المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين
«المسألة الدينية» موضوعًا لتفكير نقدي

 

ياسين الحاج صالح

 

أراد جورج قرم في كتابه المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين[1] أن يتقصَّى «نسابة» العنف التوتاليتاري الحديث عَوْدًا إلى الحروب الدينية التي واكبت الإصلاح الديني في أوروبا ومازجتْه، رافضًا ردَّها إلى الثورة الفرنسية وما تلاها من إرهاب، على نحو ما يفضل مزاجٌ محافظٌ ويميني ساد الثقافة الفرنسية والأمريكية في ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها. وينتقد قرم السرديات التي تحتفل بـ«عودة الديني» وتجعل منها نتاجًا طبيعيًّا لـ«انهيار الإيديولوجيات العَلمانية، المكرَّس باختفاء الماركسية»، فيرى، على الضدِّ من ذلك، أن عودة الديني «ظاهرة سياسية كبرى ليس لها من الديني سوى الاسم»، كونها «غير مرتبطة بأيِّ تطور كبير على صعيد تطوير العقيدة الدينية من الناحية اللاهوتية والسياسية أو التعبيرات الإيمانية».

ويميل قرم، في المقابل، إلى الربط بين تسييس الديني (أو توظيفه سياسيًّا) وبين أزمة السلطة في المجتمعات «التوحيدية»؛ الأمر الذي يسهم، في رأيه، في حجب أزمة الديني ذاته. وتعود أزمة السلطة ذاتها إلى «انهيار التراث»، بحسب العبارة التي اختارها المترجم (أُلِّف الكتاب بالفرنسية في الأصل). وربما كان من الأنسب اختيار كلمة «تقليد» ترجمةً لمصطلح tradition، نظرًا إلى أن الدلالة الشائعة لكلمة «تراث» العربية تحيل إلى الموروث المكتوب، فيما تتسع دلالةُ «تقليد» للأعراف والنظم والاستعدادات الموروثة[2]. ويبدو أوفى لمقاصد المؤلِّف ردُّ أزمة السلطة إلى «انهيار العالم التقليدي»، بما في ذلك «تغيرات فوضوية ومنحرفة في طريقة التعبير عن الإيمان الديني ذاته». ويفضل المؤلِّف الكلام على الاستعانة بالدين في عالم العولمة بدلاً من الكلام على عودة الدين، وعلى ربط تلك الاستعانة بالحداثة «بوصفها أزمة في الثقافة والسلطة» وخيبة للعالم.

على أن كتاب قرم يساعد، أيضًا، وربما أولاً، في وضع العنفية الإسلامية المعاصرة في سياق نسبي ومقارن ينزع عنها شذوذها واستثنائيتها ويسهم، من ثمَّ، في عقلنتها وتنظيم التفكير في شأنها في الوعي العام. ففي فصل طويل بعنوان «الأنماط الأولية لأشكال العنف الحديثة: الحروب الدينية في أوروبا»، يتاح لقارئ العربية الاطلاع على سياق من «العنف الفائق» المنسي، مشابه، من وجوه عديدة، للحال السياسية الدينية الراهنة في العالم العربي، إلى درجة قد تغري بالاعتقاد بأننا، من الوجهة هذه، نعيش اليوم في القرن السابع عشر الأوروبي. إن الحرب الدينية، يقول قرم، «حرب بلا رحمة، فهي تثير الإنسان على الإنسان، وغايتها ليست الهيمنة على الخصم، بل تدميره وتحويله إلى رماد – كما يفعل مفتِّشو محاكم [التفتيش]». ويُرجِعُ المؤلِّف «أشكال العنف الثورية الحديثة، أكانت فرنسية أم روسية أم صينية، وكذلك أساليب مراقبة الفكر بالنميمة والجاسوسية»، إلى الحروب الدينية.

كما نطَّلع على معادِل مسيحي لعقيدة «الولاء والبراء» التي تستحضرها التياراتُ الإسلاميةُ الأشد انغلاقًا وميلاً إلى التطرف والعنف. لقد أعلن البابا إنوسنت الثالث: «إننا، بحسب الشرائع، لا يتعيَّن علينا أن نحفظ الوفاء تجاه مَن لا يحفظه أمام الله»، وجعل من أصدقاء «الهراطقة» كفَّارًا، ودعا إلى الوشاية بهم والتوبة عن كتمان أسرارهم. وكان التنكيل بالهراطقة يُعتبَر «فعل محبة» على نحو ما يُعتبَر قتلُ المرتد عند الإسلاميين المتطرفين تخليصًا لنفسه من إثم الردَّة. بل إننا نجد معادلاً لدى كالڤن لـ«حاكِمية الله» التي نصادفها إسلاميًّا عند كلٍّ من أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.

والكتاب بذلك، ودون قصد على الأرجح، ينهض ضد مقاربة «عقلانية» رائجة في أوساطنا، تكاد أن تستفرغ كلَّ جهدها في المزيد من «تشذيذ» العنفية الإسلامية المعاصرة وإخراجها من كلِّ سياق وقياس – عقلانية تتميَّز بقوة مشاعرها وحدَّة حالاتها النفسية، لا بانضباطها النفسي ولا بتفكيرها التاريخي والمقارن. لا ريب أن «عقلانيتنا» هذه تنحو هذا المنحى بغرض عزل العنفية الإسلامية والتعبئة ضدها، لكن حصيلتها الفعلية لا تتعدى تغذية شعور قارٍّ بالبؤس والشذوذ يفاقم من «أزمة الضمير» الإسلامي والعربي (تيمنًا بعنوان كتاب پول هازار أزمة الضمير الأوروبي الذي يحيل إليه قرم في كتابه)، بدلاً من أن تساعد على وعيها ومعالجتها. وليس المقام هاهنا مقام تساؤل عن علاقة المثقَّفين بالتعبئة، ولا عن صلة هذا الشاغل «التعبوي» في أوساطنا بنزعات ومطامح زعامية محبطة.

يدعو قرم إلى عقد ميثاق جمهوري أو عَلماني عالمي يشكِّل استئنافًا عصريًّا للنداء الجمهوري للثورة الفرنسية. لكن مهما يكن نقدُه للاتهامات المحافِظة للتنوير والثورة الفرنسية في محلِّه، فإن من البيِّن أن نداء الحرية والمساواة والإخاء، على نحو ما صاغتْه الثورة، قد وصل في عالم اليوم إلى طريق مسدود. وتعويل المؤلِّف على أوروبا للوقوف في وجه العولمة الأمريكية يبدو لنا ضعيف الأساس: فالغرب الحديث ككلٍّ متمسك بما حقَّق، ولا يبدي استعدادًا إلا لحماية أنماط حياة غير قابلة للتعميم عالميًّا، ولو بالعنف الذي استطاع أن يوصل وسائله إلى درجة غير مسبوقة من التطور والإتقان. قرم نفسه يُظهِر أن التعريف بالغرب بتراث يهودي–مسيحي بات يقترن مع مزاج محافظ جديد يمنح قيمة مركزية، سالبة طبعًا، لعنف الثورة الفرنسية وتجربة الغولاغ السوڤييتية (يمثل عليه بتأريخ فرانسوا فورييه للثورة الفرنسية، وهو مترجَم إلى العربية)، ومع نظريات من نوع «صِدام الحضارات»، ومع إبراز استثنائية الغرب، تلك «الاستثنائية» التي تشكِّل نقطة إجماع يتصالح عليها المحافظون والتقدميون الغربيون، ومن باب أولى المصالحة بين الأمريكيين والأوروبيين. ولعل النزعة المحافظة المرحِّبة بعودة الديني هي نتاج إدراك عميق لكون الغرب محلَّة في العالم تتميز عن غيرها بأصلها، بعد أن اتسع هذا وتكشف مكوَّنًا من مليارات من محدثي الكلمة المطالبين بالمساواة.

لكن ما هو أهم من نزعة محافظة غربية نراها مرشَّحة للتفاقم أن ميثاقًا جمهوريًّا أو عَلمانيًّا عالميًّا هو أمانة في عنق العالم كله، وليس رهانًا يُلقى على عاتق قارة أو أمَّة أو طبقة أو دين أو ثقافة بعينها. ففي التحليل الأخير، ما من فرق جوهري بين رهن مستقبل العالم بأوروبا أو الغرب وبين التعويل على الإسلام، على غرار ما يقرِّر سيد قطب، أو على «الطبقة العاملة»، بحسب السنَّة الماركسية، أو على «الأمَّة» الفلانية، على نحو ما يدعو القوميون من جميع الأمم. فلا ينقذ «الكوسموپوليتية» (المواطَنة العالمية) التي يتحمَّس لها مؤلِّفنا طرفٌ بعينه في عالم متعدد الأطراف. ما يمكن أن يسهم في إنقاذها، وفي تجديد النداء الجمهوري، هو الروح النقدية والضمير المستقل اللذان يتعيَّن تنشيطهما في الثقافات والأمم والقارات كافة وفي كنف الأديان جميعًا. وهذا، ربما، واجب المثقفين، المدعوين إلى التحرر من أزمة الضمير التي خلَّفها سابقُ انحيازهم إلى مشاريع آلت إلى الطغيان.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] جورج قرم، المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين، بترجمة خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت، 2007.

[2] أدق من الترجمتين المذكورتين، فيما نرى، تأديةُ معنى tradition بمصطلح «المنقول»، المعتمَد في معابر، نظرًا إلى أنه يحيل في التراث العربي إلى «النقل» الذي يقابل مفهوم «العقل» (النقدي)، ولاسيما أن المصطلح الأجنبي مشتق من الأصل اللاتيني traditio (من فعل tradere، «سلَّم») الذي مُفاده، عمومًا، توريث المذاهب والقصص والأعراف من جيل إلى جيل عن طريق التسليم والاستلام من غير تبديل ولا تحريف، وفي سياق ديني خصوصًا، جملة العقائد الإيمانية غير المحتواة مباشرة في الوحي المنصوص الأصلي، لكن المستمَدة من الشروح على النص والتفاسير اللاحقة ومن سلطة المؤسَّسات الدينية الحافظة لها. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود