الصورة والغيب:
ابن عربي – سان خوان ده لاكروث

 

عبد الوهاب المؤدب

 

تمثِّل الصورة واحدة من المسائل الأساسية المطروحة في التصوف. كيف يمكن التعبير عن الغيبي المتجاوز؟ بحسب أيَّة معايير يمكن أن نترجم، بمفردات المرئي، تجربة يقيم أفقها في الغيب الغائب؟ كيف يمكن التعريف بما هو غير قابل للتمثل؟ استنادًا إلى قياس، كيف يمكن أن نصف الغيرية الوجودية المطلقة (أي الله)؟ هذا كله يحيلنا إلى تجربة الرؤية ونشاط المخيلة ودخول "الصورة العقلية" في المشهد. هذا كله أيضًا يجد امتداده في الموقف الجمالي والكيفية التي نقدم بها شيئًا غير قابل للتمثل، برجوعنا إلى أدوات المحاكاة، التصوير والنحت، هذه الحوامل التي تستقبل الصور المحسوسة. إن سؤالاً أساسيًا يسكن اللاهوت: شرعية التعبير عن الله من خلال هذه الحوامل، أو انعدام شرعية ذلك.

شاع عن الإسلام منعه للصورة. فيكمن أن نقابل الصورة في الممارسات غير الدينية، ولكننا لا نجد آثارًا تحيل إلى تمثل ما للألوهة ووظيفتها الدينية. ولكننا، بالبحث في نصوص مكتوبة في وسط إسلامي يمكن أن نمنح لمثل هذه المعاينة قدرًا أكبر من الإشكالية. سنرجع هنا إلى نصوص عائدة إلى اندفاعة حصلت داخل الإسلام، وهي تكشف عن اختراق للحدود التي تصون فكر للجماعة؛ نصوص تمارس التجاوز في الوقت نفسه الذي تظل فيه فاعلة في العقل الإسلامي.

قبل البحث في هذه النصوص، علينا أن نضع في قرينتها الصحيحة مفردات المشكلية الشاملة التي ساهمت في إظهارها. يتعلق الأمر بعرض المفهومات التي وجهت التفكير المتعلق بمشكلة التمثل. ونحن نحيل إلى المقابلة المحددة بمفردتي: "التشبيه" و"التنزيه"، القابلتين للترجمة بالفرنسية إلى: anthropomorphisme وabstraction.

التشبيه والتنزيه مفردتان متناقضتان. فإذا كان التشبيه يستدعي الاقتراب، فإنما يشير التنزيه إلى الابتعاد. وإذا كان الأول قائمًا على التماثل والتشابه، فإنما يقيم الآخر مسافة وانزياحًا، وقد ترجمت هذه الحركة التصاعدية via remontaris إلى abstraction. وأنا أفكر بالمفردة اللاتينية البعيدة abstraction التي تشير إلى ما يفصل ويباعد ويعزل. نذكر أيضًا بأن التشبيه، الذي يدل في اللاهوت على "الإنسية" anthropomorphisme، يشير في البلاغة إلى الأسلوب المجازي القائم على المقاربة والأوصاف المشبهة. وإن ما يمنح الطبيعة إجرائية لمقابلتنا الضدية "تشبيه/تنزيه"، هو الكيفية التي يقوم بها الاثنان باختراق المسافة الفاصلة، فيعمد "التشبيه" إلى حركة مقاربة كفيلة بإلغاء المسافة، في حين يقوم "التنزيه" بإبعاد ما يفصل، مؤسسًا الله في غيبه، غير قابل للتعرف أو الإدراك.

هذه المشكلة قسمت المسلمين. ولن ندخل هنا في تفاصيل المناظرات التي قامت بهذا الخصوص بين المعتزلة والحنابلة والأشاعرة. لنقل، ببساطة، إنه يتعهد بها النص الذي يهمنا هنا، وهو للمفكر الأندلسي ابن عربي (القرن الثاني عشر/ القرن الثالث عشر). وهو يتعهد بها، بعد أن تكون قد مرت بتحولات لاهوتية وسياسية عديدة، نلاحظ بدايتها منذ نهاية القرن الثامن (الميلادي).

نذكر أيضًا بأن هذه المشكلية، حين يتعهد بها نص ابن عربي، فهي تبدو كما لو كانت في منزلها الأليف. ففكر هذا المؤلف يأخذ بطرفي المقابلة كمبدأ لطريقة العمل (أو المنهج). ويتضح منطق نصه في مقطع يقوم بتنظيم الضدين والمرور من خلالهما. لا يندرج تفكيره في فكرة الهوية الأرسطية: إنه يقيم وحدة المتضادات (ما يدعوه هو بـ"الجمع بين الضدين") كطريقة تفكير، وكعلامة للوجود، في الوقت نفسه. وهو يتوصل إلى هذا، بعد قراءة القرآن الذي يتكون من آيات متناقضة. المعنيان الضدان لا يستبعد أحدهما الآخر ولا يلغيه: بل هما يشكلان آنين مختلفين وضروريين، يتعاونان في قلب حقيقة بذاتها. لكي يحيط الإنسان بالحقيقة في كليتها، عليه أن يعيش كلا الآنين، بنحو متزامن، وفي اندفاع الحركة نفسها. لا يحل التناقض نفسه لدى اكتمال التركيب (أو الخلاصة) synthese. ويساعدنا الجمع بين الضدين على تشخيص المماثل في قلب المختلف.

يشكل التنزيه والتشبيه لدى ابن عربي العاملين الاثنين اللذين يمدان بوسائل لتمثل المقابلة الضدية التي توجه الوجود. "الواحد" و"الكثرة": حيث يوزع الواحد جوانب من ذاته في الكثرة الشكلية التي يتجلى من خلالها العالم؛ وحيث يكون الواحد غير قابل بذاته للتمثل؛ وحيث يشكل العالم وفرة من الكيانات الخاصة المرئية، الحاملة لآثر الواحد غير المرئي؛ وحيث ينتشر الواحد، أخيرًا، بحسب ذرورية الكيانات الخاصة هذه، ناثرًا نفسه في تعددية العالم. ويعرب التشبيه والتنزيه عن حيوية فائقة في العمل، حين يتحركان على مثل هذا "السطح".

إن تدخل التنزيه والتشبيه لتنظيم مسألة التمثيل، يبدو شديد الوضوح في كتابات ابن عربي، الذي يربط هذه المشكلية باسمي "الجمال" و"الجلال"، اللذين يقوم عليهما التغيير الجمالي (راجع كتاب: الجلال والجمال، ص 5).

وفي تحليله للتنزيه والتشبيه، يستند ابن عربي إلى جملة من الآية القرآنية المكرسة في التراث الإسلامي لهذه المشكلية: "ليس كمثله شيء" (وهذا يدل على التنزيه)، و"السميع البصير" (وهذا يدل على التشبيه). هكذا نلاحظ في هذا التعبير القرآني تتابع الضدين أو طرفي المقابلة اللذين يعملان في قلب حقيقة واحدة تمنح لمسألة شرعية التمثيل أو انعدام شرعيته طبيعة إشكالية.

لا إبهام ولا غموض في ما تريد هذه الآية قوله: إنها تؤكد على المسافة غير القابلة للاختراق التي تبعد الله عن كل مثيل أو شبه. ولكنها تعلن عن التنزيه بصورة سلبية، من خلال مفردات التشبيه وقد أحيطت بالنفي. لصيانة الله من كل تشبيه، ولوضعه في معزل عن كل مقاربة، يستخدم القرآن عبارة تبدأ بالنفي ("ليس")، لتتبعه بذلك بأداتي تشبيه تدخلان المقارنة والتقريب والمماثلة: "الكاف" و"مثل". ولنلاحظ أن الصيغة التي تقوم بإدخال التنزيه تستخدم شكل خطاب نادرًا: شكلاً يدخل التقريب ليقيم نفيًا أو مسافة، وليس ليكشف عن تساو أو معادلة. إنه تشبيه يقيم علاقات عدم انسجام ولاتماثل واختلاف.

إذا كان يعبر هنا عن "التنزيه" بمفردات "التشبيه"، فذلك لأن من المستحيل التعبير عنه في ذاته، وبمفردات تكون خاصة به. "التنزيه المطلق" غير قابل للصياغة في نظر ابن عربي. ما من كلام، منزل أو غير منزل، من شأنه أن يتعهد بمثل هذا المشروع. إن التنزيه، أي هذا التجريد الذي يحيل إلى اللامتناهي واللامحدد، لا يمكن له أن يتحقق في شكل أو صياغة إلا متى ما أدخل في "حدود".

قبل أن يعلق على هذه الآية، يرجع ابن عربي بعيدًا إلى الوراء، مستقصيًا مراحل نشأة الوجود. في البدء، مكث الله في عالم "العماء"، هناك، حيث لا هواء يتحرك لا في الأسفل ولا في الأعلى. ثم، لكي يمكِّن الخلق من أن يكون، صوَّر ذاته وشهد على نفسه في آيات تتضمن صيغ تشبيه (أنسية) تحدده في أشكال متناهية وتقوم بتجسيده داخل نظام "الحد": يجلس هو مستقيمًا على عرشه، ينزل إلى السموات الدنيا ويكون حاضرًا في السموات والأرض. يقول إنه معنا، أنى كنا. يعلمنا بأنه هو ذاتنا. هذه التعيينات هي كلها "محدودات". نحن أنفسنا "محدودات" وهو لا يصف نفسه إلا داخل هذه المحدودات. والمقطع الذي يقول: "ليس كمثله شيء" هو أيضًا "محدود"

ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. (فصوص الحكم، ص 4).

وهكذا، فالتميز تميز مطلق عن كل شكل، وكل صورة، فكل مثال ("نفي المثال")، فهذا مما يعني أنه ذات جميع الأشياء. "ليس كمثله شيء" لأن جميع الأشياء مشبهة به. هكذا تراه يتحدد بالأطر المحددة لكل محدود. إن كل ما يتضمن أطرًا محددة إنما يتضمن حدود الله. فهو يسري في كل مخلوق: وهذا ما يؤكد الوجود وما يمده بالأصالة. بهذا الرجوع الحاذق، يحصل انقلاب بين التنزيه والتشبيه: فالوفرة المفرطة لأحدهما تشكل نقصًا للآخر ونكون هنا في الآن الذي يشرع فيه الضدان، رغم تباينهما، بالسريان أحدهما في الآخر. (فصوص الحكم، ص 110-111).

بيد أن مواضع التجربة التي يظل فيها التنزيه والتشبيه يشكلان آنين منفصلين، يستدعيان "تركبات" مختلفة، لا يعدم أن تزار هي أيضًا. كل واحد من هذين المجالين (مجال التشبيه ومجال التنزيه) يظل يحمل علامة "زيان" غائب عن المشهد الآخر، ومنظور إليه باعتباره نقصًا. كل واحد من هذين المشهدين يظل مسكونًا بالمشهد الآخر، الغائب. من يعرفه من خلال التنزيه وحده، لا يعرفه حقًا. من يزعم رؤيته عبر أساليب التشبيه لن يجد منفذًا إلى رؤيته: فهو سيكون قد حده، بذلك، وحبسه داخل حد نهائي. إلا أن من يسعى لبلوغه بين التنزيه والتشبيه بصورة شاملة، يمكن له أن ينتشي برؤيته، بصورة شاملة أيضًا. إن من المستحيل معرفته في التقصي، إلا بنحو مجزأ، ما دام هو اللامحدد والمحتوى في كل حد أو اللامتشكل المائل في كل شكل، والباطن القائم في كل ظاهر. إنه ينظم المظاهر بحسب علاقة "تبرمج" الشكل. ولمعرفته في التفصيل الصغير، يجب أن نكون عرفنا كل تفاصيل الوجود، وهذا ما لا يقع في مقدور الإنسان. المعرفة الوحيدة الممكنة لله، والتي تمكن من تمثله، إنما تتمثل بالتزام حركة ذاهبة بين التنزيه والتشبيه، بين التجريد والأنسية، بين المقابلة والانزياح (فصوص الحكم، ص 69).

إن هذا الأسلوب يمكنك من رؤية صورة الله المقيمة في ذاتك. يقول حديث نبوي: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". إعلم إنك شكله، وأنه هو نفسك. تكون بالنسبة له ما تكون لك الهيئة الجسمانية: وهو يفعل فيك باعتباره الروح التي تنظم هيئتك الجسمانية. إطارك المحدد يحتوي على الظاهر والباطن الذي هو في ذاتك، وإن الشكل الذي سيبقى بعد أن تغادره الروح لن يعود شبيهًا بشكل إنساني: لن يميزه شيء عن صنم من الخشب أو الحجر. إنه سيصبح عديم الروح مثل تمثال: مقيمًا في النقص الجذري الذي يميز اللوحة أو المنحوتة، ومجردًا من الحركة والنفس. هيكل فارغ، بلا روح. سيدخل في متحف الخلق الإنساني الذي يحتوي الأشياء الرفيعة المحاكاة، ولكن التي تظل، مع ذلك، جامدة. إننا نقترب هنا من الفكرة الأفلاطونية في النقص الذي يميز المحاكاة الإنسانية. نقص تكشف عنه سلسلة من الأحاديث النبوية المكرسة للتطوير، يتحدى فيها النبي الرسام أن يتمكن من إحياء الصورة التي يسيطر هو على أثرها الخطي. أما وقد قلنا هذا، يمكن أن تلاحظ بالمقابل أن بمقدور الإنسان أن يعثر، عن طريق الاستبطان، على صورة الله التي تسري في ذاته. هذه هي العلاقة الأولى التي تمكننا من التقدم بفكرة "الصورة العقلية" التي يقبض عليها الإنسان في ذاته، وينتشي بها ما أن يستقبل واردات الدفق الإلهي الذي يعطر أعماقه (فصوص الحكم، ص 69)

صورة عقلية تتراوح بين التنزيه والتشبيه. فإذا ما أنت أنتهت طريق التجريد المطلق، فتعيق الصورة العقلية وتحددها، وتثبتها، في حين أنها تغنم بكونها متحركة، متغيرة، وفي حالة خلق جديد، على أساس قابل للفراغ كل لحظة. وإذا ما حاولت تثبيت صورتك عن طريق التشبيه، فستغامر باتخاذ الصورة صنمًا، وترجع بذلك إلى الوثنية. إذا أردت أن تتفادى الجمع ما بين الصورة والصنم، عليك أن تترك الاعتقاد بثنائية الله تعالى والعالم، وأن تقول بوحدة الوجود: بهذا ستعرف كيف تعثر على الصورة الكاملة، على هيئة بذرة، في كل شكل.

ويختم ابن عربي تفكيره بالرجوع إلى الآية التي تشكل شعار مشكليتنا الحالية. هذه الآية القرآنية توضح في شقيها الاثنين تحليل ابن عربي الذي يرينا ضرورة كلا المجالين (التشبيه والتنزيه)، وترابطهما العضوي من جهة، والحضور الفعال لكل منهما في الآخر، من جهة ثانية. وإذا نحن افترضنا أن "الكاف" في "كمثله" زائدة، فتصبح الآية: "ليس مثله شيء"، وستفقد "مثل" كل غموض أو لبس.

فهي لن تتعهد سوى بالتشبيه وسيعني ذلك: "ليس هنالك ما يشبهه"، وهذا ما سيرمز إلى التنزيه الخالص. الحال، أن تتمة الآية: "وهو السميع البصير"، تقوم بتعيين الأنسية أو التشبيه، بخلعها على الخالق صفات حسية. إلا أننا اعتبرنا "الكاف" أساسية وليس زائدة، فإن "مثل" سيمكن لها أن تخرج عن وظيفة التشبيه، التي ستتعهد بها الكاف وحدها، وسيمكن لها أن تخرج أيضًا عن القناة التي تقيم التكرار، فتتوهج باعتبارها علامة لغوية أساسية يدور معناها حول مفهوم الصورة. وبذلك سيكون المعنى: "ليس كمثله شيء" على صورته، أي "لاشيء يكون على صورة صورته". وهذا المعنى يدخل التشبيه أو الأنسية في قلب ما يدل على التنزيه أو التجريد، مادام على الله صورة أصلية: وما يرفضه هو صورة الصورة أو الصورة الثانية، في الوقت الذي يقيم فيه صورة أولى لله، كذلك، فإن الشق الثاني من آيتنا - الشعار قابل للتأويل بمعنى التنزيه، برغم أنسيته الظاهرية. يكفي أن نتصور أنه هو، الله الأوحد الأحد، من يسمع ويبصر بحق في كل ما هو سميع وبصير؛ وأن نظرية ابن عربي في وحدة الوجود تجعل مثل هذه الفرضية مقبولة. هكذا، يحتوي هذا المرجع القرآني في شقيه الاثنين على الحالتين الاثنتين متضامتين: التنزيه في التشبيه في التنزيه (فصوص الحكم، ص 70). وإن المشهد الذي يستقبل تجربة الرؤية باعتبارها حضورًا ("حضرة البصر")، موَّجهٌ هو الآخر، بوضوح، بقطبي التنزيه والتشبيه. يقول ابن عربي إنَّ حضرة البصر تتضمن الطريقة التي يتوجه بها العبد إلى ربه في الصلاة. وهناك ثلاثة طريق يخاطب بها "عبد البصير" ربَّه فهو يعبده، أولاً، على طريقة "كأن يراه"، استنادًا إلى الحديث النبوي القائل: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه". وهذا يستدعي وصفًا خاصًا لتصوير التشبيه. إذ سيحاول العابد أن يتخيله بحسب الإجراءات التي يوفرها تدبيره الخاص. ويرجع هنا إلى المماثلة، ليصنع شبهًا. إنك تؤول من هو خارج المنال بالمفردات التي هي في متناولك، وتفسِّر الغائب بمفردات حسِّية. الطريقة الثانية هي أن يعبده بحسب شروط التنزيه. أي أن يخاطبه عارفًا بأنه، هو الغائب اللامرئي، يراه. وبهذا ننتقل من الصلاة "المشبهة" إلى الصلاة "المنزَّهة". أخيرًا يعبد المصلى "الله بالله". هكذا يخاطبه ويدعوه أولئك الذين "يعلمون بالله"، أي الذين لا يتخذون أيًّا من الطريقتين الاختزاليتين: إن المبصرين بالله يعتقدون بطريقة التجريد ("يقولون بالتنزيه")، ويتأملون الصورة التي تأتي عن طريق الأنسية ولا يؤمنون بها: ("يشهدون التشبيه ولا يقولون به"). لأنه التمثل المشَّبه، الأنسي، أو "الصورة العقلية"، لا يشكلان في نظرهم "خبرًا"، بل مجرد إعراب عن الإيمان، "إعيان": أي طريقة في إحالة الإيمان مرئيًا، وإدخال المبدأ في الصياغة. ولكن هذا الإعيان يجب أن يبقى عقليًا. لا يُذاع. طاقة خلاقة داخلية محض. ففي الأسلوب الأنسِّي، لا يمكن الخلط بين صورة الله وبين الإيمان: إنها لا يمكن أن تشكل ضمانة "للإيمان ولا معيارًا" له. الإيمان يستند على خبر ينبئ: "الإيمان بابه الخبر". وإن التشبيه المحض الذي يمزج بين الصورة وحقيقة الإيمان إنما يقنع نفسه بتوهمه؛ فهو يحسب أن هذه الصورة هي نوعية تكفي ذاتها، وأنها قابلة للرواية، فهي خبر يُنشر. الحال، إن العالم بالرؤية يشهد على الصورة، يتأملها كإعيان تنزيه، يقيسها، يحكم عليها، ويثمنها بحسب موازين الحكم. يعرف أنه في هذا الموضع لا يكون في الإيمان. وهكذا، فكل شيء يفصل بين الموقفين. فالتشبيه يطابق بين الصورة والإيمان، أما العالم بالرؤية فيضع على المحك قدرته هو على الرؤية وطاقته البصرية وبراعته التي هذَّبتها التجربة. إن العالم بالرؤية يتمسك بحرف رؤيته، ولا يحيلها إلى مرجع، بل يكتبها كما هي، دون أي إضافة. "النسخ"؛ هذه هي المفردة التي يستخدمها ابن عربي. الحال، إن النسخ كلمة مزدوجة المعنى في العربية: فهي تدل على عملية التدوين وتهيئة النسخة، وفي الوقت نفسه على ما يمحو ويبطل ويلغي وينسخ. وإن لبس الكلمة هذا يخدم تفكير ابن عربي بنحو رائع. فالصورة التي تتحقق في مجال التشبيه، يجب أن تعاش في تعقُّدها وهشاشتها: إن تؤخذ بحرفيتها وتُكتب كما هي. وهي، كذلك، صورة مؤقتة، قابلة للتنوع والتغيُّر، ومهيأة للاستبدال والإلغاء والرفض والشطب والإبطال والتعديل. صورة هشَّة، قابلة للقطع، وجوَّابة. من هنا، فمن الأفضل أن تبقى عقلية، وألا تتمَّ روايتها، وألا تتخذ هيئة حدث ينبئ. إن الصورة لا تتمتع، بذاتها، بإمكانية الصياغة. أنها دالٌّ. في حين يمنح التشبيه، أو الأنسية، مرجعًا للصورة ويعتقد بما تقدمه الصورة: إنه يخلع على الدال دلالة ما. وهو يظل بحاجة إلى هذه الامتدادات حتى حينما ينتبه في الطريق إلى أنه متجه إلى الشرك، باتخاذه من الصورة صنمًا.

يعتبر ابن عربي ممارسة الصورة مشهدًا عقليًا. يمنح طبيعة عشقية للعلاقة بين المصلِّي وبين الصورة العقلية التي تتحقق له أثناء التجربة. إن حججًا كثيرة تمارس عملاً لصالح نشر الصورة، ولكن "الأدب"، الذي يوجه العلاقة السعيدة بالصورة، يلزم بإسكات التجربة، وكتم الصورة بفعل "الحياء". بل أن العالم في الرؤية ليتظاهر، أكثر من هذا، بقصوره عن رؤية الصورة، يدَّعي عدم ملاحظتها، ويتصنع إهمالها وتجاوزها. وهكذا ينشر ابن عربي "جهازًا" كاملاً لضمان صيانة الصورة واحتجابها: أنه يمنحها شفرة: "الأدب"، ومنحى نفسيًا: "الحياء"، وسياسةً: التظاهر بالقصور (الفتوحات المكية، جـ 4، ص: 233-235).

ويقدم ابن عربي حججًا تاريخية يدعم بها حضور الصورة في الوقت نفسه ضرورة الإبقاء عليها في العقِّي. فبما أن شرع محمد يتضمن الشرائع السماوية التي سبقته، وبما أن كل شرع سابق، المسيحية مثلاً أو الموسوية، يقيم خصوصيته تحت "حيطة" الإسلام [يقصد: تحت ضمانته وكفالته] وجد المسلمون أنفسهم أمام وضعية مفارقة في ما يتعلق بمسألة شرعية التمثيل أو لاشرعيته. في المسيحية، بعد أن رأت الأجيال التالية أن المسيحيين الأُول لم يكونوا يعظِّمون الصورة، شرعت بالاحتفال بالوحدة المنزَّهة ( أو المجردة) عن طريق الصور. بذلك انتصر استخدام الصور لدى أمة عيسى بن مريم أكثر ما لدى أية أمة أخرى. ثمة وفرة من الصور في كنائسهم. هذه الصورة توجه صلواتهم. وهم حتى حينما يتعبدون في أنفسهم، يتوجهون على الصورة التي تخدمهم كواسطة. ويبرر ابن عربي استخدام الصورة لدى المسيحيين باستحضاره هذا البرهان القاطع: الحلول. وبالطبع، فهو ما أن يجد نفسه مطالبًا بالإفصاح عن فكره، حتى يفارق فكرة الحلول بمعناها المسيحي، ويرجع إلى التفسير الذي قدمه القرآن لهذه الظاهرة. إلا أنه يستعذب البقاء غامضًا للحظة إزاء كل من الحقيقة المسيحية ومسألة الحيطة [السيادة] القرآنية. أنه يقول: "تمثُّل روحٍ في صورة بشر". ولكن هذا لا يمنع ابن عربي من أن يبرر استخدام الصورة لدى المسيحيين: "لأن أصل نبيهم عليه السلام كان عن تمثل، فسرت تلك الحقيقة في أمته إلى الآن". إن ابن عربي يبدو كما لو كان قد أحس بوزن التمثل في الجمالية المسيحية. ولنذكر بأن الدليل القاطع الذي قدَّمه أنصار الصورة في إمبراطورية الشرق المسيحية كان مستمدًا من امتدادات واقعة الحلول هذه نفسها.

بعد أن برر استخدام الصورة، المنسجم مع جوهر الحقيقة المسيحية، يقول ابن عربي إنه، مع مجيء محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن حقيقة عيسى، و"شرعه قد انطوى على شرعه". من هنا، بات لازمًا حل هذه المفارقة: كيف يمكن المصالحة بين تحريم التمثُّل من جهة - وكأن تعقُّلنا للمسألة سيكتسب المزيد من الدقة التاريخية لو أن ابن عربي ذكَّر بوجود هذا التحريم في الشرع الموسوي أيضًا - وبين التعظيم المسيحي للصورة، من جهة ثانية؟ عند هذا المستوى، يذكر ابن عربي بالحديث النبوي المعروف: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه". في هذا الحديث، يقوم محمد (ص) بإدخال الخالق كصورة في "الخيال". هذا هو معنى التمثُّل في الإسلام؛ فمحمد يمنع على أمته إظهار الصورة المحسوس، ولكنه يدعو، في الوقت نفسه، إلى الانتشاء بها في مشهد الخيال، بإتباع المبدأ نفسه الذي يوجِّه التمثُّل لدى المسيحيين. ويضيف ابن عربي حجَّة مشهدية [بمعنى العرض المسرحي] ليبرر هذا التوافق الجمالي: فيذكر بأن "الشخص" الذي هو "بطل" حديث الإحسان المذكور ليس بآخر سوى الملاك جبرائيل، الذي رأينا أنه هو نفسه من يتدخل في التمثُّل الأول الذي ولدت المسيحية منه. جبرائيل هو الحضور الذي يبرر الصورة في كلا الشرعين. هكذا يمكن القول، دون قسر الكلمات، إن الصورة التي تجعل "المختلف" حاضرًا ليست مجهولة بحق في الإسلام. فقط، تمَّ فيه التفكير به كـ "شيء عقلي" (الفتوحات المكية، جـ 1، ص 222-223).

ويحدث لابن عربي أن يعظِّم من أهمية الـ "كأن"، هذه الطريقة التي تمكن المسلم من أن يستمتع بالصورة. نبيلة هي حقًا وماجدة، هذه الأداة اللغوية التي تفتح لنا خزانة الصورة الحسية القابعة في الذاكرة. بما أن الله ليس محسوسًا من قبلنا، وبما أننا نعقل وجوده فحسب، فهي تقترح علينا، إذا ما أردنا "الإحسان"، أن ندخل الله في حيِّز قدراتنا الادراكية عن طريق "كأن". هكذا تجعل الله يلتحق بالمحسوسات عن طريق الخيال، أو "الوهم"، وبهذه الحيلة نقترب ممن عبدوه فيما نقشوه أو "نحتوه". هكذا يحلل المشرع في مكان ما كان قد حرمه في مكان آخر. وعلى العارف بيننا أن يحلل هذه الممارسة حيثما تكون محلله، وأن يحرمها حيثما تكون محرمة. ذلك هو مجد "كأن" التي تقيم طريق الإيهام والحركية والانتقال، فتمكننا من تجاوز عماء المذهبية الجامدة، وتسهل علينا الاستمتاع الجمالي في متاه المفارقة والتضاد (الفتوحات المكية، جـ 1، ص 366).

في الإطار الشامل لنظرية ابن عربي، تستمد الممارسات الإنسانية طاقتها المحرِّكة من أسماء الله التسعة والتسعين. أنها امتداد للنِّفس الإلهي، الذي ينبعث من الاسم. وبين الفعاليات الكثيرة المرتبطة بالاسم، نجد التصوير. فالتصوير هو امتداد لاسم "الباري"، أي المحدث، بمعنى صاحب الفعل الخلاق، بالاستناد إلى فعل "برأ" الذي تشترك به العربية والعبرية، إذ نحن نقابله في العبارة الأولى من التوراة. كما يوجه هذا الاسم نشاط المعماريين والمهندسين وأصحاب الاستنباطات عمومًا، أي جميع من يبتكرون أشكالاً غربية. وإذن، فمن هذا الاسم ينهل الرسامون لتحقيق الأشياء الجميلة المحددة بميزان، فمنهم الذي يقوم على نِسَب موجَّهة لتنظيم التشابه: هذا اللقاء بين البراعة التقنية والتلقين الروحاني، بهدف المساهمة في الصفوة المتحلقة حول "القصر" في المدينة الإسلامية. مؤكد أن هذا التحديد للتصوير يُحَسُّ بممارسته غير الدينية بوجه خاص، ولكن كان من المهم الكشف عنه في المسيرة الميتافيزيقية لابن عربي. إنه يهوِّن على الأقل من أهمية المعاداة الجذرية للصورة المشاعة عن الإسلام. أكثر من هذا، فإن هذا التوسيع لشرعية التصوير، حتى إذا لم يكن ذلك إلا "للقصر"، إنما طبيعيًا لدى كاتب ذهب إلى التفكير بالصورة العقلية في متاهاتها العديدة، يحسب استتباعاتها الدينية (الفتوحات المكية، جـ2، ص 421-422).

من خلال هذه المشكلية التي ولدت على أرض الإسلام، واتبعت التحولات التي أتيت على عرضها متَّبعًا النهج الذي شقه نص ابن عربي، من خلال مشكلية "التنزيه/التشبيه" هذه، يمكن لنا أن نوضح، بيسر، فكرًا آخر ولد في قرن آخر وفي لغة آخرى، وفي مسرح كتابي آخر: نص سان-خوان داه لاكروث ومسألة الصورة، كما يتضحان في الصعود إلى جبل الكرمل بوجه خاص.

نقول أولاً إن سان-خوان ده لاكروث ينحاز انحيازًا واضحًا إلى تصور أرسطي للطريقة. إنه لا يفكر حتى بإمكانية عمل الفكر المتناقض المؤسس على الجمع بين الضدين. إنه يؤثر، بالأحرى، المبدأ الأرسطي للهوية، وقد كتب: "علمتنا الفلسفة أنه لا يمكن لضدين أن يبقيا معًا في ذات واحدة". وكتب أيضًا: "...لا يمكن في الانتقال الطبيعي أن ندخل شكلاً دون أن نكون قد أخرجنا الشكل المضاد من الموضوع، قبل ذلك". أكثر من هذا، فأرسطية ده لاكروث منبثَّة حتى في قلب نظريته التي تقود إلى فكرة "الظلمة" في البحث عن فكرة أساسية لديه، مستوحاة من مقطع من "ميتافيزيقا" أرسطو:

كما كان النور الإلهي عظيمًا كلما كان أكثر غموضًا على إدراكنا.

لا شك في أن من المناسب الإقلال من أهمية مبادئ الطريقة هذه، حين يكون ده لاكروث مدفوعًا بقوة الإلهام الشعري. ففي أبياته الشعرية، نقابل عددًا كبيرًا من الصور المشحونة بأضداد غير قابلة للمصالحة، وهي تتصادم وسط ألق تجاورها في هذه الأبيات. وقد نذهب إلى حد القول بأن ما يمنع ده لاكروث عن ممارسته الفكرية، الحكيمة، التعليمية والخاضعة إلى التعليم الاسكولائي، إنما يتخذ في قصائده هيئة مسيرة تلون بلاغته الشعرية. يكفي أن نسمعه وهو يقول: "ياله من جرح بالغ العذوبة"، "يمنح الحياة عن طريق الموت"، أو "هذه المعرفة الآتية عن اللامعرفة"، أو: "من دون سندٍ ومع ذلك مسنود".

بالمقابل، تتأكد أرسطيته الجوهرية في الطريقة السنية التي بها يستخدم الجهاز النفساني، كما يرثه من كتاب أرسطو: "في النفْس". أنه ينكر كل نجاعة على عمل الخيال، ويجعل منه قوة الإيهام والخداع لدى الإنسان، ويعتبره قوة عبدة للعقل، مؤكدًا أنه يحدث له أن يتبع المعالجة الحاسمة التي قدمها الوسط الإسلامي لهذه القوة من خلال الأطروحات المتقدمة، أطروحات الفارابي وابن سينا، اللذين يفسران الرؤية النبوية وانتقال الوحي بواسطة الملاك بالإسناد إلى تطور القوة الخيالية لدى بعض الأشخاص. وللمصادقة على هذا المكتسب، الذي انتقل إلى الثقافتين اليهودية والمسيحية منذ القرن الثاني عشر، يميِّز سان –خوان لاكروث بين القوة الوهمية بمعناها الجسدي الأرسطي الخادع، وبين "الخيال" بمعنى التصور المبدع، القادر، بما هو قوة باطنة، على استقبال الرؤية الغيبية (مافوق الطبيعة). بل أنه ليذهب إلى تحليل بعض المراجع الكتابية، ويقدم بعض الشخصيات الكشفية [المتمتعة بقوة الكشف]، مثل النبي الياس، من خلال هذا التمييز. ولكن حركة فكره الأخيرة تتمثل مع هذا بالطعن باستخدام الخيال والوهم، لأنه يمكن لهما أن يكونا مصدرًا للخطأ، وقادرين على إحداث الخدعة، وتمكين الماكر من الاقتياد على الرؤية الكاذبة. وعلى سبيل التحوط، ينصح سان –خوان ده لاكروث بالابتعاد عنهما والتحرر من أسرهما، أو، على الأقل، بالتمسك بالحذر الشديد أثناء استخدامهما. ونحن نقف هنا على الضد من ابن عربي الذي يعظِّم الخيال إلى حدود بعيدة، ويضعه في المكان المركزي من الوجود. فمن خلال مصطلح "حضرة الخيال"، هذا الحضور الرفيع للمخيلة، يكون إنسان التجربة قادرًا على الدخول في عالم الغيب، والتحول إلى مؤوِّل لأسرار الباطن، دون أن يخرج من غموض الواقع أبدًا. إلى جانب هذا، يربط ابن عربي عددًا كبيرًا من الممارسات الخلاقة - جميع فنون التركيب، باستخدام هذه القوة الموضوعة في ظل النبي يوسف، هذا الكشَّاف والمؤوِّل، وكوكب العشق "الزهرة".

قدمنا هذا العرض كله للتوكيد على المخرج المعاكس تمامًا لمشكلية "التنزيه/التشبيه"، الذي يقترحه سان-خوان ده لاكروث. قائلاً: "إن الرؤى والإدراكات الحسية لا يمكن لها أن تخدمنا [في شيء]"؛ إن الصورة إعاقة، وأنه ليس ثمة من شكل ولا من شَبَهٍ لله؛ إن الله "لا يكشف عن نفسه للروح عن طريق أيٍّ من تنكرات الرؤية الوهمية أو الشبه أو الشكل"؛ إن من المهم طرد كل ما لا يتطابق مع الله ويختلف معه، بحيث لا تعود الروح تحتاج إلا لأن "تتجرد" من تضادها ولاتشابهها مع الله، وإن على الإنسان "أن يظل صافيًا وفارغًا" من كل ما يمكن أن يسقط في الحواس؛ إن عليه البقاء "عاريًا وغير مسكون". وهكذا، فـ "الروح التي تعتم وتظلم بكل أنوارها الخاصة والطبيعية، ستتمكن من الرؤية بصورة ما فوق-طبيعية...". التأمل، إذن، هو شيئ "مظلم"، لأن من المناسب أن يكون المرء قد اختار الظلام طريقًا والعتمات غطاءً، لكي "يراه في الظلم"، وفي"الهواء الكثيف". ولبلوغ هذا الاستعداد، على المخيلة أن تغادر الروح، كي تظل هذه "مظلمة... إلى أن تبلغ الوحدة الإلهية...". صحيحٌ أن ده لاكروث يقبل بالصورة العقلية، ولكنه يدعونا إلى طردها في الحال، ويذكرنا بحدود الخيال الذي يتلقاها، فـ "كل ما يُتصوَّر على صورتها، لا يخدم أبدًا كوسيلة للاتحاد به...". إن الأشكال والصور تنفع المريدين في بدايتهم، ولكن يهمُّ التخلص منها بغية الوصول، بسرعة، إلى "المنزَّه" الغائب، الذي يمنح الروح الهدوء والطمأنينة اللذين يكمنان في تعطُّل كل نشاطٍ للحواس. هكذا، يجب التحرر تدريجيًا من الحواس ومن المحسوس، ومن الفهم والإرادة والخيال، للوصول إلى الوحدة في "ليل الفكر"، في "ما فوق كل معرفة"، والتربُّع في "جوهر الروح العاري، المحض"، والوقوف في "فراغ وعُري". أي إجمالاً، إن سان-خوان داه لاكروث يطالب، مطالبة جدية، بـ "التنزيه المطلق":

... بما أن الله لا شكل له ولا صورة يمكن للذاكرة أن تدركهما، فينتج عن هذا أنه حين تكون الروح متحده بالله، فهي أيضًا تظل لا شكل لها ولا صورة، ويظل الخيال ضائعًا، والذاكرة غارقة في حالة من الهناءة العالية، دون ذكرى عن أي شيء. لأن هذه الوحدة الإلهية تفرغ الروح من وهمها. تنظفها من جميع الأشكال والمعارف، وترفعها إلى الغيبي [ما فوق- الطبيعي].

على هذا النحو يستخلص فكر سان-خوان ده لاكروث. فبعد التحذير من الأشكال والصور المعتبرة، لديه، بمثابة إعاقة، نرى أن سياسة الخالق، بخصوص الوحدة التي يتيحها لعبده الخاضع، الحقير، السلبي، إنما تقوم في كونه يتجلى في البداية عن طريق الحواس والأشكال والرؤى الطبيعية وما فوق الطبيعية، عن طريق الوهم (وهذا - نقوله عابرين - مما يدعم التمييز الذي يُقيمه ابن عربي بين "الخيال المتصل" و"الخيال المنفصل"، فالأول يقود إلى الرؤية الطبيعية، والثاني يمكِّن من دخول مجال الرؤية الغيبية). ثم، بعد هذا، يكف الله عن التجلي لعبده، ويتركه وحيدًا على طريق الوحدة، التي تقود الروح–السيدة، وتمكن من الانتقال من الإنساني إلى الإلهي، من الحواس إلى الفكر، من الأسفل إلى الأعلى، ومن الظاهر إلى الباطن. في هذه المراتبية، يظل عمل الرؤية والصورة محالاً إلى المستوى الأدنى دائمًا.

ها نحن، إذًا، نقف إزاء وضع مفارق. فابن عربي يبدو محبًا للصورة في وسط يظل، مع ذلك، مانعًا للتصوير. إن تجربة ابن عربي تدعوه إلى الذهاب بعيدًا في اختراق الممنوع، الذي يصوغه الشرع المنتمي إليه. في حين نرى إلى سان-خوان ده لاكروث، الذي يعمل في ثقافة ذهبت على حد تعظيم انتصار الصورة، وجعلت من الصورة وسيلة انتشار تسهل حضورها في العالم؛ ثقافة تحتفل، من خلال وفرة الصور، بتوسُّع المذهب الذي تمثله؛ نرى إليه مدفوعًا بفعل منطق نظامه هو، والضرورة الوجودية لتجربته، إلى اتخاذ موقف معاد للصورة، موضعيًا. وهو يجرؤ على الوقوف في مثل هذه الحدود المتطرفة برغم ظرف تاريخي كان شديد الخطورة لموقف مماثل. فلا ننسى، أن محاكمات مسلمي اسبانيا الخاضعين للحكم المسيحي كانت تقام كل يوم تقريبًا في أواخر ذلك القرن. ومن بين الفوارق التي تميِّز المسلمين، كانت السجلات الكنسية تذكر معاداتهم وكرههم للصور. وعلى النحو ذاته، نجد على مستوى أوروبا، أن المعركة المتعلقة بعبادة الصور كانت مدرجة في "جدول الأعمال" في السجال الذي دار بين الكنيسة الكاثوليكية والشيع المختلفة. مع هذا، كان ابن عربي وسان-خوان ده لاكروث كلاهما ينصاعان انصياعًا كاملاً إلى شرعيهما في اللحظة الأخيرة. ونلاحظ في "الوصايا" التي تختم الفتوحات المكية (جـ 4، ص 451)، أن ابن عربي يوصي بعدم ممارسة التصوير، والالتزام بالمضمون الحرفي لحديث باب منع التصوير، ذاهبًا إلى حدِّ تقديم تفسير متطرف لهذا الحديث النبوي الذي يوصي بعدم رسم أيِّ كائن حيٍّ، لأنه، بحسب وحدانيته الشاملة، يرى أن كل ما هو مزود بروح، وكل ما هو جماد، بما فيه الحجر، يحمل نفْسًا لا نلمسها نحن لقصور حواسنا. وفي خضم هذه الاندفاعية، يوصي حتى بعدم رسم حجارة، ويلتحق مرة أخرى بنزعة سنية تبدو شاذة بالقياس إلى الأصقاع البعيدة التي قيض له أن يشرد فيها حين كان يدفعه منطق نظامه هو وحقيقة تجربته.

أما سان-خوان ده لاكروث، فيبدو خضوعه للشرع متمتعًا هو الآخر بهذا الملمح المفاجئ. فهو حين يصل إلى مسألة التصوير، يقول إن أطروحاته [الشخصية] يجب أن لا تمنع استخدام الصورة، وخصوصًا ألا تعيق عبادة الصور التي تنشرها "أمنا الكنيسة الكاثوليكية"، وأنه يتراجع عن الأفكار المعتبرة "فاسدة"، التي تريد إبعاد الصور عن أعين المؤمنين. وأنه ينصح، فقط، بعدم نسيان أن الرسم الذي يصور الله ليس هو الله، وبعدم الخلط بين الوسائل والغايات، كما يذكرنا بأنه يهاجم في كتابه، الرؤية ما فوق الطبيعة بنحو خاص، والصورة العقلية، والضياع الذي يمكن أن تقود إليه. وإلا، فـ "إن من شأن صور القديسين أن تدفع الإرادة على طريق الوحدة [الإلهية]". ولكنه يدين "البعض ممنْ يلقون فرحهم في الصورة وزينة هذه الصورة، أكثر مما في ما تمثِّله". ويقدم نصائح عملية في كيفية استخدام هذه الصور؛ فللتخلص من "الاستعمال المقيت"، ومن الأشياء الباطلة، ومن "زينة الدُّمى"، ولعدم الأخذ بالصور مثل "الأصنام"، يقول إن على "الإيمان الجوَّاني" ألا يتوقف عند الصور وإنما يوجهها عقليًا؛ أن يذهب من خلالها إلى "القدُّوس الغائب" "ناسيًا الصورة في الحال، فهي لا تخدم إلا كعتلة...". معاينة أخيرة: إن الفرد الروحاني بحق، إنما "يوجِّه إيمانه، أساسًا، إلى الغائب، ولا يحتاج إلا إلى القليل من الصور، ولا يستخدمها إلا بقلَّة". هذا يعني أنه، برغم امتثال سان-خوان ده لاكروث إلى المذهب الرسمي، فنحن نحس أنه لا يعلِّق أهمية كبيرة على الصورة الحسية، أو العقلية، الموضوعة في خدمة المذهب. إلا أن هذا لا يمنعه من استعارة ظاهر سني.

إن ابن عربي وسان-خوان ده لاكروث هما، كلاهما، مفكِّران روحانيان يذهبان على طريق التجربة إلى أقصى ذاتيهما. ولكنهما لا يسعيان، مع هذا، على تحدي شرعهما الديني، ولا إلى اتخاذ موقف المتمرد أو الزنديق. وبرغم العزلة أو الانسحاب اللذين تستدعهما التجربة [الصوفية]، فإنهما كانا يعرفان بأنهما ينتميان إلى "مدينة" يحكمها هذا الشرع، وأن احترام هذا الشرع يقف وراء بقاء هذه المدينة. لذا تراهما يتبعان الإسراف الذي تتمخض عنه مراحل التجربة إلى نهايته، ولكنهما يظلان، من الوجهة الحرْفيَّة، يحترمان شرعيهما حتى حينما يكون نظامهما منتشرًا في أماكن أخرى غير هذا الشرع، أو حتى ضدَّه.

هكذا، من منعطف إلى آخر، أصل إلى بواعث النزعة المقارنة. يُرينا نص ابن عربي وسان-خوان ده لاكروث أنهما ينتميان إلى مركَّب ثقافي واحد، كلاهما كانا يعرفان الإغريقية، كثقافة مكتسبة، سواء اتعلق الأمر بالبسيكولوجية الناشئة عن فكر أرسطو، ولا تهم هنا مسالة الأخذ به أخذًا حرفيًا أو تحويره، أم بالأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة. ونجد هذه المعرفة موظفة في الباطنية النظرية، مع بقائها خاضعة للمرجع الكتابي "القرآن لدى أحدهما والكتاب المقدس لدى الآخر". وهذا ما يمكننا من طرح مفهوم الثقافة المتوسطية، المسكونة والممارسة بلغات عديدة. إن اللغات لا تؤسس قيمة جديدة، أو ثقافة جديدة، بالضرورة. ولقد حان الوقت لأن نسبغ شيئًا من الاعتدال على النظرة الأصولية إلى اللغات. إن اللغة تمكِّن شعبًا من ممارسة نمط ثقافي معين. هكذا مكَّن الإسلام العرب، من الدخول عن طريق لغتهم في حقل الثقافة المتوسطية، وإثراء هذه الثقافة واقتراح تدبُّر جديد لها، حين كانت كلاسيكيتهم في ذروتها. كما نالت الإسبانية القشتالية الجدارة الفلسفية والأدبية حينما احتكت بأرض أخرى كانت ناطقة بالعربية واتبعت رهافة وتمكُّنًا معترفًا بهما من قِبَلها.

توضح مداخلتي أنني، وقد جئت إلى سان-خوان ده لاكروث بعد معاشرة طويلة لابن عربي، إنما أجدني في المشهد الثقافي والروحاني ذاته، برغم اختلاف الإجابات التي يقدِّمانها على الأسئلة نفسها، وبرغم المذهبين اللذين يفصلان ما بينهما، وبرغم الفارق في الألفة التي أتمتع بها مع كل مرجعيهما الكتابيين.

استطعت، كما يبدو لي، أن أوضح نصًا نصرانيًا من خلال مشكلية لاهوتية عولجت في مجال إسلامي مؤكد أن هذه المشكلية ليست خاصة بالإسلام وحده، ولا هي مجردة من السوابق. ربما كانت الخصوصية والبدئية كامنتين في الكيفية التي بها تمَّ توجيه هذه المشكلية، بحسب مبادئ منطقية تفيد من التناقض الذي يحيله الحس بالثنائية ممكنًا. لا شك في أن التقارب بين ابن عربي وده لاكروث من خلال حسهما بالحرية وحدة تفكيرهما، مكَّن مثل هذا الانتقال من أن يتحقق. أن تجاور نصيهما قابل للإثبات على أكثر من صعيد. ويمكن أن نضيف إلى طريقتهما في التصرف داخل الإلزامات المتعارضة لكل من الشرع والتجربة، هذه الكيفية، لديهما، في مفصلة كل من الشعر والنثر، تقنيًا، في خطابهما. فكلاهما يفتتحان فصول وسائلهما بأناشيد هي شعار فكرهما: نقول بنحو شامل وخاطف ما سيتعهد النثر بتطويره وبلورته ومده بالحجة، فيما بعد. مع هذا، فلا تعدم الفوارق بين الرجلين. إن نص ابن عربي يقدم نفسه كمتاهٍ حلقيٍّ، يلتف على نفسه، متعدد، يؤول بصورة روحانية وثرية جميع مناطق معرفة عصره، تدعمه في ذلك نزعة موسوعية ليست تصنيفية بقدر ما هي متعددة الاتجاهات. في حين يبدو نص سان-خوان ده لاكروث أكثر خطية، وأكثر اشتعالاً، فهو يتقدم على طريق التدليل سائقًا الحجة تلو الحجة. إن الأول يتخذ هيئة نص باطني لا يستطيع أن يسلك شعابة إلا من كان عارفًا ومكتمل المعرفة. أما الآخر، فيمنح يده للمريد ويساعده في التقدم خطوة فخطوة باتجاه التنزيه (التجربة) الذي يقصر عنه القول.

في التصوف المقارن، تبدو لي مسألة عابثة وغير قابلة للمعالجة تاريخيًا. أننا حين نقرأ سان-خوان ده لاكروث، نقابل في كل صفحة تلاقياته مع سوابق إسلامية. وقد حلل آسين بلاتيوس بعض هذه التلاقيات، خصوصًا تلك المتعلقة باستعارة الليل ومقابلة القبض والبسط، والعلاقة الممكنة بين ده لاكروث وبين الشاذلية (القرن الرابع عشر). ولكن ما من وثيقة تمكننا من تعزيز هذه الفرضيات. لقد قامت لوثه لوبيث- بارالت بجرد السوابق الإسلامية في موضوع "النور" لدى المدرسة الإشراقية وابن سينا والغزالي. وإن بعض هذه التماثلات [بين التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي-الإسباني] مدهش حقًا. ولكن، هنا أيضًا، لا أجدني قادرًا على الأخذ بفرضية التأثير الإسلامي. إننا إذا ما فتحنا الأبواب واسعة لمسألة التأثير فلا شيء سيوقفها. كم من الأشياء قيلت، مثلاً، بصدد التصوُّف الذي رأى فيه بعض المؤرخين تقليدًا شاحبًا للباطنية الهندية أو باطنية المسيحيين الأول أو الأفلاطونيين المحدثين أو قدامى الإيرانيين؟ إن حالة طاقات روحانية هي بمثل هذه الصرامة والنارية إلى مجرد نسخ [بعضها عن بعض] لهو شيء غير قابل للاغتفار، من أي طرف جاء. وعلى القول بالتأثير، أراني أفضل الحلم بالصعود إلى مستويات التأمل والشهادة في هذه اللغة أو تلك، التي توصلت إلى بلوغ إمكانية التمثيل. أن لغة نفسها يمكن أن تعرف لحظات تتألق فيها، ولحظات أخرى يُصاب فيها نجمها بالأفول.الروح متحركة، إنها لا تسكن مكانًا أو شعبًا أو لغة بنحو نهائي. يمكن لها أن تزور لغة وتبسط عليها أفضالها، ثم تهجرها وتتركها على التلف الذي ينجم عن التكرار وتحجُّر "الشفرات". هذا هو درس التاريخ.

أن من المناسب أن نقلل، بفضل مثال ابن عربي وسان-خوان ده لاكروث، من أهمية قطيعة عصر النهضة الأوربية، ومعاينة التواصل الثقافي القائم. فالقطيعة ستحصل فيما بعد، في عصر الأنوار، مع ولادة هذه الثقافة الفاعلة التي لن تعود لاهوتيه، وأن كانت تعبِّر أيضًا عن الغيبي المتجاوز.

بهذا المعنى، يحتل نص ابن عربي، والتراث الإسلامي، مكان المكبوت في التراث المسيحي الأوربي. ومن شأن المقارنة، المقابلة الصاحية بين النصوص، في انتقالها من لغة أخرى، أن تنعش موضع هذا التعتيم، من جديد، وأن تساهم باستعادة الجانب العربي الممنوع في قلب المجموع الكلاسيكي. إننا نستقبل هذه النصوص، عارفين أنها تخاطبنا كما يمكن أن يخاطبنا الموتى، فنستقبلها، لنبعث في داخلنا الحوار مع الأقدمين، كضرورة تدعونا إلى أن نكون أحياء بين الغائبين والحاضرين.

*** *** ***

يعتمد هذا البحث المصادر التالية:

-        ابن عربي، كتاب الجمال والجلال، دار المعارف العثمانية، 1361هـ؛ فصوص الحكم، تحقيق أبي العلاء عقيقي، القاهرة، 1365هـ/1946م؛ والفتوحات المكية، 4 أجزاء، القاهرة، 1329هـ.

-        سان-خوان داه لاكروث، الترجمة الفرنسية لأعماله الكاملة.

-        jeuvre, completes, trad du R.P. Cyprien de la Nativite de la, vierge, Edition etablie par Lucien, Marie de saint-Joseph, DDB ed. Paris, 1967.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود