مذكرات الأب يوحنا-1

 

هاني بيطار

 

1

أوراق وأقلام، وانتظار الختام... انتظارُ نهاية الفصل الأخير من الرواية واسدالُ الستارة.

كل حياة على هذه الأرض رواية، رواياتٌ فيها الهزلُ وفيها الجدُّ، وتختلط فيها الأفراح بالدموع. أو روايةٌ واحدة جامعة. رواية الحياة على هذه الأرض، كل من عاش له دورٌ فيها. سلسلةُ فصول وحكايات، وكتب وروايات بأسماء وعناوين مختلفة متفرِّقة، يجمعها هذا الاسم العنوان الذي اختاره له الكاتب الفرنسي بلزاك Balzac وهو الهزلية البشرية La comédie Humaire.

ولتكن ما تكون الرواية، وليكن من يكون صاحب الرواية، إنها فصول تتوالى وينتهي دائمًا فصلها الأخير بالموت واسدال الستارة. فالموت نهاية، والموت حقٌّ كما يقال. إني أعيش بانتظار أن يحقَّ الحقَّ لا بانتظار أن أنتهي، لقد انتهيتُ من قبل أن أموت. والكثيرون من انتهوا وينتهون قبل أن يموتوا.

انتهيت إذ لم يبق لي ما أصبوا إليه. لقد أقلعت عن كل أمل ورجاء، ولم يبقَ لي أيضًا ما أخاف منه وأجزع. لقد تعرَّيت. تعرَّيتُ وتجرَّتُ حتى من الشعور نحو الغير، شعور الحبِّ، وشعور الكره والبغض. من أحببت ماتوا، وكان آخرهم ابني وولدي. وأمَّحى الكره في نفسي. حتى هؤلاء المجرمين القتلة من حولي، كثيرًا ما يصدر عن هذا أو ذاك من بينهم تصرُّف سيئ أو قبيح، بحق غيري، أو كما كان يحصل بحقِّي في الأسابيع الأولى من توقيفي، فكنتُ أطوي الإساءة في داخلي ولا أضمر حقدًا. أمرُّ ولا ألوي. حتى الحراس في السجن، وما يمكن أن يصدر عنهم من غلظة في المعاملة ومن سلوك غير إنساني، أفهمهُ وأعذر فاعله. أنسبه إلى واجب الوظيفة كما هم يفهمون هذا الواجب ويمارسون، وإن كان مفهومًا خاطئًا فاسدًا.

انتهيت ما دمتُ قد تجرَّدت وتعرَّيت. لكنني انتهيت وما انتهيت طالما أن هذا القلب ينبض ويدقُّ، وطالما أنَّ الحياة في هذا الجسم تسري وتدبُّ.

إني إذن بالانتظار، بانتظار أن يستتبَّ الموت وأن تحلَّ النهاية النهائية فتسدل الستارة.

أنتظر بصبر، وأنتظر بدون خوف ولا وجل. لكنني أودُّ أن لا يطول بي الانتظار. وفي تصوري، توضيحًا أو تصحيحًا لرأي الطبيب الذي لم يصارحني إلا مواربة مع التأميل المصطنع والكذب الرفيق، إنَّ الداء يغزو ويجتاح وينتشر في جميع الخلايا تحت الجلد يومًا بعد يوم، وكل يوم أبعد وأعمق.

يومًا بعد يوم، يثقل نومي ولا أستيقظ إلا بصعوبة، والأصعب أن أنهض من الفراش. أذهب لقضاء حاجة وأعود بعدها للفراش كأني لم أنم كفاية، وأُحاول أن أنام، أو أنني أنام دون أن أنام، فأبقى ساهيًا غائبًا أتابع تسلسل أحلام ورؤى غريبة عجيبة، لا اتصال بينها ولا تناسق، إنما انتقال وتحوُّل من رؤية إلى رؤية بعيدة مختلفة عنها، ومن شخص لآخر لا رابطة بين الإثنين. حياتي الماضية تعود، وأشياء كثيرة من غير ذاتي وحياتي، ومن غير وجودي، وأظلُّ طويلاً تحت تسلُّط هذا النوم بدون نوم. وبعدها أيضًا، أظلُّ طوال النهار معكَّر المزاج، ثقيل الجسم، كل حركة تزعجني وتضايقني، إلى أن يأتي المساء، فأُلقي بنفسي من جديد فوق الفراش كأني ألقي عن كاهلي حملاً ثقيلاً.

المهم أنني لا أتوجَّع ولا أخشى أن أتوجَّع، وإن كنت لا أُصنِّف نفسي من الشجعان في حياتي الماضية. كنت جبانًا في عديد من المواقف، ولا أحسب أن العديدين في ظروف الحياة التي نعيشها يجرؤون أن يدَّعوا بأنهم ليسوا جبناء يدارون ويمالئون، أو ينكفئون وينسحبون بدلاً من أن يجابهوا ويصمدوا. لكني لا أخاف من الوجع، لأن الطبيب طمأنني بأن هذا النوع من الداء لا ترافقه آلام. وبكل الأحوال، هناك العقاقير وعديد أصناف المهدئات، فهي تتكفَّل بالقضاء على الأوجاع في بعض الأمراض مهما عظمت.

انتظر إذن. وكل ما يعنيني هو كيف أُشغل نفسي وأوقاتي بانتظار أن أموت.

لقد مضى أكثر من خمس سنوات على وجودي في هذا السجن. يبدأ العدُّ من يوم تسليم نفسي للشرطة وتوقيفي. سلَّمت نفسي واعترفت بأني أنا القاتل، وقدَّمت المسدَّس أداة الجريمة، وسارت بعدها الأمور بسرعة مقارنة مع باقي القضايا الجنائية التي غالبًا ما تستغرق عشر سنوات وأكثر أحيانًا قبل أن يفصل فيها بحكم نهائي، ثمَّ ينتقل المحكوم عليه من التوقيف على حساب المحاكمة إلى تنفيذ العقوبة المحكوم بها عليه.

انتهت محاكمتي بسرعة لأن التهمة ثابتة بحقي باعترافي الصريح المؤيَّد بالدليل المادي وهو المسدَّس، وتطابق العيار بينه وبين الطلقات القاتلة فوق تطابق بصماته مع الآثار المرفوعة عن الطلقات والفوارغ. على أنه كان لا بدَّ أن تمرَّ سنتان وبعض السنة الثالثة قبل أن تستكمل جميع الإجراءات والمرافعات. إنَّ المحامي الذي كان يدافع عني لم يكن قانعًا بالاتهام الموجَّه لي كما لم يقنع بالحكم، فتقدَّم بدون علمي بالطعن بهذا الحكم أمام محمكة النقض، وانقضت أشهر قبل أن يصدر قرار النقض برفض الطعن.

لم أكن أعرف هذا المحامي. لقد اختاره لي أو فرضه عليَّ صديقي وشريكي صاحب الجريدة الدكتور محسن. وفوجئت بهذا المحامي عندما دعيت لمقابلته أول مرة في الغرفة المخصصة للمحامين داخل السجن، فعرَّفني على نفسه وأعلمني أن الدكتور محسن زيدان من كلَّفه بالدفاع عني. وقبل أن ينتظر موافقتي وقبولي، تحوَّل يقول:

-       كلِّي سمعٌ وانتباه. يجب أن تروي لي ما حدث، كلَّ ما حدث. تذكَّر أدق الدقائق وأتفه التفاصيل، ولا تنسى شيئًا إطلاقًا ولا تكتم أي شيء. لستَ تدري من أي ثغرة نستطيع أن ننفذ إلى وسيلة دفاع نقنع بها المحكمة.

وفتح حقيبته، وأخرج منها دفتر أوراق وأمسك بقلمه وأخذ وضعية المنصت لما سأقول وأروي. ابتسمت وقلت له:

-       أشكرك أستاذ وشكرًا للدكتور محسن الذي كلفك بالدفاع عني. لكن أرجو أن لا تتعب نفسك. لقد قتلت واعترفت بجريمتي وسأعاقب، وأتوقع أن تكون العقوبة شديدة، ربما تصل إلى الإعدام. ولو يترك لي الأمر، لستُ بحاجة لمحامي دفاع لأن لا فائدة من المحامي ولا جدوى من الدفاع عني.

هذا كلام صدٍّ، وفيه استهانة بالمحامي وبعمله ودوره. وغير هذا المحامي، لو يسمع هذا الكلام، يعيد دفتر الأوراق إلى الحقيبة ويطبق عليها وينهي المقابلة ويرحل.

لكن الأستاذ مانع هرموش لم يفعل. لا شك أنه إنسان هادئ وصبور.

ابتسم بدوره وعاد يقول:

-       مع هذا، ما المانع أن تروي لي ما حدث وأن نتعاون؟ إنك تواجه محاكمة جنائية، وفي المحاكمات الجنائية يفرض القانون وجود محام يدافع عن المتهم. فإن صرفتني ولم تقبل بي، سوف تطلب المحكمة من نقابة المحامين تسميه محام يتولى الدفاع عنك، أو إن المحكمة نفسها تسخِّر محاميًا من المتواجدين في قاعة المحاكمة ليدافع عنك. أليس من الأفضل أن يقف إلى جانبك شخص يتقدَّم ليتعرف عليك وليدرس معك قضيتك. فإن لم تستفد منه ولن يكون لدفاعه جدوى كما تقول، ماذا تخسر؟ وقتك داخل السجن فراغ. أقلُّه أننا نملؤه معًا.

أنا الذي لم أكن أتوقع مثل هذا الردِّ من هذا المحامي. لقد أثار كلامه الاحترام له في نفسي، ومنذ تلك المقابلة الأولى، وعلى مدى اللقاءات والمقابلات المتتالية الكثيرة بيننا، كان احترامي له يكبر ويزيد، وصرت أُودُّه وأشتاق له بين لقاء ولقاء. صار أخًا صديقًا. وانتهت المحاكمة، ومرَّت الأيام والسنوات، وما من مرة كان يحضر فيها إلى السجن لمقابلة هذا أو ذاك من موكليه إلا وكان يسأل عني ويطلب مقابلتي وينفرد بي لا أقلَّ من ربع ساعة نتحدث خلالها معًا بكل ما يجول في خاطري أو في خاطره. وفقه الله، سأظل وفيًا له وحافظًا ذاكرًا. إنَّ له في ذمتي دينًا ولا أملك الوفاء. ربما لذلك أكتب هذه المذكرات لأسلمها وأتركها له قبل أن أموت سدادًا متواضعًا لبعض دينه، إذ سوف يجد في ما تحتويه وتنقله هذه المذكرات عن حقيقة ما جرى، ما يلتقي مع ما كان يعتقده ويقنع به، وما حاول عبثًا أن يحملني على تبني وتأييد وسائل وأدلة الدفاع به أمام المحكمة.

خلاصة ما رويته للمحامي في تلك المقابلة الأولى، وهو ما كنت أدليت به في محضر ضبط الشرطة ثم أمام قاضي التحقيق، أن عشيقة لي كنت مختليًا معها في إحدى غرف بيتها الزوجي، فاجأنا زوجها وأطلق النار باتجاهي، وكنت قد انحرفت غريزيًا، فأخطأني وأصاب زوجته وقتلها، فهجم عليَّ وانقضَّ فوقي، وأثناء التماسك بيننا بالأيدي، انطلق المسدس وأصابته هو الطلقة وقتلته.

سكت المحامي وظلَّ فترة لم تصدر عنه كلمة. بعدها قال:

-       معك حق. القضية صعبة وأكثر من صعبة. لا يجوز لي أن أُشكك في صدق ما رويت. ولكن هل تظنَّ أن المحكمة ستقنع بهذه الرواية؟ أمامها قتيلان زوج وزوجته، والقتل في البيت الزوجي، والقاتل شخص غريب، وسبب القتل عهرٌ وزنى. لماذا لا تكون أنتَ من أصاب الزوجة خطأً أو قصدًا ثم عقَّبت وقتلت الزوج؟  لماذا لا تكون عملية انتقام؟ أيهما أقرب إلى المنطق، أن يكون حامل المسدس هو القاتل أم أن يكون هو المقتول؟ ومن الأقرب أن يكون صاحب هذا المسدس؟ أهو القاتل الذي كان يحمل المسدس، أم هو المقتول الذي قتل به؟ إنها فعلاً قضية شائكة صعبة للغاية. كل تقديراتك صحيحة، والتحسُّب من العمد وسبق الإصرار والتصميم وارد وفي محله ما لم نستطع إقناع المحكمة بعائدية المسدس للزوج، وهذا ممكن ولكن ليس بالمضمون، والقتل العمد عقوبته الإعدام في القانون. حتى لو نجونا من العمد، يبقى القتل واقع على شخصين اثنين في وقت واحد، وهذا سبب مشدَّد قانوني يرفع العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، ناهيك عن السبب المشدَّد التقديري وهو الزنى في البيت الزوجي، وليس في المقابل أيما سبب مخفف. إنك رجل قانون تحمل شهادة الحقوق كما ذكر لي الدكتور محسن، وأنت أيضًا كاتب وأديب، مثقف على درجة عالية من الوعي والذكاء، فليس بيدي ولا يجوز لي أصلاً أن أخدعك وأخدع نفسي بالآمال الوهمية الزائفة. إلا أنني أقول لك بكل صدق، وبكل ثقة وإيمان، وهنا أرجو أن تحفظ كل كلمة أقولها، ليس من قضية ميئوسًا منها سلفًا. دعني أدرس وأُفكِّر. سأطلب صورة عن محضر ضبط الشرطة وأدقق فيه، وسأراجع إفادتك لدى قاضي التحقيق، وسأسأل هنا وهناك عن معلومات، وبعدها أعود إليك ونتداول من جديد.

وتوالت بعدها زياراته للسجن، ومع كل زيارة جديدة أسئلة جديدة واستيضاح واستفهام. وكنت أُحاول التهرُّب من الجواب، أو كنت أكذب في الجواب، فكان يمسك بساعدي ويشدُّه ويهزُّه بعنف وهو يقول:

-       أريد الحقيقة. لا تتهرب. أريد الحقيقة.

فأنفر منه بنفس العنف وأردُّ عليه:

-       إنها الحقيقة. لا تجهد نفسك بما لا جدوى منه ولا طائل من ورائه.

وفي إحدى المقابلات، بلغ الأمر بيني وبينه أن طلبت منه الانسحاب فورًا من الدعوى حين راح يعرض أمامي ما توصَّل إليه من المعلومات التي جعلته كما قال على قناعة تامة بأن اعترافي بالجريمة غير صحيح، وأن روايتي لا تقوم على قدميها، وإنني لست الفاعل لهذه الجريمة التي أخذتها على عاتقي ولا يد لي فيها إطلاقًا. فقد سأل عن الزوجة الضحية ولَفَتَ نظره فارق السنِّ بينها وبيني مما يصعب معه نشوء علاقة حب وجنس بين مثلها ومثلي خاصة وأن زوجها كان رجلاً ثريًا وكان رجلاً معروفًا، وكان أصغر مني سنًا على كل حال. ثم سأل في مكتب الجريدة وفي شقة سكني ومن الجيران، فكان الجواب أن أحدًا لم يرَ وجه هذه المرأة هنا أوهناك في أي يوم أو مناسبة، كما أن أحدًا لم يشاهدها معي أو بصحبتي في أي يوم أو في أي مكان. وسأل أيضًا عن تحركاتي وسكناتي يوم وليلة القتل، فعلم أنني كنت في استقبال رسمي حاشد جامع إلى ما بعد الساعة التاسعة والنصف ليلاً، عدتُ بعدها إلى مكتب الجريدة حيث انفردت في غرفتي لكتابة افتتاحية الغد، وشاهدني الحاجب وشاهدني الناطور اللذان انصرفا بعد حضوري. وسأل وعلم أنني نمت في شقتي ولم أغادرها إلا مع الصباح.

لم أدع له أن يتابع فقاطعته وكررت عليه أنه يجهد نفسه من غير طائل. فعاد يلحُّ ويصرُّ بأنه لا يجوز لي أن أظلم نفسي بنفسي، وأن من واجبي أن أتعاون معه لكي ينقذني من حكم يخشى أن يأتي قاسيًا للغاية، فألحَّ وأصرَّ على عدم تبديل موقفي، كما لو كان هو نفسه المتهم الذي يدافع عنه، وكما لو أنني أنا ممثل النيابة العامة أو وكيل جهة الإدعاء.

ولما يئس مني أو يئست منه، قلت له أن الحلَّ الوحيد هو أن ينسحب من الدعوى. فكان جوابه أنه لا ينسحب من ذاته، وعليَّ أن أقيله إذا كنت مصرًا على انسحابه، ولم أكن لأفعل، وكيف أفعل وأمامي إنسان يغار على مصلحتي أكثر من نفسي على نفسي. إنما لم يكن ممكنًا له أن يظفر بأي فرصة أو دليل لنفي الفاعلية عني طالما لم أكن موافقًا ومن حقي أن أعارض، ومن واجبه المهني أن ينصاع بالنتيجة لمعارضتي.

وجرت المحاكمة. وطوال جلسات المحاكمة كان يغلب علي الضحك في داخلي بالرغم من خطورة موقفي وخطر الحكم الذي يتهددني. فقد كانت جهة الإدعاء الممثلة بابن أخ الزوج المجنى عليه قد كلفت محاميًا يدعى الأستاذ باسم الجامد، وسبحان الله، كأن هذا الاسم قد جاء على صاحبه طنجرة لقيت غطاءها كما يقول المثل الدارج. فهذا الأستاذ، عندما كان يبقى جالسًا لا يتدخل ولا يتكلم كان يظلُّ مبتسمًا، وهي ابتسامة مليئة واسعة يكشف فيها عن صفيِّ أسنان يلتصقان ببعضهما كأنهما يختصران الشخص وقد يكون لذلك قد أطلق عليه اسم باسم، أو لأنه أطلق عليه هذا الاسم فقد جعل الإبتسامة بطاقة تعريف عن اسمه. وأما عندما يقف ويتوجه بالخطاب إلى المحكمة، فقد تحوَّل إلى الجد، وللفور يتصلب ويجمد، ولعلَّه لهذا سميَّ بالجامد. يتصلب ويجمد كل ما في وجهه باستثناء فمه أو شفتيه، وكأن يدًا خفية تحرك من الوراء جهازًا ميكانيكيًا موصولاً بفقرات ظهره، تفتح وتمدد شفتيه عندما يلفظ أحرفًا كالسين والشين حين يقول مثلاً: "وشهر مسدَّسه" ثم تعود فتضيق وتضمُّ شفتيه عندما يلفظ أحرفًا كالواو والنون حين يقول مثلاً: "هذا ما ينص عليه القانون"، ومع نهاية هذه العبارة، ترى شفتيه المضمومتين قد اندفعتا إلى الأمام واندفع معهما رأسه كأنه يتقرب من رئيس المحكمة ويسعى لأن يطبع قبلة على وجهه.

كنت أخاف أن لا أمسك نفسي من الضحك وأنا أتطلع إليه فأردُّ بصري عنه وأضحك في سري.

ولما جاء دور وكيلي بإلقاء دفاعه عني فقد بقيت جميع أدلة النفي وأسباب التشكيك التي كانت بين يدي المحامي محفوظة في جيبه، أو مخبأةً في ذهنه. لقد ركَّز دفاعه على أني، وقد تقدمت تلقائيًا ومن ذاتي أسلِّم نفسي وأعترف بالجريمة، ولم يكن قد ظهر في التحقيق أي دليل، ولا ثمة أي قرينة تشير إليَّ أو تدعو للاشتباه بي، فإن من حقي أن تصدِّق وتعتمد المحكمة أقوالي ورواية اعترافي عن كيفية حصول الحادثة، وأن المنطق ومكان الحادثة ومختلف أسبابها وظروفها، كلَّه يؤيد صدق روايتي بأن الزوج من فاجأني مع زوجته، وأن المسدس مسدسه، وأنه هو الذي راح يطلق منه وأصاب زوجته إلى آخر ما جاء في الاعتراف. واستطرد أنه لم يظهر في التحقيق ما يشير إلى سبق أي خلاف بيني وبين الزوج مما يصح معه تصوُّر أن أكون أنا صاحب المسدس من جئت لأُنفِّذ عملية انتقام بقتل الزوجين معًا، وبذا ينتفي العمد كما ينتفي القتل لأكثر من شخص.

أفلح المحامي ولم يفلح. لقد قنعت المحكمة معه بأنَّ الزوج فاجأني مع زوجته، وبأن القتل لم يكن متعمدًا ولكنها لم تقنع بأن المسدس هو مسدس الزوج، بل ذهبت في حكمها إلى أنني، وقد ركبت المخاطرة بالذهاب إلى بيت زوجة في غياب زوجها، فقد حملت معي المسدس تحسبًا لكل طارئ أو محذور، ولما فاجأني الزوج، فلا بدَّ أن يكون هجم عليَّ، وهو أكبر طولاً وحجمًا مني، فهو الأقوى وقد تغلَّب عليَّ وأصبحت تحت رحمته، فاستعنت بالمسدس ورحت أطلق منه، أصبت الزوجة خطأ وأصبت الزوج بعدها وقتلتهما معًا.

قضى الحكم بمعاقبتي بالأشغال الشاقة المؤبدة.

وطعن المحامي بالحكم ورفض الطعن كما ذكرت. واستقرت عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، هي التي تنفذ حاليًا بحقي.

* * *

إنها عقوبة أشغال شاقة بالاسم. وأما في الواقع، فلا أشغال إطلاقًا، لا أشغال شاقة ولا أشغال غير شاقة، ولا فرق بين وضعي أثناء التوقيف ووضعي الحالي في التنفيذ، باستثناء نقلي من جناح إلى جناح، فالجناح المخصص للمحكومين غير الجناح المخصص للموقوفين. وجناح المحكومين بالعقوبات الجنائية الثقيلة، وأثقلها الأشغال الشاقة المؤبدة، هو أخطر الأجنحة في السجن، وهذا شيء طبيعي. الحراسة فيه مشدَّدة، والمعاملة فيه قاسية للغاية، أو هكذا هو المفروض أو ما يجب أن يكون، لأن من تتعامل معهم إدارة السجن هم من أخطر أنواع المجرمين كما تصنفهم بذلك الأحكام الطويلة المدى الصادرة بحقهم. على أن تواصل التعامل بين رجال إدارة السجن وبين المحكومين، وإن بدأ متشددًا قاسيًا متصلبًا، إلا أنه يخفُّ ويلين مع الأيام. لإنهم من الجانبين بشر يلتقون ببعضهم على توالي الأيام والأسابيع والأشهر، فلا بدَّ أن يغلب عاجلاً أو آجلاً الطابع الإنساني على التعامل فيما بينهم، ناهيك عن تبادل المنافع. الحذر ينقلب إلى ثقة، والمجابهة إلى معاشرة، والتباعد إلى تقارب وتفاهم. رجل الإدارة يقوم بوظيفته وعلى السجين المحكوم عليه أن يفهم هذا، وأن يحترم ويتقيد ويراعي، ولو بالظاهر، لكي لا يفقد رجل الإدارة ثقة رؤسائه به فينقلوه ويبدِّلوه، وفي ذلك خسارة للسجين، وهر خسارة أشهر أشهر وأحيانًا سنوات صرفها بالجهد والمثابرة لكسب ثقة رجل الإدارة والتقرب منه إلى حدِّ أو إلى حين الظفر باستعداده لتقديم الخدمات له، ومنها وأهمها تأمين مؤونة الحشيش، وطبعًا بالمقابل، وهذا المقابل ليس باليسير، فيه إغراء حتى لمدير السجن نفسه. إنه معذور، الرواتب ضئيلة، والعوائل كبيرة، وتكاليف الحياة باهظة ثقيلة.

وفي السجن حلقات، وفي السجن مقامات وزعامات، والحلقات تتصافى وتتواصل أحيانًا، وأحيانًا تتباعد وقد تتخاصم بحسب مزاج هذا الزعيم أوذاك، أو بسبب خلاف بين زعيمين أو أكثر. عندها يهيج السجن وينقلب إلى ساحة حرب في الخفاء يتحسب فيها كل سجين في كل حلقة من أن يغدر به واحد أو أكثر من الحلقة أو الحلقات المعادية، كتحطيم جسمه ورأسه تحت الأقدام أو طعنة بموس مكتومة ولا يعرف صاحبها. ومع أن حرَّاس السجن يستنفرون ليلاً نهارًا، وتبقى عيونهم مفتوحة تدور حول كل الأشخاص وكل الجهات ولا تغمض لحظة، إلا أنها نادرًا ما تكشف وترى، وغالبًا لا ترى. السجن يطفح بالسكاكين المخبأة وغيرها من الأدوات الفاتكة تعجز عين الحراسة عن اكتشافها وضبطها ولو اجتهدت وجدَّت في التحري الطويل والتفتيش الدقيق. مئات الأشخاص من الجانبين في كل حلقة، كلهم في كل جانب متواصلون متعاونون متضامنون، والويل أعظم الويل لمن يخون. كيف لعِشر هذا العدد من حرَّاس السجن أن يكتشفوا أي مادة أو أي أداة تنتقل خلسة بين العشرات فتضيع تحت القمصان أو ضمن الجيوب والأحذية، أو تغيب تحت خشبة أو حجر من آلاف الأحجار أو الأخشاب في باحة السجن أو في المهاجع أو في أي زاوية بعيدة أو قريبة على الأرض أو في الجدران أو السلالم أو على الأسطحة. مع أن السجن يطفح أيضًا ويطفح دائمًا بالجواسيس من بين السجناء، من يسميهم الفرنسيون بـ "الخراف" Moutons تستعين بهم الإدارة في التعرف على الأسرار والخفايا، ونادرًا ما تنجح.

أذكر من هذا القبيل وبهذا الصدد في إحدى جلسات المحاكمة التي كانت تنظر فيها قضيتي، كانت تُنظر معها قضية أخرى متهم فيها عشرة أشخاص في قفص الاتهام. وقبل خروج المحكمة إلى المنصة وبدء المحاكمات، دخل القاعة نفر من المدَّعين أهل المجنى عليهم في تلك القضية، ويظهر أن أحدهم نظر بشذر أو بتحدٍ لجهة أحد المتهمين، أو أنه وجَّه إليه حركة تهديد بيده، فانتفض المتهمون العشرة شخصًا واحدًا، وصرخوا وهبُّوا يحاولون تحطيم قضبان حديد القفص أو القفز من فوقه. وتدخل رجال الشرطة المتواجدون في القاعة وطوقوهم، وأنا قابع في زاوية خلفية في القفص، فإذا بالمتهمين يمزقون قمصانهم، وإذا بي أشاهد شفرات الحلاقة تبرز من تحت الآباط، وبعضها من داخل الشفاه، يحاولون أن يقطعوا بها عروق أعناقهم ورجال الشرطة لا ينجحون في تهدئتهم وسحب الشفرات منهم إلا بعد أن اضطروا إلى إخلاء القاعة وعدم السماح لأفراد عائلات الأخصام المدعين بالعودة إلى القاعة. وأعيد المتهمون إلى غرفة النظارة ومنها إلى السجن، وأُجِّلت المحاكمة ذلك اليوم.

أين كانت عيون الحراس وعيون الخراف؟ ومن أين جاء هذا العدد الوافر من الشفرات إلى داخل الأجسام أو داخل الأفواه ولم يعرف بها أحد إلا عند ظهورها في المحاكمة.

وفي عالم السجن، الرجولة والشرف لهما الدور الأول والاعتبار الأعلى في التقدير والاحترام. إن مجرم القتل غير مجرم السرقة، وفاعل القتل بدافع الشرف غير القاتل بدافع سافل ودنيء، والقتل للإنتقام يتقدَّم بطله على كل بطل.

وأذكر أيضًا في هذا القبيل وبهذا الصدد أنه جيء إلى السجن ذات يوم بشاب في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره، نحيف الجثة ضئيل الشكل، لا تقف عنده العين ولا تحسب له حسابًا بين الرجال، فألقي به في أحد المهاجع حيث جلس صامتًا هادئًا ولا يتحرك. وما إن مضت ساعة أو بعض الساعة حتى كان قد شاع سبب توقيفه، فلم تعد ترى غير الاندفاع والتسابق لضمه وتهنئته. ولم تعد تسمع غير الترحيب به، وأول المهنئين والأكثر حماسة كانوا زعماء الحلقات الذين فتحوا له صدورهم وأخذوا ينادونه: "أهلاً بالبطل".

خلاصة الجريمة التي اقترفها هذا الشاب، أن أخًا له في القرية أحبَّ فتاة وأراد الزواج منها، وأحبَّ نفس الفتاة وأراد الزواج منها شاب آخر. وفي أحد الأيام تشاجر الإثنان في الشارع العام جهة بيت هذا الأخير، وتماسكا وتضاربا، وكانت الغلبة للأخ الشقيق الذي ألقى بغريمه أرضًا ولم ينهض عنه إلا بفضل تدخل المارة. فما كان من هذا الغريم المغلوب إلا أن ركض إلى بيته وجلب مسدسًا ورجع يطلق منه عدة عيارات نارية على الأخ الشقيق فيرديه قتيلاً.

وأحيل القاتل إلى المحكمة. وفي إحدى جلسات المحاكمة، سمَّى الرئيس أحد الشهود وراح الحاجب يصيح بالاسم. ولم يكن هذا الشاهد حاضرًا فلم يظهر من باب القاعة، وإذا بهذا الشاب شقيق القتيل يستغلُّ الفرصة لكي ينهض ويتقدم نحو قوس المحكمة حيث كان القاتل واقفًا منتصبًا في مقدمة هذا القفص، وقبل أن يتنبَّه له هذا القاتل أو أي أحد من القضاة أو رجال الشرطة، وهم أساسًا لا يعرفون الشاهد ولا يعرفون هذا البديل، إذا به، بحركة سريعة كلمح البصر، يخرج ويشهر مسدسًا ويطلق منه عدَّة عيارات يقتل بها المتَّهم في قلب القفص، في قلب قاعة المحكمة. وكان يمكن له أن يلوذ بالفرار والمسدَّس بيده، ومهما يكن رجال الشرطة أبطالاً، فإنهم ليسوا مستعدين أن يموتوا، لكنه لتوِّه، وحال سقوط المتَّهم، ألقى بمسدَّسه في أرض القاعة وسلَّم نفسه معلنًا أنه مرتاح الضمير لأنه قام بواجبه وانتقم لأخيه.

مثل هذه الجرأة النادرة، كان من الحقِّ أن تحظى بالإعجاب وبالتقدير في أوساط عالم السجن. ولكنها لم تحظَ بالإعجاب أو بالتقدير من جانب القضاء، ولا حتى بالرحمة، إنها جريمة قتل عمدًا وعن سابق تصوُّر وتصميم، وارتكابها في قاعة القضاء سبب مشدَّد خطير، ولا يشفع للقاتل أن أخاه قد قُتل. إن قاتل أخيه كان يحاكم ولم يكن بعد قد صدر حكم في قضيته. فما مضت فترة حتى قُدِّم هذا الشاب القاتل الجديد للمحاكمة. ولمَّا سُئل عن كيفية إخفاء المسدَّس عند حضوره وتفتيشه قبل دخول القاعة، أجاب أنه كان أخفاه بين خصيتيه تحت سرواله الداخلي. وسئل لماذا لم ينتظر نتيجة المحاكمة وصدور الحكم، أجاب أنه سأل المحامي الذي وكَّله أبوه عن نتيجة الحكم الذي يتوقَّع صدوره في الدعوى وهل سيكون حُكمًا بالإعدام، أجابه المحامي أنه لا يُحكم بالإعدام إلا مع العمد، وليس في القضية عمد، فالإعدام غير وارد كليًا. وأضاف أن هذا ليس عدلاً، كيف يموت أخوه ويبقى قاتله حيًا؟ وما دام القضاء لا يأخذ له حقَّه، فإنه يأخذ حقَّه بيده.

مثل هذا المفهوم البدائي للعدل هو المفهوم الطبيعي عند أكثر الناس وحتى في أرقى المجتمعات المتطوِّرة والمتحضِّرة. أن تأتي العقوبة من نوع الجريمة وعلى حدِّ قدرها. وهو ما أخذت به الكتب السماوية: العينُ بالعين والسنُّ بالسنِّ والقاتل يُقتل. وأما من ضربك على خدِّك الأيمن فأدِر له خدِّك الآخر، فإنها رائعة السموّ في مدلولها الإنساني، نحن المسيحيين ننادي بها، نتلوها ونردِّدها جيلاً بعد جيل، تعلَّمناها من آبائنا ونعلِّمها لأبنائنا. من منا يطبِّقها؟

لم تدُم محاكمة الشاب أكثر من شهر، وهي لم تستغرِق غير جلستين فقط، وصدر بنتيجتها الحكم بإعدامه. وما طالت الأيام حتى نُفِّذ فيه حكم الإعدام، فكان الضحية الثالثة. أخوه مات قتلاً، وقاتله مات انتقامًا، ومات هو قِصاصًا.

إن الاقتصاص يجبُّ كل مفهوم مختلف آخر للعدل أو للرحمة. إنه جرم قتل علني مشهود، فيه تحدٍّ لسلطة القضاء وهيبته، وفيه تحدٍّ لسلطة الدولة ورهبتها بارتكاب القتل ورجال الشرطة متواجدون مع أسلحتهم وأمام أعينهم، وهذا الاعتداء الصريح على القضاء وعلى الدولة تفوق خطورته جريمة القتل نفسها، ومتى يتوجَّه العدل إلى الحفاظ على مصلحة وهيبة سلطتي القضاء والدولة، فإنه يقتصُّ ولا يعنيه أن يرحم، فهو لا يعدل، لأن الرحمة من أركان العدل وهي في رأس مقوماته.

يذكِّرني ذلك. بمحاضرة ألقيتها في ندوة دعا إليها مثقفون من بينهم الدكتور محسن زيدان حول عقوبة الإعدام، أو أنها كانت مناظرة بين مثقفين حول عقوبة الإعدام، منهم المدافع عنها والمؤيد لبقائها، ومنهم المعارض لها والمطالب بإلغائها، وكنت من هؤلاء. فإني مبدئيًا أعتبر المجتمع هو المسؤول الأول عن المجرمين الذين نشأوا فيه. فقد تقع جرائم على يد أشخاص من الطبقات المنعمة التي تؤمن لأولادها العلم والتربية الصالحة وبحبوحة العيش، ولكن أغلب الجرائم تأتي من أبناء الطبقات المعوزة، لا تربية ولا علم، وفقر وحرمان. والمجتمع هو المسؤول عن هذه الآفات، فهو بالتالي شريك مع المجرم في مسؤولية التسبب بجريمة هذا الأخير. ولهذا، فإن عليه أن يتوجَّه إلى إصلاحه عن طريق معاقبته، وتلك هي مشروعية العقاب، وليس إلى الإنتقام منه وإزالته كما يحصل في عقوبة الإعدام التي لا تعدو كونها انتقامًا من المجرم بإزالته. وهناك من يسميها بالعقوبة الهمجية. المثل بالمثل، أي، جريمة القتل يعاقب عنها بالقتل، أي بنفس الجريمة، وهذا أبعد ما يكون عن مفهوم العدل فضلاً أساسًا عن مفهوم الإصلاح.

بيد أنه كان يمكن إفادة المجرم والاستفادة منه بالتشغيل، والشغل يُصلح ويُهذِّب. وهناك مثلاً قارَّة طلعت من المجهول والعدم، وعمَّرت وتطوَّرت فأصبحت تنافس أرقى البلاد في العالم، وهي أستراليا يعود الفضل الأول والأساسي في إعمارها وتحضيرها إلى أولئك المحكوم عليهم بالعقوبات القاسية من محاكم انكلترا، كان يقذف بهم وراء البحار لتنفيذ عقوباتهم هناك. ثمَّ إن عقوبة الإعدام ليست رادعة على عكس ما يتوهَّم ويقال في دعمها وتأييدها. إنها تطبَّق منذ القِدَم ولم يهبط قيد أنملة عدد الجرائم الموجبة لها، كما لم يرتفع هذا العدد في البلاد التي قررت إلغاءها.

وليس الشقاء أو الألم الذي تحدثه عقوبة الإعدام لدى المحكوم عليه كمثل ما يقاسيه المحكوم عليه بعقوبات الأشغال الشاقة. فهنا مقاساة تتواصل وتدوم يومًا بعد يوم على سنوات. وهناك مقاساة لوقت محدود تنقضي وتزول مع مجرِّد تنفيذ الإعدام.

إنما ضحية أو ضحايا الجريمة، والمجتمع معهم، هم الذين يرتاحون ويطمئنون لإزالة المجرم من الحياة والوجود. فإن قُتل لك قريب، لست تقنع بأن المجتمع أخذ لك حقَّك ما دام القاتل لا يزال حيًا. ليس يعنيك ما يقاسيه هو، يعنيك فقط ما تقاسيه أنت من بقائه حيًا.

* * *

السلطة والقوَّة يحكمان العالم ويتحكَّمان بأهله. والفرق بين العالم الخارجي وعالم السجن أن القوة هنا تبرز وتتجلَّى ظاهرة صريحة عارية وهي هناك تتستَّر بلباس مزخرف وبرَّاق من لياقة التعامل، أو أنها تتخفَّى وراء لسان لبق وحجة من قواعد وآداب السلوك بين الناس.

إن أهل السجن قوم بسطاء على كونهم أهل عنف وقسوة، أو أنهم بالأصح أهل إجرام. إنهم بسطاء لأنهم يتعاملون على طبيعتهم وإن تكن طبيعة عدوانية، لا يكتمون ما يشعرون به وما يضمرون، ولا يظهرون خلاف ما يخفون، ولا يتكلَّمون أو يتصرَّفون بعكس ما يبغون، لعلَّ سببه أنهم وقد قطعوا الرجاء بعد الحكم الواقع عليهم، لم يعد يعنيهم إلا أن يكونوا هم كما هم، وما الفائدة من الكذب والرياء، ومن التصنُّع والتمثيل، كما كانوا يفعلون في العالم الخارجي، وكما يفعل أهل هذا العالم الخارجي. ولماذا الجهد والعناء؟ المصير هو هو وقد ثبت واستقرَّ.

ولأنهم قوم بسطاء، فإنهم أهل صدق. إن أحبوا أحبوا، وإن كرهوا كرهوا. ولأن حياتهم خالية فارغة، فليس من الصعب أن تتقرب منهم وتنفذ إليهم، وليس غريبًا أن تحدث لك بينهم صداقات حقيقية صادقة، وهذا ما حصل معي، وإنه ليرضيني حقًا أن أشيد ببعض الصداقات التي تربطني بهم، وأن أشهد بها في مطلع هذه الكتابة، ولست متأكدًا أن الكثير من صداقاتي في العالم الخارجي قد كانت على نفس الصدق والصفاء، وعلى نفس الرحابة والمتانة.

وأهل السجن هم في الغالبية أهل جهل وأهل أُمِيَّة. ومهما أبدى الأميُّ من محاولة تحدي المتعلم أو المثقف والتطاول عليه، فإنه في قرارة نفسه يحسده ويحترمه. فكيف إذا كان هذا المتعلم المثقف إنسانًا متواضعًا وديعًا، لا يعتدُّ بعلمه وذكائه في وجه الأميِّ، ولا يتعالى عليه، وليس هذا مع الأسف حال جميع المتعلمين أو المثقفين عمومًا.

ومنذ دخلت السجن وجهًا جديدًا يختلف عن الوجوه الاعتيادية المألوفة في السجون. وقد أخذت على نفسي أن أحترم الجميع، رجال الإدارة والحراس والسجناء، وبخاصة أن أحترم النظام. لا أطلب شيئًا من أحد، ولا أردُّ طلبًا لأحد أقدر على تلبيته. والكثيرون من أصدقائي ومعارفي من راحوا يتوافدون لزيارتي والسؤال عني مما لفت نظر الإدارة والسجناء إلى أنني شخص منظور في المجتمع، فكان يُنظر إليَّ بمراعاة إن لم يكن باحترام. وكانت تردني الكتب فأُمضي أكثر أوقاتي بالقراءة. وشيئًا فشيئًا بدأت الحلقات تتجمع حول ما قرأ، ومن لا يقرأ يستعير كتابًا وبعد الفراغ من قراءته ينتقل إلى محاورتي حول ما قرأ، ومن لا يقرأ يجلس ويستمع، وأحيانًا يطلب مني أن أقرأ بصوتٍ عالٍ وأن أشرح وأفصِّل، فأفعل ولا أتضايق.

وتحولتُ مع الأيام إلى بيت سرٍّ وإلى مرجع نصح ومشورة، بخاصة في الأمور الحقوقية والشؤون القانونية وهي الشاغل الأهم لكل سجين تحت المحاكمة، يعرض لي قضيته ويسألني عن حظِّها في النجاح وعن مصيره في نهايتها، وينقل لي ما يسمعه من المحامي وكيله، وما يسمعه أيضًا من أهله وزواره، وما يسمعه من باقي السجناء، كما لو كان كل سجين قد أصبح مع التعامل أو السماع والأخذ والردِّ محاميًا أو عالم حقوق. وبعد كل جلسة محاكمة، يتكرر الطرح والاستعراض والسؤال والاستفهام، وأنا من جهتي أسمع ولا أتضايق، وأجيب بما أعرف مع محاولة التطمين ولا أملُّ ولا أتذمر، ولا فضل لي في هذا كله. لماذا أتضايق، ولماذا أملُّ وأتذمر؟ إنني هنا مثلي مثل الجميع، لا شاغل لي غير ملء الساعات بالقعود والانتظار. والقراءة للقراءة، كما أصبحت القراءة بالنسبة لي وأنا في السجن، ليست إلا وسيلة لملء الفراغ، أي من قبيل الاحتيال على الوقت بين ساعة اليقظة وساعة الخلود للنوم.

ولم تكن كذلك القراءة في ماضي حياتي. كنت أقرأ لأتعلم الكتابة، وبقيت أقرأ لأتابع ممارسة الكتابة. أقرأ ما يكتب الغير، وأقارن مع ما أكتب، وأكتشف أفكارًا جديدة وأساليب مستحدثة وتعابير مختارة أنيقة. أستعيد هذا كله وأُراجع، وأُدقق أيضًا في تركيب الجمل وفي تسلسل الأفكار، وفي سياق سير الحوادث في كتب الرواية في تصوير أشخاصها.

لم أعد أكتب منذ دخلت السجن، ولا أنوي أن أكتب. أقصد الكتابة للغير أي للطباعة والنشر. وما أكتبه الآن هو لإشغال نفسي وأوقاتي بانتظار أن أموت، ولكَ أن تسمِّه كتابة إن شئت. أو لعلي أجد حاجة لاستعادة فصول حياتي فأرى ماذا فعلت أو ماذا حققت، وهل فعلت أو حققت شيئًا يذكر؟ يُقال أن الإنسان، حال انقطاع الحياة في جسده، وفي هذه الدقيقة الفاصلة بين الحياة والموت، بخاصة عند الموت شنقًا، تمرُّ أمام عينيه شاشة حياته الماضية. أحسبني بين الحياة والموت. لماذا لا أستعيد حياتي الماضية في هذه المذكرات التي أشغل بها الأيام القليلة الباقية من عمري، أتابعها يومًا بعد يوم لأحكم على نفسي هل حققت وجودي، أو بالأقل هل مرت ظروف أو مواقف ومناسبات حققت فيها وجودي؟ ما هي تلك الظروف والمواقف والمناسبات؟ قد لا أقع إلا على هروب أو على انسحاب أو سقوط. يظلُّ لي الفضل بالاعتراف بالاخفاق وبالعجز. ولا أظنُّ أن الكثيرين من لم يهربوا أو ينسحبوا أو يسقطوا. ولا أظنُّ أنهم يملكون الصدق والجرأة بالاعتراف بأنهم أخفقوا. يعنيني نفسي وحياتي ووجودي. من أنا ومن كنتُ، ومن كان يجب أن أكون، وهل كنتُ من كان يجب أن أكون، أو بالأقل، هل كنتُ من كنتُ، أو حتى هذه، فإنها قد فاتتني وحرمت منها، فلم أكن قانعًا ولم أكن راضيًا في أي ساعة عمن أنا.

* * *

يوم قررت أن أسلِّم نفسي لبست كامل ثيابي وما تحت الثياب، ومعطفًا فوق الثياب لأن الوقت كان شتاءً قارصًا. وتحسبت لما أحتاج له في السجن فجمعت ما تيسَّر ضمن حقيبة صغيرة حملتها معي وهي باقية في مهجعي. أهم ما جمعته قميص وكنزة وبنطال، وقميص داخلي وسروال، وجلباب للنوم أو سمِّه دشداشة، وزوج جورب ونعلة مفتوحة للسير في الداخل، ومنشفة كبيرة ومنشفة صغيرة ناهيك عن مقص الأظافر ودواء الأسنان وفرشاة أسنان ولوح صابون، وهذا كل شيء تقريبًا. وأراني بعد انقضاء خمس سنوات وأكثر على وجودي داخل السجن، لم أجدد شيئًا ولم احتج شيئًا غير ما جمعت وحملت، باستثناء الصابون أو دواء الأسنان من وقت لآخر.

خلعت لباسي وطويته من أول يوم دخلت فيه السجن، ولم أعد أرتديه إلا أيام سوقي أمام قاضي التحقيق أو إلى المحاكمة. صرت ألبس البنطال والقميص والكنزة، وفوقهما أحيانًا المعطف في أيام البرد، وأيامًا كثيرة أبقى بالجلباب والدشداشة. وخلعت الحذاء من اليوم الأول أيضًا ولا أمشي إلا بالنعلة، وهي باقية صامدة بوجه الزمن ولا تهترئ. وكيف لها أن تهترئ أو أن يشيخ شيء سواها من ثيابي الداخلية وغيرها، وأغلب أوقاتي جلوس وقعود، ومتى أتحرك، أتحرك لدقائق قصيرة في مساحات أمتار ضيقة.

ومنذ بلغني موت ولدي أقلعت نهائيًا عن الحلاقة وتركت شعر لحيتي ينمو، ومع الأيام والأسابيع تدلت لحيتي واسترسل شعر رأسي، ومن يراني اليوم ممن عرفني في الماضي، فهو حتمًا لن يعرفني.

سلَّمت نفسي لأول مخفر للشرطة قريبًا من مكتب الجريدة، وسلَّمت المسدس وأدليت بإفادة اعتراف لم أعد بعدها أتراجع أو أبدلُّ أي واقعة فيها.

وكان مدير السجن السابق رجلاً فظًا. أو أنه كان يتصنع ذلك تحت الخوف من التمادي معه. دائمًا مقطب الحاجبين، لا يتكلم إلا لإصدار أمر أو رفض طلب أو التماس. كل حياته وكل وجوده النظام والتقيُّد بالنظام. لم يتأخر يومًا دقيقة واحدة عن الدوام. ولم يغادر مكتبه في أي يوم قبل دقيقة واحدة من انتهاء الدوام. وكان على الجميع أن يتقيدوا بالنظام، رجال الإدارة والحراس والسجناء، على نفس الحال الواحد وعلى السواء. الخروج إلى الباحة في دقيقة الوقت المحدَّد. وانتهاء فسحة الاستنشاق والعودة للمهاجع في دقيقة الوقت المحدَّدة وكذا ميعاد الطعام صباحًا وظهرًا ومساءً، وكذا ميعاد النوم وميعاد اليقظة. كله بالدقة وبالتفصيل، وبالدقيقة والثانية. حياة السجن في عهده، ساعة تدور وتدق وكل من في السجن آلات تتحرك بحركة دوران ومواعيد دقات الساعة. كان يخاف، فكان مخيفًا. ومن يخاف جبان، وكل جبان مخيف. وكان قميئًا عريض الجثة ضئيل الطول، قبيح الوجه، وله أسنان بارزة صفراء أحدها في الجانب الأيمن من الشفة نصف مكسور، وله رائحة كريهة من فيه كانت تحميه من الاقتراب منه فيرتاح هو، ويرتاح غيره أيضًا بأن يظلَّ بعيدًا عنه، فكان ينعزل في مكتبه لا يظهر إلا في القليل والنادر وتلك أيضًا من جملة عقد الخوف. والعديدون من السجناء من لم يروا وجهه إطلاقًا على مدى توليه إدارة السجن لسنوات.

لم يشعر بوجودي ذلك المدير السابق للسجن ولم ألتقِ به أو أجتمع معه ولم أره إلا من بعيد نادرًا. ولكن الحال تبدَّل تبدُّلاً شاملاً وجذريًا مع تبدل ذلك المدير بالمدير الجديد منذ أكثر من سنتين.

تبدَّل الحال بالنسبة للعموم وللجميع، وبالنسبة لي بوجه خاص. فهذا المدير الجديد شاب وسيم في العقد الرابع من السنِّ، مثقف يحمل شهادة حقوق ويحب الأدب والمطالعة. منفتح يحب أن يسمع، ويحرص على أن يسمع قبل أن يتكلم وقبل أن يبدي رأيًا أو أن يصدر أمرًا. وهو يفهم وظيفته ويحسن فهم وتصنيف الأشخاص.

يعرف مع من يتعامل ويتعاطى، وكيف يجب أن يتعامل ويتعاطى مع هذا أو مع ذاك. متشددٌ عند الضرورة، ليِّنٌ قريب متسامح في أغلب الظروف والحالات، مهيب على دماثة وابتسامة، مرتاح واثق من نفسه، يتصرَّف بشكل طبيعي كأن كل ما يصدر عنه يصدر عفوًا من غير جهد ولا تفكير، وكله أو أكثره يلتقي ويتوافق مع حسن التدبير وكمال الدراية والتفكير. وترى السجن في أيامه وكل من في السجن هادئًا ومنظمًا من غير تنظيم. جعل الله أيام هذا المدير تمتدُّ وتطول.

بعد أسبوع من مجيء هذا المدير الجديد واستلام وظيفته، استدعاني إلى مكتبه. لا بد أن يكون قد سمع عني في السجن بأنني كاتب وأُمضي أيامي بالقراءة، أو قد يكون سمع عني من السابق أو قرأ من كتبي المنشورة، وسمع بخاصة عن حسن سلوكي في السجن.

استقبلني بابتسامة ترحيب، ودعاني للجلوس، ونادى الحاجب وطلب إليه أن يقدِّم فنجان شاي له ولي، وفي الحديث سألني إن لم يكن لديَّ مانع من أعتبر نفسي معاونًا له في الأمور الكتابية وأنه يخصص لي غرفة صغيرة بجانب مكتبه، أقضي فيها ما طاب لي من الوقت وإن لم يكن من موجب عمل للإرادة، وأضاف أنه يمكنني أن أتناول الطعام أيضًا في مكتبه، لأن المفروض أن يتذوَّق المدير الطعام الذي يهيأ للسجناء ليتأكَّد من سلامته إن لم يكن من جودته، وبالمناسبة أتناول ما شئت من هذا الطعام.

لقد علم أنني من فترة قصيرة قد اعتذرت عن قبول طعام من الخارج، مع أنه في الأسابيع الأولى من توقيفي، كان الطعام من الخارج يأتيني يومًا بعد يوم، وكل يوم أحسن وأكثر. أنواع وأصناف مختلفة من المستحضرات البيتية أو من المطاعم، وحلويات وفواكه. جزى الله عديد الأصدقاء خيرًا. وكنت أتقبَّل هذه الهدايا بالشكر لأنَّ حظَّ رفاق السجن منها كان أكثر من حظي. إنَّ مرضي يقطع الشهية، وعندما أطعم لا أتمثَّل الطعام ولا أهضمه إلا بصعوبة، وأبقى متضايقًا ليوم كامل وأحيانًا ليومين قبل أن تستعيد معدتي نظامها الاعتيادي. وبقي الحال على نفس المنوال من ارسال الطعام لي من الخارج على مدى أسابيع. ولم يكن معقولاً ولا مقبولاً أن يتواصل وأن يستمرَّ. مهما يكن الصديق صديقًا فإن في متابعة مثل هذا الواجب الذي أخذه على نفسه إرهاقًا. ومهما أكون عديم الحسِّ لا يمكن إلا أن أذوق فأرجو الكف والتوقف، وأن أعتذر عن القبول. ومن يومها صار رفاق السجن من يدعونني للمشاركة معهم بالطعام الذي كان يصلهم ويسمح لهم به بين أسبوع وآخر، وكنتُ أشارك، ولكن مجاملة وبلقم خفيفة معدودة.

قبلت عرض المدير الجديد شاكرًا ممتنًا. وصرت آكل من طعام مطبخ السجن، وهو غير فاخر غير أنه ليس بالسيء. والعلَّة فيه أن نفس اللون أو اللونين من الطعام يتكرران ولا يتبدلان، ولكن المواد مقبولة: اللحم جيِّد، والسمن والزيت أحيانًا من الصنف الدنيء، إنما غير الرديء.

صرت أُقيم في الغرفة المخصصة لي. وضعوا لي فيها طاولة مع كرسي أمامها، وفوق الطاولة آلة كاتبة، وبجانب الآلة الكاتبة عن يمينها مجموعة أوراق بيضاء، ومجموعة أوراق كربون زرقاء للصور، وأقلام، وعلبة دبابيس ولاقطات. وفي أحد جوانب الغرفة كرسيان أمامهما منضدة صغيرة عليها منفضة للفافات الدخان.

هكذا هُيئت لي الغرفة، وطلبت أن يكسى حائط من داخلها برفوف خشبية أرتب فوقها الكتب، وهذا ما كان. فصرت أستقبل في الغرفة من يزورني من الخارج، وقد بقي الكثيرون يوالون الزيارات لي، وفي كل مرة يحمل لي واحدهم معه هدية، وكان الكتاب، في غالب الزيارات وعلى يد أكثر الزوار، أحلى هدية، فامتلأت رفوف الحائط بالكتب الجديدة، وأصبحت الغرفة شبه مكتبة يؤمها كل سجين يستأذن بالدخول ليستعير كتابًا يقضي أيامًا في قراءته ثمَّ يعيده ويستعير كتابًا آخر.

أمضيت أيامًا هادئة هانئة على مدى سنتين وأكثر منذ تبدَّل مدير السجن السابق بالمدير الجديد وتخصصي بهذه الغرفة إلى جانب مكتبه. كنت حقًا سعيدًا مع كوني محكومًا عليَّ بالأشغال الشاقة المؤبَّدة وليس لي رجاء بتنزيل هذه العقوبة لأن الأصل في قوانين العفو العام أن تستثنى فيها مثل هذه العقوبة من العفو الجزئي الذي يتناول عقوبات أخرى. وفي الواقع، فإني لم أعد أُفكِّر أصلاً بهذه العقوبة، لأن وعيي للمرض الذي يداهمني وحلَّ بي كان ينبئني بأني ميِّت على كل حال بين سنة وأخرى. وانقلب كل شيء في هذه السنة الأخيرة. غابت السعادة. وغابت القراءة. وغاب الأصحاب والزوَّار. مات العالم من حولي مرَّة واحدة. لقد مات ولدي بحادث سيارة، ولم أصمد على الخبر. لأول مرة أجدني وجهًا لوجه مع الموت. مات أبي وماتت أمي ومات لي أقارب وأصدقاء عديدون. وكنت أُشيِّع هؤلاء الموتى، وكنت أحزن وأبكي. أبكيهم وأُشيِّعهم وأحزن على فراقهم، ولكن الموت بذاته يظلُّ بعيدًا أو غريبًا عني. يعنيني الميِّت. لم يكن الموت يعنيني. لم أكُن أفكِّر فيه أو أحسُّ وأشعر. لم أكن أتصوره وأعيه إلا كموضوع كلام. ولأول مرَّة، مع خبر وفاة ولدي، برز الموت أمام عيني ووعيي عملاقًا كالح الوجه يحمل المنجل يركض ويضرب على غير هدى، فيصيب كلَّ من صادف دربه. هكذا يصورونه، وهكذا تذكرتُ صورته، ولم تعد هذه الصورة تفارقني. صار الموت يعيش معي كجزء مني، يملأ خيالي، ويشغل بالي، فأحسَّبه كأنه محيط لذهني وعالق بجلدي.

لقد انهرت وغبت، وبقيت منهارًا ضائعًا على مدى شهر بكامله أو أكثر. ألقيت بنفسي فوق فراش المهجع ولم أعد أنهض وأبكي ولا أتكلَّم، أو عندما لا أبكي أشخص إلى سقف المهجع ولا أتكلَّم. لم أعد أستطيع أن أتكلم، فكان شيئًا طبيعيًا أن أعتذر نهائيًا عن استقبال أيِّ زائر. بذلك انقطعت كليًا علاقتي بالعالم الخارجي، وبقيت منعزلاً داخل المهجع. وقد أصدر المدير أوامره بأن لا يزعجني أحد، وبلغ به حسن الذوق، أو بالأصح الروح الإنسانية العالية، أن لا يطلب مني العودة إلى الغرفة أو القيام بأي عمل. لقد راح يقوم بنفسه بما كان يكلفني به بإنتظار أن أصحو فأعود من نفسي.

وقد صحوت، وقد عدت. وكان لا بدَّ أن أصحو وأن أعود. لكني لم أعد من كنت وكما كنت. عدت أقيم في غرفة المكتب وأقوم بما يحتاج له أو يطلبه مني المدير من عمل كتابي. وأظلُّ بعدها جالسًا فوق الكرسي، عيني شاخصة إلى سقف الغرفة، وأمام عيني صورة ولدي لا تغيب ولا تزيح.

بقيت أشهرًا على هذه الحالة ولكن هذا أيضًا لم يكن ممكنًا أن يدوم، أو لم يكن جائزًا أن يتواصل وأن يستمر. كان يجب أن أشدَّ نفسي وأن أجد لها مخرجًا من هذا الضياع.

كان يجب أن أجد لها شاغلاً ولو ضمن نفس الجوِّ الذي أنا فيه. لماذا لا أعود أكتب؟ ولكن ماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ فكرت وأعدت التفكير. كم كتبت عن الغير، عن حياة الآخرين وعن أفراح ومآسي الآخرين، أشخاصًا حقيقيين وأشخاصًا وهميين، لماذا لا أكتب عن نفسي وعن حياتي؟ لماذا لا أكشف صفحة عمري وأتكلم عن ولدي وعن أم ولدي، وكيف صار ولدي، وكيف لم أعد أتزوج بسببه، وكيف خيَّبت أمل من كانت موعودة بهذا الزواج، وكيف كنت موجهًا لخدمة الدين ثم خرجت عن الدين إلى عالم الناس، وخبرت هذا العالم، وعجمت أهله، ونجحت وحققت وبرزت، وتمتعت وأسرفت في اللهو والمغامرات، إلى أن أنتهيت إلى السجن، وكيف انتهيت ولماذا إلى السجن انتهيت. لماذا لا أقول ولا أكشف الحقيقة ولا أعترف بهذه الحقيقة، بخاصة لهذا المحامي الإنسان الذي بقي لا يصدق بأنني أنا القاتل. إنَّ له حقًا بمعرفة الحقيقة بعد أن مات ولدي، وماتت أيضًا أم ولدي. يجب أن أكتب، يجب أن أكتب كل شيء وأن أكشف كل شيء.

لقد قررت أن أكتب تاريخ عمري وسيرة حياتي. ومنذ أول أمس بدأت أكتب. سأموت قريبًا، أعرف هذا، لعلِّي أنهي كتابة سفر حياتي قبل أن يعالجني الموت. فعندها أموت مرتاحًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود