إخضاع الدستور لمقاربات فلسفية تنتقص من الحريات الفردية
الكاتب مارك ليفن عن اليوتوبيا الزاحفة إلى الولايات المتحدة

 

جهاد الترك

 

خارطة طريق هي الكتب السياسية الصادرة اليوم في الولايات المتحدة! لعل الأمر كذلك، على الأقل منذ أن شاءت الأقدار أن تُمتحن هذه الامبراطورية برئيس ليس من نسيجها هو جورج بوش الابن.

ولكن إلى أي من الطرق المحتملة من شأن خارطة كهذه أن تشير في العقد الثاني من الألفية الثالثة التي لم تعد اميركية بامتياز؟ الأرجح أن المؤلفات التي تنهمر بغزارة وعلى رفوف المكتبات، باتت تشكل مصدرًا يبعث على الازعاج والقلق والإدانة للإدارات التي تعاقبت على حكم "الامبراطورية" منذ التفجيرات التي استهدفت تدمير البرجين في مدينة نيويورك الهانئة في العام 2001. تغيَّرت وجهة هذه الإصدارات بين ليلة وضحاها. استفاق أصحابها من جنة الحلم الأميركي الطويل على ايقاع الكابوس الأميركي الطويل. كان مرتقبًا من هؤلاء أن يشفقوا على الجسد الامبراطوري المثخن بالجراح. لسوء الحظ لم يفعلوا ذلك. آثروا أن يتوغلوا عميقًا في الجرح، أن يرتشفوا طعم الصدأ وأن يتنشقوا رائحة المرض. والنتيجة أنهم أقدموا على فتح ملف الامبراطورية على مصراعيه.

الولايات المتحدة، الدولة العظمى في التاريخ الحديث، مهددة حتى العظم. من يتجرأ على الاعتراف بمسؤوليته عن الانهيار؟ لم تتبرع الدولة بإجابة تشفي الغليل. الإصدارات تولت هذه المهمة "القذرة" إذا جاز التعبير: الإدارة وحدها تتحمل مغبَّة هذه الخطيئة المروعة. خارطة الطريق تدل على من ينبغي أن يقرَّ بأن فعل الإدانة يتلبَّسه بالكامل. من بين هذه الإصدارات وأهمها وأكثرها تهديدًا وأشدها تكذيبًا لمزاعم النخبة الحاكمة، كتاب بعنوان اليوتوبيا على الطريقة الأميركية: تغيير أميركا، للمفكر المشهور مارك ليفن الذي يدير واحدًا من أكثر البرامج الإذاعية انتشارًا في الولايات المتحدة. الكتاب صادر عن "منشورات تريشولد" منتصف كانون الثاني يناير، 2012.

لم يكن مفاجئًا أن يشق هذا الإصدار طريقه بسرعة قياسية إلى رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة في غضون أسابيع قليلة. ساهم في هذه القفزة النوعية، السمعة السياسية المشرفة للكاتب الذي يُعرف، منذ عقدين تقريبًا، بمواقفه الصلبة دفاعًا عن حرية الفرد في وجه ما يعتبره هو إحجامًا متعمدًا عن الاستمرار في ممارسة تقاليد الديموقراطية الأميركية العريقة. كتاب آخر، على الأغلب، يقتنص اللحظة المناسبة ليلقي على كاهل الإدارة أسئلة من الوزن الثقيل سترفع بالضرورة منسوب الحرج والإحساس بعقدة الذنب وقد بلغت لديها مستويات قياسية غير مسبوقة. ولعل الكاتب يدرك مسبقًا كسواه أن لا إجابات جاهزة في جعبة الإدارة عن أي من التساؤلات والقضايا التي يثيرها في إصداره. ومع ذلك، فهو لا يتردد في إلقاء أعباء إضافية في سلتها الملأى بالأزمات العاجلة والمؤجلة، والخطط المجهضة أو المرشحة للإجهاض، والرؤى التي باتت تفتقر إلى العزيمة والإمكانات لتتحقق في زمن صعب للغاية.

مرحلة ما بعد الدستور

يفتح الكاتب، هذه المرة، ملف الامبراطورية المتعبة من زاوية غير متوقعة. يريد بذلك أن تؤخذ النخبة الحاكمة على حين غرة. أن تتلعثم في الإجابة. أن يتعرَّق جبينها خيبة. أن تتفوَّه بالترهات. أن تنبري إلى الدفاع عن نفسها بأدوات فكرية وأخلاقية لم تعد تمتلك منها الكثير.

يبادر إلى ذلك بالقول إن الولايات المتحدة، وقد اجتازت عتبة الدخول إلى مرحلة ما بعد التقيُّد بحرفية الدستور، باتت محصورة بين طرفي كماشة: أولهما ويتمثل في الدعوة إلى مجتمع يوتوبي تشبهًا بالمدينة الفاضلة التي زعم الفيلسوف الإغريقي القديم، أفلاطون، أنها النظام السياسي الاجتماعي الأمثل لحياة الناس على الأرض. يرى الكاتب، في هذا السياق، أن مجتمعًا كهذا، تظهر بوادره في الولايات المتحدة، تديره النخبة فقط. أما الأفراد من عامة الناس، فتوكل إليهم مهمة واحدة فقط هي الاستماتة في خدمة الدولة. النخبة المتربعة على عرش هذ المجتمع "الفاضل" هي المخولة وحدها ممارسة فنون السياسة والقيادة لأنها الأكفأ والأكثر موهبة والأقدر على إيجاد المنزلة الملائمة لهذا المجتمع في سياق التاريخ الحديث والمعاصر. ثاني هذين الطرفين، ويتمثل في أن تجري إدارة الدولة وفقًا لشروط صارمة. ولكن من دون الانتفاض من حرية الأفراد، التي ينبغي أن تستحوذ على المكانة الأسمى في بنية النظام السياسي قاطبة.

ينحو الكاتب باللائمة على الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومن بينها إدارة الرئيس أوباما، نتيجة لتواطئها جميعًا على الأكثرية الساحقة من المواطنين من خلال الانحراف التدريجي بالدستور من دولة الحقوق الفردية للناس إلى مؤسسة يزعم القيمون عليها أنهم على وشك أن ينتقلوا بالمجتمع إلى النموذج اليوتوبي الأرقى في تاريخ الإنسانية. يعتقد المؤلف أنه إذا كان الأمر كذلك، فإن الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، على قاب قوسين أو أدنى من أن تتنكر قسرًا لإرثها العريق في احترام الحريات الفردية والديموقراطية بذريعة الاحتكام إلى مبادئ المجتمع اليوتوبي. ويعلِّل ذلك بالقول إن مجتمعًا يسمى "فاضلاً" كهذا لا يختلف البتة عن مثيلاته الشمولية كما هي الحال في النموذجين الشيوعي والنازي والأنظمة المستبدة الأخرى التي ترهن استقرار المجتمع وطمأنينته بوجوب تخلي الأفراد عن إرادتهم السياسية وتقبلهم الانصياع لسلطة النخبة الحاكمة. مجتمع يوتوبي بالشكل فقط، شمولي استبدادي متعسف بالمضمون. حتى وإن بدت العناوين العريضة لهذا الأخير تزخر بالشعارات التي تدعو إلى المساواة والخير والعدالة وتكافؤ الفرص. مجتمع يوتوبي على الطريقة الأميركية، وفقًا للمناقشة التي يوردها الكاتب، هو أن تخطو النخبة الحاكمة قليلة العدد بعيدة النفوذ والتأثير، خطوتها الأخيرة لمصادرة السلطة والثروة على نحو لا مكان فيه للتنازل عن المكتسبات الجديدة. وفي المقابل، فإن مجتمعًا يوتوبيًا، على هذا الغرار المضلل وفقًا للمؤلف أيضًا، من شأنه أن يؤدي إلى إذعان الناس لضرب من الأمر الواقع يحيلهم جميعًا كائنات مهجنة تدجن بمرور الزمن، منتقصة الحقوق الإنسانية، مشوشة في وعيها السياسي. ولعل الكاتب يوحي، من خلال هذا المشهد الكئيب الذي يدبُّ في أوصال الولايات المتحدة، أن الرهان الأخطر الذي تعوِّل عليه النخبة الحاكمة، هو أن تنطلي هذه الحيلة اليوتوبية على الأميركيين جميعًا، أن يعتنقوا أولاً عقيدة المجتمع اليوتوبي، أن يؤمنوا ثانيًا بأن المجتمع "الفاضل" الذي يدعو إليه رموز النخبة هو الحل الأمثل والأنجع لمخاوفهم المزمنة، أن يتيقنوا ثالثًا أن الخلاص من الذعر القادم من التاريخ، هو الخروج نهائيًا من التاريخ عبر بوابة المجتمع اليوتوبي.

أربعة فلاسفة

يربط الكاتب ربطًا محكمًا، على الأرجح، بين اليوتوبيا الأميركية المرتقبة على أيدي النخب الحاكمة المتعاقبة، ومثيلتها التي أرسى مرتكزاتها الفكرية الاجتماعية كل من أفلاطون قديمًا والفيلسوفين البريطانيين توماس هوبز وتوماس مور وكارل ماركس في العصر الحديث. يختار هؤلاء الفلاسفة الأربعة بالتحديد لأن كلاً منهم استخدم نظرية المجتمع الفاضل ليزعم أن إنقاذ البشرية من مآسي التاريخ أمر لن يتحقق إلا بإخراج البشرية من التاريخ نفسه. ولن يقيَّض لهذه النظرية أن تبصر النور إلا بإيهام الناس أن سعادتهم القصوى لن تكتمل على الأرض إلا بإقامة المجتمع الفاضل. من بين هؤلاء الأربعة، يشترط كارل ماركس تكوُّن طبقة البروليتاريا وإنضاجها على نار هادئة أو قوية لتقود عملية التحول من مجتمع مستلب الإنسانية، كما يزعم، إلى مجتمع آخر ينبغي أن يصل في نهاية المطاف، إلى الجنة اليوتوبية المرتقبة. وكأن بهؤلاء الأربعة أرادوا أن يقتلعوا التاريخ "القديم" من جذوره الإنسانية الاجتماعية العميقة لينفوه خارج نفسه، ثم يقيمون بدلاً منه تاريخًا جديدًا لإنسانية جديدة تحيا في مجتمع فاضل. ولو افترضنا أن التاريخ "القديم" هو تاريخ حافل بالصراع للاستحواذ على السلطة والثروة، فإن التاريخ الجديد هو تاريخ تنفرد بكتابته النخبة التي أوهمت نفسها وغيرها بأنها وحدها الجديرة بأن تقود المجتمع اليوتوبي. لا يبتغي الكاتب أن يدحض البعد الشمولي في نظرية المجتمع اليوتوبي، بقدر ما يسعى إلى الكشف عن العلائق المشتركة بين هذه النظرية والتوجه الصامت لدى النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة للإفادة القصوى من هذا الإرث باعتباره الهدف الأسمى للإنسانية والطريق الوحيد ليخرج التاريخ من نفسه. لا يرى الكاتب في هذه المزاعم والتصورات شيئًا من هذا القبيل. كما لا يستغرب أن يقع خيار من هم على رأس السلطة في الولايات المتحدة، على المجتمع اليوتوبي نموذجًا يعتبرونه الأرقى لمستقبل أميركا، تحديدًا في سياقها الامبراطوري. دليله على ذلك أن ما يروِّج لهذا النموذج من وراء الكواليس، بحجج وذارئع شتى، لا يعدو كونه نهجًا دفينًا متأصلاً في مخيلة أصحابه للقبض على مقاليد السلطة بالتدريج.

المجتمع اليوتوبي، كما يعتبره المؤلف، ليس سوى منظومة من الأقنعة السميكة تخفي وراءها توقًا محمومًا لممارسة الاستبداد في شكله اليوتوبي، على الأقل.

وكما يستدلُّ من جمهورية أفلاطون ويوتوبيا الفيلسوفين مور وهوبز وشيوعية كارل ماركس، بأن المدينة الفاضلة التي يسعى إلى إنشائها هؤلاء ليست إلا مشروعًا للاستحواذ على السلطة كامنًا في مخيلة أصحابها. وبالمثل، فإن هذه النظرية ليست ذريعة لتصويب مسار التاريخ من النزاع والاقتتال والاستئثار بالثروة إلى العدالة والمساواة، بل مبرر جهنمي، على الأغلب، لمقاربة أخرى للتاريخ لا مكان فيها، هذه المرة، إلا لرموز النخبة فقط.

يوتوبيا ضد الدستور

يتهم الكاتب النخبة في الولايات المتحدة بأنها عقدت العزم فعلاً على البدء بإرساء ما يسمى المجتمع اليوتوبي الأميركي في شكله الأحدث. وهو يتوجس شرًا، في هذا الإطار، من تلك المحاولات التي تجري في الخفاء، من وراء ظهر الأميركيين، وفي غفلة عنهم، للاعتداء المنهجي على روح الدستور، ومن ثم لإفراغ مجموعة من البنود الرئيسية فيه، المتعلقة بالحريات الفردية، من شرارة الرؤيا الإنسانية النافذة التي أدرجها الآباء المؤسسون للأمة الأميركية، من بين أهمهم على صعيد هذه القضية بالتحديد الرئيس الأميركي الأسبق وواضع الدستور توماس جيفرسون الذي كان أوصى، في خطبة شهيرة له، وجوب أن يعود السياسيون والمشترعون إلى روح الزمن ومغزى الحدث اللذين رافقا مولد الدستور وظلاَّ يحومان حوله وفي ثناياه وفي تجلياته أيضًا كالظل المستور. ويغمز الكاتب، في هذا المجال، من قناة أولئك الذين يبدون حماسة وتشددًا مدهشين في تفسير بعض نصوص الدستور على نحو أعمى يفقد هذه الوثيقة الأساس بعدها التاريخي في مواكبة مستقبل الولايات المتحدة. يعلِّق الكاتب على هذه المسألة بالقول إن مقاربة الدستور بهذه الكيفية الخرساء هي من عمل السحرة والمغفلين والبلهاء لسبب بسيط يبدو ظاهرًا للعيان، يتمثل في إعادة قراءة ما يرد فيه من "تقديس" للحريات الفردية على قاعدة أن الفرد كائن مغرق في أنانيته وغريزته العدوانية وانحطاط قيمه الأخلاقية إذا تُرك وحيدًا في مواجهة الدولة. ويعتقد هؤلاء اعتقادًا جازمًا وإيديولوجيًا إذا جاز التعبير، أن الشروع في إقامة المجتمع اليوتوبي في الولايات المتحدة يحد من تداعيات هذه الفردية الطائشة ويوكل إلى الدولة مسؤولية تاريخية لإعادة تشكيل الأفراد على نحو يوتوبي خالص. ويضيف الكاتب، في خطوة سباقة، أن المشترعين الجدد من ذوي نزعة اليوتوبيا، يروِّجون، على نطاق واسع اليوم، أن الدستور وحده لا يكفي للتوصل إلى إجماع كامل وحقيقي حول ما يسمى صيغة للتوافق الاجتماعي والسياسي. ويؤكد أن الهدف جراء هذا الترويج الصامت الذي يتحول صاخبًا شيئًا فشيئًا، أن الفساد المستشري بين الناس كافة لم يعد ممكنًا ضبطه ومكافحته والقضاء عليه بالاعتماد على حكومات وإدارات من النوع الذي تشهده الولايات المتحدة. ويتساءل بسخرية مرَّة: هل أصبح الأميركيون جميعًا ديمغرافيا فاسدة إلى الحد الذي بات الوضع يتطلب قيام حكومة مستبدة في مجتمع يوتوبي متماثل، للخلاص من هذه الآفة؟ يجيب بالقول إن النخبة المالية والسياسية بما تمتلكه من مقدرات فائقة القوة والنفوذ، نجحت في أن تعبث بسيكولوجية الناس، وتمكنت كذلك من أن تلحق الهزيمة في روح الفرد، أو أن تقنعه بأنه عرضة للهزيمة تمهيدًا لحمله على القبول التدريجي بالمجتمع اليوتوبي.

ظاهرة مخيفة

في سياق هذا النقاش الكئيب وانتظار فجر لا يبدو أن بزوغه قريب، يستنتج الكاتب أن الولايات المتحدة قد انقلبت إلى يوتوبيا على الطريقة الأميركية. ذلك أن تمركز السلطة والقوة والنفوذ والمال في طبقة بعينها، أصبح ينطوي على ظاهرة مخيفة لا يبدو أنها مرشحة للتراجع والتقهقر، بل معرضة للتفاقم والتعاظم والازدياد، في وقت يزداد اغتراب الأميركيين عن الواقع ازديادًا وتعاظمًا مماثلين. ليس أسوأ في نظر المؤلف من أوتوقراطية الحزب الواحد إلا ديموقراطية الحزب الواحد. من هنا يتخوف من أن تلجأ النخبة الحاكمة، وهي تمارس الاستبداد الصامت، إلى الانتقال بالفعل السياسي من الطور الناعم إلى طور آخر أقسى وأدهى وأكثر خطورة. فالدولة التي يقوى عضدها ويشتد عودها من خلال استكمال بنيتها التنظيمية، ستبدو مستعدة للقيام بنقلتها النوعية المرتقبة: إعادة تشكيل منظومة القيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية لدى الناس. ولا تنقصها الوسائل لإنجاح هذه المغامرة. فهي شريك مضارب للمؤسسات العملاقة التي تهيمن على الرأي العام بالإعلام، وهي صنو للشركات المالية الضخمة التي تتحكم بطرق معيشة الناس وتشكيل أذواقهم وتصنيف استهلاكهم والتلاعب بقدراتهم الإنفاقية صعودًا وهبوطًا، ثم إنها، في نهاية المطاف، القوة الغاشمة التي تسن القوانين وتفرض الضرائب وتضع العناوين العريضة لسياسة الأمة في الداخل والخارج.

اتهم المؤلف، منذ صدور كتابه السابق الحرية والاستبداد، بأنه من أشد الأتباع المخلصين للمفكر الكبير روش ليمباو، وهو المقاتل الأشرس دفاعًا عن حرية الفرد والارتقاء بالمجتمع المدني. كما اتهم بأنه من أنصار مونتسكيو وكارل بوبر وجون لوك. وهؤلاء ممن تصدوا في كتاباتهم لنظرية المجتمع اليوتوبي ومحاولات تطبيقها في الثقافة الغربية الحديثة. والأهم في فلسفة هؤلاء، دعوتهم إلى إنقاذ روح الفرد من استبداد الأنظمة الشمولية، باعتبار أن هذه الروح هي الثورة الفكرية السياسية التي ساهمت في تحول المجتمعات الأوروبية من تقاليد القبلية والحروب الدموية إلى الدولة بمفاهيمها الإنسانية الحديثة. ولعله لا ينكر هذه التهمة ولا يتبرأ من هذه "الإدانة". ولكنه، من ناحية أخرى، يذكر في الكتاب مرارًا وتكرارًا، بأن الرئيس الأميركي الأسبق بنجامين فرانكلين الذي حكم الولايات المتحدة في نهايات القرن الثامن عشر، دأب على القول بأن الدستور الأميركي ينبغي أن يبقى كما هو شريطة أن يتمكن المشترعون، برؤية شفافة، من قراءة أسباب التغير والتبدل في نصوصه وفقًا للأزمنة المتعاقبة. والشرط الثاني أن هذا الدستور باقٍ ما لم تحل حكومة مستبدة في الولايات المتحدة، عندئذٍ سيفسد الناس وينحرفون عن قيمهم الأخلاقية انحرافًا كبيرًا ليطالبوا هم أنفسهم بحكومة مستبدة تمسك بزمام الأمور. يهزأ الكاتب ممَّن يعتبرون أن قراءة الفلسفة الأوروبية الحديثة في عمقها الإنساني الاجتماعي، لزوم ما لا يلزم على اعتبار أن التجربة الأميركية على هذا الصعيد لا تستلزم ذلك، إذ ينبغي على الأوروبيين أن يحاكوا التجربة الأميركية في بعدها الإنساني. حبذا لو كان الأمر كذلك.

الحلم الأميركي

يبدو الكاتب مذهولاً في استنتاجاته التي لا ترى خيرًا كثيرًا في الكيفية التي تدار من خلالها الولايات المتحدة من قبل تحالف النخبة الحاكمة. مرد ذلك، بالدرجة الأولى، إلى استهجانه إذعان الأميركيين لمشيئة رموز السلطة المالية والسياسية والفلسفية كذلك. يعبِّر عن ذهوله هذا بالقول إن مجتمعًا يمتلك امتيازات استثنائية تكاد لا تجارى، يصعب تقبُّله وهو يمضي كالعميان في طريق وعرة تؤدي إلى الهاوية، إلى الانحطاط الأخلاقي والسياسي والثقافي.

كما يصعب، في الوقت عينه، أن يقبل الأميركيون بالتغاضي عن ضمانتهم الأساسية المتمثلة في الدستور. وتنص على أن حرياتهم الفردية أمر يستعصي على جبروت الدولة وقهريتها. "الحلم الأميركي" الذي يتغنَّى به المواطنون في الولايات المتحدة يتمثل في هذه الحقوق التي يصونها الدستور للفرد أولاً ثم للجماعة والدولة ثانيًا وثالثًا. ومع ذلك، لا يرى المؤلف نهاية محتملة للنفق المظلم الطويل الذي ينحشر فيه الناس في بلد "الفرص"، في أرض "اللبن والعسل"، في تلك "المدينة المتلألئة على هضبة". وأكثر ما يصيبه بالإحباط أن المواطنين الذين وُضع الدستور من أجل ضمان حرياتهم والحفاظ على رفاهيتهم، أخذوا يتواطأون مع النخبة الحاكمة ضد مصالحهم وعلى نحو يتناقض مع حلمهم الأميركي الذي تحول كابوسًا للأسف. النخبة الحاكمة ماضية في استدراج الناس إلى مجتمعها اليوتوبي بذريعة أنه الأصلح لهم. الناس ماضون في الانجرار بهذا الاستدراج بذريعة أن لا بديل من الدولة في أزمنة القلق والرعب والخوف من المجهول. الطرفان يستدرج بعضهما البعض الآخر إلى حيث يعتقد الطرفان أنهما يستجيبان للتاريخ. في هذه الأثناء، يجري التاريخ في زمان آخر. في مكان آخر.

*** *** ***

المستقبل، 13-03-2012

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود