لا تغفرْ لهم

 

عبد الوهاب الملوح*

 

لا تغفرْ لهم

هَكَذا تأتي إذًا

تَكْتَمِلُ الدَّهْشَةُ فِي خطْوَتِكَ الْمُسْتَعْجِلَة...

هَكَذَا تَبْدَأ فِي إيقَاعِها الصَّاعِدِ

أسْرَارُ الْقَصِيدَة.

 

تَزْعمُ الآنَ

وَطَيْرُ المَاءِ يَخْتَبِرُ الطَّقْسَ

يُضِيءُ الْوَقْتَ للآتِينَ

يَغْشَوْنَ سُهولَ الفِكْرَةِ

مشْغُولِينَ بالْخَوْفِ مِنَ الحُزْنِ

ونُقْصَانِ الْمَحَاصِيلِ الزِّرَاعِيَّةِ

مشْغُولِين بالصَّمتِ وأخْطَاءِ المُلُوكِ

بمسَرَّاتِ النِّساءِ وَنداءاتِ الذَّرَاري

ما الذي جَاءَ بهمْ مِن سدَفِ النِّسيان

أطْيَافَ غُبَارٍ؟

ما الذي جاء بهم عمْيانَ بلا أقْنِعَةٍ

مُطْفَأةٌ أصْوَاتُهُمْ؟

ما الَّذي جَاءَ بهم مِنْ قَاعِ وِدْيَانِ النِّهَايَاتِ؟

بماذا سَتُرَبِّي الْحُزْنَ فيهم لَعْنَةً

وَتُرَبِّي الوَهْمَ مَعْنًى

ورُؤى اللَّيْلِ حَمَامٌ نَادِرٌ تُغْويك، حينًا،

وتُخلِّيكَ وحِيدًا.

 

هذه جَمْرَةُ أشْجَانِكَ بَعْضٌ مِنْ هُمُومِ الْعُشْبِ في نَبْضِكَ،

بَعْضٌ منْ عَتِيقِ العِشْقِ فِي أرْضِكَ،

بَعضٌ منْ وَميضِ الْحُلْمِ يَجْتَاحُ صُدَاعَ الذَّاكِرةْ...

إِنَّهَا الآهَةُ للهِ تُضَوِّيكَ صُعُودًا في اتِّجَاهِ الاسمِ

تَخْضَرُّ نَشِيدًا في نَشِِيجِ الْعُشْبِ

أو توقِدُ عَيْنَيْكَ يَقينًا جارِحًا

في هَذَيَانِ المَطرِ الشَّاحِبِ.

 

مَا بَالُ الْحَصَى تَرْصُدُ أنْفَاسَكَ مَشْغُولاً؟

وَأوْجَاعُكَ لا تَهْفتُ في الرِّيحِ

وَلا تَرْقُدُ،

أوْ تَنْحَبُ،

أوْ تَهْرُبُ ذِكْرَى؟

 

تَزْعُمُ الآن،

وَموَّالُكَ يَنْسَابُ شَجِيًّا من حَوَالَيْكَ هُبُوبًا عاشقًا،

تَزْعُمُ أيْضًا أنَّكَ الآنَ كَثِيرٌ،

تُطْلِقُ الْفِكْرَةَ جَيْشًا

يَعْتِقُ الْوَرْدَةَ،

يَرْتادُ بَرَارِيَ اللُّغَةِ المَشْغُولَةِ الآنَ بِتَرْتِيبِ شُؤُونِ الْحُلْمِ في الْمَنْفَى...

حَبِيبَاتُك وَدَّعْنَك،

هَلْ كُنَّ حَبِيبَاتِكَ فِعْلاً؟

أمْ مناديلَ يُوَدِّعْنَكَ فَجْرًا عِنْدَ بَابِ الْبَحْرِ

بَيْنَ الْمُهْجَةِ الثَّكْلَى وَشَهْدِ الْقُبْلَةِ الْمُرِّ

يُودِّعْنَكَ

مَا خَبَّأْنَ مِنْ حَلْوَى صِبَاهُنَّ وَمَا عَتَّقْن منْ عِطْرِ

صَبَابَاتِ الْحَنِينِ الغامضةْ

تمنح للفَجْر نهارَ الحُلُمِ الأنْدَلُسيِّ

وَالْبَرَدُ النَّاعِسُ يُغْرِيك بما فِيك

ويُغْري بالجُنُونِ...

قُلْتَ لِي مَا لَمْ تَقُلْهُ

للْوُعُولِ الْهَارِبَةْ

منْ دَمِهَا الْمَسْفُوحِ

تَنْعَاهُ إلَيْكَ...

قُلْتَ لِي مَا لَمْ تَقُلْ قَطُّ

وَكَمْ حَدَّثْتَنِي لَيْلَتَذاك

عَنْ مَرْكَبَاتِ الضَّوْءِ

تَأْتِي بِجِيَادٍ من وَمِيضِ الْبَرْقِ

إذْ تُسْرِجُهَا الرِّيحُ هدايا لكَ...

كَمْ حَدَّثْتَني أيْضًا

عَنِ النَّجْمَةِ تَقْفُو ظِلَّكَ الْمَاسيَّ

وَتَسْقِيكَ حَلِيبَ الآلِهَة

حَدَّثْتَني عنْ عُشْبَةٍ زَرْقَاءَ

تغزو بِشذاها مُدُنًا يَسْكُنُهَا الجِّنُّ

ويَعْلُوها السَّديمُ...

قُلْتَ لي ليلتذاك ما لم تقُلْ،

قُلْتَ وغِبْتَ،

قُلْتَ أيْضًا:

"نادِني بِاسْمِ السَّما

نادِني بِاسْمِ التُّراب

نادِني جُرْحًا شَقِيًّا حَارِقًا مُحْتَرِقًا مُنْذُ القِدَمْ

نادِنِي عُشْبًا فَقَطْ

لسْتُ مَنِيًّا قَدْ تَنَاهَى في الْكِبَرْ..."

 

هَكَذَا تَمْضي ولا تَنْدَمُ

تَمْضي عَاليًا تَخْتارُ إيقَاعَ الأساطيرِ

وتختارُ ريَاحًا لِفُتُوحَاتِكَ

تخْتَارُ أبابِيلَ لأسْرارِكَ

لَنْ يَنْجُوَ مِنْ سِحْرِ رُؤَاكَ

أحدٌ

مُنْتَصِرًا

أوْ خَاسِرًا؟

لن ينجُوَ التاريخُ،

رَايَاتُكَ أسْرَابُ حَمَامٍ نادرٍ تَغْشَى الزَّمنْ...

هَكَذَا تَمْضِي إِذًا

رَايَاتُكَ الْقِمَّةُ يَا مُسْتَقْبَلَ الْفِينِيق

والرُّؤْيَا تُعَلِّيكَ نَشِيدًا

وَرَحِيلاً يَقْتَفي أزْمِنَةً خَضْرَاءَ

لا وَقْتَ لَدَيْكَ الآنَ كَيْ تُحْصِيَ خَسَارَاتِكَ

لا وَقتَ لَدَيْكَ الآنَ كَيْ تَذْهَبَ فِي التِّيهِ خُطَاكَ

وَعَلَيْكَ الآنَ

أنْ تُوقِدَ في الصَّمْتِ حَصَى اللَّوْعَةِ

أو تسْطوَ على الشَّمسِ

وَتُغري الثَّلْجَ بالإفلات ِمن ذاكِرَةِ الطَّقْسِ

عليكَ الآنَ أنْ تمتحِنَ المَوْتَ فقطْ

ثُمَّ تعيدَ البحرَ من غربتِه

والحلْمَ من أسْدافِ منفاه

بَيْن قرطاجَ وروما

تتمشَّى هادئًا تمنحُ غيمَ الفَجْرِ

شيئًا من حَديثِ النَّارِ في صمتِكَ

هيَّأتَ لهذا البَدْء

أفراسَ شتاءاتِ المَدَى الكُحْليِّ

هيَّأتَ عَذارى موسِمِ النَّوءِ

تراتيلَ المُصَلِّين

وأمجادَ القُدامى

قَسَمَ الأجدادِ

قاموسَ البَهَالِيلِ

وصَبْرَ الفِيَلة

حِكَمَ البَدْوِ

موَاويلَ المغنِّين

زغاريدَ الصَّبَايا

وحديثَ الطِّينِ...

هيَّأتَ تغريبةَ أشجانِك

هيَّأتَ سحابًا تمتطيه

وجرحْتَ الوَهْمَ

تجلُو في أقَاصِيهِ الحقيقَةْ...

 

هكذا جُزْتَ مناخاتِ الشَّمالِ الغامِضَة

تَكْتَمِلُ الدَّهْشَةُ فِي خُطْوَتِكَ

أوْ تُوشِكُ أنْ

تُوغِلَ فِي إِيقَاعِهَا الْمُوجِعِ

أشْيَاءُ الْقَصِيدة...

هكذا من سَجْدَةِ العِشْقِ فِيكَ تجيءُ الآن مطعونًا بأحلامك

لا تغفرْ لهم دَمْعَ الذَّرَاري

وجِراح الحُلمِ

يا موَّالَ عِشْقِ الزَّمَنِ الْبَاكِي

ودمعَ الخَنْجَر العَاري

نهاراتُك عند التَّلِّ ثلجٌ طاعِن

يَحْرُسُ أحْزَانَكَ فِي عُرْيِ شِتَاءَاتِكَ

قرطاجُ بكاءٌ صاعدٌ

قرطاجُ أقدارُك

لم تنسَ مواعيدَكَ ظهرًا

مع زُوَّارٍ يجيئونَكَ سرًّا

هكذا تتركُ عينيكَ هنا مفتوحتين

ثمَّ تمضي في اسْتِعاراتِكَ

تستجدي من الدَّهْشَةِ صوتًا لخُطَاكَ العالية

هكذا مثل وحيد القرن قد أنهكه الفقدان

لا بحرَ ولا برَّ ولا أرضَ ولا أحلامَ تؤويه

عليه الآن أن ينأى بعيدًا داخل الرُّوح

ويجترَّ حشيشَ العمر من لُحْمَته

أمِنْ بقاياه

 

هكذا تأتي

حبيباتُك خلَّفْنكَ في وحدتك الموحشة

تقترضُ العُمرَ من التَّرحال

لا بأس! فكم من هِجْرَةٍ أخرى

عليك الآن أن تبدأها مختصِرًا كلَّ المسافات البعيدة؟

هكذا تأتي وحيدًا

واضحًا مثل نبيٍّ

تأتي جميلاً وحزينًا

أيُّ مجدٍ قدْ يُسلِّيك؟

ولا تاج يغويكَ يا سيِّد أقْداركَ

يا عاشقَ ناياتِ المسا

لست عوليس الَّذي ضيَّعه الوهمُ شتاتًا

لست دون كيخوتي إذ يقفو الصَّدى

أو يتصدَّى لطواحين الهواءِ...

هذه أرضُك ملحٌ

أيُّها الملعون

لا تغفرْ لهم مادمتَ جرحًا نازفَ الطين

لا تغفرْ لهم حزنَ الأرضِ

لا تغفرْ لهم ما فعلوه

لا تغفرْ لهم طعمَ النَّدم

أيُّها الملعون

من منفًى إلى منفًى تُعِدُّ النَّجْمَ جُنْدًا

وتُعِدُّ الليلَ ساحاتِ قتال

لكأنَّ الجُّرح في عينيكَ رُمحٌ...

لم تكن تبحثُ عن حريَّة حافيَةٍ

أو وطنٍ من خزفْ

عائدًا توًّا إلى الفكرةِ منذورًا

بما يرشح في عَرَقِك من رائحة النَّوءِ

لهذي الريح أن تتَّكئ الآن

على قامتكَ العاليةِ الظلِّ تسلِّيها قليلاً...

شجرٌ يلهو قريبًا منك

ما أبعدها قرطاجُ، ما أبعدها!

مرَّة أخرى

تُعِدُّ الجرح للرَّتْقِ وتغدو حاديًا للنور

تمضي لاصطياد البرق

تفلِّي النَّوء

والموجُ حريقُ ظامئ بين يديك

مرَّة أخرى

تُخلِّي القلبَ للعشقِ

وتُعِدُّ الشَّجنَ الباقي

لتفَّاح الحقولِ القاحلة...

لم تكنْ في حاجةٍ للثأر

لكنَّ صباحًا يَعْرِكُ الليلَ يناديكَ

وقرطاجُ مساءٌ ساحليٌّ يأوي إليه الحَجَلُ البرِّي

وقرطاجُ سلامُ الله للأرض.

***

 

تدريباتٌ مختلفةٌ في شأنٍ واحد

مشهد أول

لا ورد فوق الطاولة

لا أكل أيضًا

سلَّة القبلات ملأى بالسبابة

شمعدان الفضة الصيني

هشيم صدى الحاكي

صبابات النبيذ

و

لا طلاء يُنسي رائحة المكان

و

لا نجوم تجيء عبر النافذة

القلب منذ البارحة

قد كفَّ عن عزف الأنين

وكفَّ عن رَتْقِ الحياة البائسة.

 

مشهد ثانٍ

الورد فوق الطاولة

الأكل أيضًا

سلَّة القبلات تسكب شهدها

عسلاً رحيقًا

شمعدان الأمسيات الحالمة

يرعى مواسمه الخصيبة

بينما الحاكي يعطِّر بالصِّبا

وهج اللِّقا

وغبطة الأشواق

يعتِّقها النبيذ

تفرُّ عبر النافذة

فرحًا طليقًا

دُرْ بالوجْد الكلام

يضيء رائحةَ المكان

والقلب منذ البارحة

قد كفَّ عن عزف الأنين

وعاد من وجع الحياة البائسة.

 

مشهد ثالث

لا ورد فوق الطاولة. لا أكل أيضًا، لا غناء، ولا شمعدان.

طفا الكلامُ يضيءُ رائحة المكان... هي النجوم تطلُّ عبر النافذة

النافذة............

والقلب

مغتبطًا تمزَّق... يولد العشاق منذ البارحة.

 

مشهد رابع

القلب منذ البارحة

والشمعدان الفارسي

وسلَّة الورد المسائي المضرَّج بالحنين

وبُحَّة الحاكي

وأكواب النبيذ

وكل ما في الدار

ينعس في انتظار البارحة.

 

مشهد خامس

الورد فوق الطاولة

الأكل أيضًا

سلَّة القبلات ملأى بالفواكه

وغبطة الحاكي تعربد بين أكواب النبيذ الفارغة

والقلب كفَّ عن الأنين

معلَّقًا بين الصدى والبارحة.

 

مشهد سادس

لا شيء إطلاقًا

غير أن المشهد الخلفي يرتكب القصيدة.

*** *** ***


 

horizontal rule

* شاعر من تونس.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود