مَـدخَـلٌ إلى الحِـوَار

ندره اليازجي

 

يهدف هذا البحث، الذي يتمثل في مقولة حضارية تنضوي تحت عنوان "الحوار"، إلى تأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة تصلح لإجراء حوار بين أبناء وبنات الإنسان، متجاوزةً الأُطُر المحدودة والمناهج أحادية البُعد التي أشرطت العقل والنفس، فحالت دون تطويرهما والسموِّ بهما إلى مستويات مثالية، وأدَّتْ إلى عدم تحقيق المغزى المضمون في الوجود وإلى إسقاط المعنى والقيمة الكامنين في الحياة.

وفي هذا المنظور، سعيت إلى تقريب وجهات النظر العديدة، وإلى معرفة الطريق المؤدية إلى التفاهم والتلاقي والاعتراف بالتنوع المتأصل في جوهر المبادئ الإنسانية والمبادئ الطبيعية والمبادئ الكونية التي أبدعَها الوعيُ الكوني Cosmic Consciousness، من أجل تحقيق تأليف بينها، يشير إلى تكامُلها وتآلُفها وتألقها في حقيقة سامية.

لما كان الحوار يتألق في تكامُل المواقف الفكرية التي تشير، بدورها، إلى تنوع المبادئ وتَوافُقها في انسجام وحدة تأليفية Synthesis تجد أصولها في عمق الوعي والحكمة والمحبة، فقد عمدت إلى الإفصاح، عِبْرَ إجابات ثلاث عن أسئلة ثلاثة طرحها عليَّ صديقي الذي كان، ومازال، يعتقد أنني أعاين في عمق كياني وأحيا الوحدةَ الضمنية التي تجمع الإنسانيةَ كلَّها في حقيقة واحدة، متنوعة في مستويات تعبيرها ومتكاملة في جوهر رموزها وتمثُّلاتها.

***

في سؤاله الأول، شاء صديقي أن أحدِّثه عن حكمة الحوار التي أبدعت منِّي كائنًا يتمثل الوحدةَ الإنسانية في تنوعاتها. سأل صديقي:

-       "كيف استطعتَ أن تتمثل حوار الحضارات والثقافات والأديان وأن تؤلِّف بينها في تكامُل توحيدي يبدع منك إنسانًا منسجمًا في كيانك، متفهمًا للتنوعات الحضارية والثقافية والدينية، ومحبًّا للإنسانية جمعاء؟"

-       تتمثل إجابتي عن هذا السؤال في اقتباس مقاطع من مقالتي تنوع الثقافات ووحدة العقل الإنساني[*]، تشير جميعًا إلى الوحدة التأليفية التي أبدعتْ مني إنسانًا يوحِّد الإنسانيةَ كلَّها في كياني:

"عندما دخلت إلى أعماق كياني، باحثًا عن حقيقة مبدئي وأصالة رأيي ومعتقدي، وجدت تنوعًا من الآراء والعقائد ووجهات النظر ووحدةً إنسانيةً شاملة. عندئذٍ، أدركت أن عقلي تأليف لثقافات عديدة ومتنوعة.

"في كياني تلتقي ثقافات العالم وحضاراته وأديانه لتشكل مركزًا تتكامل فيه الوقائعُ الظاهرية العديدة، المتضمنة في هذه التنوعات التأليفية والمتآلفة في جوهرها، والحقيقةَ الواحدةَ التي أعاينها كلما توغلت إلى أعماق الحكمة السرَّانية التي تتوطد عليها القاعدةُ الأساسية للوجود الإنساني، وهي الوحدة الماثلة في التنوع: أي تنوع التعبير ووحدة المضمون والغاية.

"أدركت، وأنا أبلغ هذا المستوى الرفيع من الاطلاع والدراسة والبحث والتأليف، أنني أمثل ثقافة عالمية، متنوعة في ظاهرها ومتكاملة في باطنها، تتألق في وسطها ثقافتي العربية الخاصة. أدركت أن الثقافات والحضارات والأديان تحيا معي وتستغرق كياني. علمت أن الحكماء، من شتى أصقاع العالم، يكوِّنون وجودي على نحو إشعاع تعاليمهم في داخلي: فإذا ما تحدث أحدهم في داخلي، أتحدث معه ويتحد كياني مع كيانه. وكثيرًا ما تساءلت: مَن يتحدث في كياني؟ أهو أنا أم هو غيري؟ وهل أنا واحد أم كثير؟ هل أنا منقسم في كياني أم متَّحد فيه؟ وهل أتناقض مع مَن ألَّفتُ بينهم في كياني أم أنسجم معهم وأتناغم مع آرائهم ومذاهبهم ومواقفهم؟

"علمت أنني أمثل ثقافة عالمية متنوعة، تحيا في داخلي وتُمِدني بقوة الحياة وتكامُل الشخصية. علمت أن وجودي لا يتميز بالقيمة والمعنى إنْ كان كياني يخلو من تلاقي الثقافات العالمية في تأليف حقيقتي، وأن معرفتي ومبادئي لا تتشكل من دونها.

"أدركت أن اندحار وحدة العقل والروح ينجم عن عدم القدرة على التوفيق بين التنوعات الثقافية والروحية؛ الأمر الذي يؤدي إلى الصراع، الذي يقود، بدوره، إلى التناحر الحضاري والاحتضار الفكري وموت الروح.

"وإذ أتأمل ماضي البشرية وحاضرَها، أعاين ثقافاتٍ وحضاراتٍ ودياناتٍ تُعَد روافدَ تصب في نهر الإنسانية الكبير الذي مثَّل مسار الروح في التاريخ. والحق هو أن الأمم – قديمها وحديثها – زوَّدت، ومازالت تزوِّد، هذا النهر الروحي للإنسانية بما قدمتْه، وتقدِّمه، من ثقافة وحضارة ودين ومعرفة وعلم وحكمة.

"أستطيع، وقد بلغت هذا النطاق من البحث، أن أشبِّه الحقيقة الواحدة والتنوع الثقافي والحضاري والروحي بالضوء الذي يتشتت إلى قوس قزح. والحق هو أن ألوان قوس قزح تمثل الضوء الواحد الذي تبدَّد أو تذرَّى إلى تنوعاته. وإذا ما استطعت أن أعيد هذه الألوان إلى وحدتها الأصلية من خلال الموشور، الذي تشتتَ الضوءُ عِبْرَه إلى تنوعاته، فإنني أجد أنها تعود إلى ما كانت عليه من اتحاد: إنها تعود إلى الضوء الذي يجمع ألوانَه في وحدة لا تنفصم.

"أستطيع أيضًا أن أشبِّه الحقيقة الواحدة والتنوع المتعدد بالمحيط الواحد الذي تتبخر مياهُه لتسقط أمطارًا تشكِّل الأنهار العديدة المتنوعة، الصغيرة منها والكبيرة. وعندما تتشكل الأنهار، تحمل أسماءً، وتُعرَف بأحجام مقاديرها وحدودها. ولسوف تفقد أسماءها ومقاديرها وحدودها في اللحظة التي تصب في المحيط. إنها انطلقت من المحيط الواحد وشكَّلت وجودًا خاصًّا بها، وحملت تراثها، ثم عادت إلى المحيط – المحيط الواحد والأنهار العديدة المتنوعة.

"رأيت ببصيرتي ما تشتمل عليه حديقةُ كياني من ورود وأزهار لا تصير إلى وحدة، ولا تتكامل في انسجام، ما لم أكن قادرًا على إقامة تأليف بينها، بحيث تتناغم في نطاق روعة التنوعات التي تنضوي تحت كنف الجمال الواحد وبهاء اللقاء. والحق أن الحديقة التي تزدهي بجمال التنوع أبهى وأكثر تألقًا من الحديقة التي تقتصر على جمال نوع واحد من الورود أو الرياحين.

"في سبيل توضيح وجهة النظر هذه، أود أن أشير إلى رمزين أدخلتْني إلى سرَّانيَّتهما حكمةُ الشرق: فقد تحدثت حكمةُ الوجود البدئي عن "برج بابل"، أي باب إيل، وعن "رقصة شيفا". وإذ أتعمق في فهم المضمون المتأصل في هذين الرمزين، أبلغ النتيجة التالية: الكثرة المتعددة والمتنوعة في الوحدة، والوحدة من خلال الكثرة المتنوعة؛ الكثير المتآلف في الواحد، والواحد المنبث في الكثير. لذا، لم تُشِرْ رمزيةُ برج بابل إلى التشتت والضياع والتمزق، كما ألمعتْ بعض الاتجاهات الفكرية واللاهوتية المغرضة التي اعتمدت عقيدة التجزئة والتقسيم وتفضيل أناس على أناس.

"برج بابل" لپيتر بروغل (1553)

"على غير ذلك، تشير سرَّانية برج بابل، أو باب إيل، إلى الوحدة التي تصدر عنها أنواعُ الموجودات ومختلف اللغات والأشكال والمفاهيم والعلوم. وهذا لأن "البرج" أو "الباب" يمثل الوحدة التي تلحم جميع الأنواع والصور التي تنبثق منها. ففي باطن كلِّ تنوع تكمن الوحدة، وفي باطن التعددية تكمن الوحدة.

"هكذا، تشير سرَّانية برج بابل إلى الوحدة المتكثِّرة، أي إلى الكثير المتنوع الذي يستدعي إعادة تأليفه في وحدة تأليفية متكاملة. وإن ما أراه في سرَّانية برج بابل أراه أيضًا في سرَّانية رقص شيفا: الكائن الواحد الذي يرقص؛ وعن رقصه يصدر تنوعُ الموجودات والأشياء: تدور معه وتهتز في حلبة الوحدة، وتلعب معه لعب الوجود. هي التعددية والكثرة الظاهرية في الوحدة الباطنية الجامعة.

شيفا ناتاراجا ("ملك الراقصين")، تمثال من تاميل نادو، الهند

"يشير المغزى المتضمن في المثالين المذكورين إلى ما يلي:

1.     يشير واقع وجودنا، على مستوى كوكب الأرض، إلى التنوع الظاهري والوحدة الجوهرية.

2.     يشير واقع الحضارات والثقافات والعقائد إلى تنوع ظاهري وحقيقة واحدة.

3.     يشير التنوع إلى الحكمة التي تؤكد بأنه قانون أو مبدأ إنساني–اجتماعي، وقانون أو مبدأ طبيعي، وقانون أو مبدأ كوني.

"وهكذا، نجد التنوع على المستوى الإنساني والطبيعي والكوني. إنه الوعي الكوني، أو الحقيقة السامية Ultimate Reality الواحدة الفاعلة في الكل."

***

في سؤاله الثاني، أراد صديقي أن يعرف كيف أقدِّم لبحث أُعِدَّ ليكون حوارًا يهدف إلى تلاقي التنوعات العديدة وتكامُلها. سأل صديقي:

-       "ماذا يمكن لك أن تقول لصديق يطلب منك أن تقدِّم لبحث أو لأطروحة أعدَّها لتكون حوارًا يهدف إلى تلاقي التنوعات العقائدية المختلفة والمتنوعة؟" أجبت صديقي:

-       أتصور بأن استجابتي لهذا الطلب تتمثل في رسالة شكر على ما أكرمني به وامتنان وتقدير لمحاولته الرائعة، الشُّجاعة والرائدة. وأعتقد أنني سأضيف إلى رسالتي بعض الآراء التي يُحتمَل أن تساعد في توضيح بعض الأفكار الواردة في بحثه، لتكون متوافقة على نحو انسجام مع الطريقة التي اعتمدَها كمنظور في الحوار والتلاقي.

صديقي،

شعرت بغبطة تغمر كياني وأنت تؤكد سموَّ محبتك التي عبَّرتْ عن إرادة حرة دعتك إلى مشاركتي في وضع مقدمة لبحثك. ولما كانت محبتك قد منحتني الثقة في التعبير، فإني سأسعى إلى توضيح مبسَّط لبعض الملاحظات العابرة. ومن جانبي، أتمنى أن تتوافق وجهتا نظرنا ونحن نسير على طريق المحبة والوعي والحكمة والإيمان الحقيقي الذي يؤدي إلى لقاء الإنسان مع الإنسان، وتحقيق الذات في الآخر، ليكون كلُّ إنسان انعكاسًا حقيقيًّا لكلِّ إنسان.

لما كان الإنسان هو المحور الرئيس الذي يدور حوله مبدئي، والمثال الأسمى الذي أسعى إلى تمثُّله وتحقيقه، والغاية المثلى التي تدعوني إلى الدفاع عنها، فإنني أسمح لنفسي – وأنا أحترم محبتك التي أكرمتْني – أن أتحدث عن أمور هي على غاية من البساطة ورائدة في الإخلاص.

ترى حكمةٌ قديمة أن الإنسان العادي يختلف اختلافًا جذريًّا عن الإنسان العاقل والإنسان الحكيم في عملية البحث عن الحقيقة. وفي هذا الصدد، تعلن تلك الحكمة ما يلي:

1.     الإنسان العادي يتحدث عن الأشخاص.

2.     الإنسان العاقل يحلِّل الأحداث ليعرف الأسباب.

3.     الإنسان الحكيم يبحث في المبادئ الإنسانية والطبيعية والكونية، ساعيًّا إلى تمثُّلها وتحقيقها وتأليفها في كيانه.

تشير النقطة الثالثة إلى أن الإنسان الحكيم يبحث في المبادئ العقلية والروحية، ساعيًا إلى تأسيس قاعدة إنسانية مشتركة لجميع الناس. ففي معرفة المبادئ تكمن المعرفة المباشرة التي تؤكد وجود الحقيقة السامية الواحدة والوعي الكوني الواحد والخير الأسمى. والحق أن الإيمان الناتج عن معرفة المبادئ الكامنة في الحقيقة سبيل إلى اليقين الذي يؤكد وجود الحقيقة السامية التي تشمل في محبتها جميع الناس.

وتشير النقطة الثانية إلى الجهد الذي يبذله العلماء والفلاسفة العارفون، الذين يدرسون قوانين الطبيعة والحياة والإنسان، ويسعون إلى معرفة القوانين الكونية وتحليل الأسباب الداعية إلى وجودها. وفي معرفتهم، يرتقي العقلُ مستوياتِ سلسلة الوجود الكبرى في إحكام منطقي، ويستدل إلى وجود الحقيقة الواحدة، فيؤمن بها، ويتصور وجود القانون الأعظم الواحد الذي يشمل جميع القوانين الفاعلة في الكون.

وتشير النقطة الأولى إلى الإنسان الذي "يشخِّص" الحقائق والوقائع: فإنْ هو درس تاريخ أمَّة أو مجتمع أو جماعة، شخَّصه في فرد معين؛ وإنْ هو حاول فهمَ عقيدة أو وجهة نظر معينة، جعلهما إسقاطين لشخص معيَّن يلحق تفسيرًا معينًا وحرفيًّا له؛ وإنْ هو شاء التوكيد على ذاته، أخضعَها أو ألحقَها بعلاقة زائفة مع شخص بعينه. وفي هذا السياق، يُحتمَل أن يُسقِط صفاتِه الخاصة على الحقيقة السامية ليجعل منها "شخصًا" قريبًا منه، محبًّا له وحده، وراعيًا لأموره الخاصة.

صديقي،

تمنيت لو أنك بدأت حوارك بالنقطة الثالثة، وتجاوزتَ النقطة الأولى. فلما كان الشخص الذي جعلتَه نقطة البدء في الحوار والمؤهَّل لتحقيق التلاقي لا يبحث في المبادئ بقدر ما يعرض وجهةَ نظره الخاصة التي يُحتمَل أن تكون متحيزة، فلا بدَّ أن يبقى الحوار محتجَزًا ضمن نطاق الشخص القائل والشخص المجيب. وعندئذٍ، لا يكتمل الحوار ولا يتحقق في نطاق المبدأ أو المبادئ. بالإضافة إلى ذلك، يظل الحوار عالقًا في شباك السلب المتحول من النقيض إلى النقيض؛ الأمر الذي يعني أنه لن يبلغ مستوى الإيجاب.

والحق هو أن الوصية التي تنهى الإنسان عن الكذب، على سبيل المثال، يُحتمَل ألا تجعل منه إنسانًا صادقًا؛ أما الوصية التي تأمره بالصدق – لسبب أصيل هو أنه في الأصل كائن صادق – فيُحتمَل أن تجعل منه كائنًا صادقًا. وبالمثل، لا نستطيع أن ننتقل إلى إيجابية الحوار ونحن نورد قولَ إنسان عاديٍّ وردَّ إنسان عادي عليه.

صديقي،

أرجو أن تسمح لي بإيراد بعض النقاط المتصلة بالحوار الذي يؤدي إلى التلاقي ضمن نطاق الاعتراف بالآخر:

1.     المحبة هي السبيل الحقيقي إلى الحوار والأسلوب الذي يشير إلى التسامح، الذي يشير، بدوره، إلى الإصغاء التام لما يقدِّمه الآخر، ومن ثَمَّ الفهم الكامل له: في المحبة أفهم ما يقوله غيري وما يفكر فيه فهمًا يجعلني ألتقي معه في نطاق الوعي.

2.     العقل المنفتح والقلب المنفتح يعتمدان الحوار غير المتحيز، ويتجاوزان إشراطاتِ العقل المكوَّن، المحتجَز في قوقعة الأنا المغلقة، وانفعالاتِ القلب المغلق، الذي تغلَّف بنسيج الحبِّ الانفعالي، الملحَق بعنصرية الأنا التجمُّعية وتصلُّبها.

3.     العقل المكوِّن يعدِّل أو يتجاوز حدود العقل المكوَّن، المشروط بموروثات الماضي المتحجرة أو بالقيود التي فرضتْها، أو تفرضها، التفاسيرُ الحرفية والاجتهادات العمودية الراسخة في زمانها ومكانها والرافضة للتعديل أو التطوير. والحق أن العقل المكوِّن يعيد النظر في أكثر الثوابت الفكرية والعقائدية التي تبنَّاها العقل المكوَّن وصار منفعلاً بها وقابلاً للحكم الجائر على كلِّ مبدأ يتبنَّاه العقل المكوِّن.

4.     تجاوُز حرفية التفسير، أي آلية الحرف، إلى عقلانية التأويل وروحانيته، أي ديناميَّة الروح التي تتأمل الرمز وتستغرق في سرَّانية المعنى أو المضمون. والحق هو أن آلية التفاسير الحرفية هي التي أفقدتْنا ملكوت السماء في ملكوت الأرض، حيث سادت الحروب والصراعات والكراهية باسم الحقيقة السامية المطلقة.

5.     الاعتراف بأن جميع الحضارات والثقافات والأديان روافد تصب في نهر الإنسانية الكبير والواسع الذي هو كتاب الأبدية وسجلُّ تاريخ الروح على الأرض. في هذا المنظور، يتنازل العقل المكوَّن عن اعتقاده الراسخ.

6.     استبعاد "أبناء الحرف" عن الحوار، أي استبعاد جميع الذين يزعمون أنهم القائمون على التفسير والجدل والحوار، وأنهم المرجع الوحيد للعلم والمعرفة والاجتهاد، والسعي إلى تحقيق حوار يقوم على عقلانية–روحانية يتميَّز بها العرفانيون الذين ينتمون إلى جميع الفئات المستنيرة من الحضارات والثقافات كافة.

7.     الإرشاد الحكيم الذي يشير إلى استبعاد توطيد "القطب الواحد" في نطاق معرفة الحقيقة المطلقة أو امتلاكها واحتكارها. فكما أننا نستبعد، وعلى نحو ما نرفض، وجود قطب واحد يتحكم في السياسة العالمية وفي مصير العالم، كذلك نستبعد وجود قطب واحد في النطاق "الروحي" يدَّعي أنه يمتلك معرفة الحقيقة المطلقة ويختص بها، وذلك لكي لا يتحكم هذا القطب بمصير المعرفة التي لا تُحَد بأيِّ شكل من الأشكال أو بأية عقيدة من العقائد. ففي هذا المنظور، لا تتجزأ الحقيقة السامية المطلقة أو تنقسم إلى نطاقات متصارعة، يعتقد أنصار كلٍّ منها أنهم وحدهم الموكَّلون أو المفوَّضون لاحتكارها أو فَرْضِها على الآخرين.

8.     كما أن الناس يختلفون فيما بينهم في صدد القضايا الروحية، كذلك يختلفون أيضًا في القضايا الأخرى، اقتصاديةً كانت أم اجتماعية أم سياسية أم علمية أم فكرية إلخ. فما من قضية إلا ويدور الخلاف أو الاختلاف حولها. والحق أن هذا الخلاف أو الاختلاف يُعَد أمرًا طبيعيًّا بسبب وجود التنوع. على هذا الأساس، يتغاضى الحكماء عن الخلافات التي تدور حول القضايا الخاصة بالآخرة وبالألوهة، ويصبون اهتمامهم على القضايا الإنسانية التي، وقد بلغت ذروة التفاهم بين الفئات المختلفة، تصبح الغايةَ المثلى التي وضعتْها الحقيقة السامية المطلقة. بذا، يتنازل الحكماء، الذين يوجهون أنصارهم ويرشدونهم، عن قضية الوجود قبل الموت وبعده لتصير قضيةً تخص نطاق الحقيقة السامية وحدها.

وهكذا، أسمح لنفسي أن أتصور ما يُحتمَل أن تعلنه الحقيقة السامية للناس، فأقول: "يا أبناء الأرض، لا تتناحروا من أجل قضايا الدنيا والآخرة، لأنني أطلب منكم، منذ الأزل وإلى الأبد، أن تنبذوا خلافاتِكم التي جعلتموها مستعصيةً على الحلِّ، رافضةً للتعديل، فتحبوا بعضكم بعضًا، وتتعارفوا في وعي، لكي تستعيدوا الفردوس الذي فقدتموه قبل تفرُّقكم وإساءة فهمكم لبرج بابل وقبل وجود الانقسامات المذهبية، وتستعيضوا عنه بفردوس أرضي. تلك هي إرادتي: أن تكونوا مسؤولين تجاه بعضكم بعضًا، دون أن تقحموني في صراعاتكم ونزاعاتكم."

9.     تجاوُز القصص والروايات المبلَّغة إلى الجوهر – وهذا لأن القصص زمانية–مكانية في أساسها وشخصية في نطاقها الخاص. أما الجوهر، فإنه يمت إلى الوجود الدائم، الحاضر في كلِّ لحظة من لحظات الوجود. والحق أن القصص والأخبار المروية تشكل السبب الرئيسي في إحداث التناقضات وابتداع النتائج السلبية واختلاقها.

فعلى سبيل المثال، لا يليق بالإنسان الحكيم أن يهتم بالمكان الذي ولد فيه أحدُ الأسلاف القدامى أو يعتمد عمودية زمانه الراسخة التي لا تقبل التطور إلى الأمام، بل يجب عليه أن يهتم بدراسة علم ذاك السلف أو معرفته وحكمته ويُعرِض عن تقمُّص شخصه؛ وهكذا، يهتم الإنسان الحكيم بالحكمة التي أعلنها السلف وليس بقصص رُوِيَتْ عنه، وبالتالي، يركز على الحكمة الكامنة في "الكتاب" ويغفل الأمور والقضايا الأخرى، التشريعية منها والطقسية والقصصية والإخبارية التي تؤدي إلى الخلافات النزاعية.

***

في سؤاله الثالث، أراد صديقي أن يعرف السبب الكافي الذي دعاني إلى إحلال كلمة "مبدأ" محل كلمة "عقيدة". سأل صديقي:

-       "أرى أنك، في إجابتك، تتجاوز كلمة "العقيدة" إلى كلمة "المبدأ" أو "الحكمة". وبالمثل، أفهم أنك تُحِلُّ الحوارَ بين الثقافات والحضارات ومبادئ الحكمة والعرفان محلَّ الحوار بين العقائد. أرجو أن توضح لي السببَ الداعي إلى إعلاء "المبدأ" وتفضيله على العقيدة والغايةَ التي ترمي إلى تحقيقها من يقينك بأهمية حوار المبادئ." أجبت صديقي:

-       أشرت في مضامين إجابتي إلى اعتبار الحضارات والثقافات والمبادئ سبيلاً أو طريقًا إلى الحوار، لسبب أصيل هو أنني أحدثت تكاملاً وتأليفًا بينها في كياني، وألمحت إلى أن العقائد، وقد تصلَّبتْ في مواقفها العمودية التي ترفض التطور أو التعديل على نحو أفقي، لم تعد صالحة، على نحو كافٍ ووافٍ، لإقامة الحوار والتلاقي. والحق أن العقائد تأبى أن تعترف بما جاء قبلها أو بما جاء بعدها، وترفض قبول كلِّ حكمة أو معرفة أو عقيدة غير عقيدتها، وتشدِّد، في تعصُّبها، على ثبات موقفها العقائدي.

في هذا السياق، الذي يشير إلى ثبات العقيدة في صلابتها وتعصُّبها، وإلى رفضها لكلِّ مبدأ وعقيدة أخرى، تتجزأ الشخصيةُ الحضارية والثقافية التي جمعت التراث الفكري والروحي في تنوعات تتكامل في وفاق المبادئ الطبيعية والإنسانية والكونية. وفي ثباتها وصلابتها ورفضها، تنقسم الشخصيةُ الحضارية الإنسانية انقسامًا فصاميًّا يؤدي إلى صراع يسود فيه الظلامُ الفكري والروحي، وتسيطر الكراهيةُ وتندلع الحروب، وتتمزق الهويةُ الإنسانيةُ المتكاملة في تنوعات الحضارات والثقافات.

وعلى غير ذلك، يحافظ الحوار، القائم على تنوع الحضارات والثقافات والفلسفات والفنون والعلوم، على وحدة العقل والشخصية، ويتجاوز الصلابة العقائدية التي لا تسمح بالانفتاح على الآخر والاعتراف به وقبول وجهة نظره. وفي حفاظه وتجاوُزه، يحمي الحوارُ "الخيط الذهبي" الذي يجمع تنوع الظاهرات الحضارية والثقافية، ويبقي عليه ويدافع عنه، على نحو يجعلها تتماسك وتتكامل في تنوع ألوانها وتعدد أشكالها وتعبيراتها عِبْرَ هذا الخيط. والحق أن تحقيق تفاهم بين التنوعات وإحداث تكامل بينها واعتراف بها وقبول لها على المستوى الحضاري والثقافي يشير إلى تقدم متطور، يدل، بدوره، على انفتاح العقل وفعاليته الناشطة باتجاه رفع مستوى الحوار العقائدي وتعديل صلابة العقيدة والمعتقد، ويهدف إلى تلطيف آثارها النزاعية والصِّدامية.

في هذا المنظور، تسعى المجتمعات البشرية إلى تحقيق شخصيتها الإنسانية والحضارية الشاملة، الممتدة عبر التاريخ الثقافي الكلِّي، دون إحداث شرخ في كيانها؛ الأمر الذي يشير إلى الاعتراف بأن الحضارات تلتقي في نطاق الوعي الإنساني المنفتح والمتطور إلى مستوى حضاري وثقافي أمثل.

أخيرًا، أسمح لنفسي أن أقول: إن الحضارات والثقافات تأبى أن يلغي بعضها بعضًا. فهي، على غير ذلك، يعترف بعضها ببعض، ويقتبس بعضها من بعض، ويُمِد بعضها بعضًا بمبادئ العقل والعلم والروح، ولا تسقط من حسابها أو تتجاهل التنوعات الإبداعية الخاصة بكلِّ حضارة وثقافة. وهكذا، ينحسر الحوار القائم على الصلابة العقائدية ويتراجع لصالح الحوار القائم على القيم والمفاهيم والإنجازات الحضارية والثقافية التي تعترف بمآثر بعضها بعضًا، فتتكامل في إبداعاتها وتتفاعل وفق ما تقتضيه الآمالُ البشرية التي ترنو إلى مجتمع فاضل، وتهدف إلى رفع مستوى الوجود الإنساني، في معزل عن العرق أو العنصر أو اللون أو العقيدة.

صديقي،

تمثَّلتك، وأنت تعود إلى الأصول والينابيع والجذور التي انبثقتْ منها المبادئ المتنوعة في هذا الشرق، الإنسانَ الراقي الذي يدعو إلى المحبة والسلام والتفاهم، وإلى اعتبار الإنسانية شجرةً واحدة تتأصل في جذور واحدة وتتغذى منها على نحو متساوٍ، وتتميز بفروع، أي بأغصان عديدة ومتنوعة، تتمثَّل ضوءَ الشمس على نحو متساوٍ، سواء بسواء.

رأيتك تدافع عن الأصول الواحدة التي تدعو إلى وحدانية الحقيقة والمبدأ.

رأيتك تدعو إلى تمثُّل الحقيقة الواحدة الماثلة في تنوعات التعبير.

رأيتك تُخرِج الذين أشرطوا الروح والعقل بصلابة الحرف، فأبعدوهما عن دائرة الأصول الجوهرية الواحدة واختزلوهما إلى نطاق التجزئة والانقسام، حيث تسود أنواع النزاع والصراع المؤدية إلى الحروب.

رأيت فيك الإنسانَ الواعي الذي، في فهمه لقيمة وجوده الأرضي والكوني ومعناه، يدعو الناس إلى التسامح وتجاوُز أخطاء بعضهم بعضًا، وإلى عدم تنصيب أنفسهم قضاةً يحاكمون بعضهم بعضًا ويدينون بعضهم بعضًا، ليكون الله – الحقيقة السامية – وحده المرجعَ والحَكَم في قضايا الناس وشؤونهم، والعارفَ الأوحد بسرائر قلوبهم وأفكار عقولهم.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] راجع: ندره اليازجي، فصل "تنوع الثقافات ووحدة العقل الإنساني" في وحدة العقل الإنساني، الأعمال الكاملة، مجلد 4: دراسات حضارية – أخلاقية – معرفية، دار الغربال، دمشق 2000، ص 11-32.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود