الإطار النظري لخيمياء جابر بن حيان

 

محمد نعيم

 

إذا أردنا تحديد الإطار النظري للخيمياء عمومًا، وجب الإقرار أنه "علم" يحتلُّ مكانة ملتبسة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث أنه متعدِّد الأهداف وكثير الموضوعات ولا يرتكز على منهج مضبوط ومحدَّد. وهكذا فإنَّ هذا "العلم"، منذ أن ظهر، وهو يمزج بين عدَّة مذاهب ويسعى إلى أهداف متنوِّعة، لذلك كان يُنظر إليه كصناعة تعاليمها قائمة من جهة أولى على مبادئ ميتافيزيقية غامضة، ومن جهة ثانية كان متَّجهًا نحو السحر والشعوذة، ومن جهة ثالثة كان يهدف إلى تحويل المواد والمعادن المختلفة فيما بينها، وهو بنوع خاص تحويل المواد والمعادن الخسيسة إلى معادن وجواهر نفيسة، وبوجه أخصٍّ تحويلها إلى ذهب وفضة[1]. كما اتسمت هذه الصناعة، طيلة تاريخها، بالسرِّية والكتمان وتمَّ احتضانها من طرف أوساط دينية باطنية وجماعات سياسية هامشية، لذلك فقد تساوى في تعاطيها والاشتغال بها الفلاسفة ورجال الدين، الفقراء والأمراء، عِلية القوم وسِفلتهم، المتصوِّفة والسَّحرة؛ فنعتت بالعلم الرباني ووصفت أيضًا بعمل الشيطان، كما كانت تُعتبر العلم الحق الهادف إلى تحقيق السعادة للإنسان.

وبما أنَّ الإنسان متعدِّد الأبعاد، جسدًا وروحًا وعقلاً، فكذلك كانت سبل تحقيق سعادته أيضًا متعدِّدة، وجُماع تلك السبل متحقِّق في صناعة الخيمياء. فلا أحد يجادل في أنَّ السعادة الحسِّية مرتبطة بالمال الوفير والصحَّة الجيدة والعمر المديد، والسعادة الروحية سبيلها التخلص من أدران الجسد ورغباته الفانية، ومعانقة المطلق. لقد كان العمل الخيميائي تجسيدًا لكلِّ هذه المطامح إن لم نقل لكلِّ هذه الاستيهامات، فهو طريق إلى الذهب والفضة وبالتالي إلى الثراء الواسع، وعلاج من كل العلل والأوصاب ووسيلة لإطالة الحياة.

حقًا، يظهر أن الجانب الذي حظي بالاهتمام في الخيمياء عمومًا، ومن ضمنها الخيمياء العربية الإسلامية، هو الجانب المتعلق بالطبيعة، من جهة تحويل عناصر بعضها إلى بعض، ومن ثمَّ كان التعريف الشائع لها أنها صناعة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن وجواهر نفيسة، أو أنَّ الخيمياء هي العلم الذي يُمكِّن من تحضير بعض الأدوية أو الإكسير الذي يلقى على المعادن الناقصة لتصير كاملة[2]. لكن الحقيقة أنَّ التحويل عند الخيميائي كان متعدِّد المظاهر، وما التحويل المادي إلا واحد منها. ويمكن القول إنَّ جميع مظاهر التحويل التي عني بها الخيميائي كانت متجهة نحو تحقيق الكمال، أي تحويل الناقص إلى الكامل؛ كتحويل المعادن الناقصة إلى أخرى كاملة وأكملها هو الذهب، وتحويل النفس بهدف الاكتمال والالتحاق بالنفس الكلية، ثمَّ تحويل الإنسان حتى يصير في مقام الإنسان الكامل والأشخاص الروحانية.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ صناعة الخيمياء – كما عرفتها الحضارة العربية الإسلامية هي مُحصلة وتتويج لتلاقح كل المظاهر المعرفية للعصر الوسيط؛ الديانات الشرقية والتأملات الفلسفية والصناعات المعدنية والصيدلية. نعم، لقد تداخلت كلُّ هذه الروافد المعرفية واجتمعت ليتشكَّل منها ذلك "العلم" العجيب المسمى خيمياء، أو لنقل إنَّ الخيمياء "علم" إنساني بدون هوية ظاهرة ولا أصل محدَّد، حيث ساهمت في نشأته كثير من الحضارات بنسب متفاوتة وتداخلت بعض تلك النسب مع البعض الآخر، حتى بات من الصعب عزل بعضها عن بعض، والقول إن هذا ينتمي إلى هذه الحضارة وذلك ينتمي إلى تلك الحضارة.

وعندما انتقلت الخيمياء إلى فضاء الحضارة العربية الإسلامية أضفت عليها من خصوصياتها وساهمت بنصيبها في تشكُّل نسيجها. وهكذا يمكن الحديث عن ثلاث لحظات أساسية في تاريخ الخيمياء، لكلِّ لحظة عَلَمُها؛ فاللحظة الأولى هي اللحظة الإغريقية-الإسكندرية، وعلمها هرمس المثلَّث بالعظمة، واللحظة الثانية، هي اللحظة العربية الإسلامية وعَلَمُها جابر بن حيان، ثمَّ اللحظة الثالثة وهي اللحظة اللاتينية للعصر الوسيط وعلمها ريموند لول[3] Raymond Lulle. نعم، لقد عرفت الخيمياء العربية الإسلامية ذروتها مع جابر بن حيان، الذي يشكِّل معلمًا من معالم الفكر الإنساني في القرون الوسطى، فلا أحد من الخيميائيين اللاحقين عليه استطاع أن يأتي بما أتى به، إن على مستوى عدد التآليف أو على مستوى عدد الموضوعات التي تناول، والشاهد على ذلك عدد الرسائل المنسوبة إليه وكذلك عدد الموضوعات التي شملها في كتاباته.

وليس يخفى أنَّ هناك جدلاً كبيرًا قد أثير حول جابر بن حيان، إن على صعيد سيرته ووجوده الفعلي، أو على مستوى صحَّة ما دُوِّن باسمه وأصالته، وهذا ما دفع البعض إلى القول:

لن يستطيع الباحث في تاريخ الفكر الإسلامي أن يجد شخصية أغرب وأخصب من شخصية جابر بن حيان. فهي شخصية أمعنت في الغموض واكتنفها السرُّ، حتى كادت أن تكون أسطورة[4].

وإذا ما رُمنا تقويم العمل الجابري في مجموعه أو على الأقل ما نشر منه حتى الآن، فإنَّ ما يلفت النظر حقًا، وكما لاحظ ذلك فؤاد سيزكين، هو

تلك الوحدة المطلقة وذلك المنطق الأصيل للأفكار الموزَّعة على مختلف الكتب، وتلك الإحالات الببليوغرافية التي طالما ساعدت، كما ساعد التكرار المستمرُّ، على استشفاف الأفكار المهيمنة في النظام الجابري. فهي تشترك بسمات لغوية وتعبيرية معينة[5].

ونرى، من جهتنا، أنَّ تلك الوحدة المطلقة التي لاحظها سيزكين تتأطر في إطار نظرية الميزان، وهي نظرية مثيرة حقًا ومهمَّة، وهي تقوم على عنصرين أساسيين: النِّسب، والأعداد بكل أبعادها الرياضية والفيزيائية والأنطولوجية[6].

ولقد كان منطلق جابر بن حيان في تشييده لهذه النظرية هو اعتقاده أن الكون في مجموعه واحد، متناغم الأجزاء ومتآلف الظواهر، فكلُّ جزء له علاقة مع الأجزاء الأخرى، وهنا يتضح التأثُّر بالنزعة الهرمسية وفلسفتها الباطنية، المتميزة برؤيتها التوليفية في مجال العلوم الطبيعية، إذ كانت تؤكِّد على وحدة الوجود وترابط أجزائه، وكانت تعتقد أنَّ العلاقة بين ظواهره محكومة بالتجاذب والتنافر على النحو المذكور في هذه العبارة المنسوبة لأحد الهرامسة والتي ورد فيها

ما من طبيعة إلا وهي مجذوبة بطبيعة أخرى، وما من طبيعة إلا وهي مقهورة لطبيعة أخرى، وما من طبيعة إلا وهي تهيمن على طبيعة أخرى[7].

انطلاقًا من هذا التصور الهرمسي في عمقه عمل جابر بن حيان على بلورة نظرية خيميائية مثيرة، سماها نظرية الميزان، رأى أنَّ بمقدورها تفسير الوجود بمختلف ظواهره، وذلك عن طريق كشف التناغم والترابط الذي يحكم العالم، وقياس التأثير المتبادل بين جميع الموجودات، بل إنَّ الخيميائي، وبفضل نظرية الميزان، يستطيع أن يتحكَّم في العالم ويعمل على تحويله من حال إلى حال، "وذلك- كما يقول جابر- أنَّ الإحاطة بآثار الموجودات بعضها في بعض، وكميات ما فيها، غير ممكن لأحد من الناس، وإنما احتاج إلى علم الميزان لأنه استدراك أكثر ما يمكن الإنسان الإحاطة بمثله"[8]. بهذا المعنى كانت نظرية الميزان عند جابر نظرية العلم بإطلاق ووسيلة لفهم مكونات العالم وظواهره؛ المرئي منها وغير المرئي، المادي والنفسي والعقلي، المجرد والحسي، وبالجملة الطبيعي والميتافيزيقي.

ولفهم الخيمياء الجابرية على الوجه الصحيح لا بدَّ من استحضار كلِّ المعطيات الفكرية ومعتقدات التيارات الدينية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية خلال الفترة الزمنية الممتدة من القرن الثامن الميلادي وحتى القرن العاشر الميلادي[9]. كما نرى أنه من اللازم التخلص من الرؤى الإسقاطية والتبجيلية التي سعى كثير من الدارسين العرب النظر بواسطتها إلى الخيمياء الجابرية، والكفَّ عن النظر إلى جابر بن حيان كرائد للكيمياء الحديثة[10]. صحيح أنَّ البحث في تاريخ العلوم وتطورها لا يخلو من التأثيرات الإيديولوجية والأحكام الذاتية، إن بشكل واع أو بشكل غير واع، ولكن الحدَّ الأدنى من الحيطة الموضوعية يقتضي إفساح المجال للنصوص في أن تكشف عن مضامينها في تاريخيتها، ووفق مفاهيم عصرها، وأسلوب التفكير المزامن لنشأتها.

وإذا أردنا تحديد المكونات النظرية للخيمياء عمومًا، فيمكن أن نضع أيدينا على ثلاثة أسس بارزة لنشأتها؛ هناك الفلسفة اليونانية في ثوبها الأفلاطوني والأرسطي، وهناك التأملات الصوفية الشرقية، وهناك الممارسة الصناعية لدى قدماء المصريين. صحيح أنَّ مؤرخي العلوم يقيمون تمييزًا بين النموذج الكمي الأفلاطوني والنموذج الكيفي الأرسطي، إلا أننا نجدهما حاضرين معًا وبشكل منسجم في الخيمياء، حيث نجدهما قد أمدا الخيميائيين بالمفاهيم الأساسية قصد النظر في المادة الطبيعية وتحوُّلاتها، فالنظرية الأرسطية المتعلقة بالهيولى وبالعناصر الأربعة، وكذلك نظرية الكون والفساد، قد لعبت دورًا أساسيًا في بناء تصور لعالم الطبيعة عند الخيميائيين، إضافة إلى ما أورده أفلاطون في محاورة تيماوس عن مفهوم المادة غير المشكَّلة التي يبلورها إله صانع[11].

ومهما يكن من أمر الأصل الذي تعود إليه الخيمياء، فإنها تبقى صناعة العصر الوسيط بامتياز، لأنه العصر الذي بلغت فيه الذروة، والشاهد على ذلك النصوص المتوفرة بين أيدي الدارسين. ويمكن تقسيم مجالات اشتغال الخيمياء بشكل عام إلى قسمين؛ فبالإضافة إلى صناعة الذهب وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، كانت الخيمياء تشمل كل النشاطات الصناعية كالصياغة والصناعة المعدنية وأيضًا النشاطات الكيماوية، كتحضير العقاقير الطبية ومستحضرات التجميل وصناعة العطور والكحول... الخ، وهناك المجال الروحي والميتافيزيقي، حيث تسعى الخيمياء إلى الوقوف على سرِّ الحياة في جميع الموجودات؛ في الحيوان ومن ضمنه الإنسان وفي النبات وفي المعادن، وبالجملة في كلِّ موجودات عالم ما تحت القمر، ومحاولة تعقُّب الطريق الذي به خُلق العالم، والوقوف على كيفية حلول النفس في عالم المادة، وهذا ما دفع البعض إلى الحديث عن خيمياء روحية أو نفسية، وخيمياء فلكية، وخيمياء حيوانية، وخيمياء نباتية، وخيمياء معدنية[12].

*** *** ***

الأوان، الجمعة 12 شباط (فبراير) 2010


 

horizontal rule

[1]  نجيب بلدي، تمهيد لتاريخ المدرسة الإسكندرية وفلسفتها، دار المعارف، القاهرة، ب. ت. ص 45.

[2] R. Bacon, miroir d’alchimie, Archè Milano, 1974, p. 56.

[3] Joly, Bernard, la rationalité de l’alchimie au XVII siècle, vrin, 1992, p. 226.

[4]  عبد الرحمان بدوي، تاريخ الإلحاد في الإسلام، سينا للنشر، القاهرة، 1993، ص 221.

[5]  فؤاد سيزكين، تاريخ التراث العربي، المجلد الرابع، السيمياء- والكيمياء- والفلاحة حتى نحو430 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1991. ص 201.

[6]  لقد أورد إخوان الصفا قيمة النسب كما يلي: "أن علم نسبة العدد علم شريف جليل، وإن الحكماء، جميع ما وضعوه من تأليف حكمتهم فعلى هذا الأصل أسسوه وأحكموه وقضوا لهذا العلم بالفضل على سائر

العلوم، إذ كانت كلها محتاجة إلى أن تكون مبنية عليه، ولولا ذلك لم يصح عمل ولا صناعة ولا ثبت شيء من الموجودات على الحال الأفضل". إخوان الصفا، الرسائل، الجزء الأول، دار صادر، بيروت، 2006، ص 257.

[7]  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت - الدار البيضاء، 1991، ص 182.

[8] Cité par Kraus in , Jabir ibn Hayyan ; Contribution à l’Histoire des idées scientifiques dans l’Islam; II, Jabir et la science Grecque, collection (sciences et philosophie),

 Les belles lettres; 1986. p. 187.

[9] على أساس الافتراض الذي افترضه كراوس من أن رسائل المتن الجابري ألفت طيلة هذه المدة، حيث يرى: أن مجموعة كتب المائة والاثنا عشر قد كتبت في نهاية القرن الثالث التاسع على الأرجح، وعقبتها

بعد قليل مجموعة الكتب السبعون. وفي النصف الأول من القرن الرابع هجري والعشر ميلادي كتبت مجموعة كتب الموازين ثم مجموعة كتب الخمسمائة.

[10]  يكفي النظر إلى عناوين بعض الكتب الصادرة بالعربية ليتبين إصرار مؤلفيها على النظر إلى جابر بن حيان كرائد للكيمياء، مثل: كتاب جابر بن حيان رائد الكيمياء في تاريخ الحضارة، وكتاب جابر

بن حيان الموسوعي العربي والكيموي التجريبي... إلخ.

[11] Viano, Cristina, les alchimistes Greco- alexandrins et le tmée de Platon p. 93.

[12] Savoret, André, qu’est-ce que l’alchimie, p.19

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود