<LINK href="favicon.ico" rel="SHORTCUT ICON">

 ميثاق العبرمناهجية - Charter of Transdisciplinarity

هذا الشعار مستوحى من شعار المركز الدولي للأبحاث و الدراسات العبرمناهجية، عن رسم أصلي للفنان البرتغالي الراحل ليماده فريتاس

 إصدارات خاصّة

Special Issues

  المكتبة - The Book Shop

The Golden Register - السجل الذهبي

 مواقع هامّة

Useful Sites

أسئلة مكررة

F.A.Q.

الدليل

Index

 معابرنا

 Maaberuna

كلمات في سلمية الثورة

 

نورس مجيد

 

من الصعب اقتفاء أثر أول خطاب لاعنفي في التاريخ، فثمة خطابات سبقت بألف عام كلمات بوذا ونصوص العهد القديم والجديد، وقد سجل التاريخ موقف أخناتون، الذي حكم مصر سبعة عشر عامًا (1375-1358 قبل الميلاد) في مجتمع اشتهر بولعه بالقتال:

فعندما اهتزَّ العالم بأسره بفعل أصداء الحرب، ألقى أخناتون أول موعظة سلام معروفة للبشرية، في زمنٍ فاضت فيه قلوب الرعايا بأمجاد القتال وزهو المواكب العسكرية، فما كان منه إلا أن أدار ظهره عمدًا لتلك البطولات، فكان أول رجل يعظ بفضائل البساطة والصدق والصراحة والإخلاص، وكان أول من يفعل ذلك من مرتفع عرشه[1].

ولاو تسُه، فيلسوف القرن الخامس قبل الميلاد، كتب عن الحاجة لـ «محبة متساوية للجميع» تنبثق عن أتون الحرب والظلم، وقال:

قتل إنسان في سبيل خير العالم ليس فعل خير للعالم، أما التضحية بالنفس من أجل العالم فهي عملٌ خيِّر[2].

ومنسيوس، تحدث في القرن الثالث قبل الميلاد عن وهم القوة وسلطان الإقناع:

يعجز المرء عن كسب قلوب الناس إذا حاول إخضاعهم بالقوة، وعندما يسعى لإقناعهم بالفضيلة، تدخل السعادة إلى صميم قلوبهم، فيؤدون له الطاعة بكل إخلاص[3].

وفي مقابل اهتمام الإغريق والرومان بالحرب وهيمنتهم العسكرية، سطرت نصوص اليهودية في القرن الثاني قبل الميلاد خطابًا غريبًا عن تلك النزعة كان يدعو، ولو بشيءٍ من الخجل، إلى كفِّ اليد وعصيان أوامر القتل: «ألا تتسبب بالأذى لأي إنسان طوعًا، أو بأمرٍ من أي إنسان آخر». ونقل عن "هيلل"، المفكر اليهودي من القرن الأول قبل الميلاد وأحد قادة الفريسيين، قوله: «كن من أبناء هارون، تحب السلام وتسعى للسلام، وتحب سائر المخلوقات، فتقربهم إلى التوراة». وشرح بكلمات أخرى عماد اليهودية كما رآها: «لا تقع على جارك بما لا تقبل أن يقع هو عليك، هوذا الناموس كله، وما تبقى هو محض كلام»[4].

المسيحية جاءت بنهجٍ أكثر ثقة وتواترًا يعظ بضرورة نبذ العنف حتى في حالات الدفاع عن النفس: «أحبوا أعداءكم وأحسِنوا وأقرِضُوا غير راجين عوضًا» (إنجيل لوقا 6: 35)، «من لطَمكَ على خدّك الأيمن، فاعرضْ له الآخر أيضًا» (إنجيل متى 5: 39). وجاء الإسلام ليرسخ هذا المنهج، فطرح بثقة مبدأ الكفر بالطاغوت واعتبره العروةَ الوثقى وجوهرَ العقيدة برمتها: «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»، وقدَّم في الآن ذاته نموذجًا عمليًا لهذا الكفر/الإيمان، سواء من خلال تجربته التاريخية المكيَّة التي سجلت ثلاثة عشر عامًا من كف اليد، أو من خلال نصوص أصيلة فيه أعادت إحياء هذه الفضيلة: «أرأيت الذي ينهي عبدًا إذا صلى... كلا لا تطعه واسجد واقترب»، وعدم مقابلة العنف بالعنف: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك».

القرن العشرون رأى أكثر النزاعات دموية وانتشارًا في تاريخ البشرية، سواء من حيث عدد ضحايا الحروب أو نسبتهم إلى التعداد السكاني في العالم، ولكن في مقابل 178 مليون نسمة الذين قضوا في حروب ذلك القرن، والذين شكلوا 10 بالمئة من سكان العالم في ذلك الوقت[5]، شهد العالم ظهورًا استثنائيًا لحركات اللاعنف التي فاقت في أعدادها أي وقت مضى: غاندي في الهند، ولوثر وسيزار شافيز في أمريكا، والثورة الإيرانية ضد الشاه، ونضال الدلاي لاما، ومبارك عوض في فلسطين، والحركات اللاعنفية الأحدث في سلوفاكيا وصربيا وجورجيا وأوكرانيا، هذه الثورات شكلت مجتمعة ليس انتشارًا متعاظمًا لمنهج اللاعنف فحسب، وإنما تحول ما كان في السابق خطابًا أخلاقيًا يملك في أصوله بعض المرجعية الدينية، إلى إستراتيجية نضال متكاملة، اعتبرها البعض أداة لها كل مقومات السلاح الذي يمكن للشعوب استخدامه في مقارعة الظلم المفرط للحكومات.

لقد بدت البشرية وكأنها تمضي بتروٍ تجاه قبول متدرج لهذا الانقلاب الفكري، ولكن العالم الذي نعرفه كان فعليًا ما يزال يعاني من قطيعةٍ تجاه هذه الدعوات المغرقة في قدمها. وكذا كانت الحال مع المثقف العربي، فلا يبدو أن ثمة تعليمًا أو ثقافة أو فكرًا مختلفًا طغى عليه مؤخرًا حتى بدأ حراكه بهذه الطريقة. لم يشهد الشارع الثقافي العربي أي انتشار لمنتديات أو كتابات أو مقالات قد تنبئ ولو بالحد الأدنى بتحول في فكر اعتزّ لقرون طويلة بثقافة السلاح والجهاد والنضال المسلح واعتبر عقيدة (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) منطلقه الأسمى.

لقد مجدنا نضال أهلنا في فلسطين ومازلنا نمجد، وهذا الشكل من النضال بالسلاح لنصرة القضية الفلسطينية كان وحده سيد الموقف، وحتى التجارب التي التزمت باللاعنف فكرًا ووسيلة، كتيار جودت سعيد، ونموذج قرية بلعين الفلسطينية، لم تلق أسماعًا لها بين الشباب العربي، والقليلون يعرفون الإنجازات التي حققها ناشطو بلعين خلال سبع سنوات من نضالهم السلمي، وحتى الثورات التي التزمت السلمية في العالم لم تلهم الشباب العربي لأي درجة يمكن قياسها، وآخرها كانت الأحداث التي شهدتها إيران في 2009، وهذه كانت على العكس يمكن أن توظف، جراء فشلها، كدليل على عدم كفاية وجود معارضة سلمية تعمل في الشارع، وعدم جدوى العمل السلمي أمام آلة القمع المفرط.

بدايةً، وكمحاولة أولية للتحليل، أفترض، بأن سلمية الثورة لم يتبنها الشارع العربي كأخلاق، إستراتيجية، ولا حتى كتكتيك، بل في البداية كردِّ فعل، وكخيارٍ بدا للسواد الأعظم من الناس خيارًا منعزلاً وحيدًا. السجون العربية الغاصَّة بسجناء الضمير شكلت جدارًا منيعًا (بالمعنى الرمزي والحقيقي للكلمة) أمام الناشطين لبناء قاعدة شعبية يمكن لهم من خلالها مجابهة الحكومة المستبدة سياسيًا. وفي غياب أية خيارات أخرى، ربما لم يجد الثائر العربي سبيلاً آخر يتبعه سوى التخلي، ولو مؤقتًا، عن "حقه" في الدفاع عن نفسه، درءًا لخطر قد يحيق بمن حوله فيما لو مارس هذا "الحق"، سيما وأن الثورة الليبية دفعت الشباب السوري للتفكير مليًا في مغبة اختيار طريق قد يؤدي في النهاية إلى حرب أهلية، فالعنف من شأنه أن يبرر للسلطة مزيدًا من القتل والقمع، فيتماهى الحق بالباطل خلف غبار معركة لن يعود بإمكان أحد تمييز الفرق بين عناصرها. على أن هذا الفرق سيكون صارخًا من جانب آخر بين من يمارس الأذى، ومن يصبر على الأذى، وكلما استطاع المناضل جعل هذا التمايز أكثر جلاءً، وكلما تسنى له تعرية الظلم وفضح ممارساته، وفي الآن ذاته، التعريف بعدالة المطلب وسلامة الوسيلة، كلما اقترب من تحقيق أهدافه وانهارت أمامه تلك الحواجز وشلت معها وسائل البطش وتوارت ذرائعها.

لا أجزم بأن لهذه المبادئ دور مباشر في انطلاقة الثورة السورية، ولا أي من الثورات العربية الأخرى. ربما لم يكن فكر اللاعنف أيضًا ليخترق الساحة الفكرية بهذا الشكل، ولم يكن مفهومًا لهذه الدرجة ولا بهذا العمق. الكثيرون مازالوا يؤمنون بأنهم يتخلون عن "حق" ما في النضال، يتخلون عنه مؤقتًا ولكن ليس إلى الأبد، فالبعض يرى بأن نظامًا بهذا القمع لن ينفع معه نضال لاعنفي بالضرورة، و"حقُّ الرد" هذا سيعود إلى الساحة بمجرد أن تتحقق ظروفه الملائمة. وحتى لو افترضنا صحة ما سبق، فإن تغييرًا ما يبدو وكأنه بات يلوح في الأفق، في خضم هذا الشد والجذب، بين هذا الفعل ورد الفعل، وبين هذا التدافع بين فكرة جديدة، وفكر قديم، وبين هذا الكرِّ والفرِّ بين الخيار اللاعنفي والخيار العنفي. ثمة نداءات أطلقتها أطياف مختلفة من الشارع السوري من شباب ومفكرين وسياسيين مخضرمين، كلها تطالب بضرورة الالتزام بسلمية النضال، كحل وحيد، وتعيد التذكير بقدرة هذا الخيار على بلوغ هدفه. هناك خطاب مضاد للعنف من جهة، وخطاب مستهتر باللاعنف من جهة أخرى، وهذه المشادَّة بين الخطابين تبدو ماضية في صنع أرضية فكرية جديدة لتحليل اللاعنف والاستعلام عن مصادره وإمكاناته.

وهناك أيضًا من بين الشباب الأكثر تعمقًا في اللاعنف من يسعى لجعل هذا الفكر منهجًا، ومن هذا المنطلق، لا تكون الغاية القصوى للاعنفي إسقاط نظام أو التخلص من فئة بعينها، بل هي تتجاوز ذلك بإسقاط الفكر الذي صنع الطاغية وكرس بقاءه كل هذه السنوات، إن لم نقل العقود والقرون من الزمن. وهنا تحديدًا يعول أولئك على المنهج وقدرته على الاستمرار، كما نعول على انتشار أي أخلاق لتصبح موضوعًا للتربية أو فطرة قابلة للنمو والانتشار.

وبين ديمومة الإستراتيجية ومرحلية التكتيك، سطر الشباب السوري ملاحم رائعة من الشهادة والنضال السلمي ربما لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل من حيث عددها وانتشارها وتطورها، وكأن الحال يقتضي أن يكون لكل تجربة رصيد أوسع من التضحيات والبطولات من سابقاتها. لم تعد أصوات الرصاص ووقع الهراوات ورهبة الاعتقال وأنات التعذيب تشكل حاجزًا نفسيًا عصيًا على الاختراق أمام الشباب السوري، فمنذ أن مهدت انطلاقة أول اعتصام في قلب العاصمة دمشق، وما تلاها من تظاهرات كان جلها داميًا ومروعًا، الطريقَ أمام خروج أوسع زخمًا، وأقل خطورة، بات من اليسير أكثر على من يرغب بالمشاركة في الحراك السوري أن يجد لنفسه مسجدًا يخرج منه، أو مجموعة ينطلق معها، بعد ظهر يوم جمعة، أو في أي ليلة من ليالي الأسبوع، بعد أن تدنت بفعل التضحيات الأولى احتمالات الاعتقال والقتل.

تجربة الخروج الأول للتظاهر لم يسمع عنها شباب الثورة الكثير، فبينما كانت الثورة في مجملها كرًا وفرًا بين المتظاهرين والسلطة، امتنع شباب الخامس عشر من آذار عن الهرب أمام أول هجوم بالهراوات من قبل رجال الأمن، التزامًا بمبدأ: "لا نضرب، لا نسب، ولا نهرب، بل نعترض". على العكس سارع هؤلاء إلى إجبار عناصر الأمن على اعتقالهم ودخلوا السجن بملء إرادتهم، وبهذه الكلمات وصف أحد الشباب تجربة الاعتقال:

... دون أن أنتبه اختفى بقية الشباب من حولي، تلفتت فشاهدت أخي يتوجه داخل محل حلاقة، دخلت خلفه وكنت آخر الواصلين، وجدت صاحبنا مقيدًا في الزاوية... بدأت أتكلم فورًا، قلت بصوت عال وكررت: "أنا معه، قيدوني معه"... كنت أمد يدي من بين رجال الأمن وأحاول أن أقترب من يدي صاحبي المقيدة خلف ظهره حتى يأخذوني معه. رفض رجال الأمن تحقيق مطلبي ثم تعرضت للمسك من الخلف ثم أنزلوني للأرض ثم "نكسوا على رؤوسهم" وقرروا وضعي بجانبه... اثنين من الشباب أخرجوهم خارج المحل لكنهم ظلوا عند الباب مطالبين بالعودة للداخل، فأدخلوهم وجلسوا إلى جانبنا. ثم في الطريق إلى الفرع حاول رجال الأمن فرض حضورهم من أول لحظة، لكننا كنا سبعة من الذين يحبهم قلبكم، فرددنا على كل كلمة قالوها، حتى أننا منعناهم من التدخين.

لم يستخدم عناصر الأمن السوري قط الرصاص المطاطي لقمع المتظاهرين، ولا غرابة في ذلك، إذ يبدو أن الرصاص الحي كان متوافرًا أكثر، وربما أيضًا لأنهم ظنوا بأن فعاليته ستكون أفضل، وأجزم بأن السلطة السورية لم تعتقد يومًا ولا حتى في أشد أحلامها جموحًا بأنها ستحتاج يومًا لرصاص مطاطي لقمع تظاهرة. وهكذا كان اللقاء الأول لأحد شباب داريا مع الرصاص المطاطي في إحدى التظاهرات:

إذًا هذا هو شعور الرصاص الحي... وهذه هي رائحة غاز الدموع...  كنت أحسب نفسي شجاعًا وأنا في الشارع... لكن (فلان) صديقي في الابتدائية الذي ترك المدرسة لأنه لم يتمكن من تعلم الكتابة كان أمامي ويدعو الناس (وأنا منهم) إلى الصمود وعدم الهرب... قبالة الرصاص وقنابل الغاز!

ونظرًا لخبرة العديد من شباب داريا بمبادئ العمل السلمي فإن حصيلة الشهداء هنا كانت قليلة بالمقارنة مع حجم التظاهرات وعددها وزخمها. لم يكن ذلك قطعًا بداعي الرفق بأهل الضاحية، ولكن دليلاً على فعالية العمل وقدرته على امتصاص عنف الخصم. خرج أهل داريا عزلاً، شعاراتهم كانت سلمية ومدروسة وهادئة نسبيًا. ذكر أحد شباب المنطقة كيف عملوا، إبان تشييع وعزاء أحد ضحايا الاحتجاجات، على تقديم الطعام لعناصر الأمن الذين شاركوا في القمع والقتل في يوم سابق:

اليوم أخذنا طعامًا لحواجز الأمن والجيش في داريا من الطعام الذي جهزناه لأهالي الشهداء فرفضه أحد الحواجز وقبله الآخر.

ولا جرم أنه في عالم كعالمنا المغرق في إيمانه بمبدأ العين بالعين لا يبدو هذا النموذج إلا وحيًا نبويًا بامتياز.

وفي الشمال، ومن حيث لم نحتسب، أذهلنا شباب الكورد في عامودا والقامشلي حيث كانوا الأكثر تنظيمًا وربما الأفضل خطابًا وأداءً. مظاهرات الشموع لم تتوقف، وسلمية الثورة كانت (تقلع العين) لشدة وضوحها. هناك كلام عن منشورات ولجان للتنظيم، وتقسيم لمهام الإدارة والتصوير والنشر والتوعية وحماية الممتلكات، واختيار مدروس للعبارات وتنسيق وتواصل بينهم وبين الشباب العرب، وكذلك دعم التواصل بين العرب أنفسهم. شعارهم الأبرز كان: «أن تؤلف القلوب، خير من أن تلعن الطائفية» ردًا على محاولات السلطة إضفاء الطابع الطائفي على الثورة السورية.

درعا كانت المرشح الأكبر لحدوث اشتباكات مسلحة، ففي هذه المحافظة العشائرية تعتبر جرائم الشرف الأكثر انتشارًا ووجود السلاح مع الناس أمرًا اعتياديًا، لكن درعا لم ترفع السلاح ولو فعلت لاختلفت المعادلة تمامًا. الشباب في درعا كانوا يقولون لنا: «لم نعد نحتمل، إذا قتلوا منا أحدًا آخر فسوف نحمل السلاح في وجههم»، كانت هذه النداءات تخرج كل يوم والجميع كان يتوقع انفجار العنف المضاد في هذه المنطقة، لكن ذلك لم يحدث أبدًا، مع أن القتل تواصل، وترافق ذلك مع حصار وحظر تجول وإهانات لم يعهدها أهل المنطقة. قال أحد الشباب: «أراد أحد الأعيان المعروفين في البلدة تقديم طعام الفطور لبعض عناصر الأمن تخفيفًا للاحتقان فما كان من العنصر إلا أن أخذ الطعام، ومسح يده بعقال الرجل الذي قدم له الطعام إمعانًا في إهانته». وقد أوشكت المنطقة، حسب قوله، إلى أن تتحول إلى حمام دم حقيقي جرَّاء ذلك.

ومما يميز ثورات الربيع العربي غياب شخصية القائد الفذ الذي يقود النضال، وإن كان الجميع يطالب بإفراز قيادة سياسية تقود البلاد للخروج من فوضى الثورة، إلا أن شروط اختيار هذه القيادة تبدو عصية جدًا، إن لم تكن مستحيلة، بل ربما تنطوي على شبه نظرة دونية للمعارض القديم الذي تعرض هو نفسه للسجن سابقًا، وفي ظروف قد تفوق الظروف الراهنة خطورةً، ولكن حراكه السياسي الراهن لا يرقى بالنسبة للبعض لتضحيات الدم التي يقدمها شباب الثورة اليوم. هذه الشخصية قد لا تكون مقبولة، ولا شرعية، ما لم تنبثق أو تضحي أو تدعم الثورة بمقدار ما يضحي من أجلها شبابها. وهكذا فإن غاندي نفسه كنموذج لم يعد موجودًا، وقد اختفى معه، ومع مارتن لوثر أيضًا، النموذج الذي ينتصر فيه النضال السلمي بقيادة شخصية كاريزماتية تكون بمثابة إله (عند الهندوس) أو قديس (عند مسيحيي مارتن لوثر)، وحل محله نضال سلمي يقوده تيار من الشعب وليس النخبة من المثقفين، وليس الطبقة الأكثر ثقافة وتعليمًا، وهي كذلك في المقابل ليست الطبقة المسحوقة الجائعة بحثًا عن عدالة اجتماعية منقوصة، بل بين هذا وذاك من أطراف المدن الكبرى، ومن أبناء الطبقة المتوسطة ماديًا وتعليميًا، (ربما أيضًا من الشباب الأكثر جرأة وشجاعة على التحدي والتمرد وليس بالضرورة أصحاب الخطاب المثقف). فثقافة القرن الجديد، حسب جودت سعيد،

لم يعد يحملها أفراد إصلاحيون فقط مثل الأفغاني ومحمد عبدو وتلاميذهم، ولم تعد هناك أسماء بارزة (كارزمية) بل برز اتجاه عام... إن كلمات ومصطلحات "مسألة الآخر" و"تعدد الرؤى" و"حرية الكلمة" بدأت تولد وتتكرر وتتحدد لها مفاهيم. فهي تتحرك وتنمو وأصبحت الرقابة ممجوجة، ولم يعد ممكنًا الحيلولة دون انتشار أفكار اكتسبت قوة الاختراق[6].

وهنا تبدو بذار اللاعنف وكأنها وجدت تربة صالحةً للنمو، وما نشهده اليوم ربما تكون فروعها الندية الأولى التي انتشرت بفعل رياح التغيير في أرضٍ خصبة تعرضت للحرث والتقليب طويلاً جدًا قبل أن تثمر. هذه ليست نبتة أو شجيرة منفردة واحدة بل مرجٌ كاملٌ من الزهور، إذا دست بعضها يبقى ربيعها ناضرًا حسب التعبير السائد في سوريا اليوم. هذا العنف الذي كنا نعبده قرونًا طويلة، زال، أو أوشك. إننا نستشهد اليوم بأمثلة واقعية، وقائع مسجلة صوتًا وصورة ومنتشرة على نطاق واسع. ليس هذا كتابًا لغاندي أو عبد الغفار خان، وليس خطابًا من خطابات سيزار أو مارتن لوثر كنغ، وربما سيفاجأ هؤلاء لمعرفة أن الرأي العام العالمي لم يكن بهذه الفعالية بحيث يغير سير الأحداث كما تنبأ غاندي، بل القوة الأخلاقية التي يتمتع بها أصحاب الحق، وفي مقابلها الانحطاط في الدوافع والأخلاق التي يتسلح بها أصحاب الباطل.

فهل تصنع المجتمعات العربية، خلال هذا العقد الفريد من الزمن، نماذج حقيقية يحتذي بها العالم في نضاله ضد آفة الظلم والعنف؟ وهل لسلطان اللاعنف أن يجد طريقه، من خلال البوابة العربية، إلى بقية دول العالم الثالث، ومنه إلى العالم الحديث وعلى رأسه أمم متحدة لم تعرف الديمقراطية منذ ولادتها، ولم ينتخب يومًا أعضاؤها الدائمون الذين يتحكمون، أو هكذا اعتقدوا، بمصائر البشرية من منبر واصل تكريسه لثقافة الحديد، ولم يتخذوا يومًا قرارًا، أيًّا كان، بإجماع ديمقراطي بأي شكل من الأشكال؟!

12 تموز 2011

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] Instead of Violence: Writings by the Great Advocates of Peace and Nonviolence Throughout History, Arthur & Lila Weinberg.

[2] على خطى غاندي، كاثرين إنغرام، ترجمة أديب خوري، معابر للنشر، 2008.

[3] Instead of Violence: Writings by the Great Advocates of Peace and Nonviolence Throughout History, Arthur & Lila Weinberg.

[4] المرجع السابق.

[5] Mark Kurlansky, Nonviolence: 25 Lessons from the History of a Dangerous Idea.

[6] جودت سعيد، مقابلة لمجلة قضايا إسلامية معاصرة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود