دعوة لإنشاء مراكز لتوثيق

ظواهر الشفاء الإعجازي

 

جمال نصار حسين*

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

ممَّا لا شكَّ فيه أن الحضارة المعاصرة تعاني من أزمات فكرية وروحية شديدة وخانقة، مبعثُها انغماسُ الفرد في معيشة مادية بحتة تخلو من مقوِّمات الحياة السليمة وتفتقر إلى الكثير من القيم الأخلاقية والمعايير الإنسانية العادلة. ومما لا شكَّ فيه أيضًا أن هذا الانحدار على المستوى الدنيوي ما هو إلا نتيجة متوقَّعة للهوَّة السحيقة التي عمَّقها الإنسان بينه وبين نهج ديني سليم بمستطاعه أن يقوده نحو حياة روحية ومادية مثلى.

إلا أن هذا الاتجاه المادي الطاغي على دقائق العيش في مجتمعات الحضارة الغربية لم يَحُلْ دون ظهور كثير من الحركات التي تطالب بتحرير مجتمعاتها من الانقياد الأعمى للمنهج المادي وبتطهيرها من النتاجات الشاذة والسلبية لهذا المنهج الخاطئ. وأحد أهم ملامح هذه الحركات هو الاتجاه المتزايد نحو دراسة الظواهر التي توصف عادة بأنها روحية، والتي تقع خارج الإمكانيات التفسيرية والتعليلية للنظريات العلمية المادية.

وفي هذا الاتجاه تمَّ إنشاء الكثير من المؤسَّسات ومراكز الأبحاث التي تهتم بتوثيق ما يُسمَّى بـالظواهر الروحية بشكل عام. ولقد تمَّ الشروع بدراسة هذه الظواهر غير المألوفة انطلاقًا من نظرة تتجاوز النظرة المادية الضيقة القاصرة التي سحرتْ أعين المشتغلين بالعلم المادي إلى الحدِّ الذي جعل من هؤلاء يؤمنون بهذا العلم إيمانًا لا يُداخِله شك.

ولقد اتَّبعت هذه المؤسَّسات في دراستها لهذه الظواهر الخارقة منهجًا علميًّا تجريبيًّا صارمًا، لا يقلُّ في صرامته ودقَّته عن الدقة والصرامة المنهجية المتَّبعتين في دراسة الظواهر التقليدية التي يدرسها العلم التقليدي، حتى غدت دراسة هذه الظواهر اللانمطية atypical علمًا له أُسُسُه التجريبية والمنهجية الخاصة به.

إلا أن هذا يجب ألا يقودنا إلى نسيان حقيقة مفادها أن مباحث هذه العلوم التي تخصَّصت في دراسة ما يسمى بـالظواهر الروحية لم تَسْلَمْ تمامًا من الأخطاء المنهجية التي سبق وأن وقعت فيها فروع العلم التقليدي ومباحثه. إن مصدر معظم هذه العيوب، كما هي الحال في العلوم التقليدية، يكمن في الاستغلال الخاطئ والتطويع غير السليم للنتائج العملية للبحث العلمي التجريبي في بناء نظريات وأنساق تفسيرية للظواهر الملاحَظة. إن الخطأ المنهجي المتضمَّن في محاولة قَسْرِ النتائج التجريبية، وجعلها مؤيِّدة لنظريات تتجاوز حدود المعطيات التجريبية، هو خطأ كبير يجرِّد الباحث من نزاهته العلمية الموضوعية ويسلب البحثَ قيمته المعرفية.

ومن الظواهر التي نالت اهتمامًا استثنائيًّا هي تلك التي اصطُلِحَ على تسميتها بظواهر الشفاء غير الطبِّي non-medical healing. ويشمل هذا التصنيف ظواهر الشفاء، الكلِّي أو الجزئي، لحالات مرضية ميؤوس منها طبيًّا، إضافة إلى الحالات التي يحدث فيها شفاء، كلِّي أو جزئي، خلال مدة زمنية قصيرة، بما لا يستطيع الطب التقليدي تفسيرُه.

إن الاهتمام الاستثنائي بهذه الظواهر يعود إلى عاملين رئيسيين: أوَّلهما، هو مُعامل الغرابة العالي الذي تتمتَّع به هذه الظواهر فيما يخصُّ تجاوزها للحدود العلاجية والشفائية التي يعمل ضمن أُطُرها، من دون أن يقدر على تجاوزها، الطبُّ التقليدي؛ وثانيهما، هو كون هذه الظواهر في تماسٍ مباشر مع صحة الإنسان وحياته. وبالتالي، فإنها تشكِّل بوابة أمل للبشرية حين تواجه حدود الطبِّ التقليدي.

إن هذا العرض يقودنا، مرة أخرى، إلى تشخيص مشكلة طالما عانى منها البحث العلمي في المجتمع العربي، ألا وهي ترك علماء الغرب يتحكمون من بعيد بواسطة الـremote control بتلك البحوث والدراسات التي كان يجدر بعلماء مجتمعنا العربي أن يقوموا بقيادتها هم بأنفسهم قيادة مباشرة. ومجال دراسة ما يسمى بـالظواهر الروحية، بشكل عام، وظاهرة الشفاء الروحي، بشكل خاص، هو في مقدمة هذه المجالات وأهمُّها بكلِّ تأكيد.

لقد شهدت الأرض العربية، منذ آلاف السنين، تواتر ظهور الكثير جدًّا من ظواهر الشفاء غير الطبِّي، وذلك على يد من أرسلهم الله رحمةً للعباد، من رُسُل ونبيين، على تعاقب العصور. ولعلَّ أبرز هذه الظواهر ما حبا الله به سيدنا المسيح (ع) من مقدرةٍ، بإذنه، على علاج المستعصي من الأمراض وما ليس يُرتجى له شفاء. كما أن المعجزات التي ظهرتْ أنوارُها يوم ظهر نور الله سيدنا محمد (ص) لم تختفِ يومًا ولم تغادر أرضًا انتشر فيها نورُ الرسالة المحمدية الخالدة.

ونظرة إحصائية سريعة إلى ما قد سجَّله تاريخُنا العربي المؤمن – وما يسجِّله – من معجزات وخوارق مبعثها نور رسول الله (ص) تبيِّن بأن ظواهر الشفاء الإعجازي (تمييزًا لها عن ما يسمى بظواهر الشفاء الروحي في الغرب)، وغيرها من المعجزات والكَرامات التي ليس لها مثيل، تستدعي أن يقوم علماؤنا وباحثونا – هم لا غيرهم – بدراسة هذه الظواهر الخارقة، وذلك مادامت هذه الظواهر تتوفَّر بنسبة عالية في المجتمع العربي المؤمن. وهذا الأمر يتجاوز في أهميته المسؤولية العلمية البحتة، ليكون واجبًا مقدسًا، تتأتَّى حتميةُ تنفيذه من المسؤولية المُلقاة على عاتق كلِّ عربي مؤمن في العمل الجادِّ والدؤوب على التبشير بمعجزات رسول الله سيدنا محمد (ص). كما أن الاهتمام العلمي بظواهر الشفاء الإعجازي في المجتمع العربي هو واجب علمي على عاتق كلِّ عالِم، مهما كانت جنسيته، وذلك لأن بيئتنا العربية المؤمنة تزخر وتتميز بنسبة عالية جدًّا من هذه الظواهر، كما لا تتميَّز بها أية بيئة أخرى في العالم. وهذا الواجب واجب مضاعف على العالِم العربي المؤمن الذي يعيش في العالَم العربي والإسلامي الذي تشرَّفتْ أرضُه بأنها شهدت – وتشهد – معجزات رسول الله سيدنا محمد (ص) وامتداداتها من الكَرامات الباهرة. فعلى أرض العالَم العربي والإسلامي تنتشر رياض ومقامات النور المباركة لآل بيت النبوة من الأئمة الأطهار والصحابة الأبرار والمشايخ الكاملين الذين أجرى الله – سبحانه وتعالى – على أيديهم المباركة كَراماتٍ يعجز القلم واللسان عن وصفها ويسجد العقل صاغرًا أمام عظمتها.

إن المعجزات والكَرامات التي ظهرت في هذه الأرض المباركة ليس لها مثيل؛ وهي من الكثرة بحيث إن أمرها ليس بخافٍ على أحد، وليس هناك من هو ليس على دراية ببعض منها. وهكذا فإن الفرصة المتوفرة للعالِم العربي لتركيز الضوء، علميًّا، على ظواهر الشفاء الإعجازي تفوق ما هو متوفِّر لأقرانه في أماكن أخرى من العالم. وبالنتيجة، فإن الواجب الذي يقع على عاتقه في هذا المجال هو أكبر وأعظم.

وتكمن الخطوة الأولية والأساسية في مجال تركيز الأضواء علميًّا على معجزات الشفاء الإعجازي في القيام بتوثيق شمولي وكامل لكلِّ الحالات التي ينطبق عليها هذا الوصف. وتقع مسؤولية تنفيذ هذه المهمة على عاتق علماء من اختصاصات متعددة: فهي مسؤولية المؤرِّخ الذي يجب أن يقوم بما قام به المؤرِّخون العرب الأوائل الذين دوَّنوا معجزات رسول الله (ص) وكَرامات آل بيته الأطهار وصَحْبه الأبرار؛ وهي مسؤولية الطبيب الذي يجب أن يدرس حالات الشفاء الإعجازي دراسة تفصيلية ويسجِّل الوصف الطبي لكلِّ حالة وصفًا دقيقًا؛ وهنالك طبعًا مسؤولية رجل الدين في الاستشهاد بهذه الكَرامات عند الإرشاد. وبشكل عام، فإن العلماء، من مختلف الاختصاصات، تقع عليهم مهمات مختلفة في هذا المجال.

ومسألة توثيق ظواهر الشفاء الإعجازي ليست بالبساطة والسهولة التي قد تبدو عليها للوهلة الأولى، إذا كان الهدف تصنيفًا علميًّا دقيقًا، لا يقلُّ دقة عن السجلاَّت الطبية. وبالتأكيد فإن شرط الدقة هذه هو أمر لا يمكن التهاون فيه إطلاقًا. كما أن مهمَّة توثيق حالات الشفاء الإعجازي لا يمكن أن تكون عملية فردية يقوم بها شخص معيَّن بالذات، أو أفراد يعملون بشكل فردي هنا وهناك. فهذه المهمة الدقيقة تستوجب شروطُ تنفيذها تنفيذًا سليمًا أن تقوم بها جهةٌ رسمية مسؤولة ومتفرِّغة لهذه المهمة. كما أن القائمين على أمر هذه المؤسَّسة يجب أن يكونوا من أصحاب الدراية بالمناهج العلمية المتَّبعة والمقترَحة عالميًّا لتوثيق هذه الظواهر. ومما لا شكَّ فيه أن هذه المؤسَّسة المقترحة يجب أن تضمَّ نخبةً من العلماء في مجالات متعددة، واختصاصيين في فروع الطبِّ المختلفة، ممَّن ستقع على عاتقهم مسؤوليةُ تقديم تقويم طبِّي شامل للحالات المعروضة، وتحديد إذا كانت ممَّا يجب أن يصنَّف على أنه حالات شفاء إعجازي، ليصار، بالتالي، إلى توثيقُها توثيقًا تفصيليًّا.

إن المعلومات الواجب ملاحقتُها وأرشفتُها عند توثيق ظواهر الشفاء الإعجازي والخطوات المهمة التي يجب القيام بها لغرض توثيق علمي دقيق لهذه الحالات هي:

1.    تشخيص طبِّي لمرض الشخص أو عاهته قبل الشفاء، على أن يكون التشخيص مفصَّلاً ومُصاغًا بلغة علمية طبية دقيقة، ومن قِبَلِ جهة طبية رسمية أو طبيب مرخَّص. ومن المستحسن جمع آراء أكثر من طبيب إن أمكن.

2.    تدوين دقيق للتواريخ التالية:

أ‌.       ولادة الشخص؛

ب‌.  بداية ظهور الأعراض؛

ت‌.  المراحل الرئيسية لتطور الحالة المرضية؛

ث‌.  مراحل العلاج الطبِّي التقليدي الذي خضع له الشخص؛

ج‌.    بداية الشفاء الإعجازي ومراحله.

3.    الحالة الصحية العامة للشخص والعوامل التي يمكن أن تكون قد أثَّرتْ على الحالة المرضية، سواء سلبًا أم إيجابًا.

  1. تقارير وتحاليل مختبرية، وبالذات تحاليل لنماذج من الأنسجة الحية (خزعات biopsy)، إضافة إلى الأشعَّة السينية.
  2. تقويم من طبيب (إن أمكن فمِنَ الذين سبق لهم الإشراف على الحالة المرضية للشخص)، يصف فيه حالة الشفاء الإعجازي، سواء كان تدريجيًّا أم مفاجئًا.
  3. وصف لما كان يتلقَّاه المريض من علاج طبي تقليدي (إن وُجِدَ) في وقت حدوث الشفاء الخارق (إن كان تدريجيًّا).
  4. التوثيق التصويري (الفوتوغرافي والفيديوي) للموضع من الجسم الذي حدث فيه الشفاء الإعجازي إذا كان من الأعضاء الخارجية للجسم. ومن المهم جدًّا هنا الحصول على أية صور أو أفلام سابقة تبيِّن الجزء المصاب أو المريض قبل حدوث الشفاء الإعجازي.
  5. متابعة الشخص المُشافى شفاءً إعجازيًّا لمدة من الزمن، تعتمد على نوع الإصابة أو المرض، بغرض تثبيت الزوال النهائي للمرض وضمان عدم المعاودة.
  6. وصف للظروف وللكيفية التي حدث فيها الشفاء الإعجازي، سواء كان وصفًا للمكان المقدس، أو وصفًا للممارسة الدينية التي سبَّبت الشفاء، أو غير ذلك من التفاصيل ذات العلاقة. ومن المستحسن تدوين وصف أكبر عدد ممكن من شهود الحالة، ضمانًا لتسجيل أكبر قدر ممكن من التفاصيل.
  7. تسجيل الرأي الشخصي للمريض حول حالته المرضية وانطباعاته عن حالة الشفاء الإعجازي التي شهدها. ومن الأفضل ترك الحرية للشخص في ذكر ما يعتقده ذا صلة بموضوع شفائه.
  8. بخصوص حالات الشفاء الإعجازي التي كانت قد حدثت سابقًا (قبل إنشاء مركز التوثيق التوثيق      ) فبالإمكان القيام بتوثيقها وإدخالها أرشيف ما يستجد من حالات، على أن تكون الجهة الموثِّقة قادرة على الحصول على الوثائق التي تضمن توفير متطلبات الأرشفة السليمة المذكورة.
  9. محاولة التوثيق الفيديوي لشهادات المعنيين، بدءًا من الشخص نفسه ومرورًا بالأطباء وانتهاء بالشهود الآخرين.
  10. إدخال المعلومات التي تخصُّ كلَّ الحالات المدروسة في منظومة تحليل معلومات كومبيوترية، ليتسنَّى للباحثين استخراج البيانات الإحصائية حول حالات الشفاء الإعجازي.
  11. تقوم جهة التوثيق بإدامة الاتِّصال مع القائمين على أمور الأماكن المقدَّسة التي تتكرَّر فيها ظواهر الشفاء الإعجازي، كالمزارات والمقامات والزوايا والتكايا، بغرض الكشف العلمي على الحالات في أسرع وقت والقيام بعملية التوثيق اللازمة.
  12. القيام بحملة إعلامية للتعريف بالجهة المسؤولة عن هذا التوثيق وواجباتها وأهدافها، وتشجيع الأشخاص الذين يحصل لهم شفاء إعجازي، أو ذويهم، على الاتصال بالجهة الموثِّقة للكشف على الحالة وتوثيقها.

إن هذه بالتأكيد نظرة سريعة على نوعية المعلومات التي يجب أن تسعى جهة التوثيق إلى الحصول عليها وكيفية إتمام ذلك. كما أن وضع معايير التوثيق والتقويم هو أمر أعقد بكثير من هذه اللمحة المختصرة والمبسَّطة. وهذا الأمر هو من أهم واجبات الجهة التوثيقية. فمثلاً، من الأمور البديهية أن لكلِّ حالة ظروفها الخاصة التي تستوجب توثيقًا استثنائيًّا لجوانب معينة. وبالتالي، فإن المنهج الذي يوضع للتوثيق يجب أن يكون مرنًا مرونة كافية وديناميًّا، بما يضمن التعامل مع الحالة قيد التوثيق بشكلٍ استثنائي، حيثما كان ذلك ضروريًّا.

ومن الأمور التي سيكشفها إنشاء مراكز التوثيق المقترحة هذه هو أن حالات الشفاء الإعجازي هي أكثر بكثير مما يعتقد معظم الناس. كما أن الدراسات الدقيقة التي ستقدِّمها هذه المؤسَّسات التوثيقية ستسلِّط الأضواء تسليطًا مركَّزًا على تفاصيل هذه الظواهر.

*** *** ***


* د. جمال نصار حسين، ص ب 941342، الشميساني، عمان 11194، المملكة الأردنية الهاشمية. البريد الإلكتروني: r.hussein@index.com.jo.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود