الانتهاء من "النكبة"

سمير قصير

 

للنكبة في إسرائيل معنى حصري. بالنسبة إلى العرب، ولاسيما الجيل الذي عايشها، كان لها بُعدٌ حضاري تاريخي: فلم تَعْنِ خسارةَ فلسطين وتشريدَ شعبها وحسب، بل، فوق ذلك كلِّه، هزَّة رهيبة ضربتْ مسيرةَ الصحوة العربية، وخلخلتِ التطلعَ إلى استقلال لم يكن أُنجِزَ كليًّا بعد. كان العالم مشرفًا على الخروج من عصر الاستعمار عندما تكرَّس، مع نجاح المشروع الصهيوني، فعلٌ استعماري جديد سيكبح، لعقود وعقود، طموحَ العرب إلى لعب دور في حجم تاريخهم. وهذا ما يفسِّر أن تبقى النكبةُ عنوان واقع معيش بالنسبة إلى الأجيال التي تلت، حتى لا نقول واقعًا متجددًا أبدًا.

إسرائيل غير معنيٍّ بما حلَّ بالعرب من جراء إقامته كدولة – وهذا مفهوم. ومع ذلك، دخلت كلمةُ "نكبة" إلى قاموسه السياسي. دخلت مبتسَرة، لكنها دخلت. وهي تشمل الشقَّ الفلسطيني الصرف مما نسمِّيه نحن "النكبة"، أي أنها تعني طرد الفلسطينيين من أرضهم في العام 1948. أو لنقل إنها تعني ذلك لِمَنْ يقرُّ بحقيقة هذا الطرد، وعلى رأسهم أولئك الباحثون الذين بدأوا يُسمِعون أصواتهم منذ منتصف الثمانينات، حتى شكَّلوا ظاهرةً سياسية–ثقافية أخذت تنخر الوعي الجماعي الإسرائيلي.

الجديد أن هذه الظاهرة لم تعد تؤرق الضمير الإسرائيلي!

***

باستثناء سِمْحا فلاپان، الذي لعب في ما مضى دورًا سياسيًّا هامشيًّا في إطار حزب "ماپام" اليساري، كان "المؤرخون الجدد"، كما سُمُّوا مذ ذاك، من الجيل الإسرائيلي الثاني، لم يشاركوا (لصغر سنِّهم) في "حرب الاستقلال"، ومنهم مَن ولد بعدها. وقد عُرِفَ منهم على وجه الخصوص بِنِّي موريس، الذي كتب عن نشأة مشكلة اللاجئين، معترفًا بحصول طرد جماعي للفلسطينيين، ولكنْ دون الإقرار بوجود خطة إسرائيلية مسبقة، وتوم سيغيف الذي نال عملُه عن الإسرائيليين الأوائل وتهويد أرض فلسطين اهتمامًا كبيرًا بسبب سمعته الصحافية السابقة، وآفي شلاييم الذي كشف تفاصيل عن التواطؤ عبر نهر الأردن، وإيلان پاپيه، الذي انطلق من الأرشيف البريطاني ليثبت الطابع المبرمج لعمليات التشريد.

في معظم الأحيان، لم تكن الاكتشافات البحثية لـ"المؤرخين الجدد" سوى توكيد إسرائيلي لما كان يعرفه المؤرخون الفلسطينيون، ناهيك عن ضحايا الطرد أنفسهم. إلا أن أعمالهم اكتسبت أهميةً استثنائية: فبالإضافة إلى أنها أخرجتِ الروايةَ التاريخية الفلسطينية من دائرة المحظور في الغرب، أطلقتْ في إسرائيل نفسه عمليةَ مراجعة كادت أن تعيد النظر في التأريخ المدرسي الرسمي. فعلى الرغم من أن بعض كتبهم لم يُنشَر بالعبرية، صار جليًّا للكثير من الإسرائيليين أن حرب 1948 لم تحصل بالطريقة التي رُوِيَتْ لهم، وبدا المجال مفتوحًا للمزيد من الاكتشافات، ليس فقط أمام المؤرخين المكرَّسين، بل أيضًا أمام طلاب الجامعات الإسرائيلية التي دخل إليها، ولو على خَفَر، "التاريخ الجديد". وكان من نتائج هذا التوجه البحثي أن طالبًا في جامعة حيفا اسمه تِدي كاتس توصل في نهاية التسعينات، خلال إعداده لرسالة ماجستير، إلى الكشف عن مجزرة لم تكن معروفة حصلت في العام 1948 في قرية الطنطورة في الجليل.

واكتسب هذا الجهد العلمي أهميةً سياسية مضاعفة، كونه تزامَن مع نجاح الشخصية الوطنية الفلسطينية في الصمود أمام محاولات الطمس، وخاصة بعد اجتياح لبنان وانتقال ثقل العمل السياسي إلى الأراضي المحتلة. حتى إذا جاءت مرحلةُ التسوية السلمية بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، بدا أن المراجعة التاريخية قد تكون شرطًا من شروط الصلح، بينما التحضير للصلح يلغي الخطر "الأخلاقي" الكامن في مثل هذه المراجعة. وكانت الأقلية العربية في إسرائيل، أي فلسطينيو 1948، أول المستفيدين من هذا التبدُّل الخجول: لم يعودوا يتوانون عن الاحتفاء، على طريقتهم، بذكرى النكبة، ولا عن التذكير بأنهم مَن تبقَّى من أصحاب الأرض.

التبدُّل لم يثبت. ومثلما دفع الفلسطينيون ثمن رفض المؤسَّسة الإسرائيلية الذهابَ إلى آخر ما يُمليه منطقُ التسوية السلمية، دفع "المؤرخون الجدد" الثمن أيضًا: بداية الهجوم كانت على "الحلقة الأضعف"، الطالب تِدي كاتس، الذي خضع لمحاكمة أكاديمية انتهت بفَصْله في العام الماضي. واليوم ينتقل الهجوم إلى إيلان پاپيه، المهدَّد بدوره بمحاكمة أكاديمية قد تؤدي إلى فَصْله. لكن الثمن الأكبر هو الذي يدفعه طواعية رائدُ "المؤرخين الجدد"، بِنِّي موريس: إنه ثمن الخيانة العلمية. فمن دون الرجوع عن نتائج أبحاثه، وصل موريس إلى استنتاج معاكس لأخلاقية المثقف، فخلص إلى أن طرد الفلسطينيين كان لا بدَّ منه، بل كان يجب أن يكون أشمل وأكمل!

***

يقول إيلان پاپيه، في رسالة وزَّعها على البريد الإلكتروني، أنه تبلَّغ يوم 12 أيار استدعاءً للمثول أمام محكمة أكاديمية في جامعة حيفا، يلعب فيها عميدُ العلوم الإنسانية دور المدعي العام؛ وقد طالب الأخيرُ بفَصْله بسبب الإساءات المنسوبة إليه. ويوضح پاپيه أن المقصود بهذه "الإساءات" هو النقد الذي كان قد وجَّهه إلى الجامعة دفاعًا عن الطالب تِدي كاتس؛ إلا أنه يضيف أن السبب الحقيقي هو أن الوقت حان في إسرائيل لتصفية الحسابات وإسكات الحرية الجامعية، وخاصة أنه يؤيد الدعوة التي انطلقت من أوروبا إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية. وقد أعلن أنه ينوي تخصيص تدريسه العام المقبل لموضوع النكبة.

المشكلة، يقول پاپيه في مثال آخر نَشَرَه في الأهرام الأسبوع الماضي، أن النكبة لم تعد موضع إنكار في إسرائيل، بل مصدر اعتزاز! فعندما يعود موضوع الترانسفير إلى السِّجال السياسي، تصبح النكبة، يحذِّر پاپيه، نموذجًا قد يتطلع أريئيل شارون إلى تكراره. أو لنقل، توخيًا للدقة، أنه قد يتطلع إلى تكرار الشقِّ الفلسطيني من هذه النكبة. فالشق العربي الأعم لا حاجة إليه: النكبة العربية حاصلة منذ الآن!

*** *** ***

عن النهار، الاثنين 20 أيار 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود