إسرائيل، فلسطين، حقائق حول نزاع*

العرض "السخي" وغارودي ويهود فرنسا

 

جوزف بدوي

 

نجح ألان غريش، مدير تحرير شهرية Le Monde Diplomatique، في كتابه إسرائيل، فلسطين: حقائق حول نزاع، في الجمع بنجاح بين العرض والتحليل لأصعب الأزمات الإقليمية في العالم منذ أكثر من نصف قرن. فقد تمكَّن من تقديم عرض مختصر ودقيق للنزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، من دون الوقوع في السرد التاريخي الممل؛ كما تجنب الغرق في التحليل التنظيري الواسع، وفضَّل اعتماد التحليل المركَّز، المبني على دحض مقولات إسرائيلية محددة كادت تتحول إلى ثوابت في الغرب، عبر العودة إلى تصريحات وكتابات لفاعلين في هذا النزاع، خصوصًا من إسرائيل وفرنسا.

 

يتميَّز غريش بمقارناته التي تعبِّر عن صرخة استهجان، كما جاء في تقديم دار نشر Fayard التي أصدرت الكتاب في نحو مائتي صفحة. فلماذا الذي يصح في يوغوسلافيا السابقة وفي جنوب أفريقيا لا يصح في فلسطين؟ لماذا نضع عودة اللاجئين في يوغوسلافيا السابقة في أساس الحلِّ، فيما نلقي بالقرار 194 حول اللاجئين الفلسطينيين في غياهب النسيان؟ لماذا يكون الفرز العنصري مُدانًا في جنوب أفريقيا، ويصبح نلسون مانديلا رئيسًا، ثم شخصية عالمية مرموقة، بينما يكرِّر الغرب القول إن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وإن الزعماء الفلسطينيين ليسوا سوى إرهابيين؟

وإذا كان الرأي العام الفرنسي يزداد تعاطفًا مع الفلسطينيين وقضيتهم، بحسب استطلاعات الرأي، فإن الفضل في ذلك لا يعود إلى قسوة القمع الإسرائيلي فحسب، بل إلى عدد من الكتاب والصحافيين الفرنسيين من أمثال ألان غريش.

***

يتوقف غريش طويلاً عند قمة كامب ديفيد التي عُقِدَتْ في تموز 2000 بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليدحض، بالبراهين، المغالطة الإسرائيلية الكبيرة حول رفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للـ"عرض السخي" الذي قدمه إليه إيهود باراك. وقد ركَّز الإعلام الإسرائيلي ومن يدعمه في العالم على مقولة رفض الفلسطينيين العرض السخي لتبرير القمع الواسع المنظَّم الذي يتعرض له الفلسطينيون حاليًّا. وردًّا على السؤال البديهي الذي يُطرَح على الكثير من السياسيين والمعلِّقين الإسرائيليين، خصوصًا عبر تلفزيونات فضائية عربية: "ماذا تفعلون في أرض محتلة؟" يكون الجواب الإسرائيلي دائمًا: "لقد رفض عرفات عرضَنا السخي في كامب ديفيد للانسحاب من أكثر من تسعين في المائة من الضفة الغربية."

يتساءل غريش في كتابه: هل كان عرض باراك متطابقًا مع قرارات الأمم المتحدة التي تفرض على إسرائيل الانسحاب من كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، ومن ضمنها القدس الشرقية؟ ويجيب أن تعبير "العرض السخي" كافٍ للدلالة على المنطق الإسرائيلي في التفاوض، أي العرض الذي يقدمه القوي للضعيف، والمنتصر للمهزوم، الذي ما عليه سوى الموافقة والاستفادة من هذه الفرصة المتاحة له.

عندما أقنع باراك الرئيس الأمريكي بِلْ كلنتون بالدعوة إلى قمة في كامب ديفيد أبدى عرفات تحفُّظه الشديد، معتبرًا أنه لن يكون بالإمكان حلُّ نزاع عمره نحو قرن في أيام عدة. إلا أنه أذعن في النهاية للضغوط، وتوجَّه إلى كامب ديفيد قبل أشهر قليلة من انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي.

وبعد فشل القمة أكَّد باراك، ومعه مجمل الطبقة السياسية الإسرائيلية وغالبية المثقفين الإسرائيليين، أن الفلسطينيين رفضوا "عرضًا سخيًّا" وفوَّتوا، مرة جديدة، فرصةً تاريخية كانت متاحة لهم. وقامت حملةٌ واسعة لتحميل الفلسطينيين مسؤولية فشل قمة كامب ديفيد، ولَزِمَ الفلسطينيون الصمت – ويا للأسف! – فترة طويلة؛ وكان لا بدَّ من انتظار أكثر من سنة لتسرُّب ما يكفي من المعلومات حول ما حصل في كامب ديفيد، وللتأكد من أن العرض الإسرائيلي كان جائرًا جدًّا، وهو أبعد ما يكون عن السخاء.

يؤكد غريش أن الدولة الفلسطينية التي وافق باراك نظريًّا على قيامها في كامب ديفيد تمنح الفلسطينيين سيادة منقوصة، وتُبقي حياتَهم فيها مرتبطة بالدولة المحتلة. كما يتم ضم 9.5 في المائة من أرض الضفة الغربية إلى إسرائيل، وتستأجر الدولة العبرية حوالى 10 في المائة من الأراضي في وادي الأردن لسنوات طويلة قد تصل إلى العشرين عامًا. كما تنقسم الضفة الغربية إلى ثلاث كتل شبه منفصلة، نتيجة إبقاء كتلتي استيطان ضخمتين في قلب الضفة، ويُبقي إسرائيل سيطرتَه على الحدود الخارجية للدولة الفلسطينية. وبالنسبة إلى اللاجئين، لم يقدم الإسرائيليون أيَّ عرض واضح. وحول القدس ليَّن باراك موقفه، ورأى أنه يمكن أن تصبح المدينة المقدسة عاصمة للدولتين، ولكن من دون إيضاحات حول مطلب السيادة – الأساسي للفلسطينيين – وحول مصير الحرم القدسي.

ويسخر غريش من الكاتب اليهودي إيلي فيزيل، حامل جائزة نوبل للسلام، الذي كتب مقالة في صحيفة Le Monde في 18 كانون الثاني 2001، رفض فيها تقسيم القدس، متهمًا باراك بتقديم تنازلات للفلسطينيين. ويتساءل غريش كيف يمكن لهذا "الضمير الكبير"، كما يصفه بعض وسائل الإعلام، أن يعتبر أن حائط المبكى أهم من السلام، لافتًا إلى أن الأشخاص الأكثر تعصبًا ليسوا بالضرورة مَن نعتقد أنهم كذلك!

قمة كامب ديفيد انتهت إلى فشل جزئي؛ وتواصلت المفاوضات. إلا أن الشعب الفلسطيني كان يئس من الوعود المؤجَّلة أو الكاذبة. وفي 28 أيلول 2000 زار أرئيل شارون الحرم القدسي، فكان ما كان من انتفاضة شعبية، من دون أية تعليمات مركزية بإطلاقها.

ويرى غريش أنه إذا كانت الحكومة الإسرائيلية تتحمل المسؤولية الرئيسية عن الانفجار فإن القيادة الفلسطينية تبقى مسؤولة عن الفوضى التي سادت مواقع القرار بعد بدء الانتفاضة. فهو يرى أن القيادة الفلسطينية لم تكن قادرة على استيعاب المخاطر التي ستنجم عن فوز شارون في الانتخابات مطلع العام 2001. كما عجزت عن تحديد أهدافها واستراتيجيتها، وفشلت في الردِّ على حملة التضليل الإعلامي الإسرائيلية التي استهدفتْها بعد قمة كامب ديفيد.

ويتساءل غريش عن الجدوى من تصريحات صَدَرَتْ في تلك الفترة عن مسؤولين فلسطينيين، تشكِّك، مثلاً، في الطابع المقدس لحائط المبكى لدى اليهود، أو تتمسك عشوائيًا بضرورة عودة كلِّ اللاجئين إلى ديارهم – وهي تصريحات أدَّتْ إلى بثِّ الخوف في نفوس الإسرائيليين، بحسب قوله، مما سهَّل انتخاب شارون. وهو يرى أن عرفات تصرَّف على أساس أن واشنطن تمسك بـ99 في المائة من أوراق الحلِّ في المنطقة، وتجاهَل تمامًا الرأي العام الإسرائيلي – من دون أن يبرِّر ذلك، حسب غريش، رفضَ إسرائيل لتطبيق القرار 242 والانسحاب من كامل الأراضي الفلسطينية.

ويتساءل غريش: لماذا فشلت محادثات كامب ديفيد؟ ولماذا فشلت اتفاقات أوسلو؟ ثم يجيب: لأن إسرائيل، القوة المهيمنة، رفض التعامل مع الآخر، الفلسطيني، على قدم المساواة، كأيِّ كائن بشري آخر له حقوقه إلى جانب واجباته. إن اتفاقات أوسلو لم تكن عقد زواج بين متساويين، بل هي نوع من مجموعة تدابير بين محتل وآخر خاضع للاحتلال؛ وكان المحتل يفرض رأيه عبر مختلف مراحل الاتفاقات التي أعقبت أوسلو في العام 1993، مدعومًا من الولايات المتحدة.

بعد قمة كامب ديفيد بخمسة أشهر، عُقِدَتْ محادثات طابا في مصر في كانون الثاني 2001؛ وكانت محادثات اللحظة الأخيرة، لأن الانتخابات الإسرائيلية لاختيار رئيس للحكومة كانت حُدِّدَتْ في السادس من شباط.

وإذا كان بالإمكان القول إن العروض التي قُدِّمَتْ في كامب ديفيد كانت رسمية إلى حدٍّ ما بوجود عرفات وباراك وكلنتون (ولو أنها لم توضع على الورق على نحو واضح) فإن محادثات طابا كانت مختلفة تمامًا. ففي طابا تألَّف الوفد الإسرائيلي من حمائم اليسار، مثل شلومو بن عامي، وزير الخارجية، ويوسي بيلين، الذي انتقل إلى حزب ميرِتس قبل نحو شهر بعدما بات يرفض طروحات حزب العمل، ومن يوسي ساريد، زعيم حزب ميرِتس. أما جلعاد شير فكانت مهمته الأساسية فرض رقابة على بن عامي وبيلين لمنعهما من تقديم ما لا يرضى عنه باراك. ولم يُخفِ جلعاد شير ضيقه من بن عامي، حتى أمام الفلسطينيين، مؤكدًا أمامهم أنه الوحيد الذي يستطيع إعطاء موافقة باراك على أيِّ اقتراح يُقدَّم.

وفي هذه الأجواء، ومع هذه التشكيلة للوفد الإسرائيلي المفاوِض، وفي غياب باراك، وقبل أيام من الانتخابات، قدَّم الإسرائيليون في طابا، على نحو غير رسمي وغير مكتوب، عروضًا تتجاوز ما قدَّموه في كامب ديفيد. عرض الوفد الإسرائيلي في طابا إعادة 96 في المائة من الأراضي الفلسطينية، تضم أيضًا مناطق يعيش فيها 20 في المائة من المستوطنين، والتنازل عن 3 في المائة من الأراضي الإسرائيلية. ووافق الوفد الفلسطيني على التخلِّي عن 2 في المائة من أراضٍ في الضفة تضم 60 في المائة من المستوطنين، وطالب بأن يتم الانسحاب خلال 18 شهرًا، بينما أراد الإسرائيليون 36 شهرًا. واتفق الطرفان على أن تكون القدس عاصمة الدولتين. ووافق الفلسطينيون على أن تضم إسرائيل المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية؛ وبينما يسيطر إسرائيل على حائط المبكى يتسلَّم الفلسطينيون الحرم القدسي.

إلا أنه لم يتم الاتفاق على مسألة السيادة في القدس الشرقية؛ وقُدِّمَتْ اقتراحات، مثل جعل السيادة بأيدي مجلس الأمن والمغرب لسنوات عدة. ووافق الفلسطينيون على جعل تسلُّحهم محدودًا إلى حدٍّ كبير، وعلى إقامة محطات إنذار مبكر في الأراضي الفلسطينية بشروط معينة. وتمت الموافقة على قوة دولية على الحدود الخارجية.

واعترف الوفد الإسرائيلي المفاوض في طابا أخيرًا أن أيَّ حلٍّ يجب أن يمر عبر تطبيق القرار 194 حول اللاجئين. كما اعترف إسرائيل بجزء من المسؤولية عن تهجير الفلسطينيين وطردهم. والخيارات الخمسة التي تم الاتفاق عليها على أنها متاحة للاجئين، من دون أرقام ولا تفاصيل هي: الانتقال إلى أراضي الدولة الفلسطينية؛ الانتقال إلى الأراضي الإسرائيلية التي سيسلِّمها إسرائيل للدولة الفلسطينية؛ العودة إلى مناطق سكنهم في إسرائيل الحالي؛ البقاء في البلدان التي هم موجودون فيها؛ أو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، مثل كندا وأوستراليا وغيرها. وقد وافق الفلسطينيون على التأكيد أنهم لا يريدون تهديد الطابع اليهودي لإسرائيل عبر إعطاء إسرائيل وحده حقَّ تحديد عدد الذين سيُسمَح لهم بالعودة إلى أراضيهم في إسرائيل. ووافق الإسرائيليون على عودة 40 ألفًا خلال خمس سنوات، بينما طالب الفلسطينيون بمائة ألف على أقل تقدير.

هذه الأفكار المتقدمة التي طُرِحَتْ في طابا – لماذا لم تتحول إلى اتفاق؟ الأسباب متعددة: فالوقت أصبح داهمًا؛ ولم يكن بالإمكان الاتفاق على معاهدة، بل الاكتفاء بإعلان قبل أيام من الانتخابات الإسرائيلية. وكان باراك يخشى الهزيمة، ويحاذر المزايدين عليه، خوفًا من فقدان الأصوات المتردِّدة التي تأثرت بحملة حزب الليكود عليه، على أساس أنه يقدم الكثير من التنازلات للفلسطينيين. من جهتهم، كان الفلسطينيون يترددون في التوقيع على تنازلات وافقوا عليها بالنسبة إلى القدس واللاجئين، وهي مرشَّحة لأن تبقى على مستوى الإعلان، بدلاً من أن تنتقل لاحقًا إلى مستوى الاتفاق والمعاهدة، خصوصًا في حال فوز شارون.

وهذا ما حصل. فبعد التخلِّي عن فكرة عقد قمة بين عرفات وباراك تكون قمة اللحظة الأخيرة، فاز شارون في الانتخابات، وتبخَّرتْ محادثات طابا التي يمكن اعتبارها أفضل خطوط عريضة تم التوصل إليها بين الجانبين من أجل حلٍّ نهائي للنزاع الإسرائيلي–الفلسطيني. وفي تصريح أخير له اعتبر كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات أن العودة إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين يجب أن تكون من النقطة التي وصلت إليها محادثاتُ طابا في مطلع 2001.

***

وقد خصَّص غريش في كتابه فصلاً كاملاً عن الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي وعمَّن يُطلِق عليهم اسم "الإنكاريين" négationnistes، أي الذين ينكرون حصول إبادة في حقِّ اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ويؤكدون بأن غرف الغاز لإعدام اليهود لم تكن يومًا موجودة. يعتبر غريش أن الإنكاريين في فرنسا وأوروبا عمومًا هم الذين لا يزال يتملَّكهم الحنينُ إلى النازية من اليمين المتطرف ومن المعادين للسامية، إضافة إلى بعض المنشقِّين عن اليسار المتطرف الذين يكنُّون عداءً شديدًا للصهيونية ولإسرائيل.

وينتقد غريش بشدة قانون غايسو الذي صدر في فرنسا في تموز 1990، وهو عبارة عن تعديل لقانون حرية الصحافة في فرنسا يلحظ السجن مدة سنة وغرامة تُقدَّر بنحو 40 ألف دولار لكلِّ من ينكر حصول جرائم ضد الإنسانية، أي خصوصًا المحرقة ضدَّ اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. ويتساءل غريش: هل كان هذا النص ضروريًّا؟ ويذكِّر بأن الدستور الأمريكي يضمن التعبير حتى عن آراء عنصرية، ويحمي الذين ينكرون وقوع المحرقة في حقِّ اليهود. وهو يرى أن إدانة شخص لمجرَّد أنه ينفي حصول محرقة ضدَّ اليهود يمكن أن يعني وكأن هناك حقيقة دولة فوق أيِّ نقاش حر، مما سيؤدي إلى لجم عمل المؤرِّخين. ويقول غريش إن هناك منطقًا لدى قسم من الإنكاريين يتلخص بما يأتي: إن إسرائيل يستخدم المحرقة لتثبيت شرعيته؛ إذن لا بدَّ من إنكار وجود المحرقة لنزع هذه الشرعية عنه. وقد لقيت هذه النظرية رواجًا في فرنسا، وكان روجيه غارودي أبرز من اعتنقها ودافع عنها.

غارودي – الشيوعي الستاليني في الخمسينات، والشيوعي الإصلاحي في الستينات، والمعجب الكبير بالمسيحية قبل أن يعتنق الإسلام في السبعينات – نشر في العام 1996 كتابه الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية. وبموجب قانون غايسو تمَّتْ محاكمتُه في فرنسا؛ ورأى العديد من المفكرين الفرنسيين والمسلمين في هذه المحاكمة دليلاً على التأثير الصهيوني الكبير في فرنسا. ويلاحظ غريش أن غارودي لا يوافق الإنكاريين على الكثير من أفكارهم. فهو يؤكِّد أن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون ملفَّق، ويوجِّه تحية إلى "شهداء انتفاضة فرصوفيا"، في إشارة إلى مقاومة يهود فرصوفيا للنازيين؛ إلا أنه يكنُّ عداء شديدًا لإسرائيل، دَفَعَه إلى تبنِّي مقولة الإنكاريين.

ويتساءل غريش: "هل يجب أن نعجب بجان ماري لوبِن لأنه يتعاطف مع العراق ومع صدَّام حسين؟" يأخذ غريش على غارودي أنه يُخرِج بعض التصريحات من سياقها عندما يستشهد بها، ويأسف لأن مثقفين عربًا وأوروبيين دافعوا عن حقِّ غارودي في حرية التعبير من دون أن يندِّدوا بطروحاته. ويرفض غريش بشدة نعت أيَّ انتقاد للسياسة الإسرائيلية وللصهيونية بمعاداة السامية، ويهاجم باتريك غوبير، رئيس الرابطة الدولية لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية في فرنسا، الذي يعتبر في كتاباته أن أيَّ رفض للصهيونية يعني معاداة للسامية. ويستشهد غريش أخيرًا بإدوارد سعيد الذي يقول:

لماذا نريد أن نتوقع من العالم أجمع أن يكون متفهِّمًا لمعاناتنا كعرب عندما لا نكون قادرين على إدراك عذابات غيرنا، ولو كان هذا الغير يقوم اليوم بقمعنا؟ عندما ندعو إلى التعاطي مع المحرقة بواقعية لا يعني هذا، بأيِّ شكل من الأشكال، أن وجود المحرقة يُعفي الصهيونية من مسؤوليتها عما تسبَّبتْ به للشعب الفلسطيني. بل على العكس: إن الاعتراف بالمحرقة وجنون الإبادة في حقِّ الشعب اليهودي يعطينا صدقية أكبر لشرح تاريخنا الحقيقي. وهذا يعطينا الحقَّ بأن نطالب اليهود والإسرائيليين بإقامة رابط بين المحرقة والأعمال الظالمة التي تقوم بها الصهيونية في حقِّ الفلسطينيين.

***

أهمية هذا الكتاب في أنه يجمع الكثير من المواقف الإسرائيلية والفرنسية التي توجِّه انتقادات لاذعة لمقولات إسرائيلية تحولتْ إلى نوع من الثوابت في الذهن الغربي منذ قيام دولة إسرائيل وحتى الانتفاضة الثانية الحالية. والنقض الأهم لمقولات إسرائيل حول اللاجئين الفلسطينيين لم يعد يقتصر على وليد الخالدي أو الياس صنبر، بل أصبح يصدر مباشرة من إسرائيل، عبر كتَّاب وصحافيين، أمثال بنِّي موريس وأميرة هاس وتانيا راينهارت، الذين يستشهد غريش مرارًا بما كتبوه وقالوه.

وإذا كان إسرائيل لا يزال يستغل عقدة الذنب الأوروبية من جراء ما حصل لليهود خلال الحرب العالمية الثانية لتبرير سياساته فإن الصوت الأقوى لدحض هذا الاستغلال جاء من مجموعة من المثقفين اليهود الفرنسيين، مثل المحامية جيزيل حليمي (التي تدافع حاليًّا عن مروان البرغوثي) والمؤرخ بيار فيدال–ناكيه والفيلسوف دانييل بن سعيد، الذين نشروا عريضة في صحيفة Le Monde في تشرين الأول 2000، قالوا فيها:

إن قادة إسرائيل، عبر ادِّعاء الكلام باسم جميع يهود العالم، وعبر تقديم أنفسهم على أنهم يمثلون جميع الضحايا اليهود عبر التاريخ، إنما يحتكرون حقَّ الكلام باسمنا رغمًا عنا. لا يحق لأحد أن يحتكر لنفسه الكلام عن الإبادة النازية لليهود.

ويورد غريش رسالة للبروفيسور شاوول ميشيل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، موجَّهة إلى باراك في نهاية العام 2000، أي بعد ثلاثة اشهر على اندلاع الانتفاضة وبعد فشل محادثات كامب ديفيد. يقول الأستاذ الجامعي الإسرائيلي موجِّهًا كلامه إلى باراك:

عندما ينجلي الغبار عن الحرب المقبلة بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بين إسرائيل والدول العربية، سنكون حتمًا المنتصرين، وستُلقي، يا رئيس الوزراء، أبلغ الخطب لتمجيد هذا النصر ولإقناع الكثير من الناس أن هذه الحرب كانت أكثر من مبرَّرة. إلا أنك تعرف أكثر من غيرك أنك، في النهاية، ستجلس إلى طاولة المفاوضات، وستكون مجبرًا على مناقشة المسائل الحساسة، مثل القدس وعودة اللاجئين والتنازل عن أراضٍ.

قد لا يمثِّل هذا الرأي غالبية الشعب الإسرائيلي اليوم؛ إلا أن الأكيد أن بإمكان البروفيسور الإسرائيلي توجيه هذا الكلام نفسه إلى أرئيل شارون الذي يتحفَّز للانقضاض على السلطة الفلسطينية بعد انتهاء الحرب المحتملة مع العراق ليصفِّي حسابه القديم مع ياسر عرفات.

*** *** ***

عن النهار، الخميس 16 كانون الثاني 2003


* Alain Gresh, Israël, Palestine : Vérités sur un conflit, Fayard, 204 pp., 2001.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود