الصمت في كل شيء رواية سوداء زرقاء للغاليسي مانويل ريباس
حيث الفساد والجريمة مغمَّسان في سكَّر الغواية

رلى راشد

 

مانويل ريباس هو الأدب بعدما مرَّ بمصفاة التاريخ فصار تأملاً. إنه مرادف للدم الذي يسيل من الكلمة الجماعية التي لمسته قبل قرون في أرضه، في غاليسيا مسقطه لترفع رؤياه للعالم إلى مرتبة المرثيات. ربما لأنه آمن كما الفرنسي رولان بارت بأن الكتابة لا تسمح بالسير وإنما بالتنفس فقط.

تتحدث روايات الإسباني الناطق بالغاليسية مانويل ريباس، كما قصصه القصيرة وقصائده ومقالاته، عن المهاجرين والمرميين بالرصاص والمضطهدين والمسافرين العجائز والطيور المزقزقة عند الفجر وتلك الهالكة في سكون على الصخور حيث يحطم البحر اليابسة. يبزغ نشيده الأدبي من مكان قريب ليعلن أن مغادرة المنزل الأول المحكوم بالأسطورة والحكمة، تصير فعل دفاع كونيًا يخصُّ الجميع. في غاليسيا يتبدى ريباس المولود في لا كورونيا في 1957، صوتًا متحررًا من حقبات الماضي اللاذعة ومن التهكم "الثرفانتيسي". ذلك أنه كان له أن يرى النور في قرية أوكلت منذ قرون بإيجاد "ماهيتها" أو "قدرها" عبر منفذ البحر الوحيد، أَحَدَث ذلك من طريق الهجرة أم من خلال الانصراف إلى جمع القشريات أو الصيد أو سواها من مهام بسطاء الناس.

تعاون مانويل ريباس مع صحف عدة من مثل "ايل باييس" و"دياريو دي غاليسيا"، ليساهم في تحقيق تبديل جذري في الأدب المكتوب بالغاليسية وينشئ مجلات عدة لم تعمِّر طويلاً. نال عن مليون بقرة (1990) جائزة النقد الإسبانية، في حين منحته في صحبة همجية (1994) جائزة النقد بالغاليسية، ليكرِّر الفوز بـ"جائزة النقد الإسبانية" بفضل قلم النجار على خلفية قصة حبٍّ استُقبلت كصاعقة كتابية تقدَّمت في صيف العام 1936 على خلفية الحرب الأهلية الإسبانية.

يكتب ريباس بالغاليسية والقشتالية فيظهر كمن يسلب من كل لسان إيقاعًا خاصًا وخلاصة للأفكار وجمالاً واستعدادًا للشاعرية وميلاً فطريًا إلى الاقتصاد الكلامي والفورة البلاغية. والحال أن الفيلسوف الإسباني ميغال دي اونامونو يشير إلى أن مواطنه الكاتب رامون بايي اينكلان اختار القشتالية صدى كتابيًا، غير أن التواءاته النصية ظلَّت غاليسية. يمكن ادعاء الأمر عينه بالنسبة إلى ريباس. يهتم الكاتب بالعناق بين اللغتين والترقيع والعلاقات المريبة التي تجمعهما، أو لنقل لعلاقات الحبِّ الحرة التي يفترضها التماس الملتهب بينهما. تلك الصلة المحتدمة والمتكاتفة على السواء، هي النزوة التي تحثُّه على الكتابة والإقدام على إصدار روايته اندثار الثلج قبل سنوات عدة بلغات أربع في المجلد عينه، كفسحة للتنوع البيولوجي.

في الشهرين المنصرمين، فإن صدور رواية ريباس الأحدث الصمت في كل شيء (دار الفاغوارا الاسبانية) وضع الكاتب في مقدمة العائدين. والحال أنه قدم لينخرط في شبكات مروِّجي المخدرات وفي التبعات الاجتماعية التي يولِّدها نشاط مماثل. الرواية رصد لنجاح اجتماعي يعرفه المهرِّب ماريثكال الذي يستحيل مروجًا للمخدرات، فيما يوِّسع سطوته إلى حدِّ الإطباق على القسط الأوفر من قرية بريتيما المتخيَّلة المطلة على الشاطئ الأطلسي. تصل أصابع تدخله إلى حذافير المؤسسات القائمة، فضلاً عن معيش الآخرين أيضًا، فتبين سلطته على نسق يجهل الحدود والقوننة. تأثير ماريثكال، عام وفسيح وقابض، لا يعفي أحدهم، ومن بينهم الأطفال أيضًا.

يجوب الأطفال فينس وليدا وبرينكو الساحل بحثًا عما تبصقه الأمواج، ذلك أن الأزرق الكبير في منظورهم مساحة للاكتشاف المستمر. من المسلَّم به أن مخلَّفات عمليات الغرق غنيمة لأولئك الذين يجدونها. يعلم الأولاد بهذه القوانين كذلك. ليدا الطفلة التي تغدو امرأة قبالتنا، تدرك المسألة هذه، فيما تسعى إلى المحافظة على وفائها وصداقاتها. يعلم فينس بهذا أيضًا ذاك الطفل الساذج الذي يسلب البحر منه الماضي ويقدم إليه مستقبلاً، في حين لا يغفل برينكو بدوره عن هذه الحقائق، وهو من ثلة أشخاص يخيَّل إلينا أن مستقبلهم مدموغ منذ البداية بتفاصيل شتى. يقتات هؤلاء الأطفال من هبات المياه المالحة التي تلامس أطراف قريتهم حيث تتمحور الحكاية، غير أن قدر الثلاثة ينعطف تمامًا عندما يتقاطع ودرب ماريثكال، غورو الأيام المقبلة. سيتشكلون عندئذ وينمون في وسط عالم يغزر فيه الفساد والجريمة المغمسان في سكَّر الغواية. لن يتأخروا في بلوغ سن المعرفة فينزعون عنهم البراءة التي لم يعد لها مكان في جوار المروج. بينما يواصل ماريثكال إطباقه على القرية كأمبراطورية يقيم في ظلالها، حتى لا يسع أحدهم من سكان بريتيما ترك ماضيه يتعفَّن. إنه إله كآلهة آخرين يصرف أيامه يخطط على نحو مثمر مشيعًا عمى جماعيًا.

تلاقي الرواية ماهية أعمال البيروفي ماريو فارغاس يوسا. إنها على شاكلتها خريطة لبنى السلطة وصور المقاومة الأكيدة، ناهيك بكونها شريطًا من الصور تقول التمرُّد وفشل الفرد اللذين تحدَّثت عنهما الأكاديمية الأسوجية عند منحها نوبل الآداب ليوسا. نجد في جوار الصمت في كل شيء، قوة الكاتب خوان رولفو الاستدعائية كذلك، وإنما بأسلوب مانويل ريباس الشخصي والابتكاري. والحال، إن الرواية مقسمة جزءين. يظهر الكاتب في الأول تفاضلاً روائيًا في وسط شخوصه، ليبدو كمن يقشِّر خيطًا رفيعًا يفصل بين براءة اللامبالاة والإذعان، في قرية مصابة بضآلة الموارد في عهد الجنرال فرنكو. في حين يقود ريباس جزء الرواية الثاني صوب النمط الجرمي الأسود، من دون أن نتغاضى عن أن الأهم يسكن في صراع داخلي يطرق مسار كل مقيم في بريتيما. ليس من باب الاعتباط تاليًا أن تعني كلمة "بريتيما" في اللغة الغاليسية الضباب.

الصمت في كل شيء، كتاب معدٌّ لذوَّاقة الأدب، ينبغي تاليًا أن يتلقى القارئ الكلمات ببطء وتأنٍّ ويتنشق شذاها في الصفحات المئتين والخمس والأربعين، ليصير استيعابها على هذا النحو مجديًا. يتبيَّن النثر القاطع واللاذع في آن واحد في لحظة مبكرة، فيطوف مثل وحول مستنقع هامد تم تحريكها ليتبلور عالم على شفا المفاهيم حيث تشكِّل فسحات الصمت كل فرد يجلس في الصفوف الأمامية.

يستهلُّ ريباس الكتاب بالقول: "لا يخدم الفم للكلام وإنما لفرض الصمت"، لتلحق بهذه المقاربة أخرى تجبرك على السؤال ما إذا كنت كشخص داخل التاريخ أو خارجه. يكتب ريباس مثلاً:

تؤمن على نحو ساذج بعالم حيث يطالع الجميع ويخيَّل إليك أنهم من طراز المثقفين، بل تذهب أبعد فتتصوَّر أماكن حيث تجد مكتبة في كل منزل وحيث أطلق ناد للقراءة في كل حانة. وإذا وقعت جريمة لسبب معين فبأسلوب نبيل فحسب. يراودك عالم حيث يملك المجرمون بلاغة ماكبث أو مورسو.

نفهم تاليًا أننا في عين التاريخ بلا ريب.

إذًا، هل يمكن القبض على تفاصيل ريباس القادر على الإفصاح عن هذا كله؟ تعدُّ الرواية كتاب الشخوص المركبة وإنما التامة التي تمنح حياة لحكاية قاسية غير أنها قابلة للتصديق، تخفف من حدتها لغة فاتنة وجريئة تسوِّق للتقليد الغاليسي الباطني. إنها قدرة البحر مصدرًا للحياة، بحر يعطي كثيرًا غير أنه يأخذ أكثر. لا يمكن ايجاد أفضل من الغاليسيين للبوح بالمشاعر التي يكنُّها. الصمت في كل شيء رواية سوداء، وربما تكون رواية زرقاء على منوال البحر ينجح ريباس من خلالها ببعث مناخ عنف مناطقي صميم إلى درجة يستحيل خلطه مع سواه، يحوم في جوار مجموعات مافيوية أكثر فتكًا قطنت الأدب.

كان ثمة زمن شكَّل فيه تهريب التبغ والكحول ضرورة تم التعامل معها وقبولها في تجربة الاقتصاد الغاليسي الهزيل، لتظهر أمثلة كثيرة على نسق ماريثكال. هؤلاء أشخاص غامضون ومريبون استنفدوا قدرات الآخرين على الاحتمال فاشتغلوا في الإتجار بالمخدرات والأسلحة. بيد أن ذاك الصمت الدقيق السائد بمثابة صكٍّ للنجاة بالحياة راح يحترق رويدًا. رأت غاليسيا وتكلَّمت. ليبدو المدُّ والجزر في هذا الشريط البحري، في هذا المدِّ الفسيح من الكيلومترات حيث تمرُّ تيارات مختلفة القوة، آلية مناسبة لسحب الذكريات من السبات.

على الرغم من تضمن الرواية أربعة تفاصيل مؤشرة إلى الزمن حيث تتبلور الحكاية، يمكن الحديث عن قصة تتراءى خارجة على الوقت، بعبارات مبهمة على نسق: "كان يا مكان في قديم الزمان". غير أن ريباس يعي كيف ينبِّهنا إلى أن ما يريد الإفصاح عنه لا يمتُّ إلى القصص الخرافية، بلا ريب. ليس المكان بعيدًا جغرافيًا إلى هذا الحد ولم تجرِ الحوادث منذ زمن طويل أيضًا. إنها غاليسيا، أما ما يحدث فقد حدث البارحة فحسب.

يهيم ريباس بين الشعر والسرد. يمكن تشبيه مساراته المتشعبة تلك برسم تخطيطي حيث دوائر عدة بعجوة واحدة، فيما يظلُّ الشعر دومًا وفي كل الحالات الدائرة الأولى، مكانًا لانبثاق طاقة الأدب. ذلك أنه ينبغي للأدب أن يكون شعرًا أو لا يكون، فالشعر ليس تخمُّرًا شكليًا فحسب وإنما هو تعريف أساسي للإنسانية جمعاء. يقلِّد الأدب عند ريباس شطحات الإنسان في ما يخصُّ الوحشية والضياع في عرض الأمواج، على أمل أن يجلب المدُّ وثائق الأمل ممهورةً بإذن التطبيق في المحصلة. نتخيل إرادة المرء مزعزعةً أحيانًا، غير أنه ليس هناك إمكان سوى أن يتفتح باب الذهن ما إن ينفتح غلاف أحد عناوين هذا الكاتب الإسباني. يقع الكتاب بين يدينا، فيما ينبغي لنا أيضًا أن نقع في يديه. لا يمكن في هذا السياق أن نأتيه من دون استعادة ثلَّة قصصه القصيرة التي نقلت إلى السينما، من بينها حكاية لغة الفراشات المؤثرة المأخوذة من مجموعة ماذا تريدين مني، يا حبي؟. تلك حكاية عرَّفتنا الى أستاذ مدرسي في منطقة ريفية في الزمن السابق للحرب الأهلية الإسبانية، استبقت المأساة بيد أنها لم تستغلها وتم منح نسختها البصرية بمقاربة خوسيه لويس كويردا جائزة "غويا" السينمائية لأفضل اقتباس.

الصمت في كل شيء، رواية تقتفي دوران الجريمة وإفساد روح الإنسان حولها، وإن اعترض المشروع النهائي عثرات أحيانًا. في إسبانيا التي لازمها بعدٌ مضيء وقاتم في آن واحد، ذلك ما نراه يحتلُّ لوحات غويا الغامرة بواقعيتها، يقطف ريباس الشيء الإضافي الذي يستر الذاكرة بينما يحملها في داخله، يهدهدها كطفل يوشك أن يغفو.

* * *

مقتطف
الصمت في كل شيء

"لا يخدم الفم للكلام وإنما لفرض الصمت".

إنه أحد أقوال ماريثكال ردَّده والده كأنه لازمة. والحال أن فيكتور رومبو أو برينكو فحسب، تذكَّره، عندما تنبَّه الشاب الآخر مذعورًا إلى موجودات الحزمة النادرة التي أخرجها من سلَّة الصياد ذات الغطاء وطرح السؤال الذي كان عليه أن يطرحه:

-       ما هذا؟ ماذا ستفعل؟

أجاب باختزال: يملكون أفواهًا ولا ينطقون.

كان التيار على انخفاض أو في صدد الإرتفاع، غير أنه بدا غريبًا في سكونه الساحر. وقف الاثنان، أي برينكو وفينس، في المكان، في أعلى سلسلة الصخور القريبة القائمة فوق سطح البحر، عند قدم المنارة، وتحديدًا عند رأس كونس، في مطرح لا يبعد كثيرًا عن الصلبان الحجرية التي كانت تذكِّر بالغرق المتكرر والصيادين الموتى.

في السماء، بدت نوارس البحر كأنها تعتني بمصباح المنارة، فيما كانت تلتقط الصمت بمناقيرها. كان ثمة ما يشبه المعرفة المسلِّية في يقظة طيور البحر تلك. في حين ساد شعور يذكِّر بهمس المنفيين. ابتعدت لتعود لاحقًا وتتراءى أكثر قربًا، منتظمة في حلقات جلية ولتظهر أكثر وقاحة في كل مرة. كانت تسكر بهذه الثقة، وتتقاسم بتأبُّه واضح سرًا يفضِّل الآخرون أن يتغاضوا عنه.

نظر برينكو على نحو موارب، بعدما ألهته فضيحة طيور البحر. أدرك أنه سبب الصخب الدائر. إنها تترقَّب وتنتظر الإشارة الحاسمة.

قال فينس: يعلم والدي أسماء جميع هذه الصخور، يدرك أسماء تلك التي يمكن رؤيتك والأخرى التي لا تظهر للعيان.

ليقول برينكو الذي تعلَّم اتخاذ مواقف تنمُّ عن المقت وكان يروق له مذاق نمط الجمل اللاذعة: ليست الحجارة أكثر من حجارة.

ليضيف وهو يقبض بشدة على خرطوشة الديناميت بعدما شحنها بأسلوب الخبراء: سيصير والدك ذئب بحر في المحصلة، لا يسعك أن تنكر ذلك. غير أنك سترى الآن وبأمِّ العين كيف يتمُّ الصيد بالأسلوب الصحيح.

أشعل فتيلة الخرطوش وأبقاها لبرهة عاليًا. حملها بدم بارد بينما نظر فينس صوبه مصعوقًا. رماها لاحقًا بقوة بل بحرفة لافتة فوق الصلبان الحجرية. لم يلبث أن وصله دوي الانفجار في البحر. انتظرا. تسارعت حركة نوارس البحر، راحت تطير جماعات وتزعق بإيقاع متضامن لترافق كل وثبة لبرينكو على الصخور. بعدذاك سمَّر فينس نظرته صوب البحر قبل أن يقول:

-       ستغدو علامة على الخوف من الآن وصاعدًا.

-       عن أي خوف تتحدَّث تحديدًا؟

-       لن يعود السمك. لن يعود السمك إلى حيث انفجرت أصابع الديناميت.

-       لماذا؟ لماذا يقول أبوك هذا؟

-       إنه لأمر معروف. هذا هو المكسب.

-       طبعًا يا رجل، طبعًا. ردَّ برينكو هازئًا.

سبق أن دارت أحاديث مماثلة في عرض البحر وصار فينس يعلم كيف يجيء بالجواب المناسب لإسكات اي اعتراض: ستقول من الآن وصاعدًا أن للسمك ذاكرة!

ابتسم فجأةً. يمكن لقوة أن تقضي على أخرى في دواخل المرء، وهي تلك التي تمهد للضحك تحديدًا. تذكَّر إحدى جمل ماريثكال، تلك التي تسمح بالفوز، في حين تسلل إلى فينس مالبيكا إحساس بالذعر تعاظم في كل مرة أكثر بسبب الانتظار. بان صامتًا وشاحبًا مثل التائبين.

إنه ابن قرية بالو في سانتا كروث.

قال برينكو: في حال ظللت فقيرًا لوقت طويل، ينتهي بك الأمر تتغوط مثل النوارس تمامًا.

كان يعلم أن كل جملة نطق بها ماريثكال أفسحت المجال لأمور جمة وأنه لا يمكن أن تخيب آماله. في حين من المزعج حقًا امتلاك مصدر إلهام مماثل. غير أن برينكو اكتشف أمرًا غريبًا يتعلق بأسلوب ماريثكال. فيما كان يرغب في أن يتفادى تقليده قدر الإمكان، لم يلبث أن شعر بأنه يلتصق بشفتيه، لاحظ أنه يسيطر عليه. جلس برينكو وفينس على الصخرة وغطسا أرجلهما الحافية في بركة المياه الصغيرة، إحدى تلك التي يتركها الجزر. بانت في ذاك الحوض حديقة شقائق نعمان تجلَّت كعلامة وحيدة على وجود الحياة ها هنا. انصرفا إلى لعبة تقضي بمحاولة جعل أصابع أقدامهم تتلامس. تسبَّبت هذه الحركة البسيطة بجعل البراعم الزائفة تحرك أذرعها.

قال برينكو: يا لهذه العاهرات. تدعي أنها أزهار في حين ليست سوى عليقات.

أما فينس فلفت إلى "أن الفم هو القفا في آن واحد في ما يعني شقائق النعمان، ذلك أنه الثقب عينه".

نظر إليه الآخر غير مصدِّق. كان على وشك النطق بكلام يحمل تبجُّحًا مدويًا غير أنه تدارك الأمر في اللحظة الأخيرة وصمت. كان فينس مالبيكا مطَّلعًا على تفاصيل كثيرة تتعلَّق بالسمك والحيوانات، وعلى أمور سواها أيضًا، كان يتجاوزه من حيث المعرفة. انحنى برينكو، التقط شيئًا من البركة ووضعه في فمه. أقفله ليترك وجهه يتضخَّم كالأمعاء. عندما فتحه، سحب لسانه حيث تدلَّى سرطان بحريٌّ حيٌّ.

-       كم من الوقت يمكنك أن تبقى مقطوع الأنفاس؟

-       لا أدري. نصف ساعة ربما، أو أكثر.

ظلَّ فينس متأملاً. ابتسم في باطنه. قضت قواعد اللعبة القائمة بينه وبين برينكو بأن يتركه ينتصر قدر ما شاء، فيما يرغم نفسه على أن يبدو كالمغفل.

تقصَّد فينس أن يستفهم: نصف ساعة؟ اللعنة!

كانت تلك المرة الأولى يتقاسمان الضحك مذ وصلا إلى رأس كونس. نهض برينكو وتفحَّص البحر بدقة، بدا أن الضجيج راح يتعزَّز في السماء، ذلك أنه لم يلبث أن سمع صراخًا رهيبًا يزعزع الأنحاء. في وسط زبد الأمواج، ظهرت باكورة السمك النافق لكأن البحر سلقها. تحمَّس برينكو لالتقاطها.

-       ألم تلاحظ ما جرى للتو؟ ألا تعدُّ ذلك أعجوبة بكل ما للكلمة من معنى؟

كان فينس ابن السيد المسيح. ابن لوتشو مالبيكا. قيل فيه، إنه ابن لوتشو، إو إنه ابن امبارو. غير أنه عرف بإسم والده خصوصًا وهو يلعب دور السيد المسيح يوم الجمعة العظيمة، وذلك منذ أعوام عدة. عندما كان لا يزال فتيًا، رآه يلعب دور الجندي الروماني. كان يحمل سوطًا ليجلد ظهر المسيح السابق ادموندو سيرغال، وكان بحَّارًا هو الآخر. غير أن إدموندو غادر مسقطه ليشتغل على سطح المنصات النفطية القائمة في بحر الشمال. لكنه استطاع تدبُّر أمره في العام الأول على ابرامه عقد العمل، وهو رجع لكي يتم صلبه في الموعد المحدد. غير أن مشكلة طرأت بعدذاك. يحدث أن يذهب الناس ويؤوبون وتصادفهم ظروف قاهرة أحيانًا، فيضيِّعون العناوين. على هذا النحو، برزت الحاجة إلى مسيح آخر. لحلِّ المشكلة، لم يكن عليهم سوى أن يوجهوا نظرهم صوب لوتشو مالبيكا. كان ثمة آخرون في وسعهم أن يلبوا الطلب غير أنهم كانوا ضخامًا. ومثلما يقول الكاهن، يمكن أيًّا يكن أن يلعب دور المسيح غير أن ثمة محالاً في أن يكون الشخص بدينًا. من المستحيل أن يكون لاعب دور المسيح مكتنزًا، ينبغي له على نقيض ذلك أن يكون متخمًا بالألياف. هكذا اختاروا لوتشو مالبيكا، وكان الرجل قوي البنية وهزيلاً كالمغزل، بل مصنوعًا من خشب الصليب عينه.

بيد أن مالبيكا كان شخصًا متوترًا ذلك أنه بيَّن عن حيوية يمكن أن تصل إلى أقصى حدٍّ، ناهيك بأنه أبرز شجاعة لافتة.

أما ابنه فيليكس أو فينس على ما ناديناه، فكان شبيهًا بوالدته ونمَّ عن جبن واضح. بدا أحيانًا نابضًا بالحياة في حين بان أكثر هدوءًا في أيام أخرى. ليظهر في أيام سواها شبيهًا بالمومياء ساكنًا مثلها تمامًا بل مزنَّرًا بالصمت.

في الواقع، لم تجمعه علاقة وطيدة مع والده يومًا، غير أن ذلك لم يؤثر في ثقته بنفسه. لم يكن يناديه والدي أو "بابا". كان يسأل عن لوتشو مالبيكا فحسب. اعتبر البحَّار خارج جدران المنزل رجلاً ثالثًا، على هامش أي تحديد، لا سيما تحديدًا الوالد والإبن. كان على الفتى أن يحمي الرجل. أن يعتني به. كان يلمحه بالمصادفة يصل إلى المنزل في حال سكر أحيانًا، وكان يهرع صوب الباب ليفتحه ويرشد والده إلى الطريق عبر السلالم لكي يجنِّبه السقوط. كان يخبئه كمهاجر غير شرعي، بغية تجنب اندلاع شجار في المنزل، ذلك أن والدته لم تكن لتتحمل رؤية زوجها يغرق في حالات مماثلة. في أحد الأعوام إبان شهر الآلام، قالت له والدته: أتمنى عليك ألا تناديه لوتشو وهو يحمل الصليب. والحال، إنه كان يحسُّ طفلاً بالفخر لأن والده هو المصلوب، رآه يضع أكليلاً من الشوك ليسيل الدم من جبهته ويلبس رداء بحزام من ذهب، وينتعل صندلاً. لفت الصندل انتباهه كثيرًا، ذلك أنه لم يكن من طراز الأحذية التي انتعلها الرجال في قرية بريتيما. انتعلتها بعض النساء في فصل الصيف بلا ريب، النساء اللواتي اتين بصحبة أزواجهن إلى المنطقة الهانئة للاستجمام، وكن يلفتن النظر بسبب أصابع أقدامهن بأظفارهن المطلية.

الترجمة عن القشتالية: ر. ر.

*** *** ***

النهار

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود