الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 2: الانسحاب

 

جان-ماري مولِّر

 

ابتداءً من الرابع من أيلول/سبتمبر 1920 وحتى التاسع منه، عُقِدَتْ في كالكوتا Calcutta دورةٌ استثنائيةٌ لحزب المؤتمر Congrès. ولم يكنْ غاندي يريد الانتظارَ حتى يبدأ المؤتمرُ لكي يطلقَ حملةَ اللاتعاون وذلك خلافًا لعدة مطالبَ وُجِّهَتْ إليه. وعلى الرغم من المعارضة التي لاقاها فقد فرضَ "سياستَه في اللاتعاون اللاعنفي التدريجي" مضيفًا إلى الأهداف المرتبطة بمسائل الخلافة والبنجاب "الاستقلالَ في سنة واحدة" لا أقلَّ ولا أكثر من ذلك. وبرَّرَ هذا الخيارَ مبَـيِّـنًا أنَّ استقلالَ الهند هو الضمان الوحيد لكي لا تتكرَّرَ في المستقبل الإساءاتُ التي ارتُكِبَتْ بحق شرف الأمة. وقد أكَّدَت الدورةُ العاديةُ للمؤتمر التي افتُتِحَتْ بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1920 في ناغبور Nagpur والتي شاركَ فيها زهاءُ 15000 مندوب إقليمي أكَّدَت قراراتِ دورة كالكوتا.

وفي دورة ناغبور هذه، اعتُمِدَتْ صياغةٌ جديدةٌ لأحكام المؤتمر اقترحَها غاندي. وكان التعديلُ الأساسيُّ يتعلَّق بهدف عمل التنظيم وطرقه. وقد كانت صياغةُ النص القديم على الشكل التالي:

يهدف المؤتمرُ الوطنيُّ الهنديُّ إلى منح شعب الهند نظامًا شبيهًا بالنظام الذي يتمتَّع به أعضاءُ الإمبراطورية الذين يحكمون أنفسَهم بأنفسِهم ومشاركتَه في حقوق الإمبراطورية ومسؤولياتها على قدم المساواة مع الأعضاء الآخرين. ويتم السعيُ وراء هذا الهدف بالطرق الدستورية.

في النص الذي قدَّمَه غاندي لم يعدْ هناك وجودٌ لأية إشارة إلى الإمبراطورية: "غرضُ المؤتمر الوطني هو الحصولُ على الاستقلال بجميع الوسائل المشروعة والسِّـلْمية"[1]. سيكون التغييرُ أساسيًا إذا تكلَّـفْنا ولاحظْنا أنَّ الوسائلَ "المشروعة والسِّـلْمية" ليست بالضرورة وسائلَ "دستورية"، أيْ شرعية.

كما اعتُمِدَ تنظيمٌ جديد لهيكليات المؤتمر. ويهدف هذا التنظيمُ إلى نزع المركزية عن المؤتمر وإضفاء الديمقراطية عليه وذلك من خلال إنشاء لجان إقليمية ومناطقية وقروية. وللانتساب إلى المؤتمر أصبحَتْ تكفي الموافقةُ على "مبادئـ"ـه مع دفع اشتراك سنوي بقيمة أربع أنَّات[2]. بالإضافة إلى ذلك، أُنشئتْ لجنةُ مؤتمر لكل الهند (AICC: All India Congress Committee) مؤلفة من 350 عضوًا وقد أصبحَت الجهازَ الأعلى للتنظيم بين الدورات السنوية. وكان هناك لجنةٌ تنفيذية مؤلفة من 15 عضوًا مكلَّفةٌ بتنفيذ سياسة المؤتمر.

وقد أولى غاندي أهميةً خاصةً لمقاطعة الأقمشة الأجنبية أثناء تطبيق برنامج اللاتعاون. وبلغَ به الأمرُ أنْ طلبَ من الهنود إحراقَ الأقمشة التي كانوا قد اشتروها عن ضعفٍ منهم.

وفي عام 1921 وجدَ غاندي نفسَه مضطرًا للدخول في جدال حادّ مع رابيندرانات طاغور Rabindranath Tagore. وكان طاغورُ هذا، والذي حصلَ على جائزة نوبل في الأدب عام 1913، يتمتَّع بهيبة كبيرة سواء في الهند أم خارج الهند. فأرسلَ خلالَ إقامتِه في أوروبا ثلاثَ رسائلَ إلى بعض الأصدقاء الهنود عبَّرَ لهم فيها عن مخاوفه من حركة اللاتعاون التي تتطوَّر في بلاده. ونُشِرَتْ هذه الرسائلُ في الهند في مجلة مودِرن ريـﭭـيو Modern Review في شهر أيار/مايو 1921. وقد كتبَ في إحدى هذه الرسائل ما يلي:

إنَّ فكرة اللاتعاون، بحجمِها المدوِّي الهائل وتهديدِها المتراكم وأصواتِها الصاخبة المستنكِرة لا تروق لي بتاتًا.

وأضافَ قائلاً:

أيةُ سخرية للقدَر أنْ آتيَ من هذه الجهة من البحار لأناديَ بتعاون الثقافات بين الشرق والغرب في اللحظة نفسِها التي يُنادَى فيها باللاتعاون من الجهة الأخرى[3].

وما كان من غاندي إلاَّ أنْ ردَّ عليه ونشرَ في [مجلة] الهند الفَـتيَّة Young India بتاريخ الأول من حزيران/يونيو 1921 مقالاً بعنوان: "قلقُ الشاعر" جاء فيه:

أودُّ أنْ أؤكِّدَ له وللهند أيضًا أنَّ مفهومنا عن اللاتعاون ليس المفهومَ الذي يخشاه أبدًا، ولا ينبغي له أنْ يخجلَ من بلاده لأنها تبنَّتْ هذا المفهومَ. (...) ينبغي على الشاعر ألاَّ يخشى أيضًا من أنَّ اللاتعاونَ ينْوي تشييدَ سور الصين بين الهند والغرب. على العكس من ذلك فإنَّ اللاتعاونَ يهدف إلى تمهيد الطريق لتعاون حقيقي ومشرِّف وبملء الإرادة يقوم على الاحترام والثقة المتبادَلَينِ. فالنضالُ الحاليُّ الذي التزمْنا به هو نضالٌ ضدَّ التعاون القسري، ضدَّ ارتباطٍ يثير القلقَ، ضدَّ فكرةِ أنْ تُفرَضَ بالأسلحة طرقُ استغلالٍ حديثةٌ يُلبسونها قناعَ الحضارة. (...)

إنَّ رفض الكذبِ ضروريٌّ كضرورة قبول الحقيقة. (...) واللاتعاونُ مع الشر واجبٌ كواجب التعاون مع الخير. (...)

ولذلك أرى بأنَّ الشاعر قلِقَ بدون أية جدوى من التوجه السلبي للاَّتعاونِ. لقد فقدْنا القدرةَ على قول "لا". وأصبحَ مِن الخيانةِ بل من التجديفِ وانتهاكِ الحُرُماتِ أنْ نقولَ "لا" للحكومة. (...) لاتعاونُ الأُمَّـةِ هو دعوةٌ للحكومة لكي تتعاونَ مع الأمة بناءً على شروطها، كما هو حقُّ كلِّ أمَّةٍ وواجبُ كلِّ حكومةٍ حسَنة. فمن خلال اللاتعاون تُحذِّرُ الأمَّـةُ بأنها لا تريد أنْ ترضى بعدُ أنْ تبقى تحت الوصاية أكثرَ من ذلك. (...) وإذا حصلَت الهندُ يومًا على الاستقلال الذي يحلم به الشاعرُ فإنها لن تحصلَ عليه إلاَّ باللاَّتعاون اللاعنفي. فلْـيُسَـلِّمِ العالَمَ رسالتَه في السلام وليطْمَـئنَّ بأنَّ الهندَ إذا ما بقيَتْ وفيةً لوعدها ستصلح مثالاً لرسالته من خلال اللاتعاون. (...) لا يمكن لهندٍ راكعةٍ أمامَ قدمَي أوروبا أنْ تُقدِّمَ أيَّ رجاء للبشرية. سيكون لهندٍ متيقِّظةٍ وحُـرَّةٍ رسالةُ سلامٍ وإرادةٌ طيِّبةُ لعالَمٍ يئنُّ. يجب أنْ يُقدِّمَ لها اللاَّتعاونُ منبرًا تنادي من خلاله بهذه الرسالة[4].

عاد طاغورُ إلى الهند في شهر آب/أُغسطس عام 1921 والتقى غاندي في شهر أيلول/سبتمبر، ولكننا لا نَعرِف مضمونَ محادثاتهما. نعرف فقط أنهما لم يتوصَّلا إلى اتِّفاق. وفي الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1921 نشرَ طاغورُ في الـ مودِرن ريـﭭـيو نصًا طويلاً بعنوان: "نداء الحقيقة[5]" عبَّرَ فيه من جديد وبحدَّةٍ أكبر عن معارضته لحركة اللاتعاون إذْ يصرُّ على الاعتقاد بأنَّ ما يبرِّرها بصورة رئيسية هو مشاعرُ سلبيةٌ وأحقادٌ ضد الأجنبي. وأرادَ أنْ تُستنهَضَ عقولُ الهنود أكثرَ من استنهاض انفعالاتهم. لا شكَّ في أنه لم يقصِّرْ في الثناء المميَّز على غاندي قائلاً:

في أكثر اللحظات حرَجًا، ظهرَ المهاتما غاندي واقفًا على عتبة الملايين من محرومي الهند، يلبس كواحد منهم، ويتكلَّم لغتَهم! (...) فمَنْ غيرُه قَبِـلَ هكذا بدون تحفُّـظ كلحمِه ودمِه الجماهيرَ الواسعةَ من شعب الهند؟ بمجرَّد التواصل مع الحقيقة تحرَّرَت القوى المتركِّزة الكامنة للروح. وعندما حضرَ الحُـبُّ على أبواب الهند تفتَّحَت جميعًا على مصاريعها. واختفى كلُّ شُحٍّ داخلي. وأيقظَت الحقيقةُ الحقيقةَ.

غير أنه عاد سريعًا جدًا ورسمَ أقتمَ لوحةٍ عن الوضع الذي اكتشفَه بعد عودته إلى الهند. فبدا له أنَّ الناسَ في الهند يتنفَّسون هواءَ التعصُّب أكثرَ مما يستنشقون هواءَ الحُـرِّية:

ما رأيتُه وشعرتُ به يقلقني. يبدو لي أنَّ ثقلاً يُفرَض على الروح العامة وأنَّ ضغطًا شديدًا يحصل فيجعل كلَّ فرد يتكلَّم بصوت واحد ويجعل الجميعَ يقومون بحركات واحدة.

عندما طرحتُ أسئلةً وحاولتُ أنْ أقرِّرَ بنفسي، كان الذين يُغلِقون فمي بيدٍ قلِقةٍ يقولون: "نرجوكَ أنْ تَسكُتَ." كان هناك استبداد في المناخ العام حتى وإنْ لم يتمكَّن المرءُ من إدراكه، وهذا أسوأ من العنف المفتوح. وكلُّ من يسمح لنفسه بأنْ يشكَّ في حكمة السياسة الرسمية وبأنْ يُـعَـبِّرَ عن شكِّه بصوت خافت يُهدَّد بالخضوع لعمل تأديبي. فعندما تجرَّأَتْ إحدى صُحُفِنا واقترحَت شجبَ عمليات حرق الأقمشة الأجنبية، تلقَّت احتجاجاتٍ قلِقةً وتهديديةً من القرَّاء الذين أشاروا إلى أنَّ ألسنةَ النار التي التهمَت هذه الأقمشةَ يمكنها يومًا أنْ تُحَـوِّلَ هذه الصحيفةَ إلى رماد!

أرى جزءًا من الشعب قد انخرطَ بتعصُّبٍ في العمل المحدَّد والجزءَ الآخرَ يعيش في الرعب وقد أُجبِرَ على السكوت. يبدو أنَّ الفكرةَ السائدة هي أنه لا ينبغي النظرُ في أي شيء وأنَّ الطاعة العمياء وحدها يجب أنْ تبقى. والطاعة لمن؟ ألِبعضِ كلماتٍ ذات تأثير سحري؟ ألعقيدةٍ لاعقلانية؟

وطاغورُ، مِن جهتِه، لم ينتظرْ شيئًا من الدعوة التي أطلقَها غاندي للهنود عندما "قال لهم فقط: «اغزلوا وانسجوا، اغزلوا وانسجوا»". وبدا متشدِّدًا وحتى ساخرًا [عندما قال]:

تَـنْتـقِصُ الآلاتُ الصغيرةُ أو الكبيرةُ من قدْر الإنسان، سواء المحرِّكاتُ أم دولابُ الغزْل المتواضع. (...) فالاستقلالُ ليس فقط في الاكتفاء الذاتي من إنتاج الجوخ. إنَّ مكانه الحقيقي هو في داخلنا: النفسُ، بشتَّى قواها، هي على الدوام في طور بناء استقلالها. (...) فالاستقلالُ في هذا البلد، كما في أي مكان آخر، ينبغي أنْ يتأسَّسَ على تطوير العقل والمعرفة والفكر العلمي وليس على تطوير حركات لا طائلَ منها. والقولُ بأننا سنحصل على الاستقلال من خلال تشغيل دواليب غزْلنا لعدة لحظات يعني نقصًا في التفكير السليم.

وأدانَ بشدةٍ "حرارةَ الابتهاجِ بالأقمشة المكدَّسة" [فقال]:

لا أرى أيَّ سبب مُـلِـحٍّ يدعو لمثل هذا التبذير، إذا لم يكنْ السببُ هو قوة الخُرافة. (...) أُمِرْنا أنْ نحرقَ جميعَ الأقمشة الأجنبية. من جهتي يستحيل علَيَّ إطاعةُ هذا الأمر. أعتبرُ بالدرجة الأولى أنَّ من واجبي مواجهةَ عادةِ الطاعةِ العمياء.

أراد غاندي قبولَ التحدِّي الذي وضعَه فيه طاغورُ فأجابه بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر في مقال نشره في مجلة الهند الفَـتيَّة بعنوان: "الحارس الكبير". فتظاهرَ في البداية أنه متَّفقٌ معه:

باختصار، يقول لنا الشاعرُ أنْ نَنْبذَ كلَّ ما لا يخاطِبُ عقلَنا أو قلبَنا. (...) إنَّ مقالَه تحذيرٌ لنا جميعًا نحن الذين نبدو، بجزَعِنا وقلَّةِ صبرِنا، متعصِّبين وحتى عنيفين ضد الذين لا يوافقوننا الرأيَ.

ولكنه أتى سريعًا على رفض الاتِّهامات بشأن استخدام دولاب الغزل ودعا طاغورَ إلى أنْ يجازفَ هو الآخر في هذا النضال:

عندما تندلع الحربُ يضع الشاعرُ قيثارتَه ورَجُـلُ القانون مجموعةَ اجتهاداتِه والتلميذُ كُتُـبَه. فالشاعرُ سيجد نغمتَه الصحيحةَ بعد أنْ تضعَ الحربُ أوزارَها، وسيتمكَّنُ رجلُ القانون من العودة إلى بحوثه القانونية عندما سيتوفَّرُ للناس الوقتُ لكي يتصارعوا فيما بينهم. فعندما يحترقُ أحدُ المنازل يخرج منه جميعُ ساكنيه ويحمل كلُّ واحدٍ منهم دلوًا لإطفاء النار. وعندما يموت من نقص الغذاء جميعُ المحيطين بي فإنَّ شغلي الشاغل سيكون تقديم الطعام لهم. أنا مقتنع بأنَّ الهندَ بيتٌ يحترق لأنَّ إنسانيتها تُهانُ كلَّ يوم؛ فهي تموت من الجوع لأنها تحتاج إلى العمل الذي يتيح لها شراء الغِذاء. (...)

يجب علينا التفكيرُ في الملايين من الأشخاص الذين يعيشون في ظروف أسوأ من ظروف حياة الحيوانات والذين هم على حافَّة الموت. ودولابُ الغزْلِ هو الشرابُ الذي يمكن أنْ يحييَ ملايينَ النساء والرجال الذين يكادون يموتون في بلادنا. (...) فملايينُ الجائعين لا يطلبون سوى قصيدةٍ واحدةٍ: الغِذاء الذي يمكنه أنْ يمنحهم الحياةَ. ولا يمكن منحُهم إياه. يجب عليهم أنْ يحصلوا عليه بأنفسهم. ولا يمكنهم أنْ يكسبوا لقمةَ عيشِهم إلاَّ بعرق جبينهم[6].

وخلال عدة سنوات أيضًا، لم يتوصَّـلِ الرَّجُـلان الأكثر شهرةً في الهند إلى التفاهم فيما بينهما. ففي أيلول/سبتمبر 1925 كتبَ طاغورُ إلى رومان رولاَّن Romain Rolland:

أودُّ أنْ يكونَ بالإمكان أنْ أضمَّ يدي إلى يد المهاتما غاندي، فأستسلمَ بذلك للتيار الذي يلقى قبولاً شعبيًا. لكنه ليس بوسعي أنْ أُوهِـمَ نفسيَ زمنًا طويلاً بأنَّ مفهومنا عن الحقيقة وبحثنا عنها يتعارضان تعارضًا كليًا. حاليًا عدمُ موافقة غاندي وإيجاد دعم بالمقابل لدى شخص في الهند أمرٌ مستحيل، ولذلك أنتظرُ هذا الهرب في آذار/مارس المقبل برغبة شديدة وبفارغ الصبر[7].

لا بد من انتظار شهر أيلول/سبتمبر 1932 حتى يجتازَ طاغورُ الهندَ ليضمَّ يدَيهِ إلى يدَي غاندي وذلك عندما شرعَ غاندي بصيام حتى الموت دفاعًا عن المنبوذين.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1921، زارَ الهندَ أميرُ بلاد الغال Galles [بلاد وِيلْز Wales أو كَمْرِي Cymru] الذي أصبحَ فيما بعدُ المَلِكَ إدوارد الثامن Édouard VIII. وكان حِزْبُ المؤتمرُ Congrès قد قرَّرَ مقاطعةَ هذه الزيارةِ وتنظيمَ هَرْتال hartâl [إضراب عام ليوم واحد احتجاجًا] في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر والذي يصادفُ يومَ وصولِه إلى مومباي [بومباي] Bombay. إلاَّ أنه في ذلك اليومِ، وبينما كان غاندي موجودًا في المدينة، اندلعَتْ فِتَنٌ عنيفةٌ جدًا. ويئسَ غاندي من مشاهدته لمثل ذلك الهيجان من دون أنْ يكونَ له لا حول ولا قوة. فشعرَ بنفسه مسؤولاً شخصيًا عن هذا الإخفاق للاَّعنف وقرَّرَ الشروعَ بصيام تكفيري لمدة خمسة أيام.

في بداية عام 1922، سُجِنَ قرابةُ الثلاثين ألف هندي بجُرْم الشَّغَب. عندئذٍ فكَّرَ غاندي بأنَّ اللحظة أصبحَت مواتيةً لكيْ يُطْلِقَ حملةَ لاتعاونٍ هجوميةً طالبًا من الهنود رفْضَ دفعِ الضرائب. ومن أجل توخِّي الحذر وبهدف التمكُّنِ من السيطرة على مجرى الأحداث فقد قرَّرَ حصْرَ حركةِ العصيان المدني بمنطقة [كونتية] بَرْدولي [باردولي] Bardoli في إقليم مومباي والتي لا يتجاوزُ تعدادُ سكانها 87000 نسَمة. وفي الأول من شهر شباط/فبراير عام 1922، كتبَ رسالةً إلى نائب المَلِك اللورد ريدينغ Lord Reading أطلقَ فيها إنذارًا. وكان ينْوي من وراء ذلك "أنْ يؤكد تمرُّدَ الأمَّة على الحكومة بسبب رفضها المجرم والمستمر بأنْ تُقَدِّرَ قرارَ الهند بشأن الخلافة والبنجاب والاستقلال حقَّ قدْرِه". وكان يريد أيضًا الاحتجاجَ على القَمْع الذي تقوم به الحكومةُ بحق الشعب الهندي:

فأوضحَ قائلاً:

أعْـلَمُ أنَّ كلمة القَمْع المستخدمةَ لوصف عمل السلطات لا تعجبكم. وبرأيي فإنَّ أيَّ إجراء يتجاوزُ ما يتطلَّبُه الموقفُ ليس سوى قَمع. فنهبُ الأموال والهجومُ على الأبرياء ومعاملةُ السُّجناء معاملةً قاسيةً وجَـلْدُهم لا يمكنُ اعتبارُه عملاً مسموحًا به أو ضروريًا. ولا يمكن وصفُ هذه المخالفة الرسمية للقوانين إلاَّ بصفة القَمْع غير الشرعي. (...)

وأولُ مهمةٍ ينبغي على البلاد الشروعُ بها مباشرةً هي إنقاذُ حرية الكلامِ وحرية المشاركةِ وحرية الصحافةِ من الشلل.

في الظروف الحالية، ليس للبلاد مِنْ قرارٍ آخر غيرُِ تبَنِّي منهجٍ لاعنفيٍّ للحصول على ما تريد. (...)

وأودُّ، قبْـلَ أنْ يبدأَ شعبُ بَرْدولي Bardoli فِعْـليًا بالعصيان المدني، أنْ أؤكِّـدَ بكل احترامٍ لكم وأرجوكم، بصفتكم رئيسًا لحكومة الهند، أنْ تعيدوا النظرَ في سياستكم وأنْ تطْلِقوا سراحَ جميع اللاَّمتعاونين المحكومين أو الذين مازالوا في القضاء بسبب نشاطهم اللاعنفي وأنْ تُـعَـبِّـروا بكلمات واضحة عن سياسة عدم تدَخُّـلٍ في النشاطات اللاعنفية للبلاد والتي تمَّ الشروعُ بها لطلب الإنصاف بشأن مسألة الخلافة أو البنجاب أو من أجل الاستقلال أو من أجل أية مسألة أخرى، حتى وإنْ كانت هذه النشاطاتُ تستحقُّ القَمْعَ بحسب بعض المواد من قانون العقوبات الجزائي أو بحسب أي قانون آخر، وذلك بشرط أنْ تلتزمَ هذه النشاطاتُ باللاعنف طبعًا.

أودُّ أيضًا أنْ أطلبَ إليكم بإلحاح أنْ تُحَرِّروا الصحافةَ من كل رقابة إدارية وأنْ تُسدِّدوا جميعَ الغرامات التي فُرِضَتْ مؤخَّرًا. وعندما أوجِّه هذه الالتماساتِ المختلفةَ إليكم فإنني لا أطلب من سيادتكم إلاَّ أنْ تفعلوا ما يُـفعل في جميع البلدان التي تدَّعي أنها تحكمها حكومةٌ متحضِّرة. فإذا كان في مقدوركم إصدارُ البيان اللازم خلال الأيام الثمانية التي تلي نشْرَ هذا البيان فإنَّ باستطاعتي أنْ أُوَجِّـهَ بتأجيل العصيان المدني حتى يكونَ لِلاَّمتعاونينَ الخارجين من السجن الوقتُ لإعادة النظر في المسألة. وإذا قامت الحكومةُ بإصدار البيان المطلوب فإنني سأرى في ذلك دليلاً على رغبتها الصادقة بالاستجابة للرأي العام. ولن يَكُونَ لديَّ عندئذٍ أدنى تردُّدٍ في توجيه البلاد، مِن دونِ إكراهٍ عنيفٍ من أية جهة، إلى الاستمرار في تكوين الرأي العام، لثقتي به من أجل الحصول على ما يرضي فيما يخصُّ المطالبَ التي تمَّ التعبيرُ عنها والتي لا يمكن تغييرُها.

ولن يحصلَ العصيانُ العدوانيُّ في تلك الحالة إلاَّ إذا حادَتِ الْحكومةُ عن سياستها في الحيادية المطْـلَقة أو إذا رفضَت الخضوعَ للرأي العام الذي تُعَبِّر عنه الأغلبيةُ الساحقةُ من شعب الهند تعبيرًا صريحًا.

صدِّقوني أنا الخادم والصديق المخْلِص لسيادتكم [8].

لا يمكن لغاندي إلاَّ أنْ يدركَ أنَّ الطلبَ الذي وجَّهَه إلى نائب الملِك مبالَغ فيه. لأنَّ ما يطالبُ به، فيما يتعدَّى العباراتِ المهذَّبةَ جدًا التي يُعَبِّر بها عن رأيه، ليس أكثرَ ولا أقلَّ من الممارسة المباشرة للسلطة السياسية في الهند، حتى إلى حد أنه يدَّعي لنفسه الحقَّ في اتِّخاذ قرار بشأن القوانين التي ينبغي الخضوعُ لها وبشأن القوانين التي ينبغي عصيانُها ويطلبُ من نائب المَلِك عدمَ التدَخُّـلِ في شؤون الهنود.

إلاَّ أنه في الخامس من شباط/فبراير من عام 1922، وفي قرية شوري-شورا [شاوري-شاورا [چوري چورا]] Chauri-Chaura، في الأقاليم الاتِّحادية Provinces-Unies، قَـتَـلَت مجموعةٌ غاضبةٌ خمسًا وعشرين رَجُـلاً من رجال الشرطة. فأصابَ غاندي الهلعُ من سرد هذه الحادثة. فقرَّرَ في الحال العدولَ عن إطلاق حَمْـلة العصيان المدني في بَرْدولي. وأوضحَ ذلك في مقال نُشِرَ في السادس عشر من شباط/فبراير في مجلة الهند الفَـتيَّة Young India:

لقد تمَّ استفزازُ الرعاع، على الرغم من أنهم كانوا يعرِفون بالخبرة الطغيانَ التعسفيَّ لشرطة هذا الإقليم. مع ذلك، لا يمكن لأي استفزاز أنْ يبرِّرَ القتلَ الوحشيَّ لأناس أصبحوا بدون دفاع ووضعوا أنفسَهم افتراضيًا تحت رحمة الرعاع. وبينما تدَّعي الهندُ أنها لاعنفية وتأملُ من خلال مناهجها اعتلاءَ عرش الحرية، كان عنفُ الرعاع شؤمًا بحق، حتى وإنْ سبَّبَه استفزازٌ جَدِّيٌّ. (...)

أعلَـنَّـا أنَّ شوري-شورا [چوري چورا] لا يمكن أنْ يكونَ لها تأثيرٌ على بَرْدولي. ولن يكون هناك خطرٌ، كما يؤكدون، إلاَّ إذا تأثَّرَت بَرْدولي بِـشوري-شورا وانقادت إلى العنف. وليس لديَّ أدنى خشيةٍ من ذلك. فشعبُ بَرْدولي في اعتقادي هو الشعبُ الأكثر مسالَمةً في الهند؛ لكنَّ بَرْدولي ليست سوى نقطةٍ صغيرةٍ جدًا على خارطة الهند. ولا يمكن لجهودها أنْ تنجحَ إلاَّ إذا حصلَت على التعاون التام للأطراف الأخرى في الإقليم. ولن يكونَ عصيانُ بَرْدولي مدنيًا إلاَّ إذا بقيَت المناطقُ الأخرى من الهند لاعنفيةً. (...)

هذه المأساةُ هي على كل حال أحد أعراض شرٍّ يتفاقم. (...) فمأساةُ شوري-شورا هي في الواقع عمود الدلالة الموجود على طريقنا والذي يدلُّنا على الطريق الخطِر الذي يمكن للهند أنْ تسلكَه إذا لم تُـتَّخَـذْ احتياطاتٌ جدِّيةٌ بهذا الشأن. وإذا كنا لا نريد أنْ يتولَّدَ العنفُ من اللاعنف فمن البديهي أنه ينبغي علينا أنْ نعودَ أدراجَنا ونعيدَ خلْقَ جوٍّ من الهدوء ونعيد تنظيمَ برنامجنا ولا نفكرَ في الشروع في العصيان المدني الجماهيري قبل أنْ نتأكدَ من أنَّ السلامَ سيستمر الحفاظُ عليه على الرغم من جميع استفزازات الحكومة[9].

وباشَرَ غاندي من جديد بصيام لمدة خمسة أيام لكي يُـكَـفِّـرَ عن "كونِه أداةَ العنف الوحشي للشعب في شوري-شورا وإنْ بصورةٍ غيرِ إرادية[10]."

هل كان غاندي مُـحِـقَّـًا أم مخطئًا في العدول عن حملة العصيان المدني في بَرْدولي؟ من الصعب جدًا الإجابةُ على هذا السؤال. تميل سيمون ﭙـانتر-بريك Simone Panter-Brick من جهتها إلى تخطئة غاندي فتقول:

التوقُّف؟ كان يعني أنْ يكلِّفَ انفجارُ العنف غاليًا جدًا.

لم تكنِ الأمَّةُ بأكملها مستعدةً للعمل أبدًا – ولن تكون أبدًا مستعدةً له كذلك.

ولم نرَ أبدًا مسلمين وهندوسًا يقاتلان جنبًا إلى جنب – ولن يقاتلان بعدُ أبدًا، إلاَّ أنْ يقاتِلَ بعضُهما الآخرَ.

لقد كانت فرصةُ الاتِّحاد سانحةً: التقطَها غاندي ثم أفلَتها – ولن تسنحَ بعدَ ذلك أبدًا فرصةُ عملٍ ملموس. (...)

وهكذا فإنَّ القوة المنظَّمةَ مضافًا إليها العددُ لا تكفي لإحراز النجاح.

ينبغي إضافةُ العمل إلى العدد. وتأجيلُ العمل حتى تصبحَ القوةُ تحفةً في الكمال يعني تفويتَ الفرصة وتبديدَ القوة[11].

إنَّ جواهَرلال نِهْرو الذي كان معتقَلاً منذ السادس من كانون الأول/ديسمبر 1921 قد علِمَ وهو في السجن قرارَ غاندي بإيقاف حركة العصيان المدني. فشعرَ لأول وهلةٍ بالخيبة والغضب. ولكنه بعد أنْ حلَّلَ الوضعَ الذي كان سائدًا في الهند في عام 1922 أعطى فيما بعدُ الحقَّ لغاندي:

فكتب في سيرته الذاتية:

إنَّ شوري-شورا في الواقع لم تكنْ سوى قطرةِ الماء التي جعلَت الإناءَ يطفح. وغالبًا ما تصَرَّفَ غاندي جي Gandhiji[12] بحسب السليقة أو ما يشبه السليقةَ. فبفضل مشاركة طويلة وعميقة مع الجماهير يبدو أنه اكتسبَ (كما هي الحالُ غالبًا عند القادة الشعبيين الكبار) حاسةً سادسةً؛ كان يُحِسُّ بالجماهير، ويتنبَّـأُ بتصرُّفاتهم وبإمكانيات عملهم. وكان يُكَـيِّف، مستجيبًا لهذه السليقةِ، أفعالَه تبعًا لما تقتضيه؛ ثم كان يحاول، نزولاً عند رغبة زملائه المشدوهين والغاضبين غضبًا شديدًا، أنْ يُـلبِسَ قرارَه رداءَ المنطق. (...)

كان شبهَ متأكد من أنَّ أعمالَ العنف المنفردة كانت ستتزايد لو استمرَّت الحركة آنذاك وكانت الحكومةُ سترُدُّ بطريقة دموية وكان الرعبُ سيسُوْد مؤدِّيًا إلى إضعاف معنويات الشعب.

تلك هي على الأرجح الأسبابُ التي خطَرَت على بال غاندي جي. فإذا كنا نَـقْـبَـلُ بمقدِّماته المنطقية وإذا كنا نرى أنَّ من المحبَّذ متابعةَ نهجِ اللاعنف فإنه يكون قد اتَّخَذَ القرارَ الذي كان لا بد من اتِّخاذه. لقد فسدَتْ البذرةُ؛ وكان لا بدَّ من إعادة البذار[13].

ولَمَّا أنَّ السلطاتِ البريطانيةَ ارتأت أنَّ اعتقال غاندي بعدَ الآن لن يكون قادرًا على إثارة الاضطرابات في كل الهند فقد قرَّرَت توقيفَه بتاريخ العاشر من آذار/مارس 1922، وذلك بعد أن اتَّهمَتْه بالدعوة إلى التمرُّد على الإمبراطورية في ثلاثة نصوص نشرَها في مجلة الهند الفَـتيَّة. وجرَتْ محاكمتُه في الثامن عشر من آذار/مارس في [مدينة] أحمد آباد. وخلال هذه المحاكمة، صرَّحَ غاندي بعدَ أنْ لفتَ الانتباهَ إلى ظلم قانون رولات Rowlatt وإلى أعمال العنف التي كان على سكان البنجاب أنْ يعانوا منها بسبب الإدارة البريطانية وقضية الخلافة:

توصَّلْتُ على مضض إلى النتيجة التي مفادها أنَّ علاقتنا مع بريطانيا العظمى قد جعلَت الهندَ من وجهة نظر سياسية واقتصادية أكثرَ عجزًا مما مضى. فعندما تكونُ الهند مجرَّدةً من السلاح لا تمتلك أيةَ قدرةٍ على الدفاع عن نفسها من أي معتدٍ فيما لو أرادت الانخراطَ في نزاع مسلَّح معه. (...) وأصبحَت فقيرةً إلى درجة أنه قلَّما تتمكَّنُ من مقاومة المجاعات. فقبْـلَ مجيءِ الإنكليز، كانت الهند تنسج وتغزل في الملايين من أكواخها لكي تضيفَ إلى مواردها الزراعية الهزيلة ما كانت تحتاج إليه فقط. هذه الصناعةُ القروية الحيويةُ جدًا لوجود الهند قد قضَتْ عليها أساليبُ لاإنسانيةٌ ووحشيةٌ مذهلةٌ وقد وصفَها إنكليزٌ كانوا شاهدين عليها. (...)

لقد كان برأيي امتيازًا عظيمًا أنْ أتمكَّنَ من كتابة ما كتبْتُه في مختلف المقالات التي واجهوني بها كدليل إثبات.

في الواقع، أعتقد أنني قدَّمْتُ خدمةً للهند ولإنكلترا عندما أظهرتُ لهما كيف يكون اللاتعاونُ الطريقَ الذي يمكن أنْ يُخرِجَهما من الحالة غير الطبيعية التي يعيشُ فيها كلاهما. فبرأيي المتواضع، اللاتعاونُ مع الشر واجب بمقدار وجوب التعاون مع الخير. إلاَّ أنَّ اللاَّتعاونَ تُرجِمَ عبْرَ الماضي وبطريقة متعمَّدة من خلال العنف تجاه من يفعل الشرَّ. وقد عملْتُ جاهدًا على أنْ أُظهِرَ لأبناء بلدي أنَّ اللاتعاونَ العنيفَ لا يقوم سوى بزيادة الشر وأنه ينبغي، نظرًا لأنَّ الشرَّ لا يمكنُ أنْ يتغذَّى إلاَّ بالعنف، أنْ يمتنعوا كليًا عن العنف لنزع كل دعم للشر. فاللاعنفُ ينطوي على الخضوع الإرادي للعقوبة المفروضة بسبب رفضه التعاونَ مع الشر. ولذلك أريدُ المطالبةَ والخضوعَ طوعًا لأقسى عقوبة يمكن أنْ تُفرَضَ علَيَّ مقابلَ الفعل الذي يُـعَـدُّ في القانون جريمةً متعمَّدةً والذي يبدو لي أرفعَ واجب يقوم به المواطنُ. أيها القاضي، ليس لديكم من خيار سوى الخيارِ بين الاستقالةِ من منْصبِكم وبذلك رفضِ المشاركة في الشر إذا كنتم ترون أنَّ القانون الذي كُـلِّـفْـتُم بتطبيقه سيئًا وأنني بريءٌ في الحقيقة، وبين فرضِ أقسى عقوبةٍ علَيَّ إذا كنتم تعتقدون أنَّ النظامَ والقانونَ الذي تساهمون في فرض احترامهما مفيدَينِ لشعبِ هذا البلدِ وأنَّ نشاطي بالتالي ضارٌّ للخير العام[14].

ومع أنَّ القاضي أثنى على غاندي فقد حكَمَه بالسَّجن ست سنين. وبعد يومين، نُقِلَ المحكومُ إلى سجن ييراﭭـدا Yeravda. وأُطلِقَ سراحُه في الخامس من شباط/فبراير عام 1924.

وكان اعتقالُ غاندي فرصةً لصحيفة الإلُّوستراسيون L'Illustration لتُقَـدِّمَ لقرَّائها في عددها الصادر بتاريخ 18 آذار/مارس 1922 واحدةً من أولى صور الزعيم الهندي التي نُشِرَتْ في فرنسا:

وصل من بلاد الهند خبرٌ كان قد انتُظِرَ منذ بعض الوقت: قامت الحكومةُ البريطانية باعتقال غاندي، ذلك المحرِّض الشهير على الشغَب والذي كان روحَ التمرد الوطني.

بلا شكٍّ ليس هناك اليومَ في العالَم رجلٌ يمثِّلُ مثلَ هذه القوة المعنوية. فهو يجسِّد في شخصه آمالَ شعبٍ يتألَّف من ملايين الأفراد. وهو مبجَّـلٌ كمثل مسيحٍ مخَـلِّص Messie. (...)

قادته مهنتُه المليئة بالمغامِرة إلى جنوب أفريقيا. ولم يعُـدْ إلى بلاد الهند إلاَّ في عام 1914. حيث اكتسبَ فيها بصورة سريعة جدًا نفوذًا هائلاً على أبناء بلده عندما نادى بالتحرر من نِيْر الغرب، ولكنْ من خلال اللاتعاون مع الإنكليز وليس من خلال العنف وإراقة الدماء. إنَّ مذهبه الرافضَ للحضارة الأوروبية وللمسيحية يُستلْهَم من ضربٍ من النزعة الإنسانية على طريقة تولستوي ومن التصوف الديني. صُوِّرَ لنا لابسًا قماشًا أبيضَ ولكنه خشِن، مكشوفَ الساقين حافيَ القدمين، نحيلَ الوجه، بَرَّاقَ العينين بشوق داخلي.

مع ذلك، لا مفرَّ من الاعتراف بأنَّ حملة عام 1920، كحملة عام 1919، قد باءت بالفشل في نظر غاندي. لكنَّ المفارقة هي أنَّ هذا الإخفاقَ التكتيكي المزدوجَ ينطوي على انتصار استراتيجي مزدوج. كما حلَّلَت بكثير من الدقة سيمون ﭙـانتر-بريك Simone Panter-Brick:

لقد غيَّرَت الحملتانِ أساسًا وجهَ الهند. فكان الإخفاقُ ظاهريًا، وكان المكسبُ عظيمًا، كان في العمق.

من خسرَ الحملتينِ لم يكنْ خاسرًا. (...)

فغاندي كان ما يزال رمزًا لا شأنَ له على الخارطة السياسية للهند، عندما أطلقَ في نيسان/أبريل عام 1919 حملةَ رولات، وتلَتْها في شهر آب/أُغسطُس عام 1920 حملةُ اللاتعاون. ومنذ عام 1921، أصبحَ غاندي القوةَ السياسيةَ الأولى في البلاد ورمزَ الوطنيةَ وخصمَ الحكومةِ المرهوبَ الجانب. (...)

"كانت الهندُ أمامَ قدميه خاضعةً تنصت إلى كلامه؛ ليست هندَ البارحةِ الخاملةَ "الخَرِعةَ" [الضعيفة الرخوة]، بل هند جديدة حية، الهند الفَـتِـيَّـة، تعجُّ بالملايين من سكانها الذين يتحرَّكون كالنمل، وتعكسُ طاقةَ الماهاتما وشجاعتَه وإرادتَه[15].

كان على غاندي، بعد إطلاق سراحه، أنْ يُسَلِّمَ بالأمر الواقع: العلاقاتُ بين الهندوس والمسلمين أسوأ من أي وقت مضى. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1922، خلعَ مصطفى كمال (أتاتورك) الخليفةَ التركيَّ وحلَّ محلَّه، وبالتالي لم يعدْ بإمكان قضية الخلافة أنْ تكونَ فرصةً لمحاولة جمعِ الطائفتين الدينيتين المتخاصمتين. ولا تفتأُ إحداهما تستفِزُّ الأخرى: فالمسلمون يذبحون الأبقارَ التي هي حيواناتٌ مقدَّسةٌ في نظر الهندوس، والهندوس يُنظِّمونَ زِيَّاحاتٍ [احتفالاتٍ دينيةً] processions أمامَ المساجدِ أثناءَ وقتِ الصلاةِ وهم يعزِفون الموسيقى. وحصلَتْ حوادثُ عنيفةٌ عديدةٌ ألَّـبَتْ بين الطائفتين. وفي العاشر من أيلول/سبتمبر من عام 1924، في كوهات Kohat، وهي مدينة تقع في الإقليم الحدودي الشمالي الغربي، اعتدى المسلمون على الأقلية الهندوسية: فكانت الحصيلةُ هي 36 قتيلاً و145 جريحًا. فقرَّرَ غاندي عندئذٍ الشروعَ بصيام لمدة واحد وعشرين يومًا. وفي 18 أيلول/سبتمبر، نشر البيانَ التالي:

الأحداثُ الأخيرةُ لا طاقةَ لي في أنْ أتحمَّـلَها. كما أنَّ عجزي لا يطاقُ أكثر. إنَّ دِيني يعلِّمني أنه ينبغي الصيامُ والصلاةُ عند كلِّ كُرْبةٍ لا يمكن التغلُّبُ عليها. فقمتُ بذلك من أجل الأُناسِ الذين يَعِزُّون علَيَّ كثيرًا. بالطبع لا يمكنُ لأي شيء مما أقول أو أكتب أنْ يجمعَ الطائفتين. ولذلك أُلزِمُ نفسيَ بصيام لمدة واحد وعشرين يومًا يبدأ اليومَ وينتهي يومَ الأربعاء بتاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر. وأحتفظ لنفسي بإمكانية شرب الماء المملَّح. إنَّ هذا هو صلاةٌ وكَفَّارة في آنٍ معًا. (...) أدعو بكل احترام رؤساءَ جميع الطوائف، وكذلك الإنكليزَ، للالتقاء ولوضع حد لهذا النزاع الذي يهين الدينَ والإنسانيةَ. يبدو أنَّ الله مخلوعٌ عن عرشه. فـلْـنُسْـكِنْه من جديد في قلوبنا[16].

أقامَ غاندي خلال فترة صيامه في دلهي في مسكن صديقه المسلم محمد علي. وكان لهذا الحدث صدىً كبيرٌ في جميع أنحاء الهند. وبتاريخ 26 أيلول/سبتمبر، أُقيمَ في دلهي مؤتمرٌ من أجل الوحدة شاركَ فيه 300 ممثل عن جميع الطوائف الدينية. وقد أكَّدوا عزمَهم على العمل من أجل المصالحة والسلام. مع ذلك، بقيَت المصالحةُ والسلامُ بعيدَي المنال.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ذكرَتْه س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي]، باريس، دونويل Denoël، 1963، ص 132-133.

[2] الأنَّـــة l’anna هي العملة الهندية التي تساوي جزءًا من ستة عشر جزءًا من الروبية roupie.

[3] ذكَرَه رومان رولاَّن Romain Rolland، Mahatma Gandhi [المهاتما غاندي]، باريس، [منشورات] ستوك Stock، 1924، ص 118-119.

[4] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma [المهاتما]، مجلَّد 2، سبقَ ذِكْرُه، ص 44-46.

[5] نُشِرَ هذا النصُّ بالفرنسية في Vers l'homme universel [نحو الإنسان العالمي]، باريس، غاليمار Gallimard، 1964، نقلَه عن الإنكليزية السيدةُ ك. جونستون، ص 238-256.

[6] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma [المهاتما]، مجلَّد 2، سبقَ ذِكْرُه، ص 61-65.

[7] Rabindranath Tagore et Romain Rolland, Lettres et autres écrits [رابيندرانات طاغور ورومان رولاَّن، رسائل ونصوص أخرى باريس، ألبان ميشيل، 1961، ص 64-65.

[8] غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـةسبقَ ذِكْرُه، ص 331-334.

[9] سبقَ ذِكْرُه، ص 340-345.

[10] سبقَ ذِكْرُه، ص 345.

[11] س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 151-152.

[12] اللاحقة "جي" "Ji" هي إحدى اللواحق الدارجة في الهند والتي تضاف إلى الأسماء للتعبير عن فكرة الاحترام.

[13] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجنيسبقَ ذِكْرُه، ص 95-96.

[14] المجلَّد 23، ص 118-119.

[15] س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 107-111.

[16] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma, [المهاتما،سبق ذكره، المجلَّد الثاني، ص 148.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود