حُلة حمراء وعنكبوت٭

 

هبة عصام

 

1.
ما هوَ لي

العرَّافةُ لا تُغريني الآنَ
ولا الأبراجُ
ولا الصَدَفُ المسكونُ بصوتِ الموجِ
وطعمِ الملحِ
ورائحةِ الحلمِ الغجريْ.
صار سواءً
أن يقتات البحرُ قصورَ الرملْ
أو أن تنفضَ عن عينيكَ
نعاسَ الوقتْ
أو ترتادَ دروبَ الرفضِ
على صهوةِ فرسٍ مجنونْ.
عِشْ في حذرك حتى الموتْ
واحسب خطوَك قبل عبورِ الشارعِ
قبل صعودِ سلالمَ بيتِك
قبل الشفع وقبل الوترِ
وبعد القبرِ.
وصارع وشمًا
في ناصيةِ الزمنِ الفائت.
لا يعنيني أن يوقظك الوخزُ
ولا يشغلني شَيءٌ
حول مداراتِ الأحلامْ.
ما هوَ لي
سيجوب الوقتَ إلى حينٍ
وسيرقص فوق سنام الجمر إلى حينٍ
أثَرٌ كرفيفِ فراشاتٍ في أقصى الأرضْ
سيفكك أحجيةَ الحلقاتِ المنسية
سيقدم أحداثًا ويؤخر أحداثًا أخرى
ويبدِّل كرةَ النارِ بماء الوردْ.
ما هوَ لي
يأتيني سعيًا
لن أخطفهُ مِن بينِ كفوف الأقزامْ
لن تلمح أعينُهم أطرافَ ردائي الورديْ.
ما هوَ لي
سيُفرِّع أجنحةً عطْشَى
ويطير إليْ.

* * *

2.
غيبوبة

الزائراتُ يُثِرنَ فوضى الذاكرةْ.
يكتبْن فوق مُلاءةِ المشفى
وأغلفةِ الدواءْ.
يكشفن عُرْيَ وجوههِنْ.
هذي أنا
هذي أنا
والثالثةْ
والرابعةْ...
يحملن نفسَ ملامحي
وذبوليَ المجبولَ من أوجاعهنْ.

كَتَبَتْ أنا:
بي رجفةٌ تمتد من عمقِ الغيابِ إلى دمي

وتـَرِفُّ من سفح التلال الظامئاتْ
حتى سماء الأمنيةْ.

الثانية:
أثرٌ على رمل الدروب الضائعةْ

رجعُ الصدى
ونقوش حناءٍ بذاكرة الأفولْ.

الثالثة:
وقتٌ بمقدارِ الجروحِ

يُعبِّئُ الوجعَ المسافرَ
ثم يمضي مُبطئًا أو مسرعًا
كلٌّ تُحرِّكهُ الحمولةُ فوق ظهرِ عقاربهْ.

الرابعة:
حتمًا ستُختَصر الحياةُ بلفظةٍ عاديةٍ

ستُمَدُّ في ظهري انحناءةُ ناسكٍ
ويزول من قلبي الجنونُ مبكرًا
وأُزَجُّ في منفىً أصمَّ بكذبةٍ كبرى
وألفِظُ بغتةً بعضَ اليتامى.

الخامسة:
شطحُ النجومِ الهارباتِ من الدُوارْ

أُهدِي لنافذتي مساءً عاريًا
وأبُث في كَتِفِي رفيفَ الأجنحةْ
يقتاتني شبحُ الأبدْ
ويشدني وخزُ الجذورِ المنهكاتْ
أرتد أسئلةً يموءُ جنونُها
وأعود أفترش الحياةَ كما هي:
أحلامي البكماءُ بيتٌ من دُمَى

وصدى الخواءِ يلوكُني...
فلم التعجبُ حين أُزعِجُ غفوةَ الأيامْ

أو أكسر الكرسيَ كي لا أستريح؟!

السادسة:
لسذاجةِ الأشياءِ طعمٌ مالحٌ

وهمٌ تمدد بين أغطيةِ الضبابْ
أسميتُه حصالةَ الفرحِ
هو ما ادخرتُ من السنينِ التائهاتِ
ولم أزلْ
تمضي الحياةُ وخلفَها
أكذوبتي وحقائبُ السفرِ.

السابعة:
يا ظليَّ المخبوءَ خلف وساوسي

ارقصْ فإن العمرَ يأكل ساقـَهُ
والرقصُ سال لعابُه من خطوتِكْ
ارقصْ لتهرُبَ أيها المذعورُ
من شبحِ الفناءْ
وأنا على هدبِ الحياةِ
أراقبُ الموتَ البطيء.

* * *

3.
حُلةٌ حمراء وعنكبوت

نَمِراتٌ من غاباتِ الجنْ
تتسلق عقلَ الصاخبةِ الشهباءْ
جَمَراتٌ تحرِق بردَ الروحِ
ومسُّ جنونْ.

ولكارمن عاداتٌ حمقَى
تَدخُلُ حُلَّتَها الغجرية
ترقص
يتطاير ما فوق الجسد الرافض
تتحررُ من صَمغِ الخوفْ
تصعدُ فوق المارةِ والأقزامْ
شامخةً
تتنفس أبخرةَ العمرْ
في الأسفل يعتادون المِلحَ
وخفْضَ الرأسْ.

للعقلاءِ نصيبٌ
ولكارمن أنصبةٌ أخرى
لا يعرفها الآمنُ تحت الظلِّ
ولا الداجنةُ بكهفٍ حجري
لا يعرفها الخائفُ من خُطوته الحُبلَى.

يَتسع العالم؛
يستوعب كارمن...
تضجر رئتاهُ؛

يضيق...
غَزْلُ عناكبَ يَشبِكُ قدمَ الطيرْ
ترفضُ، تركلُ،
تنـزفُ حُلّتُها الحمراءُ،
تموءْ.

* * *

4.
قبل الفجر

اترك نافذتَك مشرعةً
واستبْقِ الوردَ على عتبات ستائِرها
فسأدخل قبل الفجر
وقبل الضوءِ الساطعِ من يقظةِ حُلمٍ مبتورْ
وسأنبشُ في أروقةِ الصمت
وأومضُ حيث فَراشُ الوقتِ
يُقايض صوتَ العصفورِ
بلون القزحِ على جنبيه
وأُطلق طيرَ الحب يثرثر
في قَصَصِ الأطفال
وكتبِ الآلهةِ المنقوشةِ في عينيك
سأوغل في عبث الأوراق الملقاة
على رفٍ مهجورْ
وأشاكس ما خطَّته يداك
فأُوقظ أخيلةً وسطورْ
وسأمرح في فوضاك المثلى
ملابسِك المهملةِ يمينًا ويسارًا
أقلامِك
عطرِك
لوحاتِك
وبقايا حلوى غافيةٍ
بجوار سريرٍ مخمورْ
سأُدَوِّن ما تهذي شفتاك
وأضحكُ حين تَمَسُّ رُؤاك
تخومُ الوعي
فتفتح عينيك المتعبتين
على طيفي
وتُعاود سُكرك مأخوذًا
برحيق الليل
وحين يُرصِّع وجهَ الكون
رذاذُ النور
سأقبل فاك على عجلٍ
وسأوصد خلفي نافذةً
يسكنها الورد.

* * *

5
كانت أنا

تلك العجوزُ المرهقةْ
بملابسٍ سَوداءَ ترمق بعضَ أشيائي الصغيرةْ
تمضي بأمتعة الرحيلْ
برعونة المذعور أركضُ خلفها
تخطو كرعبٍ في دمي
أدنو؛ فتختلج الخُطَى
ترنو إليَّ... تحل بي
رباه ما هذا الجنون...
كانت أنا!

* * *

6.
اسكتش

لشروديَ الطوافِ بي
ورعونةِ الحلمِ المشاكسِ في ثياب المدرسهْ
تركيبةٌ
كَتب الجنونُ رموزَها
السطرُ مسكونٌ بألف تميمةٍ
والحبرُ ممزوجٌ بقرص الهلوسهْ.

لطلاسم العشقِ المسافرِ في صداه إلى دمي
نقشٌ تفرَّق بين لبلاب السماء
ورؤىً يشتت لحنَها
شبحٌ أصمْ
أنا لا أخادعُ إن عشقتُ ثلاثةً
أنا لا أبالغ لو رسمتُ وجوهَهم فوق الزجاجِ
ولا أبالي حين يطويها العدمْ
أنا كائنٌ قيد الخيالْ
والقلب تحت الطبع في ركن المجرةِ
تحت نافذة السأمْ.

لنبوءتي
وشمٌ يناوشُ خاطري
شباكيَ المهجورُ في كراسة الرسمِ
سأطلُّ منه، وبعدها...
سأدرُّبُ العينَ الوليدةَ
أن تحدِّقَ في الفراغْ...

* * *

7.
جِنِّي

في الشُرفة جِنِّيٌ أسمرْ
يتقلد تاجًا فضِّيًا
العينُ اليمنى شاخصةٌ نحو اللاشيءْ
واليسرى يسكنها الحلمْ
في كل صباحٍ أَرقبُهُ
يتسلق درجات الشمسْ
عيناهُ يُحدّثها اللهْ
يُنْبِئها عن سرِّ البدءْ
عيناه نتوءٌ في جبهة زمنٍ صخريْ
تتفجر دمعًا...
فيحلِّق في الغيب نبيْ.

* * *

8.
عابرة ليلية

مُتعَبةٌ فوق رصيف الليلْ
الشفقةُ كانت أجدرْ
لكن الشيءَ الغامضَ يسكنها
فيدبّ الخوفْ.

نامت في زاوية الحائطِ
صرخَتْ؛ فارتعدت أبنيةُ الشارعِ؛
أطفأتُ المصباحَ الخافتَ والتلفازْ
ونظرتُ من الركن الضيقِِ
في نافذة الغرفةْ.

يخرج حارسُنا الليليْ
تتوسلُ أن تَبقى
يتركها ويمررُ ثقلَ اللحظاتْ
فتعود الصرخةُ توقظ بومَ الليلْ
أَختبئُ قليلاً خلف ستارِ النافذةِ البكماءْ.

تصرخُ كي يسمَعَها اللهْ
تثقب أذنَ الحارسِ
يخرج مشتاطًا
ويردد أن الناسَ نيام
يلفظها في جوف الليلْ.

الروحُ الـ كانت تتوسل شيئًا مجهولاً،
الوقت الغامضُ،
والرهبةُ، ونذيرُ الغيبْ،
ساعاتٌ...
ويُشَجُّ الطفلُ الغجريْ
شاحنةٌ تقذف لعبتَهُ
وتخضب أسفلتَ الحيْ...

الروحُ الـ كانت هائمةً في قلب الليلْ
تعلم ما يخفيه الصبحُ القادمُ
ناحبةً كانت،
تتوسلُ قَدَرًا آخرَ
خاتمةً أبعدْ

... قُضي الأمرْ.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ من ديوان حُلة حمراء وعنكبوت الصادر عن دار شرقيات.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود