رسالة إلى ثوري

 

ليف تولستوي

 

لقد تلقيت رسالتك المثيرة للاهتمام، ويُسعدني الردُّ عليها.

إنك تقول، أولاً، إنَّ الأنانية المفهومة بشكل صحيح خيرٌ للجميع، وإنَّ البشر سوف يعون هذه الحقيقة بسرعة مع انهيار البنيان القديم. وما إن يعي البشر الحقيقة حتى يحلَّ الخير العام. وتقول، ثانيًا، إنَّ العقل البشري قادر على ابتكار شروط للعيش المشترك لا تضرُّ فيها أنانية أحد الأشخاص بشخص آخر. وثالثًا، تقول إنَّه، في ظلِّ شروط العيش المشترك المبتكرة هذه، قد يكون هناك مكان، حسب تعبيرك، لعنصر الإكراه إلى حدٍّ ما، أي إنَّ البشر، لكي يُحقِّقوا متطلبات النظام الأفضل المبتكر من قِبل المنظِّرين، يمكنهم ويجب عليهم استخدام العنف.

هذه المبادئ الثلاثة يُقرُّها، بصورةٍ متماثلة، علماء وسياسيو واقتصاديو زماننا، إلا أنَّ العلماء المنظِّرين لا يُعبِّرون عنها بالصراحة التي عبَّرتَ بها. تقوم نظريات مئات وآلاف الناس، الذين يعتبرون أنفسهم قُوَّادَ البشرية، على هذه المبادئ الثلاثة تحديدًا. غير أنَّ هذه المبادئ الثلاثة، في حقيقتها، ليست سوى خرافاتٍ بالغة الغرابة، ولا أساس لها على الإطلاق. ناهيكم عن تعسُّفية تأكيد أنَّ الأنانية، أي مبدأ الفُرقة والخصومة، يمكن لها أن تؤدي إلى الاتحاد والتوافق؛ وناهيكم عن غرابة الانتشار الواسع لخرافة أنَّ حفنة من الناس، وهم ليسوا الأفضل غالبًا بل الأسوأ، يمكنها ابتكار النظام الأفضل لحياة ملايين البشر، فإنَّ إجازة استخدام العنف لإقامة هذا النظام المبتكر – وهذه النظم المبتكرة تعدُّ بالمئات، وكلها تناقض بعضها بعضًا – يُظهر بوضوح كلَّ بطلان هذه الخرافات الغريبة.

يرى الناس لاعدالة وبؤس وضع العمال المحرومين من إمكانية الانتفاع بنتاج عملهم، النتاج الذي يستولي عليه أقلية من المتسلِّطين والرأسماليين، ويفكِّرون في وسائلَ لتغيير وتصحيح وضع أكثرية البشرية هذه. وها هم مختلف الناس، من أجل تغيير وتصحيح هذا الوضع، يقترحون أساليب مختلفة لتنظيم المجتمع. حيث يقترح بعضهم المَلكية الدستورية مع نظام اشتراكي للعمال، وهناك الذين يدافعون عن مَلكية مطلقة، وآخرون يقترحون النظام الجمهوري بشتى نُظمه: المناشفة، البلاشفة، الشغيلة، الماكسيماليون[1]، وطرف ثالث يقترح حكم الشعب المباشر، ورابع يقترح "الأنارخية" مع النظام المشاعي [الكوموني]، وغير ذلك كثير. كل حزب، عارفًا ربما بما يلزم لخير البشر، يقول: «فقط أعطوني السلطة وسوف أقيم الرفاهية الشاملة». ولكن، رغم أنَّ الكثير من هذه الأحزاب كانت، أو حتى مازالت، في السلطة، لم يتمّ تحقيق الرفاهية الشاملة الموعودة، ووضع العمال يزداد سوءًا. وهذا يحدث لأنَّ الأقلية الحاكمة، أيًّا كان اسمها: مَلكية مطلقة أم دستورية، أم جمهورية ديمقراطية كما في فرنسا وسويسرة وأمريكا؛ حين تكون في السلطة، وتنقاد للأنانية التي فُطر عليها البشر، بطبيعة الحال تستخدم هذه السلطة للاستيلاء، بوساطة العنف، على المكاسب التي تُستخدم للإضرار بالعمال. وبالتالي فمن خلال كل الثورات وتغييرات الحكومات، يتغير الحكام فحسب: يجلس بعضهم مكان الآخرين، ووضع العمال يبقى على حاله (الذين يشكِّكون بأنَّ أوضاع العمال متماثلة في كل مكان، وأنها سيئة وغير عادلة، وأنها لا تتحسن وإنما تزداد سوءًا، أنصحهم بقراءة كتاب لوزينسكي الرائع تبعات النظام البرلماني). هكذا كانت الحال في إنكلترة وفرنسا وألمانيا، وهكذا تتجلَّى بوضوح خاص في روسيا في الوقت الراهن. وقد فاز الآن الحزب الاستبدادي وهو، بطبيعة الحال، سوف يستخدم كل قواه في الصراع ضدَّ الأحزاب المعارضة له، ولن يهتمَّ بتحسين وضع الشعب. ولو أنَّ الدستوريين انتصروا لكان الأمر ذاته: لكانوا تصارعوا مع الرجعيين والاشتراكيين، وبالضبط كذلك ما كانوا ليهتموا بتحسين أوضاع الشعب. ولكان الأمر ذاته لو انتصر الجمهوريون، كما حدث في فرنسا أثناء الثورة الكبرى والثورات اللاحقة كلها، وكما حدث ويحدث في كلِّ مكان. فما أن يُحسم الأمر عن طريق العنف؛ فإنَّ العنف لا يمكنه أن يتوقَّف. المعنَّفون يحقدون على العنفيين، وما أن تتوفَّر لهم الإمكانية حتى يستخدموا قواهم كلها في الصراع ضدَّ الذين مارسوا العنف بحقِّهم. وهذا يحدث لأنَّ النصر، عندما يُحسم الأمر عن طريق العنف، لا يكون دائمًا للناس الأفضل، وإنما للأكثر أنانيةً وخبثًا وقسوةً وانعدام ضمير. والناس الأنانيون القساة عديمو الضمير ليست لديهم أية مبررات لرفض المكاسب، التي حصلوا عليها وينتفعون منها، لصالح الشعب. والمكاسب التي ينتفع منها الحكَّام دائمًا ليست لصالح الشعب. وبالتالي؛ فما يمنع تحرر الشعب من الاضطهاد والكذب اللذين يعيشهما ليس النظام الاجتماعي الذي ابتُكر بشكل سيئ للمستقبل على الإطلاق، وإنما لأنَّ هذا النظام أو ذاك يُقام ويُحافَظ عليه عن طريق العنف. ولهذا من الطبيعي، والمفروض، أنَّ على الناس الراغبين في تحرير الشعب، لا أن يشغلوا أنفسهم بابتكار النظام الأفضل لحياة الشعب المحرَّر من الاستعباد، وإنما بالبحث عن سبل تخليص الشعب من العنف الذي يستعبده.

ففيمَ يكمن العنف الذي يستعبد الشعب، ومن يُنتجه؟

المفروض أن يكون واضحًا أنَّ مئات المتسلِّطين والحكَّام والأغنياء لا يمكنهم إرغام ملايين العمال على الخضوع لهم، وأنه إذا تسلَّط بضع مئات على ملايين الناس؛ فإنَّ العنف الممارس على ملايين العمال لا يُمارس، بشكل مباشر، من قِبل حفنة من المتسلِّطين، وإنما من قِبل الشعب ذاته الذي، عن طريق إجراءاتٍ معقَّدة وخبيثة وحاذقة، يُقاد إلى ذلك الوضع الغريب الذي، بموجبه، يشعر أنه مضطر إلى ممارسة العنف بحقِّ نفسه. ولهذا؛ فالمفروض أن يدرس الناس الراغبون في تخليص الشعب من الاسترقاق، أسباب هذا الاضطهاد الذاتي، قبل أيِّ شيء آخر، وأن يعملوا على إزالتها. فرغم جبال الكتب التي كتبها ويكتبها أمثال ماركس وجوريس وكاوتسكي وغيرهم من المنظِّرين عن شكل المجتمع الإنساني الذي يجب أن يكون بحسب قوانين التاريخ المكتشفة من قِبلهم، وكيف يجب إقامته، إلا أنَّ أحدًا ليس فقط لا يتحدث عن كيفية إزالة السبب الرئيسي والأساسي للشرِّ: العنف الذي يمارسه العمال بحقِّ أنفسهم، بل على العكس، الكلُّ يُجيز حتمية ذلك العنف ذاته الذي ينتج عنه استعباد العمال. وبالتالي، وبقدر ما هو غريب قول هذا، لا يمكن عدم رؤية أنَّ جبال المؤلَّفات الاشتراكية والسياسية والاقتصادية كلها، المليئة بالمعرفة والعقل، فارغة في جوهرها، ولا نفع منها، فضلاً عن أنها كتابات ضارَّة جدًا، وتُلهي الفكر الإنساني عن الطريق الطبيعية والعقلانية، وتوجِّهه إلى طريقٍ مصطنعة وباطلة ومُهلكة. كل هذه الكتابات تشبه عمل أناسٍ، لا يملكون أرضًا سوى أرض الغابة، عندما يقوم هؤلاء الناس، بدلاً من استصلاح هذه الأرض، بالانشغال بالمناقشات والمجادلات حول نوعية النباتات التي ينبغي زراعتها في هذه الأرض، في حين أنَّ الأرض ذاتها، بحسب القانون التاريخي المفترض، صالحة لزراعة الحبوب.

العلماء من الناس يبتدعون النظام المستقبلي الأفضل لحياة البشر، الذين يستعبدهم العنف، باحثين بحرص كافة تفاصيل النظام المستقبلي، لكنهم لا يقولون كلمة واحدة عن العنف الذي، بوجوده، لا معنى لأي نظام مستقبلي للحياة الاجتماعية، ولا لأيِّ تحسين لوضع العمال. فمن أجل تحسين وضع العمال يلزم أمر واحد: ليس مناقشة النظام المستقبلي، وإنما فقط تحرير الشعب لنفسه من العنف الذي يمارسه ضدَّ نفسه تبعًا لمشيئة المتسلِّطين.

أما عن كيفية تحرُّر الشعب من العنف الذي يمارسه ضدَّ نفسه لمصلحة الأقلية؛ فهناك جواب واحد فقط: يمكن للعمال التحرر من العنف فقط عبر الامتناع عن العنف أيًّا كان، ومهما كانت الظروف.

فما العمل لكي لا يمارس البشر العنف، ولا يشاركوا فيه لأية غايات كانت، وأيًّا كانت الظروف؟ من أجل ذلك هناك وسيلة واحدة فقط: تكمن الوسيلة في أن يفهم البشر ماهيتهم، وتبعًا لذلك أن يدركوا ما الذي عليهم فعله دائمًا، وما الذي لا يجب عليهم فعله أيًّا كانت الظروف، بما في ذلك كلَّ أشكال عنف الإنسان ضدَّ الإنسان؛ العنف الذي لا يتوافق مع إدراك الإنسان لقيمته الإنسانية.

ولكي يفهم البشر ماهيتهم، وتبعًا لذلك أن يدركوا الأعمال التي يجب عليهم عملها دائمًا، والتي لا ينبغي لهم القيام بها أيًّا كانت الظروف، بما في ذلك عنف الإنسان ضدَّ الإنسان، يلزم ما ترفضونه أنتم ورؤساؤكم–معلِّموكم: يلزم دين ملائم للعصر، أي متوافق مع مستوى التطور العقلي للبشر.

وبالتالي فإنَّ خلاص العمال من الاضطهاد، وتغيير وضعهم، لا يمكن على الإطلاق بلوغه عن طريق مشاريع النظام الأفضل، وبدرجة أقل محاولات إقامة هذا النظام بالعنف، وإنما فقط عن طريق ما يرفضه "آباء الشعب"، عن طريق ترسيخ ونشر الوعي الديني – لدى البشر – الذي يدرك الإنسان، في ظله، عدم جواز خرق الوحدة، واحترام القريب، وبالتالي عدم جواز ممارسة العنف – أخلاقيًا – في حقِّ القريب، أيًّا كان شكل هذا العنف. ووعي ديني كهذا، والذي ينبذ إمكانية العنف، من المفروض أن يُستوعب ويُدرك بسهولة ليس من قِبل المسيحيين فقط بل والبشرية جمعاء في زماننا لولا وجود خرافة الدين الباطل من جهة، ومن جهة أخرى خرافة العلم الباطل الأشد ضررًا.

إنك تقول إنَّ الأنانية المفهومة بشكل صحيح خير للجميع، وإنَّ الإنسان لا يمكنه على الإطلاق التنعُّم بسعادته إذا كان المجتمع يعاني، وإنَّ المجتمع المستقبلي المأمول يجب أن يُبنى عبر سعي الجميع وتضامنهم. هذا كله صحيح تمامًا، ولكن يمكن بلوغ ذلك فقط من خلال الشعور الديني القائم على المحبة، وليس قطعًا عن طريق العنف، الأمر الوحيد الذي يعيق إقامة مجتمع كهذا.

ولكي يكون الشعب قادرًا على التحرر من العنف الذي يمارسه في حقِّ نفسه تبعًا لمشيئة المتسلِّطين يلزم، لكي ينشأ بين الشعوب دينٌ يواكب العصر، أن يقرَّ بمبدأ إلهي متماثل كامن في جميع البشر، وبالتالي لا يجيز إمكانية استخدام الإنسان العنف ضدَّ إنسان آخر. أما عن كيفية تنظُّم الشعب بعد تحرُّره من العنف، فسوف يفكِّر الشعب ذاته بذلك عندما يُنجز هذا التحرر، ودون مساعدة من قِبل الأساتذة العلماء سوف يجد النظام الذي يلائمه ويلزمه.

وبما أنَّ هناك الكثير من الناس في زماننا يشاركونك الأفكار التي أوردتها، فإني أرسل لك ردّي، وسأقوم بنشره في الآن ذاته، مما استوجب إبلاغك.

ترجمة: هڤال يوسف

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  أطلق هذا الاسم على الاشتراكيين الثوريين في روسيا، وكذلك على المنشقين عن الحزب الشيوعي الإيطالي. يتطلَّع أصحاب هذا الفكر إلى الحلِّ النهائي، ومن هنا جاء اسمهم.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود