رأي في "مبادرة جنيف"

 

هشام الدجاني

 

يذكِّرنا موقف بعض الفصائل الفلسطينية المتشدِّدة من مبادرة جنيف الأخيرة، لاسيما موقفها من حقِّ العودة المنصوص عليه بالقرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، بموقف العرب من قرار التقسيم للعام 1947، الذي جوبِه بالرفض بكلِّ إباء وشَمَم في ذلك التاريخ! واليوم يتباكون على إحراز نصفه – ولكن هيهات! ومع أن المبادرة هي مجرد اتفاق حول مبادئ عامة من جانب طرفين معتدلين، فلسطيني وإسرائيلي، لا يمثلان الأكثرية، وليست لهما صفة رسمية، إلا أنها أثارت المعارضة والانتقاد الشديدين في أوساط كلا الجانبين.

المبادرة تعطي نظريًّا للفلسطينيين نقاطًا إيجابية. وأقول "نظريًّا" لأنها تمثل، إسرائيليًّا، الطرف الضعيف في إسرائيل اليوم – وهو تيار اليسار ويسار الوسط. فهي تسلِّم بدولة مستقلة للفلسطينيين على 97,5 في المائة من الأراضي الفلسطينية قبل حرب 1967، وبالتعويض على الحصة الباقية، أي 2,5 في المائة، بأراضٍ إسرائيلية، وتقول بالتخلِّي عن قسم من القدس (الأحياء العربية منها) لإقامة عاصمة فلسطين عليها، وبمنح الفلسطينيين السيادة الكاملة على الحَرَم الشريف. ويمكن أن نلاحظ هنا بوضوح أن جميع هذه النقاط تشكِّل جوهر المطالب الفلسطينية لأية معاهدة عادلة لتحقيق السلام بين الجانبين. ذلك أن فتح المعابر، ووقف بناء الجدار، وإخلاء أكبر عدد من المستوطنات، سيكون في حكم التحصيل الحاصل بعد أن يستعيد الفلسطينيون الضفة الغربية كاملة.

مقابل ذلك، طلب الوفد الإسرائيلي برئاسة يوسي بيلين بأن يكون عدد العائدين الفلسطينيين إلى إسرائيل ذاته محدودًا (بحيث لا يزيد على 300 ألف عائد) لأسباب ديموغرافية معروفة؛ في حين تستطيع "الدولة الفلسطينية" في الضفة الغربية والقطاع أن تفتح أبوابها على مصراعيها لكلِّ راغب في العودة.

في تقديري أن هذا "الحق" يبقى نظريًّا، رغم أهميته وأهمية التأكيد عليه. ذلك أن القسم الأعظم من الفلسطينيين الذين استقروا منذ 1948 في الوطن العربي، وفي أصقاع شتى من العالم، واكتسب جانبٌ كبير منهم جنسية البلاد التي أقاموا فيها، لا يفكر في العودة إلا من باب الحنين إلى الوطن وزيارة الأهل، وليس الإقامة الدائمة. أما العودة الفعلية فلا أحسب إلا أن قلة قليلة ستمارسها حقًّا؛ وهم غالبًا بعض سكان المخيمات في بعض الدول العربية، خصوصًا لبنان. أما السكان الفلسطينيون الذين استقروا في الأردن واكتسبوا المُواطنية الأردنية، ويتمتعون بمراكز رفيعة في الدولة والاقتصاد، وبمكانة اجتماعية جيدة، فلا أحسب أنهم يفكرون في العودة، مع احتفاظهم بحقِّهم في التعويض.

لا أنكر حقَّ العودة على أحد، لكنني أتمنى ألا يصبح حقُّ العودة "مسمارَ جحا" نضعه شرطًا مسبقًا لأي اتفاق سلام فلسطيني–إسرائيلي، وبالتالي ننسف كلَّ احتمال للسلام، كما رفضنا فرصة السلام، أو فرصة المحافظة على جانب من أرض فلسطين حين رفضنا قرار التقسيم عام 1947... وكانت الهزيمة العربية الأولى عام 1948، وتشريد الفلسطينيين، وسلسلة الهزائم العربية المعروفة.

أود أن أضع بعض الحقائق الموضوعية أمام إخواني الفلسطينيين، لاسيما منهم المتشبثين بحقِّ العودة:

1.    غالبية الفلسطينيين في المنافي العربية والأجنبية اكتسبوا جنسية الدولة المضيفة، أو اكتسبوا حقَّ الإقامة الشرعية؛ وهم يتمتعون، في أغلب الأحيان، بوضع اعتباري جيد.

2.    لا يتعارض حقُّ العودة مع "خريطة الطريق" التي قبلتْها السلطة الفلسطينية، وأيَّدتْها معظم الدول العربية، وأصبحتْ إحدى مرجعيات الشرعية الدولية بعد مصادقة مجلس الأمن عليها – بمبادرة روسية – بالإجماع.

3.    لم تُصرَّ أية دولة عربية وقَّعتْ اتفاقية سلام مع إسرائيل على حقِّ العودة، أو الإشارة إليه من قريب أو بعيد، بل تركتْ أمره إلى الفلسطينيين وحدهم (وأعني السلطة الفلسطينية) لبحثه مع الإسرائيليين في أيِّ اتفاق للسلام.

4.    جرى التطرُّق إلى هذا الموضوع، كما كشف بعض المصادر، أثناء محادثات كامب ديفيد بين الجانبين الفلسطيني (برئاسة الرئيس ياسر عرفات) والإسرائيلي (برئاسة رئيس الوزراء السابق إيهود باراك) في أواخر عهد الرئيس بِلْ كلنتون. وتشير المعلومات القليلة التي تسربتْ آنذاك إلى أن إسرائيل وافق، من حيث المبدأ، على عودة بضع عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى أرض فلسطين التاريخية (إسرائيل) في نطاق جمع شمل العائلات.

5.    ما ينبغي الإصرار عليه، إلى جانب عودة نسبة من فلسطينيي الشتات، كما نصَّتْ وثيقة جنيف، حقُّ التعويض. هذا الحق يمكن أن يتفهَّمه العالم، ولا يستطيع أن يرفضه إسرائيل؛ ومن الممكن أن يُموَّل من "صندوق دولي" بإشراف الأمم المتحدة (وكالة الغوث مثلاً).

إن تأييد مبادرة أو وثيقة جنيف، أو عدم معارضتها، واتخاذ موقف معتدل منها، مفيد إعلاميًّا، على الأقل في مواجهة الاعتراض الإسرائيلي الحادِّ تجاهها، إلى حدِّ اتهام بيلين وأنصاره بالخيانة. أما الرفض الفلسطيني فجاء من منظمتي "الجهاد الإسلامي" و"حماس"، بالدرجة الأولى، إلى جانب بعض الفصائل المتشدِّدة، التي حرَّكتْ تظاهرات عارمة تذكِّرنا بالتظاهرات التي كنا نُدفَع إليها عندما كنَّا أطفالاً ضد مشروع التقسيم! وبلغ التطرف ببعض القادة الفلسطينيين حدَّ المطالبة بإقالة الأشخاص الذين صاغوا الوثيقة ومحاكمتهم، مثل ياسر عبد ربه وجبريل الرجُّوب وغيرهما، وكأنه ليس من حقِّ هؤلاء وأمثالهم أن يتخذوا مبادرة سلمية لا تكتسب أية صفة رسمية، ولم تتبنَّها السلطة، ووقفت منها حكومة إسرائيل موقفًا عدائيًّا!

ألا يجد هؤلاء المتطرفون أن موقفهم يلتقي مع رفض اليمين الصهيوني وحاخامات إسرائيل المتطرفين للوثيقة؟ ألا يجد هؤلاء أن سبب الموقف الإسرائيلي المتشنج يعود إلى أن الوثيقة فيها الكثير من النقاط الإيجابية بالنسبة إلى الفلسطينيين ومشروع دولتهم؟!

أما الحديث عن أن "الوثيقة" تعطي إسرائيل حقَّ التطهير العرقي وطرد العرب إلى ما وراء الجدار، أي الدولة الفلسطينية الجديدة، فلا أساس له، لأن فلسطينيي العام 1948 الذين ظلوا في ديارهم لهم حقُّ المواطنة الكاملة. ومن المعروف أن الأقلية العربية في دولة إسرائيل تتمتع بهامش من الحرية والديموقراطية أوسع مما يتمتع به مواطنو دول عربية كثيرة؛ وهم لهم أحزابهم وصحفهم وممثلوهم في الكنيست، ولهم كامل الحقوق أمام القضاء.

ولا أقول إن المبادرة سيُكتَب لها النجاح، بل لعلها سرعان ما تصبح مجرد ذكرى، كشأن كثير من القرارات والمبادرات الأخرى. إنها مجرد حِراك في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي وسط ظلام القهر والعنف والتدمير. ويدل حجم المعارضة الإسرائيلية المتطرفة على أن إجهاض هذه المبادرة (مبادرة الضعفاء) سيتم على يد إسرائيل. فلنَدَعْ اليمين المتطرف الإسرائيلي إذن يجهضها، بدلاً من أن يكون إجهاضها على أيدينا. ولتكن المبادرة الفلسطينية–الإسرائيلية عامل إحراج لحكومة شارون، وعامل إحداث للجدل داخل إسرائيل.

وينبغي أن ندرك تمامًا أن السلام لا يصنعه في النهاية إلا الفلسطينيون والإسرائيليون معًا. وهنا تكمن أهمية هذه الوثيقة. صحيح أن الطرفين يحتاجان إلى "خريطة" ما، وإلى جهود دولية، خصوصًا أمريكية، لصنع هذا السلام، بالعودة إلى المرجعيات الدولية. لكن الصحيح أيضًا أنه لا الولايات المتحدة ولا غيرها يستطيع أن يفرض أيَّ نوع من السلام لا يرتضيه الطرفان.

وما "وثيقة جنيف"، إذن، إلا بقعة ضوء، يمكن الاسترشاد ببعض ما جاء فيها في مرحلة ما، إذا انفتح أخيرًا طريق السلام.

فبدلاً من أن نلعن الظلام لنُضئ شمعة واحدة: هذه هي وثيقة جنيف.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود