إعلان عن الاستدامة٭

 

بول هوكين

 

أجريتُ مؤخرًا تدقيقًا اجتماعيًا لصالح شركة بِنْ وجيري هوم ميد الحصرية، وهي الشركة الأمريكية السباقة في المسؤولية الاجتماعية. وبعد الحث والبحث، وطرح الأسئلة المشاكسة، ومحاولة حفز الجدال، وتحولي عمومًا إلى شخص مزعج، أستطيع الإدلاء بشهادة فحواها أن مكانتهم كرواد اجتماعيين بارزين في التجارة محفوظة لمدة عام آخر على الأقل. إنهم شركة رائعة. ولكن هل ثمة نواقص؟ بالطبع. فنحن على كوكب الأرض. لكن العاملين في الشركة مرتاحون ومواظبون في استعدادهم للنظر في المشكلات ومناقشتها ومعالجتها.

في هذه الأثناء، تواصل الشركة إقامة متاجر الآيس كريم في حي هارلم، ودفع إعانات كبيرة، وتحافظ على نسبة تعويضات تصل إلى 7 مقابل 1 اعتبارًا من القمة إلى القاعدة، وتبحث عن بائعين من الجماعات العاطلة عن العمل، وتتبرع للآخرين بسخاء من الأرباح. والشركة على مقربة من تجاوز منافسها التاريخي هاغين داز المنتج الاسكندنيافي البديل للآيس كريم المخفض السعر، والسلعة الرائجة في السوق لهذا الصنف من البضائع. ووفق معدلات النمو الحالية سوف تكون شركة بن وجيري من مرتبة المليار دولار في نهاية القرن العشرين. إنها شركة معتبرة لدى الجمهور، ومتميزة على الصعيد القومي، ونامية بسرعة، وكل ذلك يعود جزئيًا إلى أنها أرادت إظهار كيف أن الشركة المسؤولة اجتماعيًا يمكنها النجاح في عالم الأعمال المعتاد.

وشركة بن وجيري ليست سوى واحدة من الشركات الطليعية المتنامية العدد التي تسعى إلى تعريف جديد لمسؤوليتها الأخلاقية والاجتماعية. لم تعد هذه الشركات تقبل المثل السائر على شاكلة business is business. إن فرضيتهم بسيطة: يجب على الشركات، باعتبارها المؤسسات المسيطرة على الكوكب، أن تواجه بحزم وأمانة المشكلات الاجتماعية والبيئية التي توجع الجنس البشري. إن منظمات من قبيل الأعمال لأجل المسؤوليات اجتماعية وشبكة المخاطرة الاجتماعية تضم مستشارين "أخلاقيين"، كما أن مجلات من قبيل In Business وBusiness Ethics، وهيئات غير ربحية مثل مجلس الأولويات الاقتصادية وصناديق استثمار من قبيل كلافيرت وكوفنانت، ورسائل إخبارية مثل Green money، وآلاف الشركات غير المندمجة، تستنبط أعرافًا سلوكية جديدة لعمل الشركات تكامل بين المبادئ الاجتماعية والأخلاقية والبيئية.

إن شركة بن وجيري مع 2000 أخرى تقريبًا من الشركات الملتزمة بحركة المسؤولية الاجتماعية هنا وفي الخارج حصدت مبيعات سنوية تقارب 2 مليار دولار أو ما يعادل نسبة واحد بالعشرة آلاف من 20 تريليون دولار كسبتها 80 إلى 100 مليون مؤسسة تجارية في طول العالم وعرضه. وتعد المشكلات التي تحاول الإنكباب عليها هائلة التعقيد ولا يمكن تأجيلها: إن 5.5 مليار إنسان يتكاثرون تصاعديًا وإن تلبية رغباتهم وحاجاتهم تجرِّد كوكب الأرض من قدرته الحيوية على إنتاج الحياة؛ والانفجار الهائل في الاستهلاك الذي يقوم به نوع حي مفرد يسحق الجو والأرض والمياه والمجموع الحيواني.

وبحسب ما يشرح ليستر بروان بصبر، وهو مدير معهد المراقبة العالمي، في تقريره السنوي عن حالة العالم، إن كل منظومة حية على الأرض تتدهور وما يجعل الأمر أسوأ أننا نحن البشر، وللمرة الأولى منذ مليار سنة، أصبح لدينا طلب انفجاري على المواد الهيدروكربونية[1] التي ما نزال نحرقها ونصدر غازات احتراقها إلى الغلاف الجوي وكأننا سوف نغلف كوكب الأرض بزجاج مزدوج خلال السنوات الخمسين القادمة بكل ما في ذلك من عواقب مناخية غير معروفة. كما أن وفرة الموارد التي استخرجت واستخلصت وغُلَّت جرى توزيعها على نحو رديء بحيث أن 20 بالمائة من سكان الأرض جوعى ومحرومين بشكل دائم، في حين أن نسبة 20 بالمائة أخرى، في الشمال إلى حد كبير، تسيطر على 80 بالمائة من ثروة العالم وتستهلكها. وبما أن الأعمال في تنظيمها الهرمي مسؤولة أساسيًا عن هذا "الدخل"، فمن المناسب أن يسأل عدد متنامٍ من الشركات السؤال التالي: كيف يمكن للأعمال أن تتصرف بشرف في أواخر العصر الصناعي وبداية عصر الإيكولوجيا؟ وتبدأ المعضلة الأخلاقية التي تواجه الأعمال بالإقرار أن منظومة تجارية تعمل من خلال تحديداتها الخاصة لابد أن تجابه الأخلاق العظيمة والعميقة للبيولوجيا. وعلى نحو خاص، كيف تواجه الأعمال ذلك التوقع القائل بأن إنشاء شركة رابحة ونامية يتطلب التعسف إزاء عالم الطبيعة؟

وبالرغم من عملهم الجيد المتفاني، إلا أننا لو تفحصنا كل أو أيًّا من الأعمال التي تكسب بجدارة نقاطًا عالية نظرا بفضل مسؤوليتها الاجتماعية والبيئية سوف تواجهنا مفارقة واقعية: حتى لو أن كل شركة على كوكبنا تتبنى الممارسات البيئية والاجتماعية لأفضل الشركات- مثلاً، بودي شوب، باتاغونيا، بن وجيري- سيظل العالم يتجه نحو التدهور البيئي والانهيار. وبتعبير آخر، إذا ما أخضعنا للتحليل الآثار البيئية وأنشأنا نموذج دخل- خرج للموارد والطاقة، فلن تقترب النتائج من المستقبل المقبول أو المستدام. ولو أن جزءًا ضئيلاً من أكثر الشركات الذكية في العالم لم تستطع نمذجة عالم مستدام، فذلك ينم عن أن التحلي بالمسؤولية الاجتماعية هو جزء وحسب من حل شامل، وأن ما نحن فيه ليس مشكلة إدارة بل مشكلة تصميم وتخطيط.

وثمة حاليًا تناقض في صلب الفرضية القائلة بالشركة المسؤولة اجتماعيًا: أعني، أن الشركة تستطيع في الوقت نفسه أن تجعل العالم أفضل وأن تنمو وتزيد أرباحها من خلال تلبية المتطلبات الاجتماعية والبيئية. فلا يمكن تحقيق فانتازيا "خذ كعكتك وكُلْها" إذا كان السبب الرئيسي للتدهور البيئي هو الاستهلاك المفرط. ومع أن أنصار الأعمال المسؤولة اجتماعيًا يبذلون جهدًا رائعًا لإصلاح أخلاق التجارة القديمة المتعبة، فإنهم، عن غير قصد، يقدمون أساسًا منطقيًا جديدًا للشركات كي تنتج وتعلن وتتوسع وتنمو وتراكم الرأسمال وتستنفد الموارد: ذلك الأساس هو أنها تفعل الخير. إن طائرة نفاثة تجوب البلاد، أو سيارة تستأجر في مطار، أو غرفة مكيفة في فندق، أو شاحنة مليئة بالبضائع، أو عاملاً يقطع مسافة طويلة إلى عمله- جميعها تؤدي إلى القدر ذاته من التدهور البيئي سواء كانت مرتبطة مع شركة بودي شوب أو صندوق الدفاع عن البيئة أو شركة ر. ل. رينولدز.

كي نقترب من مجتمع مستدام، نحتاج إلى وصف منظومة للتجارة والإنتاج يكون كل سلوك فيها مستدامًا ومجدَّدًا في صلبه. ونظرًا للأسلوب الذي صممت عليه منظومتنا التجارية، لن تكون الأعمال قادرة على إنجاز عقدها الاجتماعي مع البيئة أو المجتمع إلى أن تخضع المنظومة التي تعمل ضمنها هذه الأعمال إلى تغير أساسي، تغير يجعل التجارة والحكومة تصطفان بمحاذاة العالم الطبيعي الذي يهبنا الحياة. فلا مناص من التكامل بين المنظومات الاقتصادية والبيولوجية والبشرية لكي نبدع نهجًا مستدامًا وتواكليًا للتجارة يدعم ويرفد وجودنا. ومهما نجهد في خلق الاستدامة على مستوى الشركة، لن ننجح تمامًا حتى يعاد تصميم المؤسسات المحيطة بالتجارة. وبما أن كل فعل من أفعال الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي يقود إلى تدهور بيئي إضافي، نحتاج إلى تخيل – ومن ثم تصميم – منظومة للتجارة يكون العكس فيها صحيحًا، أي يكون فعل ما هو جيد يشبه سقوط ثمرة، وتتراكم سلوكيات العمل والحياة اليومية الطبيعية لخلق عالم أفضل بما هي شأن اعتيادي وليست من قبيل الإيثار. إن منظومة مستدامة للتجارة سوف تتضمن الموضوعات التالية:

1.    سوف تخفض الاستهلاك المطلق للطاقة والموارد الطبيعية ضمن الدول المتطورة بنسبة 80 بالمائة خلال 40 إلى 60 سنة.

2.    سوف توفر توظيفًا مضمونًا ومستقرًا وجديًا للناس في كل مكان.

3.    سوف تكون ذاتية الفعل بالتعارض مع الفعل الخاضع للتنظيم والضبط والأوامر الرسمية أو الخلقية.

4.    سوف تحترم الطبيعة البشرية ومبادئ السوق.

5.    سوف تدرك كمنظومة أكثر مرغوبية من أسلوب حياتنا الحالي.

6.    سوف تتخطى الاستدامة عندما تستعيد الموائل والمنظومات البيئية المتدهورة قدرتها البيولوجية الكاملة.

7.    سوف تعول على الموارد الشمسية الراهنة.

8.    لا بد أن تكون رحبة جذابة، وتسعى في سبيل نتائج جمالية.

استراتيجيات الاستدامة

في الوقت الراهن، تتكون حركات المسؤولية البيئية والاجتماعية من كثير من المبادرين المختلفين، تربطهم بشكل رئيسي القيم والاعتقادات وليس التصميم. والمطلوب هو خطة واعية لخلق مستقبل مستدام، تتضمن مجموعة من استراتيجيات التصميم يتبعها الناس. وللعلم بهذه الاستراتيجيات سوف اقترح اثني عشر منها.

1.   سحب الترخيص

مع أن تراخيص الشركات قد تبدو على صلة واهية بالاستدامة، إلا أنها جوهرية بالنسبة لأي حركة بعيدة المدى باتجاه ترميم وتجديد الكوكب. لنقرأ كتيب الاهتمام بالأعمال: المواطنية والترخيص للشركات الذي أصدره عام 1992 ريتشارد غروسمان وفرانك ت. آدمز (charter Inc, Box 806 , Cambridge , MA02140). ففي هذا الكتيب نجد تاريخًَا منسيًا لسلطة الشركات، وانخراط المواطن ينصب على نقطة أساسية وحاسمة: كانت الشركات ترخص من قبل، وتوجد بتفويض من، المواطنين. إن تأسيس شركة ليس حقًا بل امتيازًا تمنحه الدولة ويتضمن اعتبارات معينة من قبيل المسؤولية القانونية المحددة. ويفترض بالشركات أن تخضع لسلطتنا المطلقة لا أن تبقى على هواها. وإن منح ترخيص لشركة هو تدبير قابل للإلغاء اقتُرح لضمان مسؤولية الشركة إزاء المجتمع ككل. عندما تسلب شركة روكويل بشكل إجرامي نفايات البلوتونيوم من مرفق الأسلحة في منطقة روكي فلات في كولورادو، أو عندما أية شركة تجرح أو تسيء إلى أو تنتهك الثقة العامة، لابد أن يمتلك المواطنون الحق في إلغاء ترخيصها بما يؤدي إلى حل الشركة وبيع مشروعاتها للشركات الأخرى وخروجها فعليًا من عالم الأعمال. سيحصل العاملون على وظائف لدى مالكين جدد، لكن الأعضاء التنفيذيين والمدراء في الإدارة سوف يفقدون عملهم مع تنبيه دائم لدى محاولتهم استئناف العمل مفاده أنهم أساؤوا إدارة شركة وتسببوا بسحب ترخيصها.

وهذا الإجراء ليس مانعًا فحسب لإساءة الشركة بل عنصر جوهري في المجتمع الإيكولوجي نظرًا لأنه يخلق حلقات تغذية راجعة تحفز على تحمل المسؤولية وانخراط المواطنين والتعلم. ويجب أن نتذكر أن مواطني هذه البلاد تخيلوا في الأصل أن تكون الشركات جزءًا من شراكة عامة–خاصة، وذلك يفسر لنا لماذا ظلت العلاقة حية وفعالة بين سلطة الترخيص لدى مشرعي الدولة والشركات. لقد كان ذلك صائبًا.

2.   تعديل السعر ليعكس الكلفة

يكون الاقتصاد مختلاً وظيفيًا، من الناحية البيئية والتجارية، عندما لا تزود السوق المستهلكين بالمعلومات الدقيقة. إن اقتصاديات "السوق الحرة" التي نعشقها كثيرًا رائعة في تحديد الأسعار لكنها خسيسة عندما يصل الأمر إلى الاعتراف بالتكاليف. ولكي يوجد مجتمع مستدام ينبغي على كل عملية شراء أن تعكس، أو تقارب على الأقل، كلفتها الفعلية، لا الكلفة المباشرة لإنتاجها بل أيضًا تكاليف الهواء والماء والتربة؛ والكلفة بالنسبة للأجيال المستقبلية، والكلفة بالنسبة لصحة و سلامة العامل؛ والكلفة بالنسبة للنفايات والتلوث والتسمم. وببساطة، إن السوق تقدم لنا المعلومات الخاطئة. فهي تخبرنا أن التنقل بالطائرة عبر البلاد ببطاقة عليها حسم هو سعر رخيص في حين أنه ليس كذلك. وتخبرنا أن طعامنا رخيص في حين تدمِّر طريقة إنتاجه طبقات المياه الجوفية والتربة وحياة العمال وقابلية المنظومة البيئية للحياة. عندما يتلقى كائن حي معلومات خاطئة، فهذا شكل من التسمم. وفي الواقع، هكذا تعمل المبيدات. إن مبيد الأعشاب يقتلها لأنه هرمون يبلِّغ النبات كي ينمو أسرع من قدرته على امتصاص المواد المغذية المتاحة له. وهذا يعني، حرفيًا، أنه ينمو باتجاه الموت. أيبدو ذلك مألوفًا؟ إن الجرعات اليومية التي نتلقاها من السموم هي الأسعار في عالم السوق. إنها تخبرنا أن نقوم بالعمل الخطأ من أجل بقائنا. فهي تهدهدنا كي نقطع أشجار الغابات المعمرة في أوليمبك بينيسولا من أجل زراعة التفاح وتعبئة سلالنا. وتعزينا بنماذج الإنتاج والاستهلاك التي ليست غير مستدامة فحسب بل مدمرة وقصيرة النظر إلى حد كبير. ومن المدهش أن الاقتصاديين "الحفاظيين" لا يدعمون أو لا يفهمون هذه الفكرة، ذلك أنهم هم بذاتهم من يلح على أننا يجب أن ندفع حيثما ذهبنا، وأن لا نكون مدينين، وأن نهتم بالأعمال. دعونا نفعل ذلك.

3.   نبذ واستبدال المنظومة الضريبية برمتها

تبعث المنظومة الضريبية الحالية رسائل خاطئة إلى كل فرد في الواقع، تشجع النفايات وتعوق الحفاظ وتحبذ الاستهلاك. فهي ترهق ما نريد تشجيعه – الوظائف والإبداع وجداول الرواتب والدخل الحقيقي –، وتتجاهل الأشياء التي نريد منعها – التدهور والتلوث واستنفاد الموارد. فالمنظومة الضريبية الحالية في الولايات المتحدة تكلف المواطنين 500 مليار دولار تذهب إلى النفقات الحكومية والقانونية والأرشفة والاحتفاظ بالسجلات وهي تزيد على الكمية الفعلية التي ندفعها في ضرائب الدخل الفردي. والحافز الوحيد في المنظومة الحالية يدفع المواطن إما لأن يحتال أو يستأجر محاميًا كي يحتال لأجله. ينبغي بشكل متزايد وخلال فترة 20 عامًا الاستعاضة عن المنظومة الضريبية برمتها وإحلال "الرسوم الخضراء" محلها – وهي ضرائب تضاف إلى ما هو موجود من منتجات وطاقة وخدمات ومواد بحيث تصبح أسعارها في السوق أكثر قربًا من التكاليف الحقيقية. هذه الضرائب ليست وسيلة لزيادة الإيراد الحكومي أو تخفيض العجز في الميزانية، بل يجب أن تكون متكافئة الإيراد بالمطلق بحيث أن الناس في الطبقات الدنيا والوسطى لا تشعر بتغير حقيقي في الدخل، بل فقط بتحول في النفقات. وفي نهاية المطاف، ستصبح كلفة الموارد غير المتجددة والطاقة الاستخراجية ونماذج الإنتاج الصناعية أكبر من كلفة الموارد المتجددة من قبيل الطاقة الشمسية والتحريج المستدام والطرائق البيولوجية في الزراعة. لماذا يجب أن تكون الطبقة الوسطى العليا قادرة على تحمل عملية الحفاظ في حين أن الطبقات المنخفضة الدخل لا تستطيع؟ حتى الآن، جعلت الحركات البيئية العالم أفضل فقط بالنسبة للناس من العرق الأبيض في الطبقة الوسطى العليا. فالحركة البيئية الوحيدة التي يمكنها أن تنجح يجب أن تبدأ من الأدنى إلى الأعلى. وفي ظل منظومة الرسوم الخضراء ستؤدي الحوافز باتجاه توفير الضرائب إلى نشوء أعمال بناءة وإيجابية يمكن لكل فرد تحملها. فمع تصاعد أسعار الطاقة إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف مستوياتها الموجودة (مع تخفيضات ضريبية مكافئة لموازنة الزيادة) سيفضي الميل الطبيعي لادخار المال إلى ظواهر من قبيل الاشتراك في السيارة واستخدام الدراجات العادية والنقل الجماعي والبيوت الأكثر فاعلية في توفير الطاقة. ومع تصاعد الضرائب على المخصبات الصناعية والمبيدات والوقود الأحفوري، أيضًا مع تخفيضات موازنة على ضرائب الدخل والرواتب، سوف يجد المزارعون الذين يستعملون أساليب الزراعة العضوية أن إنتاجهم وطرائقه هي أرخص وسائل الإنتاج (لأنها بالفعل كذلك)، كما سيجد المستهلكون أن الغذاء المنتج عضويًا أقل ثمنًا من نظيره التجاري. وفي المآل، وباستثناء الضرائب على الأغنياء، سنجد أنفسنا في وضع لا ندفع فيه ضرائب بل ننفق المال بفطنة بارعة ومفيدة. وفي ظل منظومة ضريبية رشيدة مصممة من جديد، سيكون المنتج الأرخص في السوق هو الأفضل للمستهلك والعامل والبيئة والشركة. وهذا نادر الوجود حاليًا.

4.   السماح بتحول شركات الموارد إلى مرافق عامة

يعد مرفق الطاقة العام اندماجًا مثيرًا من مصالح عامة–خاصة. ويحظى المرفق العام باحتكار السوق عوضًا عن المراقبة العامة للأرباح والدفاتر التجارية ومعدلات الأرباح المضمونة. وبالنظر إلى هذه العلاقة والعمل الرائد الذي قام به أموري لوفينز، لدينا اليوم أسواق "النيغاوات"[2]. إنها المرة الأولى في تاريخ المذهب الصناعي الذي تكتشف فيه الشركات كيف تجني الأموال من خلال الترويج لغياب شيء ما. النيغاوات هي ضد الطاقة: إنها تعبر عن القدرة المشتركة للمرفق العام على تسخير الكفاءة عوضًا عن المواد الهيدروكربونية. يوفر هذا البديل الحفاظي أموال الشركات والمساهمين ودافعي الضرائب – وهذه الوفورات تصل إلى كل شخص. يجب أن تدار كل منظومات الموارد، بما في ذلك النفط والغاز والغابات والمياه، من خلال نموذج المرفق العام. يجب أن يكون هناك أسواق شبيهة بالنيغاوات تخص أعمال التعليب والأشجار والفحم. على سبيل المثال، لا يوجد لدى شركات النفط حاليًا سوى الضغط من أجل حماقة على شاكلة الحفر والتنقيب عن النفط في محمية الحياة البرية الوطنية في القارة القطبية. إن ذلك المشروع باستثماراته البالغة 40 إلى 60 مليار دولار من أجل التزود المتوقع بنفط يلبي متطلبات الاستهلاك في الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر فقط، ذلك المشروع هو الطريقة الوحيدة لشركة نفط كي تكسب المال في ظل منظومة التجارة الحالية. ولكن ماذا لو أن شركات النفط شكلت مرفقًا عامًا وأبرمت صفقة مع المواطنين ودافعي الضرائب تتيح لها "الاستثمار" في المواد العازلة والنوافذ ذات الزجاج الفائق العزل وحسومات حفاظية على السيارات الجديدة وتفكيكًا للسيارات القديمة؟ فمن خلال الرسوم الخضراء سوف ندفع لهم عوائد مقابل استثمارهم الحفاظي يعادل ما تتلقاه المرافق العامة، وستكون نسبة الأرباح منسجمة مع كمية براميل النفط التي يوفرونها وليس بالحري ينتجونها. ولكن، لماذا عليهم أن يهتموا بذلك؟ وكذلك نحن؟ إن استثمار 60 مليار دولار في الحفاظ على الموارد سوف يغلُّ طاقة، من وجهة نظر حفاظية، تعادل أربعة إلى عشرة أضعاف تفوق التنقيب عن النفط. وبالنظر إلى مبدأ لوفينز في كفاءة الاستخراج، لنحاول تخيل مرفق عام للغابة أو لسمك السلمون أو للنحاس أو لنهر المسيسبي أو للمروج الخضراء. لنتخيل منظومة حيث مرفق الموارد العام يستفيد من الحفاظ على الموارد، ويجني المال من الكفاءة، ويزدهر عبر التجديد، ويربح من الاستدامة. إن ذلك ممكن اليوم.

5.   التحول من المنظومات الخطية إلى الدورية

ثمة الكثير من العيوب التصميمية في اقتصادنا، لكن أكثر هذه العيوب بروزا يتمثل في أن الطبيعة دورية في حين أن الصناعة خطية. لا يوجد في الطبيعة منظومات خطية، أو أنها لا توجد لوقت طويل لأنها تستنفد ذاتها وتنقرض. المنظومات الصناعية الخطية تأخذ الموارد ثم تحولها إلى منتجات أو خدمات، تطرح نفايات، ثم تبيع للمستهلكين الذين يطرحون نفايات إضافية عندما يستهلكون المنتج. بالطبع، نحن لا نستهلك( نتلف) أجهزة التلفزيون أو السيارات أو معظم البضائع الأخرى التي نشتريها. لكن الأمريكيين ينتجون أسبوعيا ستة أضعاف وزنهم مياها قذرة سامة وخطرة، ورمادا محترقا متطايرا، ونفايات زراعية ومعادن ثقيلة ونفايات كيماوية وورق وأخشاب، الخ. وهذا لا يشمل غاز co2  الذي إذا أخذناه بالحسبان فسوف تتضاعف كمية النفايات. تصمم وسائل الإنتاج الدورية بحيث تحاكي المنظومات الطبيعية التي تكون فيها الفضلات غذاء مكافئا لأشكال حياة أخرى، دون التفريط بأي شيء، و يكون التعايش بديلا للتنافس. لقد صمم بيل ماكدونوف، وهو معماري من نيويورك ورائد في مجال مبادئ التصميم البيئي، منظومة لإعادة تركيب كل نافذة في أية مدينة أمريكية رئيسية. ومع أنه لا يزال ينتظر الموافقة النهائية، إلا أن المشروع قد خطط كي يمضي على النحو التالي: تشكل المدينة والصانع الرئيسي للنوافذ مشروعا تجاريا مشتركا لإنتاج نوافذ من الزجاج الفائق العزل الذي يوفر الطاقة في البلد. سوف تأتي هذه الشركة إلى بيتك أو عملك، تقيس جميع النوافذ والأبواب الزجاجية ثم تستبدلهم خلال 72 ساعة بالنوافذ المقترحة ذات الكفاءة في عزل الطاقة. ستكون هذه النوافذ على شاكلة القديمة من حيث إطاراتها وقالبها ومظهرها العام. وسوف يستلم المرء شيكا بـ 500 دولار عند التركيب، وسوف يدفع ثمن النوافذ الجديدة خلال 10- 15 عاما بواسطة مؤسسته أو فاتورته الضريبية. ستكون الفاتورة الكلية أقل من كلفة الطاقة التي توفرها النوافذ. وبتعبير آخر، لن تكلف النوافذ الجديدة صاحب المنزل أو العمل شيئا. سوف تدفع المدينة لهم في البداية بواسطة سندات تطوير صناعي. وسوف يدرب مصنع النوافذ ويوظف 300 عاطل عن العمل. أما النوافذ القديمة فيتم إعادة تدويرها واستخدامها بالكامل ويصهر زجاجها، أما الإطارات الخشبية فتنتزع وتخلط بمواد صمغية معاد تدويرها وتقولب لصنع الإطارات. عندما تكتمل إعادة تزجيج المدينة، سوف تحتفظ بما يزيد على 20-30 مليون دولار كل عام في صورة أموال مدخرة في سندات عامة. وبعد أن يتم تسديد ثمن النوافذ سوف يتصاعد الرقم. أما المصنع، الذي يصمم بحيث يكون قابلا للنقل، فسوف يتحرك إلى مدينة أخرى، وسوف تحتفظ المدينة الأولى بحصة متساوية في المشروع. لقد صمم ماكدونوف منظومة رابحة جدا جدا توفر الحل الأمثل لعدد من البرامج. إن الازدهار سوف يحل على دافعي الضرائب ومالكي المنازل والمستأجرين والمدينة والبيئة والعاملين لأنها جميعا يقومون بـ " جني " المال بواسطة الكفاءة وليس بالاستغلال. والأمر برمته يشبه إلى حد ما إعادة تشغيل جديدة للاقتصاد الصناعي.

6.   التحول في صنع الأشياء

ينبغي أن نرسخ منظومة الإنتاج الذكية التي أنشاها مايكل برونغارت من وكالة تشجيع الحماية البيئية EPEA في هامبورغ، ألمانيا. تعرف المنظومة ثلاثة أنماط من المنتجات. النمط الأول هو المواد القابلة للاهتلاك وهي مواد إما تؤكل أو أنها عندما تطرح في الأرض تتحول إلى فضلات دون أية تأثيرات بيولوجية تراكمية. وبكلمات أخرى، إنها المنتجات التي نفاياتها تعد غذاء لمنظومات حية أخرى. وفي الوقت الحالي، ثمة الكثير من المنتجات التي يجب أن تكون من هذا النمط ولكنها ليست كذلك، كما هي الألبسة والأحذية. تحتوي الألبسة القطنية على مئات الكيماويات المختلفة، والملدنات، والمبيدات بأنواعها، والأصبغة؛ فالأحذية تدبغ باستعمال الكروم وتحتوي نعالها على الرصاص: وتحتوي ربطات العنق والسترات الحريرية على الزنك والقصدير والأصبغة السامة. إن الكثير مما نعيد تدويره اليوم يتحول إلى منتجات سامة عَرَضيًا، تستهلك من الطاقة في سيرورة التدوير أكثر مما توفره. ينبغي أن نصمم المزيد من الأشياء بحيث يمكن رميها في أكوام الأسمدة الطبيعية. ويمكن صنع عبوات معجون الأسنان والعلب الأخرى غير القابلة للتحلل انطلاقًا من مركبات طبيعية بحيث تتحطم جزيئاتها وتتحول إلى سماد للنباتات. فالعلب التي تتحول إلى فضلات متحللة أكثر نفعًا بما لا يقاس، من الناحية البيولوجية، من العلب التي تحول إلى مقاعد بلاسيتكية في الحدائق. ومهما يكن ذلك بدعًا، فإن التصميم من أجل التحلل والتعفن، وليس إعادة التدوير، هو أسلوب العالم الطبيعي من حولنا.

والصنف الثاني هو المواد المعمرة التي لن تباع بل يرخص لها فحسب. إن السيارات وأجهزة التلفزيون وكاميرات الفيديو والثلاجات ستعود ملكيتها دومًا إلى مصنِّعها الأصلي، وعلى ذلك فهي سوف تصنع وتستخدم وتعاد ضمن منظومة دائرية مغلقة. ولقد ترسخ هذا الأسلوب في ألمانيا وعلى نحو أقل في اليابان، وبدأت الشركات في التصميم من أجل التفكيك. عندما تعلم شركة ما أن منتجاتها سوف تعود إليها يومًا ما، وأنه لا يمكنها رمي أي شيء تصنعه، فسوف تبدع مقاربة مختلفة جدًا في التصميم والمواد.

أخيرًا، ثمة المواد غير القابلة للمتاجرة – السموم والإشعاع والمعادن الثقيلة والكيماويات. فلا يوجد أية منظومة حية تتغذى على هذه المواد وبالتالي لا يمكن رميها أبدًا. وطبقًا لمنظومة الإنتاج الذكية التي افترضها برونغارت، هذه المواد يجب أن تنسب إلى صانعها الأصلي وتحرس بأمان من قبل مرافق عامة تدعى "مقرات تجميع" تخزن المواد السامة في مستوعبات إلى أمد غير محدود، بحيث يدفع المصنعون الأصليون كلفة استئجار لهذه الخدمة. ويتوقف الاستئجار عندما تستطيع لجنة علمية مستقلة الجزم بوجود طريقة آمنة لنزع سمية المواد موضع البحث. وستكون ثمة واسمات جزيئية لكل الكيماويات السامة تنسبها إلى مصنعيها الأصليين بحيث إذا ما عثر عليها في الآبار أو الأنهار أو التربة أو الأسماك تكون الشركة مسؤولة عن تجديد هذه المصادر وتنظيفها. وهذا يلقي بمشكلة التسمم على كاهل المصنعين، حيثما حدثت، وتجعلهم مسؤولين عن المفعولات ذات دورة الحياة الكاملة.

7.   صوِّت، لا تشترِ

لقد أُبطلت الديمقراطية بشكل فعال في أمريكا بفعل نفوذ المال والمحامين والمنظومة السياسية التي هي ثمرة الاثنين. ومع أننا يمكن أن نحلم باسترداد نظامنا الديمقراطي، تظل الحقيقة أننا نعيش في ظل حكم بلوتوقراطي – حكم الأثرياء. إحدى الطرق للخروج من هذا الحكم هو أن تصوت بدولاراتك، أي أن تمتنع عن الشراء من الشركات التي تعمل أو تستجيب على نحو غير مناسب. ولا تكتفِ بتجنب الشراء من سيارات ميتسوبيشي لأنها شركة تنخرط في تدمير الغابات البدائية في ماليزيا وأندونيسيا والأكوادور والبرازيل وبوليفيا وكندا وتشيلي وسيبيريا وغينيا الجديدة، بل اكتب وأخبرهم لماذا لن نشتري منهم. شارك في الحوار، ابعث بطاقة بريدية كل أسبوع، تحدث، تنظَّم، قاوم، اتصل بشركات مثل جنرال الكتريك. أسهم في تثقيف الجمعيات اللاربحية. والمنظمات والمجالس البلدية وصناديق المنح الحكومية كي تتصرف جميعا بشكل إيجابي، وتدعم المبادئ الإيكولوجية في الأعمال، وتستثمر بفطنة، وتفكر بمصير أموالها لا في أن تنفقها فحسب. طالبْ بأفضل صيغة للشركة التي تعمل لها أو تشتري منها. إنك أهل لذلك ولسوف تعينهم أعمالك على التغير.

8.   تجديد "الوصاية"

لا مجال لقطاع أعمال معافى ما لم يكن ثمة قطاع حكومي معافى. تصف جين جاكوبس في كتابها منظومة البقاء متلازمتين خلقيتين رئيسيتين جدًا تتخللان مجتمعنا: المتلازمة التجارية التي نشأت من ثقافات التبادل التجاري، ومتلازمة الحكم، أو الوصاية، التي نشأت من الثقافات المناطقية. منظومة الوصاية تراتبية وتلتزم بالتقاليد وتثمِّن الوفاء وتنأى عن التبادل والذهنية الخلاقة. من جهة أخرى، تقوم المنظومة التجارية على التبادل لذلك فإنها تثمن الثقة بالغرباء، والذهنية الابتكارية، والتفكير المستقبلي. لكل منظومة مزايا تفتقدها الأخرى. حين تحاول منظومة الوصاية القيام بدور الأعمال، كما في أوربا الشرقية، لا تنجح أعمالها. وكذلك من الصحيح أيضًا، وإن يكن غير واضح تمامًا لنا، أنه عندما تدير الأعمالُ الحكومةَ يخفق الحكم أيضًا. لقد تهشمت منظومة الوصاية بشكل كامل تقريبًا بسبب المال والسلطة والنفوذ والسيطرة التي تمارسها الأعمال، وبدرجة أقل، المؤسسات الأخرى. ينبغي أن تخرج الأعمال والنقابات من الحكومة. إننا بحاجة إلى ما هو أكثر من حملات الإصلاح: نحتاج إلى بصيرة تتيح لنا جميعًا إدراك أنه عندما يستثني الناطق باسم مؤسسة توم فولي التجارية صناعة الألمنيوم في مقاطعته من ضريبة[3] Btu المقترحة، أو عندما يتبرع فيليب موريس بمبلغ 200000 دولار إلى مركز جيسي هيلمز للمواطنية، فإن ذلك ازدراء للمواطنية يجعل الديمقراطية تتقيأ وترتعش على أدراج مبنى الكابيتول. وما يدعو للسخرية أن الأعمال تظن أن انخراطها في الحكم هو من قبيل المواطنية الصالحة أو على الأقل أنها تعرض مصالحها الخاصة. والحقيقة هي أن الأعمال تمنع الاقتصاد من التطور. وهكذا، تخسر الأعمال والعاملون والبيئة جميعًا.

9.   التحول من الثقافة الالكترونية إلى الثقافة البيولوجية

أن يستطيع الإنسان الراشد المتوسط تعرف ألف من أسماء الماركات التجارية ويعلم أقل من عشرة أسماء لنباتات محلية، فتلك إذن علامة غير طيبة. إننا لا نتحرك نحو عصر المعلومات بل نحو عصر بيولوجي، ولسوء الحظ يجهزنا تعليمنا التقاني لأجل أسواق الشركات وليس لأجل المستقبل. فالجلوس في البيت بقفازات الواقع الافتراضي وأمام ألعاب الفيديو ثلاثية الأبعاد والتسوق التفاعلي عبر كابل التلفزيون، كل ذلك رؤية فقيرة وعقيمة للمستقبل. إن ثورة الحاسوب ليست رمزًا مقدسًا لمستقبلنا، إنها أداة وحسب. لا تفهموني خطأ. الحواسيب عظيمة، لكنها ليست رؤية نهضوية أو إجبارية للثقافة أو المجتمع. إنها لا تأخذنا صوب مستقبل مستدام بأكثر مما يفعل استحواذنا على سيارات وأجهزة تلفزيون تطرح أمامنا بميزات أحدث أو مدلولات أغنى. إننا نتحرك نحو عصر الآلات الحية وليس، كما لاحظ كوربوسير، "الآلات التي نحيا فيها". إن توماس أديسون المستقبل ليس بيل غيتس صاحب شركة ميكروسوفت، بل جون ونانسي تود مؤسسا معهد الخيمياء الجديد في ماساشوتس، وهو مختبر تصميمي ومركز تفكير لأجل الاستدامة. وإذا كان عمل تود يبدو أقل اتسامًا بالطابع التجاري وأقل نجاحًا وإبهارًا، فذلك لأنهما يعملان على المشكلة الحقيقية – كيف نحيا – وعملهما أكثر تعقيدًا بما لا يقاس من معالج ميكروي. إن فهم السيروات البيولوجية يعني معرفة كيف نمضي نحو ابتكار تعايش جديد مع المنظومات الحية (أو الهالكة)، فما نستطيع تعلمه من الحواسيب هو كيفية نمذجة المنظومات المعقدة. الحواسيب هي التي أتاحت لنا إدراك كيف أن عصبونات الرخويات البحرية الشائعة أكثر قوة وقدرة من جميع المعالجات المتوازية وإن عملت مع بعضها.

10.                      جرد الموارد

إننا لا نعلم كم عدد الأنواع الحية التي تعيش على كوكبنا حتى بنسبة عشرة بالمائة منها. كما لا نعلم كم انقرض منها. ولا نعلم أيضًا ما الذي تحتويه المكتبة البيولوجية التي ورثناها عن العصر الجيولوجي الحديث. (يقدر عالم البيولوجيا الاجتماعية ي. و. ويلسون أن الأمر يستغرق 25.000 سنة من عمر الفرد كي يفهرس معظم الأنواع الحية، بصرف النظر عن أن ثمة 1500 شخص فقط يمتلك القدرة التصنيفية اللازمة لإجراء ذلك). ولا نعلم كيفية التفاعل المعقد بين المنظومات – كيف يؤثر النَّتْح في الزنابق العملاقة في غابات البرازيل المطيرة على هطول المطر والزراعة في أوروبا، على سبيل المثال. ولا نعلم مصير 20 بالمائة من غاز co2 الذي ينبعث كل عام (فهو يتلاشى بلا أثر). لا نعلم كيف نحسب الغلال المستدامة في منظومات المصائد السمكية والغابات. ولا نعلم لماذا أنواع حية معينة، كالضفادع مثلاً، تنفق حتى في موائل غير فاسدة. ولا نعلم التأثيرات طويلة الأمد للمواد الهيدروكربونية المكلورة على الصحة والسلوك والقدرة الجنسية والخصوبة لدى البشر. ولا نعلم ما هي الحياة المستدامة المتوفرة للقاطنين حاليًا على الكوكب، وبالتأكيد لا نعلم ذلك بالنسبة للسكان المستقبليين. (حسبت دراسة ألمانية أن حصة الشخص من الهواء النظيف تعادل رحلة واحدة عبر الأطلسي في حياته). ولا نعلم كم عدد الناس الذين نستطيع إطعامهم على أساس مستدام، أو ما الذي يجب أن تكون عليه وجبتنا الغذائية. وباختصار، إننا بحاجة إلى اكتشاف ما لدينا، ومن يملكه، وما الذي نستطيع أو لا نستطيع القيام به.

11.                      الاهتمام بالصحة البشرية

سوف تحظى الحركات المسؤولة بيئيًا واجتماعيًا بمصداقية إضافية إذا ما أدركت أن القدر الأعظم من المعاناة والوفيات البشرية تتسبب بها المشكلات البيئية التي لم تنصب عليها جهود المنظمات البيئية أو الشركات. يقتل الماء الملوث مئات أضعاف ما تقتله كل أشكال التلوث الأخرى مجتمعة. ويموت ملايين الأطفال بسبب الأمراض المناعية وسوء التغذية.

إن التوجه نحو الاستدامة لابد أن يبحث الأخطار الواضحة الراهنة التي يواجهها الناس في طول العالم وعرضه، الأخطار التي، ويا للسخرية، تزيد مستويات عدد السكان نتيجة التهديد الذي يتعرضون له. فعندما يخاف الناس من موت أطفالهم يزيدون من عددهم. ولن يتاح للحركة البيئية أن تقول كلمتها قبل أن يفهم غالبية الناس في العالم، الذين يعانون بطرق كثيرة لا يمكن الحد منها وإن تكن محمولة، أن المذهب البيئي يعني تحسين حياتهم بشكل مباشر. سوف ينفق الأمريكيون من المال في الأشهر الاثني عشر التالية على صناعة الأفلام والتمتع بمشاهدة الحديقة الجوراسية أكثر مما ينفقونه على المساعدات الخارجية لمكافحة سوء التغذية أو تأمين مياه نظيفة.

12.                      احترام الروح البشرية

إذا كان المأمول أن ننجح في امتحان الاعتدال، عندها يجب أن نسير في اتجاه مستقيم نوعًا ما صوب الواقع. لاشيء مما كتب أو اقترح أو افترض هنا ممكن ما لم تعتزم الأعمال دمج ذاتها في العالم الطبيعي. ولقد حان وقت الأعمال كي تبادر في سيرورة مفتوحة حقيقية من الحوار والتعاون والتفكر وإعادة التصميم. يكتب جيرمي سيبروك من حزب الخضر البريطاني، "لا يكفي أن نعلن، كما يفعل كثيرون، أننا نعيش بطريقة غير مستدامة، نستنفد الموارد، ونبدد رزق الجيل التالي، مهما يكن صحيحًا هذا القول. ينبغي أن يشعر الناس بشكل ذاتي باللاعدالة واللاستدامة قبل أن يقوموا بتقديرات متزنة من قبيل إن كان يجدر المحافظة على ما هو موجود، أو إن لم يكن ثمة طرق مقنعة وأكثر عدلاً يكون الفوز بها على حساب ضروريات الفقراء أو تبديد نسيج كوكب الأرض".

يذكرنا الشاعر وعالم الطبيعيات و. س ميروين (اقتباسًا عن روبرت غريفيس) بأن ثمة قصة واحدة، واحدة فقط، كي نرويها في حياتنا. لقد جُعلنا كي نثق بآبائنا وأعمالنا، بثقافاتنا وتلفزيوناتنا، بسياسيينا ونجوم السينما، تلك هي قصة المال والتمويل والثروة ومخزون السندات التجارية والشراكة والمنزل الريفي. هذه إشاعات وحكايات جعلتنا قلقين جبناء: يُعبر الكاتب والمزارع ستانلي كراوفورد عن ذلك قائلاً: "ينبغي أخيرًا لكشوف الحسابات المالية الصارمة أن تفسح المجال للسرد، بكل ما فيه من استثناءات وحالات خاصة وتأرجحات. ينبغي أخيرًا أن تفسح المجال للقصة، التي ربما تكون سلاحنا في مواجهة الانعطافة التالية لتحدي دورة الحياة: فعبر الصخر والبرد تتقدم نحو المستقبل بذرتنا ورشيم زرعنا وغبار طلعنا". إنه شيء أعمق مما تستطيع أية ثقافة تجارية أن تسبر غوره، وهو بانتظار كل واحد منا.

ينبغي أن تذعن الأعمال لتوق الروح البشرية. إن الإسهام الأهم لأعضاء حركة الأعمال المسؤولة اجتماعيا لا شأن له إلا قليلاً بإعادة التدوير أو بمشكلات الغابات المطيرة أو بتوظيف المشردين. إن هديتهم لنا تتمثل في كونهم قدوة إذ يحاولون فعل شيء ما، ويخاطرون ويجازفون ويحدثون التغيير – أي تغيير. إنهم لا ينتظرون "الحل"، بل يعملون بجهد وحتى بدون ضمانات النجاح أو الصفقات. هذا ما ينبغي علينا جميعًا القيام به. لقد كان امتلاك الرؤى موضع ازدراء دومًا في عالم التجارة. لكن، بدون رؤية بناءة للجنس البشري لن يكون لدينا المعنى والعمل والأمل.

ترجمة: معين رومية

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ المقالة مقتبسة من كتاب: الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية، (ج2)، ترجمة: معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 333، نوفمبر، 2006.

[1] المواد الهيدروكربونية hydrocarbon: المركبات العضوية، مثل البنزين، التي تتضمن الكربون والهيدروجين وتشكل قوام الوقود الأحفوري وخصوصًا البترول. (المترجم)

[2] النيغاوات Negawatts أو ثورة النيغاوات وتعني خفض إنتاج الطاقة التي تنتجها المحطات بدلاً من زيادتها، مع بقاء جميع المنافع المستفادة من إنتاج الطاقة والمافظة في الوقت نفسه على البيئة نتيجة خفض الإنتاج. (المترجم)

[3] ضريبة بيئية تحسب على أساس المحتوى الحراري للوقود، وقد حاول الرئيس الأمريكي بل كلينتون فرضها عام 1992 لكنه فشل في ذلك. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود