من إيمان العقل إلى دين القلب 3

 

ثناء درويش

 

المحبَّة طريق الخلاص

ومهما طالَ الأمدُ، سيأتي الزمنُ الذي ترتوي فيه الأرضُ الظمأى من دماءِ أبنائها، وتُسدُّ سبلُ الخلاصِ، وتعجز كلُّ هذه العلوم الاكتسابية التي برع بها الدماغ البشري بمعزلٍ عن القلب، وأوصلته إلى ما يدعوه حضارةً وتقدُّمًا وغزوًا للفضاء، عن إيجاد مخرجٍ للإنسان من بركانِ النار، وفنونِ الدمار، وجحيمِ الأفكار، ولات حين مناص.

وسيرى الإنسانُ كِبَر غفلته حين تمثَّل من الله أسماء الجلال: المهيمن المتكبِّر القوي القادر المميت... وعميت عينُ قلبه عن أسماء الجمال الرحمن الرحيم المحيي الودود...

سيرفعُ رأسَه إلى السماءِ سائلاً ومتوسلاً الرحمةَ من ربِّ العالمين والرأفةَ بعباده، فيأتيه الجوابُ الأزليُّ الأبديُّ:

"ظهرَ الفسادُ في البرِّ والبحرِ بما كسبتْ أيدي الناس" – الروم 41.

حينها سيعلو من جديد صوت يحيى وإن شئت يوحنا:

"صوتٌ صارخٌ في البريَّة أعدُّوا طريقَ الربّ، اصنعوا سبله مستقيمةً" - إنجيل مرقس.

سيعلو صوتُ النفير مناديًا للحجِّ الأكبر، فيهرع الأحرارُ من كلِّ فجٍّ عميق، رِجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ، إلى المحبَّة أو دين القلب.

أولئك الذين لا رأسمال لديهم سوى الفقر، بقلوب تطهَّرت من كلِّ رَين وشَين، وصُقلت كالمرآة، وانجلى عنها الصدأ، لتكونَ حرمَ الله وكعبته الشريفة، وعرشًا يستوي عليه الرحمن، وهو القائل: "تجدني عند المنكسرة قلوبهم لأجلي".

الذين اختاروا الأميَّة لغةً لأنها خيرُ اللغاتِ، ولأنها لغةُ الربِّ - الإنسان الكامل. فالإنسان الأمي - وفق معناه في القرآن المترفِّع عن مفاهيم العامَّة، التي تربطُ كلمةَ "أميٍّ" بالذي لا يقدر أن يقرأ أو يكتب – طفلٌ وليدٌ، ووجودٌ طاهرٌ مبرئٌ من الغلِّ و الغشِّ، فارغٌ من التعلُّقات والتعصُّبات والميول، عار عن الهوى و الهوس والدنس، تنبثق الحقائقُ منه بشفافية ودون عوائق.

الأميُّ بذرة جيدة في رحم الأرض، إنه الطفل المنسوب لأمِّه، يشرب لبنها الطاهر، ويرتع في حضن رحمتها، ويتربى في مدرستها - مدرسةَ التطهيرِ القلبيِّ والجهادِ النفسيِّ - لتنجليَ الكدوراتُ الفكريةُ التي تعصفُ بالعقلِ نتيجةَ ممارساتها الدنيوية التي تحطُّ الإنسان إلى المنزلة الحيوانيَّة بدل الرقيِّ به إلى الملائكيَّة.

وعلى حين راح البشرُ يميلون للتجميع والتركيب والتعقيد، مال هو للبساطة في مأكله ومشربه ومسكنه وملبسه وعلاقاته، وأفكاره، مقرًّا بجهله الذي هو عين معرفته، لما رأى كيف اختصر الله نفسه بحرفين فقط ثم زفرهما في هاء طويلة.

فإذا بالطفل يرشد، وإذا بالحكمة تتدفقُ - عقبى إخلاصه - على لسانه كما تدفقت في كلِّ زمانٍ على ألسنة أناسٍ ومن رحمِ عقولٍ لم تمنحها الحياة فرصةَ المعرفة الكسبية، كحال النبيِّ الأميِّ – ابن العواتك والفواطم وعيسى بن مريم، وحال الكثير من الحكماء والأولياء.
"فمن أخلص لله أربعين صباحًا فتح اللهُ قلبَه وشرحَ صدرَه، وأطلقَ لسانَه بالحكمةِ، ولو كان أعجميًّا".

ولأن الشيء بالشيء يذكر، نتأمل في بواكير كلِّ دعوة فنجد أنه ما من داعٍ أتى، يخالف بدعوته المألوف والمعتقد والمتعارف عليه إلا كان أول من اتبعه بسطاء الناس، وأول من حاربه سادة القوم وكبراؤهم. الذين ينظرون على الدوام إلى البساطة كنقصٍ ودونيَّة.

بسطاء أميُّون هم ملح الأرض، يحفظونها من الفساد، لأنهم أوَّل من يلبِّي يوم يدعو الداعي إلى أمر نكر. وأول من يتَّبع الرسول الذي جاء يعلمهم الكتاب والحكمة. لم يستمعوا إليه بقلوب لاهية بل صاغية، ولا فكَّروا وقدَّروا بل صدَّقوا، ولا بخلوا وقتَّروا بل تصدَّقوا، فاستحقوا اسم الصدِّيقين الشهداء على الناس. وإذا بهم مع الرسول وحدة من غير فرق "كزرع أخرج شطئه فآزره فاستوى على سوقه".

وحينها... في زمن الخلاص ذاك، الذي سيلي زمنَ العبور الصعب هذا، وبعد أن يرتضي الإنسان العرفان طريقًا عامًّا لا خاصًّا لانعتاقه من العبوديَّة التي اختارها لنفسه، وتحقيق ربوبيَّته بالأدوات نفسها التي أعطيت له منذ الخلق الأول.

سيمارسُ الإنسانُ تفويضَه الإلهيَّ في التعايشِ على الأرضِ، باعتباره خليفةً من وجهةِ النظرِ الدينيةِ على الأقل، وباعتباره كائنًا ساميًا، يمتلك كلَّ القوى التي تؤهلُه للحكمِ والحياةِ، وفقًا لاعتباراتِ كينونتِه الإنسانيةِ.

فما العرفانُ هذا، وما معرفتُه، ليقدرَ أن يضمَّنا تحت جناحيه أمةً واحدةً، كحالنا قبل أن تتفرقَ بنا السبلُ، ونمضي طرائقَ قددا؟!

ولماذا طريق العرفان دون سواه؟!

لأنه ليس دينًا جديدًا ولا مذهبًا جديدًا بل هو الدينُ الذي وصل من خلاله أيُّ نبي أو وليٍّ لكماله، وعن طريقه يتعَّرفُ كلُّ شخصٍ إلى قيمه الفطريةِ وشخصيتِه الحقيقية ومركزيتِه الوجوديَّة التي غطتها الهويَّاتُ المتكثِّرةُ والإضافاتُ الجانبيةُ، فكانت النتيجةُ التضحيةَ بالجوهر لصالح كلِّ ما هو عارض.

ولأن العرفانَ لا يدعو إلى طريقةٍ بعينها، بل يدعونا جميعًا للتماسكِ إليه، كلٌّ على طريقته.

لأنه يقدِّمُ أجملَ معاني الأسماءِ الإلهية.

لأنه أجملُ صورةً لمعنى الوجود.

لأنه اللغةُ الراقيةُ للخطاب الإنساني.

لأنه الترجمةُ الأكثرُ إدراكًا لسريانِ الروحِ الإلهيَّةِ في الأكوانِ.

لأنه السلوكُ الأبلغُ حقَّانيّةٍ في الوصولِ إلى منابعِ الحقيقةِ.

ولأنه باختصار يوصلنا إلى ما قاله النبي محمد (ص): "إن كلَّ إنسان كمنجم من ذهب أو فضة أو جوهر، نقِّبْ عن الخيرِ فيه تفز بالسلام".

شهادة العرفان:

فالعرفان وفق هذا المفهوم هو الشهادة.

وكما هو متفقٌ عليه عند أهلِ الطريق هو درب رجوع نحو البدء. وسباحةٌ عكس التيار باتجاه المنبع.

لكأن السالك سمكة سلمون تسبح من المحيط إلى البحر فالنهر فالمنبع بعد اللقاح، في مجاهدة تهوِّنها غريزة البقاء عبر التناسل. وهناك تضع بيضها وتموت.

وما البيض إلا تلك الرؤى القلبية والآراء العقليَّة للسالك في درب الفناء للبقاء.

كلُّ رجال التجديد سبحوا عكس التيار، وربما قدموا حياتهم ثمنًا لرؤاهم.

كلُّ واحد منهم كان خروفًا أو قربانًا لنار الحياة المتقدة وشعلتها الخالدة.

ما من واحد منهم، ارتضى أن يكتفي بما رآه الآخر، بل أراد أن يحترق بنفسه بنار الاكتشاف. بواد غير ذي زرع، يمضي المجدِّد السبَّاق، وسط ظلم الظاهر وظلمة الباطن،حيث لا إشارات ولا علامات ولا منهاج ولا برنامج معدٌّ مسبقًا، بل صحراء جرَّدتها رياح العلوِّ، من كل أثر باق، لتتغير لوحتها كلَّ لحظة، وتتبدل تكوراتها كلَّ حين.

العالم الأكبر الذي انطوى يُنشر، والمضمر يعلن، لتأتي الكتابة قراءة لحظيَّة للوجود الحقِّ.

"وكما أن الخمر الجديدة توضع في أوعية جديدة هكذا يترتب عليكم أن تكونوا رجالاً جددًا إذا أردتم أن تعوا التعاليم الجديدة التي ستخرج من فمي" – برنابا.

هكذا قال يسوع لكل زمان ومكان، مردفًا أن شرط الرجولة الجديدة أن نعود أطفالاً:

"الحقُّ أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات" - إنجيل متى.

يمضي السالك، بخطى تسير، وعين ترى، ووحي يوحى.

كلما قفل راجعًا، كان الأمام أوضح، وكلما ارتفع، اتسعت الرؤية وضاقت العبارة.

كوردة تتفتح عين القلب شيئًا فشيئًا على آفاق أرحب، بعد أن أغلقت عين البصر. كعين ماء يفجرونها بالعشق تفجيرا، لتنشقَّ ظلمات الصدف عن درِّها المكنون.

الإبداع والخلق يعلنانه إنسانًا بأسمى أسمائه "بديع السماوات والأرض".

وفي النهاية... ومع اختلاف الرؤى، نجد أننا أمام صور لا متناهية لذات الكتاب، ذي المعاني الواحدة.

ذاك هو العهد الجديد، وتلك هي ثورة التجديد أو البعث، وتلك هي حقيقة الشهادة.

شهادة يشهد بها، ويكتب مع الأحياء الخالدين في سفر الحياة.

شهادة قال فيها نبينا الكريم: "من عرف حدودها وأدى حقوقها دخل الجنة".

فيا لتلك الشهادة يشهد بها الله في كماله أن "لا إله إلا هو"

فإن كان العالم علم بالبرهان ما يكون وما كان، فإن العارف شاهد عيان.

وإن قال أشهد فهو قد شهد فعلاً.

شهادة تشترط بدءًا النفي لأجل الإثبات، والطرح لأجل الجمع، والثورة والتمرد للوصول إلى العبودية الحقَّة... العبودية الجوهرة التي كنهها الربوبيَّة.

إنها درب الخير والشرِّ - قوسا الوجود الباطني للإنسان، الشكُّ باتجاه اليقين، والرفض لأجل الإذعان، والكفر المؤدي إلى الإيمان، والوهم الموصل إلى الحقيقة.

وهكذا يمسك العارف بطرفي الحقيقة، يقبض بيد على "لا" وبالأخرى على "إلا"،

قدمٌ تخطئ وأخرى تتوبُ، ليكونَ المثنويُّ الموحَّد.

النفي معمودية بالماء الطاهر، واغتسال بماء الربِّ بعد خلع كلِّ ثوب.

يبتدئ بطهارة النفس من نجاسة العادات الرديئة والأمراض الحاكمة والأهواء والرغبات. ثم إسقاط جنابة الفكر من كلِّ تراكمات المعتقدات والإرث والظنون والعلم السلفيِّ المحمول.

النفي إقرار بالجهل وعودة نحو الأمية، ليتنزل وحي "اقرأْ"

هو قول "لا"... فعلاً وسلوكًا... ظاهرًا وباطنًا، وبكلِّ جارحة من جوارحنا. وهتك لحجب الظلمة والنور، في عروج نحو عين اليقين.

النفي طريق الحرية، وثورة العبيد على ملكتهم "النفس الأمارة"، لا لخلعها عن عرشها، بل لرفعها لتكون "النفس اللوامة" ثم لقاحها بالذكر والروح القدس لتكون "المطمئنة".

هو كما قال عليٌّ: "محو الموهوم لصحو المعلوم"، ودرب نحو مملكة العري عليه يتقدم السابقون المقربون، لا أصحاب الشمال ولا أصحاب اليمين، متقحمين النار لتحرق الهويَّات والأثواب والألقاب.

طرفا الحقيقة:

- يا لك من حالمةٍ واهمة!!

- ما الحلم إلا براق الحقيقة، وثمة فضاء بين أوهام الحقائق وحقائق الأوهام. وقد يكون ما أرسمه هنا، صورةَ حلمٍ جميلٍ، فاضَ مدادُ الأنبياء وسالت دماء الأولياءِ، عبر العصور، لتبدعَ مدينةً فاضلةً، فظلَّت تلك المدينةُ، التي ربُّها وخالقها حضرة الإنسان، مجرَّدَ تصوُّراتٍ ورغباتٍ اغتالها الفكرُ البشريُّ كعادته، الذي يتمثلُ بالإنسان القويِّ القادرِ الجبَّارِ المهيمنِ، الذي يسحقُ كلَّ ما يخالف تصوراتِه أو يمسُّ مصالحَه الماديَّة والمعنويَّة.

إلا أنني أدركُ بالمقابلِ أنه ما من شيء يضيع، وأن قوَّة الفكرة الخيِّرة، تكون بمقدار قدرتنا على تجسيدها وتفعيلها وتسطيرها سلوكًا إنسانيًا أخلاقيًّا، لتكون فعلاً لا ردَّ فعل متحرِّض آنيٍّ. وحين تنسابُ بتلقائيَّة، تلاقي مثيلاتها من الطاقات الإيجابيَّة، فيتعزز حضورُها الإنسانيُّ، مقابلَ قوى الشرِّ وفنونِه وإبداعاتِه، التي يمكن لعين جميلة أن تراه إيجابيًا كمحرِّضٍ على ولادة الخير ونموه وتكاثره، إذا ما تساءلت بدءًا: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه مثنويًّا، ما بين خير وشر، بعد الهبوط والتجسُّد؟!

وبالتالي أما آن الأوان بعد للتخلِّي عن المفهوم الدنيويِّ للشرِّ، الذي لم يحلَّ حتى هذه اللحظة أبسط الإشكاليَّات المتنازع عليها طوال قرون، وتبني المعنى الأولي له، المطروح قرآنيًا، وعلى لسان الأنبياء والحكماء؟!

لأننا لو قدرنا على ذلك التخلِّي لخطونا خطوة رائعة وأساسية في اتجاه سلامنا الداخلي، وتصالحنا مع ذواتنا، ومع الآخر أيًّا كان، لتنعم هذه الكرةُ البائسة – أمنا الأرض – بسكينةٍ وهدوء لم تعرفهما يومًا، ولكفَّت عن الأنين والشكوى من قاطعٍ لصلة الرحم، منتهكٍ للحرم، سافكٍ للدم، لم يعرف عن نفسه إلا النذر القليل، فتعب وأتعبها جيلاً بعد جيل.

إذًا وفي رؤية فطريَّة للشر متمثلاً بالشيطان ووفق المعنى الأولي له، سنراه ليس إلا قوة إنسانيَّة، لا قوة فوقيَّة خارجة عن حدود ذاته، ووجود إلهي مخلوق لخدمة الإنسان لا ضدَّه، حيث لا يمكن لقوة الخير أن تملأ جميع مناطق الإنسان بأثرها من أجل تهذيبه. فالشيطان يكافئ الرحمن كمفهوم، وتجسيدهما ككلمة... إبليس والروح القدس. كينونتان إنسانيتان كانتا منذ الأزل وباقيتان إلى الأبد. تشكلان قوسي الوجود الباطني للإنسان، تدور بهما عجلةُ الإنسانية وعليهما تؤسس المشيئةُ الربوبيَّة.

لا يمكن السلوك إلى الحقيقة وإدراكها إلا بوجود إبليس. فهو ككينونة قوة انفعالية قادرة على الوصول إلى مختلف العوالم الإنسانيَّة المتناهية في الدقَّة والعمق.

كما لا يمكن نفيه عن أي إنسان لأنه تكوينه الآخر.

الأنبياء أيضًا، لكلٍّ منهم إبليسه، بل لعله أكثر حضورًا ووضوحًا معهم لأنهم قمم هذا المحيط الإنساني، فهم الأجدر بظهور الحقيقة من سواهم.

حتى عيسى عليه السلام كان له إبليسه، إنما ولأن عيسى كان تجسيدًا خاصًا للرحمانية، فقد جاء إبليس كرفيق له في مسيرته الجهادية الخاصَّة، أي ككينونة لا كوظيفة، بإبليسيته لا بشيطانيته، لذلك كان التعوذ من الشيطنة لا من إبليس. فأعاذ الله مريم وذريتها من الشيطان الرجيم.

أما محمد صلوات الله عليه وسلامه فقد أدرك أن الشرف كل الشرف أن يصل الإنسان إلى الحقيقة بكلِّ مكوناته آخذًا بناصية الوجود كله، فأسلم حتى شيطانه على يده وسار به إلى رؤاه. فقال: "لكل إنسان شيطان أما أنا فأعانني الله على شيطاني فأسلم".

إذا ما تبنينا هذا المفهوم الأولي للشر وراعيه كتكوين "إبليس"، والخير وراعيه كتكوين "الروح القدس" في الوجود الإنساني الكوني. وإذا ما آمنَّا أن الشيطان، كوظيفة، هو الطرف الآخر للحقيقة، أو صورتها الأخرى، ويكافئه الرحمن، موجود فينا جميعًا لخدمتنا، وعرفنا كيف نطوعه لأجل هذه الغاية، وحققنا وظيفته الإنسانية بالقدرة الإلهية المكنونة في كل منا، وصرنا قادرين على توظيفه حسب إرادتنا الخاصة، فإن الشياطين ستعمل معنا بدل أن تكون ضدنا، ولنا في شياطين سليمان، من الإنس والجان، مثلاً يحتذى، يبنون له ويغوصون لأجله، أو على الأقل مقرنون في الأصفاد وقد غلَّ أذاهم وعطِّلت وظيفتهم في عمل الشر.

وإذا عجزنا، أو لم نعرف، أو لا نريد، فإن الشيطان سيعمل وفق النظام الأولي وهو المنع والسلب والحجب، وسيقوم بالعمل ضدنا وينقلب علينا، وهذه حال العامة، والغالبية العظمى من البشر.

لنصل في النتيجة إلى أن جميع الأضداد - بما فيها الخير والشرُّ، الرحمن والشيطان- يمكن أن تفنى في الإنسان خالقها، كما يفنى الذكر والأنثى في آدم ويفنى آدم وإبليس في الله. وما النار والنور إلا تجسيد رائع لذلك. إذ يتبادلان أدوار الخير والشرِّ، ويرقصان رقصة التحول الباهرة، فيعلمانا أن كلَّ قيمة إنما تستمد قيمتها من الإنسان بارئها، وأن كلَّ القيم قابلة للتطويع فيه كالحديد، بشرط احتوائه على تلك النار التي تنصهر فيها كلُّ القيم، ومن ثم سكبها على قالبه الذي هيأه لها.

إنها نار العشق التي قال فيه من قال: "العشق ملَّة خالصة، ليس في العشق كفر ولا إيمان".

فطوبى لقلوب نارها من نورها ونورها من نارها.

تلك القلوب التي تلمَّست صورًا أخرى للخطيئة في الخطاب القرآني، غير صورتها كتضاد للعصمة. وشعرت بوجد الخطيئة، مثلما تشعر بوجد التوبة، لما جاءها الخطاب: "إن الله يحب المفتن التواب"، و"كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابين".

مضت بقدمي الرغبة والغواية، ولولا أخطأت ما استعصمت، فكانت تسير وهي عالمة أن الدرب مهما كان شرفه لا يزال يحمل خطيئته، ولكنها خطيئة أشرف من حسنة من لم يسلكوه فـ "حسنات الأبرار سيئات المقربين". فكان ظاهر خطيئتها سلوك وتجربة وباطنها فضيلة، لأن المؤمن لا يخطئ، طالما لم ينوي أو يقصد الخطأ "وما الأعمال إلا بالنيَّات"، بل يخوض النار كمجاهد، فما من خلاص إلا بخوضها "وإن منكم إلا واردها" فإذا بالنار نور.

وهكذا نصل لمعنى يختلف عن مفاهيم البشر، وهو أن الكمال لا يعني نفي الخطيئة، لأنها قدمنا الأخرى حتى سدرة المنتهى، بل إدراكها وتطويعها إذ لا وصول للكمال إلا بها. لتنجلي أمامنا ما كانت تلفُّه عتمة المفاهيم من قبول آدم للخطيئة ثم رفضها، في نزول ثم عروج، كذلك حال كلِّ نبي ووليٍّ، ليستحق أن تكون "بشرًا رسولا".

فآدم عصى ربه فغوى، ويوسف همَّ بها، وموسى قتل نفسًا، ومحمد عبس وتولَّى، لكن كل ذلك لا ينطوي تحت اسم الخطيئة، لأن نيَّته لم تكن السوء في أي حال من الأحوال، ولأن الأمور بغاياتها لا بمفاهيمها.

بذلك سيتكون لدينا مفهوم مغاير للعصمة، بعد أن أسدلنا حجابًا بيننا وبين مفاهيم الغير، وسيصير المفهوم حيَّة تسعى لمبتغاها ومعناها. فعصمة تأتي كصكٍّ معتمد من الإله، لا يستحقُّ الإنسان شرفها، لأنه لم ينلها استحقاقًا. وعصمة يختص بها فئة دون سواهم، تنفي عن الله صفة العدل، وتلغي اسمًا من اسمائه الحسنى وهو "العادل".

لكن الفكر الذي تغذَّى سنين عمره، على فتات موائد الآخرين، وسلَّم بصحة إرثٍ تلقَّاه من أسلافه كسقط المتاع، وخضع لقرون لقانون التفاضل والتصنيف، سترعبه فعلاً فكرة جديدة تقتحم استقرار وسكون مياهه الراكدة، رغم أنها تكرِّمه كإنسان، وترفعه سيِّدًا لا عبدًا.

إذ يصعب عليه تقبُّل مساواة عبد وضيع – كما يرى نفسه – مع أي نبي أو وليٍّ، وكيف يجرؤ أن يتطلع مثلاً إلى مقام سيِّد الخلق أجمعين محمد عليه السلام – أو مقام إمام معصوم كعلي كرَّم الله وجهه. فهؤلاء وفق ما صار بداهة لديه معصومون من قبل الخلق، وهم الذين قال فيهم تعالى: "الذين سبقت لهم منا الحسنى"، وما عليه سوى محبتهم وموالاتهم ليستحق أن يدخل الجنَّة عن طريق شفاعتهم له عند ربِّ العالمين!؟

فأينه من تلك المقامات الشاهقة، التي هيهات يصل إليها مهما تطاولت قامته، وهم الذين اختصهم الله بالوحي، وانتجبهم من بين سائر الخلق لحمل رسالته، لأنه الأعلم بصفاء سلالتهم المنتقلة من الأصلاب الزكيَّة إلى الأرحام الطاهرة!؟

لا يمكن لمن عششت هذه الفكرة في كلِّ خليَّة من تفكيره، أن يؤمن بسواها، ولو حاصرته بالدليل تلو الدليل. بل ولا يمكن أن يقبلك كإنسان مؤمن، بل تراه يخرجك عن الدين ويحلل قتلك، لأن قدسيَّة الفكرة تحجبه تمامًا عن رؤية سواها. وبالتالي فأيُّ معرفة حقيقية بديلة، تحتاج بدءًا إلى إقصاء المعرفة الأولى الكسبية، هذا الإقصاء الذي على ما يبدو يحتاج إلى الاستعداد الفطريِّ بدءًا، والشوق والرغبة في التحرُّر ثانيًا، بحيث يندر أن نجد النسر الحرَّ ابن الفضاء.

وسأسلِّم جدلاً بفكرة العصمة المسبقة، لأسأل نفسي وأسألكم: كيف يعرف أحدنا أنه من المنتجبين المعصومين؟

ولماذا يكون فلانًا سليل العصمة ووريثها، ولا يكون أيًّا منا؟

ماهو المعيار الذي اعتمدناه غير تصديقنا قوله أنه كذلك راجعًا إلى سلسلته التاريخيَّة التي تمنحه دون سواه صك العصمة المختوم.

ويبقى السؤال: أيُّ إمام أو قطب منهم نتَّبع، إذا ما رفضنا بدءًا أن نكون من القائلين: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".

لأن آباءنا كانوا ولا زالوا... "كلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى".

يتبع...

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود