة التي ستساعدنا على الارتقاء، أقول: هل نستطيع بعدها أن نعيد للقرآن مكانته المقدسة السابقة أم عندها سنكتفي بالقول إن هذا المنتج الثقافي والنص الأدبي هو قطعة فنية رائعة وكفى كما نقول حاليًا عن ديوان المتنبي وكتاب كليلة ودمنة، وكما يقول الإنكليز عن مجموعة شعر شكسبير، والألمان عن غوته والفرنسيين عن فولتير؟

إنني أعتقد أن مجموعة الكتاب المسلمين الذين نتحدث عنهم قد وقعوا في فخ علمي تم نصبه ببراعة من قبل دوائر الاستشراق فقاموا بنزع القداسة عن القرآن، سواء باعتباره منتجًا ثقافيًا كما فعل أبو زيد أو بنزعها صراحة كما فعل أركون، ومن ثم لم يستطيعوا أن يقدموا الدراسة والتحليل الذي يعيد الحيوية للفكر الإسلامي كما ادعوا. وفي الحقيقة فقد قاموا فقط بإعطاء الذريعة لعلماء الاستشراق أن يدعوا أن علماء مسلمين متخصصين في الدراسات الإسلامية قد نزعوا القداسة عن القرآن بصورة أو بأخرى، فلماذا أيها المسلمون تثورون علينا نحن الغربيون المسيحيون إذا ما بحثنا في أسس القرآن وتاريخه وأصله.

محمد في الغار Mohammed in the Cave

يحاول الكاتب Lester في هذا الفصل أن يعطي فكرة عن حياة سيدنا محمد في مكة قبل البعثة، وتعبُّده في غار حراء، ونزول الوحي عليه، وحياته في مكة ومن ثم هجرته إلى المدينة وإنشائه الدولة الإسلامية الأولى، ويعطي فكرة عن جمع القرآن من قبل الخليفة عثمان بن عفان، ومن ثم يعطي فكرة عن نشوء علم الحديث وعلوم السنة والسيرة والتفسير.

هذه الفقرة من مقالة الكاتب لا تحتاج إلى تعليق فهي موجهة أصلاً إلى الغربيين الذين يجهلون تمامًا التاريخ الأول للإسلام، كما أن هذه الفقرة بصورة عامة لا تحتوي على أية معلومات مضللة أو مدسوسة.

لقوم يعقلون For People Who Understand

يحاول الكاتب Lester في هذا الفصل أن يعطي صورة عن القرآن الكريم للقراء الغربيين من حيث الحجم والترتيب والعقائد والقصص الواردة فيه وتشابهها مع عقائد وقصص الإنجيل مع الإشارة إلى بعض الأنبياء العرب الذين لم يرد ذكرهم في الإنجيل أو ورد بصورة مختصرة. ومن ثم ينتقل إلى شرح أسلوب القرآن اللغوي وإلى صعوبة فهم القرآن وإلى وجود تناقضات فيه. ويختتم هذا الفصل بموضوع خلق القرآن وإعجازه وقدسيته.

وفيما يلي بعض الملاحظات على بعض ما جاء في هذا الفصل:

-       يلمح الكاتب إلى أن القرآن يصعب فهمه للقراء المعاصرين من ذوي الثقافات العالية حتى من بين العرب أنفسهم. والسبب في رأيي ليس صعوبة النص القرآني بل هو في عدم فهم الأجانب المتعلمين للغة العربية بدقائقها ومعانيها. أما العرب المتثقفين بالثقافة العالية فهم في معظمهم مثقفون على الطريقة الغربية وباللغات الغربية. أليس من المستغرب أن معظم حملة الدكتوراه في اللغة العربية في القرن العشرين هم من خريجي الجامعات الغربية، وفي طه حسين مثال واضح. أما عامة المثقفين العرب فهم في الواقع بعيدون عن اللغة العربية الفصحى رغمًا عن استعمالهم اليومي لها.

-       أسلوب القرآن الفريد والمميز والتغيرات المفاجئة في الأسلوب في الآية الواحدة ينظر إليها الكاتب ومعه معظم الكتاب الغربيون ومن يتبعهم من الكتاب العرب والمسلمون على أنه "نتيجة منطقية لشيء نشأ في بيئة تعتمد على المشافهة"، فهم يحيلون بالتالي الأسلوب المتميز للقرآن إلى مشاكل في النقل الشفهي من المصدر الأساسي إلى المدونة الرسمية عبر عدد من الأشخاص، بمعنى أن النص المدون حاليًا ليس هو النص الذي قاله محمد بن عبد الله. الكتاب الغربيون ومن يتبع أسلوبهم من العرب والمسلمين لا يستطيعون تصور مجتمع اعتمد في نقل جميع تراثه على المشافهة، ابتداء من نقل الأشعار والمعلقات مرورًا بنقل القصص والتاريخ وانتهاء بنقل الحديث والقرآن، وذلك لسببين: الأول أن هذا الأسلوب فريد من نوعه ولم يعلم عند الأقوام الأخرى تاريخيًا، والسبب الثاني أن هذا الأسلوب قد زال عمليًا من الوجود عند العرب وبالتالي يصعب تصور وجوده سابقًا عند من لا يؤمنون إلا بالتجربة والمشاهدة الحسية المباشرة.
وكما قلنا سابقًا فإن وصول القرآن إلينا عن طريق عشرات السلاسل الذهبية من الحفاظ بدون اختلاف أو تعارض دليل واضح على أن القرآن قد نقل بدون أدنى تعديل أو تبديل.

-       يشير الكاتب إلى أنه من السهولة العثور على تناقضات واضحة في القرآن، ويضرب على ذلك مثلين: الأول في تغيير الضمائر المشيرة إلى الذات الإلهية بين ضمير المتكلم وضمير الغائب في الآية الواحدة، والثاني في تناقض الأحكام وتغيرها وفي ما يعرف بالناسخ والمنسوخ.
في الموضوع الأول فإن تغيير الضمائر هو جزء من الأسلوب القرآني المعجز، فهذا التغيير يسبب حركة في النص وتناغمًا وتفاعلاً بين الله المخاطب بعظمة وجلال في عرشه العالي وبين الله القريب الرحيم المخاطب بضمير المتكلم، وهذه نقطة بالغة الدقة في اللغة العربية يصعب فهمها على الأجانب وعلى العرب البعيدين عن لغتهم الصحيحة، وبالتالي فقد تحولت هذه البلاغة الرائعة على يد هؤلاء الأعاجم والمستعجمين إلى مثلبة ونقطة ضعف يحاولون العبور منها إلى مصداقية القرآن الكريم.
أما موضوع الناسخ والمنسوخ وقول المؤلف بأن الآية الكريمة "يمحو الله ما يشاء ويثبت" هي موجودة فقط لتبرير أي تعارض أو تناقض بين آيات القرآن، فهذا قول فيه تجن على الحقيقة من جهة وعدم فهم لتطور الأحكام العملية في حياة المجتمع أثناء فترات الانتقال الكبرى والجذرية. فالمتتبع للآيات المنسوخة يشاهد أنها في مجملها تقع ضمن فئة الآيات المتعلقة بأحكام تتطلب التدرج بحسب السوية الإيمانية للمجتمع مثل تحريم الخمر وحكم مرتكب الزنا وعلاقة الفرد والمجتمع مع الأفراد والمجتمعات غير المسلمة. ولا نجد مثلاً آيات منسوخة في أصل العقيدة أو في العبادات كما لا نجدها في القصص القرآني. فلو كان سبب التناقضات التي يراها المؤلف ناتجًا عن عملية النقل بالمشافهة لوجدنا اختلافًا في مجمل المواضيع ومن بينها القصص القرآني فقصة سيدنا موسى وبنو إسرائيل وقصة سيدنا عيسى عليهما السلام موزعة في عشرات السور ونزلت عبر عقدين من الزمن، ومع ذلك فإننا لا نجد فيها أي تناقض.
وعلى كل حال فإن موضوع الناسخ والمنسوخ موضوع مستفيض لا أستطيع شخصيًا الخوض في جوانبه المتعددة لمعرفتي السطحية به ولمن أراد الاستزادة فهناك عدد كبير من المؤلفات الحديثة والقديمة تشرح بالتفصيل الآيات المنسوخة والآيات الناسخة لها.

-       تطرق الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى موضوع خلق القرآن والخلافات والجدل العقائدي الكبير بين من يعتقدون بأن القرآن هو كلام الله غير المخلوق وبين من يعتقدون بأنه مخلوق مثل أي شيء آخر سوى الله، وما تبع ذلك من إقرار رسمي من المؤسسات الدينية والسياسية، باستثناء المؤسسات الشيعية، بأن القرآن غير مخلوق، بمعنى أنه وجد مع وجود الذات الإلهية.
موضوع خلق القرآن يصعب علي إعادة فتح ومناقشة ملفه الآن وذلك لحساسية الموضوع من جهة ولأنه أعطى بعدًا عقائديًا من جهة أخرى، فمن يحاول إعادة التفكير والقول بأن القرآن كلام الله المحدث الذي خلقه الله في كل مناسبة احتاجت كلامه يتعرض مباشرة إلى تهمة تصل إلى حد التكفير والخروج عن الملة. ولإخواننا الشيعة رأي جميل في هذا الموضوع فهم يقولون بأن رأي أهل السنة وأهل الاعتزال كلاهما على خطأ فهما قد خاضا معركة على لا شيء فكلام الله مثل أفعاله الأخرى لا اختلاف في صفاتها ولا فرق في طبيعتها والله لم يخبرنا أو يطلعنا على كيفية فعله لأي فعل من أفعاله ولم يخبرنا هل أفعاله وجدت معه لحظة أن وجد أم أنه يخلقها حين يشاء ومتى شاء وأينما شاء؟ فالله القادر على كل شيء يستطيع أن يقول ويفعل ما يشاء أنى شاء ولا نستطيع أن نصادر قدرته ومشيئته ونقول بأنه قد قال القرآن لحظة أن وجد منذ قديم الأزل ولم يغير به شيئًا أثناء التنزيل على عبده ورسوله، كما أنه لا يحق لنا أن نصادر معرفة الله المطلقة فنقول بأنه لم يعرف كل شيء من لحظة الأزل بما فيها تصرفات العباد في كل لحظة بما فيها لحظات التنزيل وما يجب أن يقال لهم وينزل لهم ما يناسبهم من القرآن.
وعلى كل حال فهذا نقاش صعب ومعقد ولم يحسم فكريًا بل حسم سياسيًا وبالقوة وبالبطش السلطوي السياسي.
ما يهمني حاليًا أن ألمِّح إليه هو أن نهاية فترة المعتزلة أنهت معها مرحلة الدراسة العقلية للقرآن وللمصادر الإسلامية الأخرى ولم يظهر بعد ذلك مذهبًا عقليًا آخر. والآن ومع سيطرة المنهجية العقلية الغربية على أنماط التفكير والبحث والداعية إلى اعتماد هذه المنهجية في كل مناحي الحياة وتطبيقها على العقائد وأسسها ومنطلقاتها وبعد أن طبقت هذه الأسس على الديانة المسيحية والإنجيل بشكل موسع فإنه لا بد من أن يقوم الغرب المسيحي بتطبيق واعتماد نفس الأسس والمناهج على الإسلام والقرآن. وبالتالي فلا بد للمسلمين من تجهيز أنفسهم وشحذ معارفهم العلمية والعقلية للدفاع عن دينهم ومعتقداتهم ولإفهام العالم بأن القرآن والإسلام هما من عند الله ويجب أن نكون متيقنين بأن القرآن مهما خضع لمناهج نقدية أو معايير علمية فإن النتيجة ستكون إثباتًا إضافيًا على أنه الحق من عند الحق، وهذا لن يتم إلا إذا كنا حاضرين وفاعلين عند إخضاع القرآن لعمليات النقد والدراسة والتمحيص، وأن لا نترك الساحة خالية كي يستغلها أعداء الإسلام فيتقولون ما يشاءون.
هذه المناهج والوسائل العقلية كان المعتزلة سباقون قبل ألف ومائتي سنة إلى امتلاك أسسها وبداياتها والآن علينا أن نفتش عن منهجية علمية جديدة تكون مساعدة لنا وداعمة لمواقفنا الفكرية واعتقاداتنا المستندة على القرآن والحديث وبدون التفكير في إحياء فكر المعتزلة ففي هذا الإحياء إحياء مماثل وبقوة أكبر للاتجاهات المناقضة له والرافضة للاتجاهات والمناهج العقلية وبالتالي إلى إعادة إحياء معركة خلق القرآن من جديد وما سيتبع ذلك من تفريق للأمة من جديد في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة ونحن نخوض المواجهة العلمية مع أعداء الإسلام.

التخريب من مريض نفسي Psychopathic Vandalism

يحاول الكاتب Lester في هذا الفصل أن يعرض أفكار بعض البحاثة الغربيين المتخصصين في نقد الفكر الإسلامي وعلى رأسهم الألماني Puin الباحث في الأوراق اليمنية، واليهودية Crone، والإنكليزي Wansbrough الأستاذ في جامعة لندن قسم الدراسات الشرقية والأفريقية، حيث يجب (كما عبر الكاتب Lester) على كل من يتصدى لموضوع الدراسات الإسلامية والقرآنية أن يلم بكتاباته وأن يتصارع مع الأفكار الواردة فيها.

وفيما يلي أحاول أن أوضح بعض الملاحظات حول المحاور الرئيسية لتفكير هؤلاء الكتاب:

يدَّعي Puin أن النص القرآني غير واضح، وأن كل خامس جملة أو ما يقرب من ذلك ليس لها معنى. وقد شرحنا سابقًا رأينا في مدى فهم الغربيين للغة العربية الفصحى الراقية ولا داعي للتكرار. ولكن الغريب أن Puin يقول بأن كثيرًا من المستشرقين لا يشاطرونه الرأي، فمن أين جاء بهذا الاستنتاج إذًا وهو الخبير في الخطوط العربية من الناحية التزينية والتاريخية وليس خبيرًا في اللغة العربية. أما موضوع ترجمة القرآن فليس التخوف من الترجمة مرجعه عدم وضوح النص الأصلي بل هو الرغبة في إبقاء الأمة مجتمعة على نص واحد والتخوف من أن تتفرق الأمة في فهمها للإسلام بحسب النص المترجم فيصبح لكل أمة فهمها المنطلق من النص المترجم للغتها.

تدَّعي Crone بأنه يجب على الباحثين في القرآن وأصله أن يطرحوا افتراضات المسلمين حول أصل القرآن ومعانيه وأن يبدءوا من جديد. كيف ستكون البداية، لا أحد يجيب، حتى Crone تجد نفسها مضطرة لأن تقول في أحد أسوء كتبها مهاجمة للقرآن بأن "القرآن نزل إلينا ملفوفًا بإحكام في تقليد تاريخي منيع تمامًا على النقد والتحليل".

المهم من وجه نظر هؤلاء المفكرين هو نزع القداسة عن القرآن وإخضاعه لقواعد النقد الأدبي باعتباره منتجًا أدبيًا بشريًا وقطع صلته بمصدره الذي يعتقد به المسلمون وهو الله عز وجل.

هذا المنحى هو القاسم المشترك بين كل من Puin، Crone، Wansbroug وأمثالهم من الغربيين وبين أبو زيد وأركون وأمثالهم من الكتاب المسلمين. هذا القاسم المشترك هو الذي يثير في نفسي إشارات من الإستفهام حول النوايا الحقيقية للكتاب المسلمين في طروحاتهم الجديدة على الرغم من قناعتي بأن الواجب على المسلمين وعلمائهم أن يباشروا وبسرعة في الدراسة النقدية العلمية المستندة على المعطيات الحديثة للعلوم الاجتماعية ولكن بمنطلق وخلفية إيمانية واضحة.

تقول Crone أيضًا

بأن التراث الإسلامي لم يكن نتيجة تبلور بطيء ولكن نتيجة انفجار لذلك فإن الجامعون الأوائل لهذا التراث لم يكونوا منقحين ولكن جامعي حطام وبالتالي كانت أعمالهم خالية من أي وحدة شاملة ولا تنتج أية إضاءات خاصة من مقارنتها.

هذا تلميح خبيث إلى ضرورة عدم الأخذ بالتراث الإسلامي لأنه نتاج قرني الفتوحات الإسلامية العظمى الأولى. وإننا نجد صدى هذه الأفكار الصادرة عن هذه الكاتبة اليهودية في الدعوات المتسارعة في هذه الأيام من كتاب من أصول مسلمة وعربية والتي يرددون فيها مقولة أن التراث الإسلامي مشكوك في كاتبيه ومشكوك في طريقة وصوله إلينا وأنه لم يصمد أمام التحريف والتزوير في عصر ما قبل التدوين أي في القرنين الأولين.

ولعل في معركة الحديث والتشكيك الهائل حول مصادره وصحة رواته نموذجًا واقعيًا لصدى الأفكار المطروحة من قبل اليهودية Crone.

يقدم Wansbrough  في كتابيه الأساسين حول القرآن والإسلام: الدراسات القرآنية: مصادر ومناهج تفسير النصوص، والبيئة المذهبية: محتوى وتركيب تاريخ الخلاص الإسلامي نظرية مفادها أن

القرآن قد تطور بشكل متدرج خلال القرنين السابع والثامن الميلادي عبر فترة طويلة من النقل الشفهي في مكة والمدينة خلال فترة المشاحنات الدينية المسيحية اليهودية الجارية إلى الشمال في سوريا والعراق.

وخلص إلى

أن السبب في عدم بقاء مصدر مادي إسلامي من القرن الأول الهجري يعود ببساطة إلى أن القرآن لم يكن موجودًا أصلاً في تلك الحقبة.

يقول الكاتب Lester إن على كل من يود الكتابة في مواضيع القرآن والتراث الإسلامي أن يمر عبر كتابات Wansbrough وأن يتجابه معها.

هذه الآراء انتشرت بسرعة كالوباء في أوساط الغربيين، على حد تعبير Lester، ذلك أنها تقدم أفضل وسيلة حاليًا لتحطيم الإسلام إذ أنها تقطع صلة القرآن بمحمد وبالتالي بالوحي ومن ثم بالله. فالقرآن بكل بساطة (في رأيه) مزيف وموضوع. وهذا أفضل سلاح يمكن أن يركز عليه الغربيون والمستشرقون الجدد هجومهم على الإسلام، فلم يعد هناك من داع لمماحكات إثبات صلة محمد بن عبد الله بالمسيحية الأريوسية ومحاولة إثبات وجود مسيحي منظم في مكة بشكل أسقفية كنسية، ولا حاجة لهم لمحاولة إثبات وجود مصاحف أخرى مختلفة عن مصحف عثمان أحرقها عثمان بالقوة مثل مصحف ابن مسعود زال بزوالها آيات كثيرة وأحكام ومواضيع شتى، كما أنه لم تعد من حاجة لإثبات ما إذا كان محمدًا رسولاً أم لا، ذلك أن Wansbrough قدم لهم الأساس المدعوم بترسانة علوم النقد الأدبي الحديث التي طبقت خلال مائة سنة على الإنجيل والذي استنتج بها أن القرآن وجد بعد مائة سنة ونيف على الزمن المفترض إسلاميًا أنه زمن التنزيل - زمن محمد بن عبد الله.

عند تثبيت هذه النظرية يكون الإستشراق قد حقق هدفه ليس في زعزعة الإسلام بل في تحطيمه إلى الأبد.

لعل أفضل ما يمكن التعبير به عن آراء Wansbrough هو مقالة الكاتب الإيراني منصور بارويز الذي قال عن هذه الكتابات بأنها "انفعالات تخريبية من مريض نفسي" تكشف عن "عري القوة".

حركة المراجعة النقدية داخل العالم الإسلامي Revisionism inside the Islamic World

يستعرض الكاتب Lester في هذا الفصل أسماء ومواقف عدد من المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث الذين قدموا مساهمات في حركة النقد الإسلامي من داخل المجتمع الإسلامي، ومنهم بحسب التطور الزمني الشيخ المصري محمد عبده والدكتور المصري طه حسين والمفكر المصري أحمد أمين والكاتب الإيراني علي دشتي والعالم الباكستاني فضل الرحمن والدكتور الجزائري محمد أركون والدكتور المصري نصر حامد أبو زيد.

هناك بعض الملاحظات على مسيرة وتصرفات بعض المفكرين المذكورين في هذا الفصل:

هل من قبيل المصادفة أن تكون أفكار طه حسين في عشرينيات هذا القرن حول تاريخ كتابة الشعر الجاهلي ومصداقية مصدره عبر النقل الشفهي هي مقدمة لطرح أفكار Wansbrough في سبعينيات هذا القرن حول تاريخ كتابة القرآن ومصداقية مصدره عبر النقل الشفهي؟ أليس غريبًا أن يدَّعي طه حسين أن الشعر العربي كتب في أوائل العصر العباسي، وأن يقول Wansbrough إن القرآن كتب في وقت قريب من ذلك أي حوالي منتصف القرن الثاني الهجري؟

الملفت للنظر أيضًا أن المفكرين الإسلاميين الذين حاولوا إعادة بعث التفكير الإسلامي العقلي من أمثال الشيخ محمد عبده وأحمد أمين وفضل الرحمن لم يجدوا أمامهم من سبيل إلا إحياء فكر الاعتزال مع علمهم الأكيد بأنهم سيجابهون بعداء عنيف كما سبق وأن أشرت إليه سابقًا.

يلاحظ المتتبع لأقوال وتصريحات الكتاب المسلمين المحدثين أن أهدافهم المعلنة هي العمل على نهضة إسلامية شاملة مستندة على فهم صحيح وواضح للدين ومقوماته الأساسية القرآن والحديث، وأن أساليبهم هي أساليب حديثة ومعاصرة مستمدة من الوسائل العلمية والفكرية المنتشرة حديثًا في العالم.

وما يقلقني شخصيًا عند النظر في كتابات هؤلاء المفكرين المحدثين هو هذا الشعور المزدوج والمتضارب الذي يراوح بين اعتبار أعمال هؤلاء الكتاب بداية لوضع منهج عقلاني على الأسس العلمية والمنهجية العالمية هدفه رفع الفكر الإسلامي والانطلاق به نحو حضارة زاهية جديدة تعيد موقعه الريادي في العالم وبين أن تكون أعمال هؤلاء الكتاب وسيلة لهدم الإسلام والعقيدة الإسلامية من الداخل خدمة لمخطط كبير كالذي رأينا بعض جوانبه في مقالة الكاتب Lester التي نناقشها في هذه المداخلة.

يوحي الكاتب Lester بأن المؤسسة العقائدية والشارع الإسلامي عدائيان تجاه الأفكار الجديدة ويذكر مثلاً ما حدث مع أبو زيد وطه حسين من اتهامهما بالردة وموت علي دشتي الغامض وهجرة فضل الرحمن إلى أمريكا.

والواقع أنني أحار كيف يجب أن نتعامل مع هؤلاء الكتاب فإن عدم التصدي العنيف أمام أفكار هؤلاء الكتاب يفتح الباب على مصراعيه لكل من هب ودب في أن يكتب في أسس العقيدة وفي رموز الإسلام الفكرية والشخصية، ومن جهة أخرى فإن رد الفعل السريع والعنيف من قبل المؤسسة الدينية والشارع الإسلامي تعطي انطباعًا سيئًا بأنه لا وجود للحرية الفكرية في الإسلام وفي النظم الإسلامية وتساهم بشكل عكسي في رفع القيمة المعنوية لهؤلاء الكتاب عالميًا. ولطالما تساءلت لو لم يرد على طه حسين ويرمى بالارتداد ويهاجم بهذه الصورة الواضحة والقوية عندما اعتبر أن الشعر الجاهلي أكذوبة موضوعة من قبل شعراء العصر العباسي هل كان سيرتفع من شأن طه حسين ويبلغ به إلى أن يصبح عميد الأدب العربي ووزير المعارف ورئيس جامعة القاهرة في زمن نوابغ الأدب العربي في القرن العشرين أمثال الزيات والمازني وأحمد أمين والمنفلوطي وشوقي وحافظ إبراهيم وعشرات غيرهم. كذلك أتساءل لو لم تصدر الفتوى من الإمام الخميني بهدر دم سلمان رشدي هل كان أحد سيعلم باسم هذا الكاتب المغمور وهل كان سيقرأ أحد كتابه الآيات الشيطانية الساقط أدبيًا أصلاً؟ ففي هذا العالم عشرات غيره كتبوا ويكتبون عن الإسلام ومعتقداته ونبيه ورموزه كتابات أشد قذارة من كتابات سلمان رشدي ومع ذلك لا أحد يسمع بهم.

الخاتمة

ينهي الكاتب Lester مقالته بالتأكيد على أن غالبية المسلمين لن تناقش الفهم التقليدي للقرآن من جهة ومن جهة أخرى فإن الدراسات النقدية سوف تستمر للقرآن كما استمرت للإنجيل في ظل معارضة المؤسسة الكنسية تارة وموافقتها تارة أخرى على اعتماد أسس النقد الحديث، ويتوقع الكاتب ظهور دراسات وتفاسير جديدة ومختلفة للقرآن والتاريخ الإسلامي، ويختتم مقالته بأن هذا الأمر حتمي نتيجة ذوبان الفروقات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب من جهة ونتيجة لموقع العالم الإسلامي الممتد في هذا العالم.

وأود أن أختم مداخلتي هذه فأقول إن الخوض في مواضيع القرآن ومعانيه وأصوله قادم إلينا بشكل قوي خلال السنوات القادمة، قادم من المفكرين الغربيين المتربعين في مراكز الاستشراق التقليدي والحديث في الجامعات والأديرة، قادم إلينا من المسلمين الدارسين في جامعات الغرب، قادم إلينا من المفكرين الإسلاميين المفتونين بالنزعة الغربية في الحرية الفكرية وحرية البحث والنقد، قادم إلينا وإلى عقر دارنا بوسائط المعلوماتية الحديثة. وعلينا نحن المسلمين الذين نؤمن إيمانًا راسخًا ومطلقًا بالله وبأن محمدًا عبده ورسوله وبأن القرآن كلام الله المنزل على رسول الله محمد أن نعد أنفسنا لمواجهة طروحات ومفرزات الدراسات النقدية للقرآن والأصول الإسلامية الأخرى وذلك بأن نمتلك المناهج المعتمدة على العقل والبحث العلمي والقبول بالغوص في أعماق الحقيقة بدون حواجز إلا حواجز العقل والضمير.

إن الفكر الإسلامي الحالي يعتمد على النقل أكثر منه على العقل. لقد حسمت المعركة بين فريقي الفكر الإسلامي بانتصار أنصار النقل على أنصار العقل وأسدل الستار على هذا الفصل من تاريخ الفكر الإسلامي منذ أكثر من ألف عام وكل من حاول إعادة فتح الستارة وجد نفسه وكأنه يفتح بوابة من بوابات الجحيم.

والآن تفتح المعركة في الساحة الإسلامية على المرتكزات الإسلامية وأصول العقيدة باستخدام سلاح العقل والمناهج المعرفية العقلانية والمسلمون وعلماؤهم غير مستعدين لها إطلاقًا لبعدهم الطويل عن هذه المناهج أولاً ولرفضهم المبدئي لها ثانيًا.

إن المتتبع لمواضيع الدراسات النقدية للقرآن خاصة وللإسلام عامة خلال العقود القليلة الماضية يجد تواترًا متسارعًا بشكل ملفت للنظر في الدراسات ذات الطابع الهجومي الشرس على الإسلام وأصوله من خارج العالم الإسلامي، كما وبدأت هذه الدراسات تغزو العالم الإسلامي خلال السنوات العشر الماضية من داخله أيضًا.

ستبدأ الألفية الثالثة مترافقة مع إصدار الموسوعة القرآنية من مركز الاستشراق الرئيسي في هولندا بقلم مؤلفين أجانب ومسلمين من أمثال أركون وأبو زيد، عضوا اللجنة الاستشارية لهذه الموسوعة، وستعتمد هذه الموسوعة على أعمال الكاتبة الفرنسية Jacqueline Chabbi مؤلفة كتاب رب القبائل – إسلام محمد، الذي يقول عنه أركون "أنه كتاب سيثير حفيظة كل المسلمين حتى غير الملتزمين"، هذا الكتاب الذي يربط كلام القرآن المكي بالبيئة الحجازية ويربط بين معاني مفرداته وأصولها اللغوية القديمة ويبعد المصطلحات الدينية القرآنية عن المعاني التي عرفها المسلمون وآمنوا بها وأصبحت جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من عقيدتهم.

كيف سيكون ردنا نحن المسلمون على هذه الدراسات والأفكار القادمة؟ سؤال كبير لا أجد له جوابًا واضحًا مع الأسف!

هل سنستمر في تكرار ردود فعلنا التي أبديناها في السنوات العشر الماضية في مواجهة هذا التدفق الكبير في الكتابات المهاجمة للإسلام ورموزه صراحة أو التي تطرح أفكارًا جديدة مخالفة للمألوف من أنماط التفكير الإسلامي السائدة منذ مئات السنين؟

هل سنستمر في إصدار الفتاوى بهدر دم كل من يكتب كتابات مسيئة بحق الإسلام ورسوله ورموزه كما فعلنا مع سلمان رشدي، هذه الفتوى التي هزت العالم الإسلامي وإيران نفسها بعمق، فهل تستطيع إيران مرة أخرى أن تصدر فتوى ثانية، بل هل تستطيع دولة أخرى إسلامية تكرار هذه الفتوى؟

أم هل سنستمر في كيل التهم بالعمالة للغرب وللشرق والارتباط بالصهيونية ودوائر الاستكبار العالمي كلما ظهر كتاب فيه أفكار جديدة بعيدة عن الأنماط الفكرية التي تعودنا عليها كما فعل أستاذنا الجليل الدكتور البوطي في رده على كتاب الدكتور الشحرور حيث لم يكلف نفسه عناء الرد العلمي على الأفكار المطروحة في كتاب الشحرور الأول بل اكتفى بإتهامه بالعمالة. فماذا كانت النتيجة؟ لقد استمر الدكتور الشحرور في طبع كتابه للمرة الثامنة وظهرت له مجموعة كتب جديدة واستمر في نشر أفكاره في كل الأوساط الإسلامية داخل البلدان الإسلامية وخارجها ولم يسمع أحد سوى التلاميذ الخلص للدكتور البوطي رأيه في كتابات الدكتور الشحرور.

أم هل سنستمر في رفع دعاوى الردة وتطليق الزوجات على كل من يطالعنا برأي بعيد عن الآراء الإسلامية المتعارف عليها كما فعلنا مع الدكتور أبو زيد؟ وماذا كانت النتيجة؟ لقد أصبح أبو زيد شخصية عالمية وفي وضع أكثر خطورة يسمح له بالإشراف على واحدة من أكبر الموسوعات الغربية حول القرآن.

أنا أرجو أن لا يفهم كلامي أنني أدافع عن أي واحد من هؤلاء الثلاثة أو أمثالهم، ولكنني لا أوافق على طريقة معالجة الأمة الإسلامية ممثلة بحكوماتها كما فعلت إيران أو بعلمائها كما فعل الدكتور البوطي أو بمؤسساتها كما فعل القضاء المصري مع أبو زيد.

أنا أقول أن الحل المنطقي، من وجهة نظري، لمواجهة الدراسات والكتابات الوافدة إلينا من الغرب، وكذلك الصادرة من أبناء المسلمين، هو في ظهور تيار فكري إسلامي ملتزم نظيف الخلفية يحمل مسؤولية دراسة القرآن والحديث والتراث الإسلامي دراسة علمية منهجية معرفية على الأسس العالمية الحديثة ونشر هذه الدراسات بشكل واسع ومبسط كي تستطيع الأمة تمييز الغث من الثمين من هذا الكم الهائل الوافد على ساحة الفكر الإسلامي مما يعطيها القدرة على رد هجوم أعداء الإسلام بنفس السلاح. وفي تاريخنا الماضي مرت فترة شبيهة بما يجري الآن فقد استشرى الهجوم على العقيدة الإسلامية باستخدام الفلسفة ولم يتمكن العلماء المسلمون من وقف هذا الهجوم رغمًا عن استخدامهم لكافة الوسائل إلا عندما قام الإمام الغزالي بالرد على الأفكار الفلسفية باستخدام سلاح الفلسفة نفسه.

ويبقى السؤال قائمًا: كيف سيتم تشكيل هذا التيار الفكري الإسلامي في ظل الظروف الفكرية والاجتماعية داخل البلدان الإسلامية وفي ظل النظام العالمي الجديد؟ سؤال لا أعرف له جوابًا.

ويبقى لدينا الأمل في أن معركة القرآن ستنتهي بانتصار القرآن وبقائه في مكانته العالية كتاب الله وكلامه الذي لم يبدل أو يحرف وذلك تصديقًا منا وإيمانًا بقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دمشق 6/12/1999

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ للاطلاع على المقالة انظر الرابط: http://www.maaber.org/issue_june12/spotlights1.htm.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود