«ثلاث كلمات...» و«قليل من المنطق»

الصادق النيهوم وكتابات زمن ما بعد الرحيل

 

رشيد أوراز[1]

 

كل مرة يكتب فيها الصادق النيهوم – الذي يجب أن نحتفل هذه السنة بالذكرى السبعين لميلاده – يكون ناقدًا؛ هو لا يكتب غير النقد: نقد الدين، نقد التاريخ، نقد الأدب. ونحن نمد يدنا إلى مكتبة النيهوم، سنأخذ كتابًا نقديًّا له لنعرِّف القراء إلى كاتب مفكر بدأنا ننساه بعد اثنتَي عشرة سنة فقط من رحيله.

الصادق النيهوم (1937-1994).

نال الصادق النيهوم من الاتهامات بـ«الاستشراق» و«الإلحاد» ما يكفي لحَمْلِه على مغادرة وطنه العربي، ليغدو مهاجرًا بلا وطن في بلاد الصقيع. وقد استغل كتاباتِه الحزبيون والإيديولوجيون أبشع استغلال. لكنْ... لأن مرحلة الإيديولوجيا العربية بدأت تحتضر، فقد حان الوقت لكي يولد الصادق النيهوم طبيعيًّا من جديد. وقد بدأ فعلاً يمد يده من تحت ركام النسيان والإيديولوجيا، مطالبًا القراء في العالم العربي – القليلين كالعادة – أن يبادلوه التحية بالتحية وأن يعطوه ما يستحق من حضور.

تتضمن السلسلة الخامسة من دراسات مكتبة النيهوم، الصادرة عن دار تالة، دراستين نُشِرَتا في صحيفة الحقيقة عامَي 1969 و1970. تحمل الأولى عنوان: «ثلاث كلمات تقال بأمانة عن مشكلة "التراث العربي"»، والثانية: «قليل من المنطق». والسلسلة التي يشرف عليها سالم الكبتي تهدف إلى جمع تراث النيهوم المتناثر في الصحف والدوريات، داخل ليبيا وخارجها. وقد أقدمت الدار على هذا العمل تقديرًا لقيمة الكاتب وعطائه الغزير ونظرًا لما أثارتْه كتاباتُه من أصداء، كما يشار إلى ذلك على ظهر أغلب إصدارات النيهوم. بهذه الخطوة ستصل أسئلة النيهوم ونقده اللاذع أحيانًا إلى أجيال الشباب في الحاضر والمستقبل، وسيُنقَذ من خطر التجاهل والنسيان.

الدراسة الأولى: «ثلاث كلمات تقال بأمانة عن مشكلة "التراث العربي"»

نقطة البداية عند الصادق النيهوم في هذه الدراسة أن «الإنسان يصل إلى هذا العالم عاريًا وأخرس»! وهي بداية ذكية تُسقِطُ الفوارق التي تصنعها التجارب التاريخية وتقر أن

[...] الجماعة هي التي تضع علامتها فوق الإنسان، كما تضعها فوق الماشية، وكما تضعها أيضًا على حدودها الإقليمية، لكي تصون وحدتها وتتجنب الفوضى العامة.

يقول النيهوم ذلك بشيء من السخرية، لكنه يضع التراث العربي في حدوده الطبيعية، فيرفع عنه القداسة ويعتبره تجربةً تاريخية. فكل علامة يحملها المواطن العربي فإنما لصيانة الحدود الإقليمية، وليست فريضةً دينية.

«التراث العربي – في الدرجة الأولى – مجرد مرحلة عادية في مسيرة الفكر السياسي عبر واقع العالم»، هكذا يقول النيهوم. ولكن عند هذا المستوى كان لا بدَّ أن يضع تعريفًا للتراث العربي بأنه:

ما وصل إلينا عبر تجربة العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يشمل بأي حال شيئًا آخر يخص تعاليم القرآن أو سنَّة الخلفاء الراشدين أو سيرة الحكام الذين عرفهم تاريخنا بين حين وآخر باعتبارهم نقاطًا بيضاء في ثورنا الأسود.

يطرح النيهوم في هذه الدراسة سؤالين محوريين: هل تابع التراث العربي آمال الإنسان؟ وماذا نريد أن نصون من التراث العربي؟ يقول: «التراث العربي غَلَبَه النوم أكثر من خمسمائة سنة»:

الإنسان العربي المعاصر هو الإنسان الوحيد في العالم الذي ما يزال يعتقد أن المرابط الميت يستطيع أن يخفق لنجدته إذا كسب رضاه بالشموع والنذور، وما يزال قادرًا على أن يحني قامته لكي يقبِّل قبر المرابط دون أن يحسَّ بفجيعة التناقض الفكري.

الإنسان العربي المعاصر هو الإنسان الوحيد في العالم الذي ما يزال يشارك الحضارات الوثنية إيمانها بالصراع مع الجنِّ والأرواح الغامضة ووسطاء السحرة وأعمال المشعوذين، وما يزال يلطِّخ عتبة بيته بالحبر الأبيض لكي لا يتسبب في غضب الفتاشة.

هذه الصورة تقول في وضوح إن تراثنا لم يتابع آمال الناس. وقد نجح النيهوم في وصف الوضع النفسي للمواطن العربي، فوضع التراث العربي هنا في وضعية محرجة، وضعية لا يستطيع فيها تحمُّل تلك الآمال.

على الرغم من هذه الوضعية القاتلة التي يوجد فيها تراثنا، ترتفع أصواتٌ قوية مطالِبةً بصيانته. وهذا ما يهم النيهوم أكثر، وهو ما جعله يكتب عن مشكلة التراث العربي. فالدعوات المتكررة لصيانة التراث جعلت النيهوم ينبش في التراث باحثًا عن مَواطن الحياة. ولما وجد النيهوم تراثنا مملوءًا بالسحرة والمشعوذين، وضعه تحت طائلة النقد والمساءلة، طارحًا سؤالاً مصيريًّا: ماذا يمكن لنا أن «نصون» من هذا التراث؟ صيانة التراث لها تعريفها الخاص عند النيهوم:

فالصيانة تعني تنقية ذلك التراث من أخطائه، وليس حفظه فوق رفوف المكتبة وفرضه على أولادنا الصغار بدافع التعصب وحده.

هكذا لا يتوقف النيهوم عن إرسال رسائله الخاصة للفقهاء ومثقفي السلطة الذين أجبروه على الابتعاد عن وطنه العربي والعيش في المنفى. فكلمة «التعصب» في هذه المقولة تتجاوز حدود النص، لتزيل الحجاب عن قضايا بالغة التعقيد تشغل بال النيهوم؛ وقد تكون تلك القضايا السبب الرئيس وراء كتابته هذه الدراسة النقدية التي تُسائل التراثَ العربي وتضع أمامه طريقًا صحية للخروج من المأزق الخطير الذي جعله يراوح مكانه منذ خمسة قرون على الأقل.

طريق «الصيانة» (بمعنى النقد) التي اقترحها النيهوم منذ أربعة عقود، لم نسلكها في معالجة مشكلة التراث، ولم نحصِّل الجرأة الكافية لطرح الرؤى النقدية، على الرغم من المحاولات كلِّها، بل بقيت أصوات المحافظة والصيانة (بمعنى التقليد) تعلو أكثر من أيِّ وقت مضى. أما حالة التراث العربي فظلت كما هي: حصيلة قرون كاملة من الانهيار الفكري والتدهور السياسي من الصعب نقدها وتجاوزها خلال بضعة عقود.

وفي خاتمة الدراسة الأولى، يذكِّرنا النيهوم جميعًا بأن «الإنسان مازال يواصل المشي دون معونة التراث العربي، فلا تتركوه يذهب بعيدًا جدًّا، وليكن الله معكم». ولحدِّ اليوم، بعد أربعين سنة، يبدوا أننا تركناه فعلاً يذهب بعيدًا، وتركنا النيهوم يضيع وراء كلماته!

الدراسة الثانية: «قليل من المنطق»

شعار الدراسة الثانية هو: «الطريق المسدود لا يوقف سَيرَك فحسب، بل يرغمك أيضًا على العودة إلى الوراء». ففي هذه الدراسة ينتقد الصادق النيهوم الفقهاء الذين يحاربون الأفكار «المستوردة»، ويدرس بكثير من التفصيل أفكارنا التي نسميها «أصيلة»، فيُرجِعُها إلى مصادرها الجغرافية والتاريخية، لكي يوضح – بكثير من الذكاء – أن هذه الأفكار «الأصيلة» أفكار مستوردة وأن ذلك «حدث في أسوأ الظروف وأكثرها إيغالاً في الحماقة والجبن». نقطة البداية عند النيهوم أن

كلمة الفكر المستورد تعني في الواقع أن أحدًا ما في هذا العالم المترامي الأطراف يعبِّئ أفكاره في علب الورق المقوى، ويكتب عليها طريقة الاستعمال، ثم يرسلها إلينا – مثل أقراص الأسپرين – لكي يبتلعها المواطنُ في بنغازي عندما يحس بوجع الرأس. وأنا أعتقد أن هذه الخرافة لا تبدو غير معقولة فحسب، بل إنها أيضًا تبدو بذيئة إلى حدٍّ كاف.

ويقدم النيهوم تعقُّد عملية الاقتناع عند الإنسان كعامل فكريٍّ يحد من ذلك:

العالم مجرد سوق مفتوحة على الدوام، يرتادها الإنسانُ في جميع العصور وجميع الثقافات لكي يشتري منها ما يحتاج إليه من الثياب والأفكار وفرش الأسنان، ثم يعود بسلَّته إلى «أرض الوطن» ويعمل على تطوير مشترياته لكي تلائم حاجاته أكثر، ريثما تطرأ على السوق بضاعةٌ جديدة.

فليس ثمة في العالم «بلد نَبَتَ داخل حدوده، وكل فكرة وجدها الإنسان في طريقه أصبحت ملكًا مشاعًا للإنسان». هكذا يصور النيهوم حركة الأفكار والإنسان في العالم. لكن ما هي الأفكار التي استوردناها؟ ومن أين؟ يحكي الصادق النيهوم تفاصيل ذلك بدقة، فيضعنا في الإطار الجغرافي والتاريخي الذي لا يمكن لنا الفرار منه أبدًا:

-       فـ«الوشمة الخضراء»، التي تمتد من حافة الفم إلى حافة الذقن، تقليد بربري معروف في شمال إفريقية منذ القدم؛ و

-       «التكليلة»، دستة الحلقات الفضية، مجرد عادة بربرية أخرى كانت شائعة بين جميع نساء إفريقية، من مذبح عشتارت في قرطاجنة إلى مذبح الساحر المليء بالجماجم البشرية في مراعي زنوج الماساي؛ و

-       «الدملج»، تلك الدرقة الفضية التي تحيط بزند أمِّنا نصف المقدسة، جاء بدوره من قرطاجنة؛ و

-       «الجربي» جاء من جزيرة جربة (تونس)، وليس من السماء، وهو صناعة معروفة في قرطاجنة منذ القرن السابع ق م، أحضرها الفينيقيون إلى المنطقة باعتبارها صناعة شائعة بين العائلات؛ و

-       «الرقعة الفيلاني» (حذاء طويل العنق ترتديه النساء) جاءت من قبائل الفولاني في النيجر.

-       وبصفة عامة،

فالرحى التي بقيت في بلادنا منذ العصر الحجري إلى عباءة أمِّنا نصف المقدسة ومسبحة شيخ المحلة وضريح المرابط وفول عاشوراء ونعجة العيد وليلة الدخلة وعمامة الفقي وشموع النذر وليلة الحنة وذبيحة السبوع ورباط الأرملة ووشمة العروس والرقعة الفيلاني والجنازة بالعروسية والباب الجواني والمربوعة التي لا تدخلها النساء والكلاب – هذا كله جاء إلينا من الخارج، ومثله أيضًا مرتين. ولكن كلمة «من الخارج» لا تعني من السماء، كما يزعم شيخ المحلة في خطبة الجمعة، بل تعني من قرطاجنة، ومن قبائل البربر والزنوج وحضارة مصر الفرعونية، ومن الأتراك العثمانيين الذين اخترعوا وظيفة شيخ المحلَّة بالذات.

لكن ما جدوى هذه الدراسة الطويلة لأشياء ثانوية ترتبط غالبًا بالحلي واللباس؟ المشكلة التي يعالجها النيهوم لا تظهر هكذا على سطح الكلمات، بل تظل مخبأةً وتسلك طريقها إلى وعي القارئ في سرية تامة. فالنيهوم يعالج قضيةً دينيةً معقدة، بتشريح البنية الفكرية للإنسان، وخاصة تفكيره في اللباس والحلي.

الإنسان الذي يريد أن يتنفس التقوى والورع في تفاصيل حياته اليومية كلِّها، أسقط ذلك على لباسه وحليِّه أيضًا لتنال نوعًا من الشرعية الدينية وتصبح فريضةً بمقتضى الشرع وجزءًا من العقيدة. هذا هو الفخ الذي يريد النيهوم أن ينقذ منه الإنسان، والمسلم بصفة خاصة.

فالملابس والحلي التي جاءت من هذه الربوع في تلك الأزمنة أصبحت جزءًا من العقيدة، تستحق أن يقود الفقهاءُ معارك حقيقية من أجلها. حدث ذلك في السبعينيات، حين كتب النيهوم هذه الدراسة، ومازال يحدث إلى اليوم أيضًا.

وكلمة «الفكر المستورد» سلاح حاد يلتجئ إليه الفقهاءُ وبعض المثقفين لإسقاط النقد. ولا شك أن ذلك ما استفز النيهوم أكثر ودفعه باحثًا عن أصول أفكارنا. ولا شك أيضًا أنه شخصيًّا تعرَّض لتهديد هذا السلاح، أكثر من مرة، ممَّن يدعون الحفاظ على الأفكار المقدسة للأمة.

لكن ما الذي يقع حينما يتعرض النص الديني لتفسير تحريفي يوصف بـ«التفسير الأصيل»، وتُنعَتُ كل محاولة نقدية بـ«الفكر المستورد»؟ آنذاك تحصل الكارثة التي لا يتمنى أحد أن يعيشها، حيث تصبح الحقيقةُ الدينية مؤامرة، ويصبح التحريف واقعًا تعيشه الأمة. ولا شك أن هذا حدث في الديانات كلِّها، ولا شك أننا بتنا نعيشه أيضًا بهذه الصورة المرعبة:

فالنص الديني يأتي من السماء لكي يعمل على تغيير ملامح الثقافة السائدة. ولكن المحترفين يقومون بتفسيره عن طريق مفهومات هذه الثقافة نفسها، كما يحاول المرء أن يغسل ثوبه من الوحل بمزيد من الوحل.

بهذه العبارة يختصر النيهوم كثيرًا من الكلام يمكن قوله عن النص الديني ومأزق التأويل والتفسير.

خلاصة القول عن هاتين الدراستين، وكمحاولة نقدية على هامش النص الأساسي، إن ما يسميه النيهوم هنا «أفكارًا» ليست «أفكارًا». وتلك فكرة مهمة ارتأينا الحديث عنها في خاتمة هذه القراءة، لا بدايتها، حفاظًا على الروح الأصلية للنصين. فعبارتَي «التراث العربي» و«الفكر المستورد» ترتبطان، عندنا نحن اليوم، بالفكر والثقافة والدين أكثر مما ترتبطان بما حدَّده النيهوم من حلي وملابس وأشياء أخرى. لكن النيهوم كان ينتقد الفقهاء؛ والفقهاء كانوا ينعتون طريقة اللباس الحديثة بـ«الفكر المستورد» – وهي معركة دخلها السياسيون أيضًا من طينة مصطفى أتاتورك الذي حاول تغيير أفكار الأتراك من تغيير طريقة لباسهم.

وفي هذا المستوى من الجدل القائم في العالم الإسلامي بين التقليد والتحديث، نقبل أفكار الصادق النيهوم كشعاع من الضوء انساب من بين آلاف الأحاديث والجدالات حول مواضيع عقيمة رسَّختْ ثقافةَ النقاشات الحادة بين الأحزاب والإيديولوجيات المتعاقبة في العالم الإسلامي حول مواضيع لا تستحق أيَّ نقاش يذكر.

هاتان المقالتان تشكِّلان تأريخًا لمعركة دخلها العالم الإسلامي منذ فجر القرن العشرين، ولا يزال مستمرًّا فيها وفي تحصيل العواقب الوخيمة لعدم حسمها المبكر.

*** *** ***


[1] باحث مغربي، إيميله: aourraz@maktoob.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود