حواء عند ظلال الحبر العربي[1]

فاطمة ناعوت

 

المرأةُ، ذلك الكائنُ المُلغز للبشرية منذ منشئها... رماها بعضُهم بالخطيئة الأولى التي قذفت بنا إلى الأرض وأفقدتْنا الفردوس، فيما كلَّلها بعضُهم الآخر بإكليل المجد، بوصفها پروميثيوس الذي انتزع شعلة النار من السماء ليهبها البشرَ على غير إرادة ربِّ الأرباب زفس، حين أكلت من شجرة المعرفة على الرغم من التحذير الإلهي. وربما يكمن جمالُ المرأة الأبدي في هذا الخلاف حولها، وفي أن تعويذتَها بعد لم تُفضَّ وسرَّها بعدُ لم يُكشَف... ولا ينبغي له.

* * *

 

المرأةُ بوصفها الملهِمة الأولى في التاريخ

ظلت المرأةُ، وتظلُّ، النبعَ الأثرى لكلِّ فنان منذ بدء الخلق. عينٌ لا ينضبُ ماؤها ولا تُفَضُّ تعاويذُها وأسرارُها. ومن ثم كانت، منذ بدأ الإنسان يتلمس خطواتِه الأولى نحو الفن وحتى الآن، ملهِمةً للشاعر والروائيِّ والتشكيليِّ والنحات والمعماريِّ والموسيقيِّ وخلافهم. ونظرًا لتركيبة المرأة شديدة التعقيد والثراء، توسَّلها المبدعون الكبار من أجل طرح أفكارهم حول النفس البشرية في أشد حالاتها تعقيدًا وعمقًا. فعل ذلك المبدعون الغربيون، رجالاً ونساء على حدٍّ سواء. فنجد المرأة هي بطلة العمل الأولى تقريبًا في مجمل التجربة الشكسپيرية، حتى في تلك المسرحيات التي حملت اسم رجل. ففي ماكبث، مثلاً، لم تحرِّك الأحداث إلا ليدي ماكبث، التي كانت بؤرةَ البنية الدرامية ومحورَ الخطيئة. وفي هاملت كانت الملكةُ الأم هي المحرك الخفي لعقدة الابن. كذلك كانت ديدمونة في عطيل، وكليوپاترا في أنطونيو وكليوپاترا، وكورديليا في الملك لير، وهلم جرا. كذلك سنجد المرأة هي البطل الرئيس في كثير من مسرحيات النرويجي هنريك إبسن، مثل البطة البرية وبيت الدمية – ومن منَّا لا يذكرُ أشهرَ صفقة بابٍ في التاريخ، تلك التي انتبهت أوروبا على إثر دويِّها المروع، فكانت بمثابة أول نداء لتحرير المرأة من إسارها السرمدي. صفقةُ الباب تلك كانت بيد امرأة، هي نورا، بطلة بيت الدمية، التي ما عادت تحب دورها كـ"دمية" جميلة ترقص في بيت الزوجية!

ولم تقتصر بطولةُ المرأة في السرد الغربي على الكتَّاب الرجال، بل نجد الأمرَ نفسَه لدى كاتبات، مثل الإنكليزية فرجينيا وولف، حيث ستحتلُّ المرأةُ الخانةَ رقم واحد في معظم رواياتها وقصصها القصيرة.

المرأة كموضوع يُكتَبُ عنه

كذلك كانتِ المرأةُ حاضرةً بامتياز في فعل الكتابة، منذ بدء الحضارات التي وصلتنا مدوَّناتُها. ذلك أنها لم تغبْ يومًا عن معارك الوجود، بل هي محورُ تلك المعارك وقلبُها. غير أن حضورَها في ذاك الحراك، من أسف، هو حضورُ "مفعول" (موضوع)، لا حضورُ "فاعل" (ذات). حتى في حضارةٍ مثل الحضارة الفرعونية القديمة، التي تقلَّدت فيها المرأةُ أرفعَ المناصب السياسية والاجتماعية، حدَّ أن نُصِّبتْ ملكةً وحاكمة، نجدُ المرأةَ "مادة" في سطور الشعراء والكتَّاب وفي وصاياهم حين يوصي الحكيمُ ابنَه كيف يعاملُ امرأتَه وكيف يكسو بدنَها ويُشبِع مَعِدتَها كي يكسبَ قلبها. ولا يختلف الحال في حضارات المشرق الأقصى وحضارات الجزيرة العربية وغيرها. فالمرأةُ كانت دومًا الموضوع الخصب الذي يُكتَبُ "عنه" ويُنهَلُ من معينه.

وفي الزمن الراهن، نجد أن المرأة هي الموضوع الذي تبدأ به النخبةُ أوراقَها في قضايا الحداثة والإصلاح وتغيير الخطاب والتطلع إلى التقدم؛ نجدُها الشغلَ الشاغلَ لدى الصحافة والإعلام بألوانه، ونجدُها حاضرةً بامتياز في أدمغة الكتَّاب والشعراء والفلاسفة. فالمرأةُ شديدةُ الحضور، إلى درجة أن أضحت كيانًا "افتراضيًّا" ومنبعًا لا ينضب، ينهلُ منه كلُّ ذي قلم، وليس كائنًا مُتعيِّنا مفكرًّا، وفاعلاً يمتلك مقوِّمات الوجود والتطوير والسيادة والحكم والتفعيل.

ولأن الكتابة لونٌ من الحضور، أو كما قالت فرجينيا وولف، "لا حدث يحدث إلا إذا دُوِّن"، هل يجوز لنا أن نوسع الأمر ونقول لا بشرَ موجودًا إلا إذا كتب شيئًا؟

لقد حُرِمَتِ المرأة من التعليم والكتابة دهورًا طويلة، ليس فقط عند العرب لكن في الغرب أيضًا، ولاسيما في الأُسَر الفكتورية. وكلنا يذكر أرنولف في مسرحية مدرسة النساء لموليير، حين أسِف كوْن آنييس تعرف الكتابة، ما يخوِّل لها مراسلة عشيقها! سوى أن وضع المرأة العربية كان أسوأ كثيرًا طوال الوقت لأن العرب اعتبر المرأةَ كائنًا ناقصًا، فيما الكتابةُ حرفةٌ تحتاج عقلاً حصيفًا أنَّى للمرأة أن تمتلكه! ولعلَّنا نذكر كتاب صبح الأعشى للقلقشندي الذي تناول صفات الكاتب وآداب الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب من معارف في اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والأدب، وفيه رفع من شأن الكتابة كما جاء: "إن الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها وأخطرها في ذات الوقت"؛ وقد قرن فعل الكتابة بالذكورة، مستشهدًا بقول عمر بن الخطاب "جنِّبوا النساء الكتابة" – ولا أدرى مدى صحة نسبة الكلمة إلى عُمر!

المرأةُ في السرد العربي المعاصر

فإذا كانت المرأةُ بهذا الحضور الكثيف كـ"موضوع" في السرد الغربي، فإن حالَها هو الحالُ في السرد العربي المعاصر. ولن نقولَ القديم لأن التجربةَ السردية العربية مستحدثة، لا تضرب عميقًا في جذور الزمن. بعضُ الأقلام حاولت رسم صورة المرأة من خلال عين الواقع بما يحمل من قمع لها من قبل الثلاثي الحديدي: الدين والمجتمع والرجل؛ وبعضها الآخر رسمها من خلال صورة حُلمية يرجوها لها؛ وبعضها الثالث ألبسها ثوب الرمز ليعبِّر بها في خفاء عن مدلولات معنوية غير متعيِّنة، مثل الوطن أو الحياة أو الجمال أو العدل أو الخيانة أو الخصب أو الثورة أو الحب أو الفرح أو حتى الموت؛ وبعضُها عبَّر عنها بوصفها الحُلم المُنتظَر؛ وبعضُها رسمها كشيطان.

خطة البحث

سنتعرضُ في هذا البحث، في جانبه التطبيقي، لعدة نماذجَ من صور المرأة، كما رسمها بعض الكتَّاب العرب المعاصرين ممَّن تدخل مشروعاتُهم الإبداعية في مدرستَي الحداثة أو ما بعدها. بشيءٍ من التحليل نبدأ بالتعرض إلى المرأة بوصفها الأم/الوطن عند تجربة كلٍّ من الكاتبين المصريين إدوار الخراط وصنع الله إبراهيم خلال عمليهما رامة والتنين وتلصُّص على التتابع. ثم نموذج المرأة "الحدِّية" في مجمل تجربة نجيب محفوظ، إما بوصفها ساقطةً أو فاضلةً رغم أنفِها: نموذجا زبيدة وأمينة في الثلاثية مثلاً، وهما النموذجان اللذان يمكن لنا مطمئنين أن ندمجهما في نموذج واحد وحسب. إذ إن الفضيلة لا تكون في ظلِّ قيد أو إرغام؛ الفضيلةُ لا تأتي إلا اختيارًا حرًّا، وإلا كان السقوط أنبل وأجمل! ومن ثم فيحق لي، من أسف، أن أعتبرَ أن المرأة في التجربة المحفوظية لم تكن سوى كيان ساقط لا محلَّ له من الإعراب خلال وعيي بتاريخ بلادي منذ عشرينيات حتى أربعينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي تناولها محفوظ إبداعيًّا؛ وقد حفلت بنساء كثيرات كن فاضلات بإرادتهن، بل وذوات عقول ألقة خلاقة، ويضيق المجال هنا عن سرد أسمائهن. ثم نعرِّج على المرأة في ثوبها الأسطوري، كربَّة للعدل والجمال والكمال، مثلما كانت الإلهة الفرعونية إيزيس. وهنا سنقوم بعمل نقد مقارِن بين مسرحيتين لكاتبين مصريين هما توفيق الحكيم ونوال السعداوي، من خلال مسرحيتيهما اللتين حملتا العنوان ذاته إيزيس وصدرتا في مصر بفارق زمني قدره عشر سنوات. ففي حين كانت "إيزيس" الحكيم محضَ امرأة ثكلى، كانت "إيزيس" السعداوي مثقفةً عضويةً فاعلةً في المجتمع. بعد ذلك نرصد المرأة التي تتأرجح بين الواقعيِّ والفانتازي عند الروائي السوري حسين سليمان من خلال روايته الأخيرة ينزلون من الرحبة. المرأة بوصفها الحياة، كما ظهرت خلال شخصية سارة التي جمعت متناقضات الحياة كلها معًا؛ ثم المرأة بوصفها المعرفة، كما أخرجها لنا في ثوب شخصية "العمَّة" العجائبية. بعد ذلك نتأمل المرأة بوصفها الحلم أو الوهم، كما نرصدها في تجربة الكاتبة التونسية حياة الرايس خلال مجموعتها القصصية ليت هندًا. وفي الأخير، نعرِّج على التجربة السردية السعودية، حيث تظهر المرأةُ غالبًا في صورة تقترب كثيرًا من الواقع، لأن الأعمال السعودية عادة تتوسل الإبداع كعمل تعبوي في محاولة لإصلاح الواقع المناهض لحقوق المرأة هناك. ونرصد هذه الظاهرة من خلال عملين حديثين: أحدهما رواية أكثر من صورة وعود ثقاب للكاتب السعودي عوَّاض شاهر العصيمي، والآخر مجموعة قصصية بعنوان تهواء للكتابة السعودية نورة الغامدي. وفي كليهما نرصد نموذج المرأة المتواطئة على نفسها. وفي الختام سوف نتكلم عن المكانة التراتبية التي احتلتْها المرأة العربية، والشرقية بعامة، أسباب ذلك وطرائق العلاج، مشيرين إلى التجربة التونسية الرائدة التي انتهجتْها تونس منذ خمسين عامًا بإصدارها مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956 في محاولة منها للإعلاء من شأن المرأة وردِّ اعتبارها المهدور عبر الزمن.

المرأة الأم/الوطن: صنع الله إبراهيم وإدوار الخراط

في روايته الأخيرة تلصص، غيَّب الروائي المصري صنع الله إبراهيم دور الأم عن السرد: غيَّبها إلى درجة حضورها الكثيف. البطل الحقيقي في الرواية هو الأب. الراوية هو الطفل الذي يحكي عن مرحلة تفتح وعيه على الحياة وعلى عالم "الكبار" الغامض، بكلِّ ما يحمل من أسرار ومبهَمات. لكن الكاتب لجأ إلى حيلة فنية سيميوطيقية (إشارتية) لكي يفعِّل دور الأم، على الرغم من غيابها في مصحة الأمراض العقلية. وقد جعل فونت الكتابة على مستويين: أحدهما باللون الأسود الخفيف يحكي فيه راهنه وأحداث اليوم؛ والآخر بالأسود الثقيل يمثل ذكريات تباغته فجأة على طريقة تيار الوعي والتداعي الحر للأفكار. وهذا الأخير يحكي عن مشاهدَ وأحداث قديمة يتذكرها الولد مع أمه الغائبة الحاضرة. هذا اللون من تكثيف الغياب يكرِّس نقيضه، وهو تكثيف الحضور. قارئ هذه الرواية سيشك كثيرًا في أن الكاتب يقصد أمه البيولوجية في السرد. لكن القراءة المتعمقة، ولاسيما لو اعتمدنا المدرسة الأسلوبية واعتبرنا تاريخ صنع الله إبراهيم الكاتب المحمَّل بهموم السياسة والمواطَنة، فإننا لن نلبث أن نكتشف أن قناع الأم خدعة أراد أن يمرر الكاتبُ من خلالها رمز الوطن. الوطن المغيَّب في المصحات العقلية بفعل أنظمة فاشية تريد له أن يغيَّب.

وإن اتخذت شخصيةُ رامة عند إدوار الخراط العديد من الرموز، – الأرضيِّ منها والأسطوري، الأثيري منها والأرخيولوجي، الطهرانيِّ منها والحسي، – إلا أن كثيرًا من القراءات النقدية قد أوَّلتها في الأخير إلى الوطن – ذلك الوطن الذي يحمل كلَّ ما سبق من تناقضات، الوطنُ المفتَّت تحت رحى التحزمات والتحزبات الطائفية والعرقية.

المرأة الساقطة عند نجيب محفوظ

أما عند نجيب محفوظ فلم تأخذ المرأة بُعدًا رمزيًّا إلا في القليل من الأعمال. لكنني سأتوقف عند نموذجين نقيضَين للمرأة سادتا في معظم التجربة المحفوظية العريضة. سأطلق على النموذج الأول اسم "أمينة"، وهي لا تعني نفسها كما ظهرت في "الثلاثية" وحسب، بل تعني شبيهاتها كلهن في تجربة محفوظ؛ والثانية، النموذج الأكثر وجودًا وانتشارًا في تجربته، سأسميها "زبيدة"، لتشير إلى نفسها وإلى مثيلاتها في بقية روايات نجيب محفوظ وقصصه. هما امرأتان متناقضتان، ظاهريًّا: الأولى طاهرة عفيفة، زوجة فاضلة، وأم رءوم، لا تعرف من الدنيا فضيلةً تفوق فضيلة طاعة الزوج وتربية الولد؛ أما الثانية فامرأة مَشاع لكلِّ رجل يدفع، امرأة لم تتعلم من الحياة إلا مراعاة جمالها الجسدي، بعيدًا عن جمال الروح، لأنه إنما رأسمالها الذي لو أذهبتْه الشيخوخةُ انتفى وجودُها. نموذجان، إذن، تبنَّاهما محفوظ ليعبرا عن المرأة المصرية في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي: المرأة الفاضلة والمرأة الساقطة.

مأخذي هنا ليس إغفال محفوظ لأنماط أخرى من النساء واقعات بين هذين الحدَّين المتطرفين؛ بل إن مأخذي أعمق وأمر من ذلك بكثير لأنني، في واقع الأمر، لا أراهما نموذجين متناقضين لامرأة، بل نموذجٌ واحد فقط يتلخص في المرأة الساقطة. ولست هنا متجاوزة أو متحاملة على صاحب نوبل، – وهو الروائي الكبير قبل نوبل وبعده، – لكنني أقول قراءتي الخاصة لأعمال محفوظ التي ربما لن يتفق معي الكثيرون حولها. أما رأيي هذا فمردُّه أنني وجدت "أمينة" امرأة فاضلة رغم أنفها، فاضلةً فضيلةَ الحبس داخل الأغلال. أمينة لم يكن لديها بديلٌ في الحقيقة سوى الفضيلة. وأنت لكي تحكم على فضيلة إنسان يجب أن تعطيه حريته أولاً، ثم تراقب كيف سيتصرف بها. لذلك أحزنني أنني لم أجد في تجربة محفوظ العريضة – كمًّا – تلك سوى نموذج المرأة الساقطة بإرادتها أو الفاضلة رغم أنفها، يعني الساقطة أيضًا. أين إذن جدتي؟ – التي هي مجايلة لهذه الحقبة – وقد كانت سيدة مجتمع تعزف البيانو وتتكلم الفرنسية وتلبس الملابس الأوروبية دون حجاب، ومع هذا، كانت امرأة فاضلة، بإرادتها، لأنها اختارت أن تكونَ فاضلة. بل أين نموذج والدة نجيب محفوظ نفسه الذي قال إنها كانت تصحبه إلى المتاحف لتفتح مخروط وعيه وثقافته وإدراكه؟ أعلم أن قائلاً يقول الآن: وهل على الروائي أن يرصد نماذج المجتمع كلَّها في أعماله؟ سأجيب بالنفي طبعًا، لكن في حالة خاصة كمحفوظ، بسبب حياته الطويلة وتجربته العريضة جدًّا ومؤلَّفاته الكثيرة، اعتبرناه مُشرِّحًا ومؤرِّخًا لحقبة عاشتْها مصر في منتصف القرن الماضي الأول. لذلك في ستين عملاً ما كان منطقيًّا أن يُحدُّ ويُختصَر نموذجُ المرأة على هذا النحو المخلِّ المسطح.

إيزيس بين توفيق الحكيم ونوال السعداوي

على النقيض مما سبق، سنجد المرأة بوصفها نموذجًا للكمال الوجودي. إيزيس المصرية، إلهة الجمال والخير والعدل وزوجة أوزيريس. وقد استلهمها كثير من الكتَّاب في أعمالهم. على أنني سأتوقف في بحثي هنا أمام نموذجين نقيضين في طرائق استلهامها. مسرحية إيزيس لتوفيق الحكيم التي صدرت في العام 1976، ومسرحية إيزيس لنوال السعداوي الصادرة في العام 1986. والطريف أنني حين قرأت المسرحيتين لم أقرأ شخصَ إيزيس بقدر ما قرأت دماغ كل مبدع منهما وطرائق تناوله العالم: توفيق الحكيم وتطرُّفه ومغالاته في النظرة المتعالية للمرأة ووضعها في مرتبة دنيا، ونوال السعدواي في تطرفها في احترام المرأة وإعلاء شأنها في الوجود. ولن أدعي الحياد فأزعم أنني في حال تأمل ونقد لمبدعَين هما من رموز الحياة الثقافية المصرية المعاصرة، لكنني سآخذ موقعي رأسًا كمؤيدة لنوال السعدواي في موقفها من المرأة. وموقفي هنا ليس بوصفي امرأة تنتمي لمجتمع ذكوري حتى النخاع، لكنه انتصارٌ لقيمة الأنثوية في الحياة بوصفها الجمالَ والخير والعدل في الوجود. ومن الطريف أيضًا أن الحكيم كان يجتهد أن يثني على إيزيس ويمجدها ويمدحها عن طريق نعتها بصفاتٍ رفيعة من قبيل الوفاء والإخلاص وإعلاء شأن الزوج، حتى إنه، كما جاء في بيانه المذيِّل للمسرحية، ربط بينها وبين شهرزاد التاريخ وپنيلوپي الإغريق من حيث اتفاقهما في الوفاء الزوجي، وإنْ كان وضَعَ پنيلوپي (زوج عوليس) في خانة الوفاء السلبي، على العكس من وفاء إيزيس الإيجابي.

والطريف أن مدْح الحكيم إيزيس كان مدحًا معكوسًا – ومن المدح ما قتل! فالحكيم لم ينتبه (أم تراه انتبه؟) أن النعوت الطيبة كلَّها التي خلعها على إيزيس كانت تضرب بقوة في مقتل استقلالها الوجودي؛ بمعنى أنه كبَّلها في قيد الرجل ودثَّرها بعباءته طوال الوقت، وكأن لا جمالَ وجوديًّا وإنسانيًّا لامرأة خارج حدود الرجل وخارج بساط خدمته. لم أكن لأقول هذا القول لولا أنني بصدد عقد مقارنة بين المسرحيتين. فالحكيم غير مُلام مطلقًا كونه استلهم الأسطورة كما هي تقريبًا، ولم يفعل إلا أن نسج على نولها. ومن ثم فهو غير مطالَب بتغيير الأحداث لصالح فكرة ما، ليس فقط لأنه اشتهر بعدائه للمرأة (فمن الواضح أنه لم يكن عدوًّا لإيزيس)، لكن الأخطر أنه كان طوال الوقت يكرِّم شخصها في مسرحيته عبر تكريس قيمة الوفاء الزوجيِّ ولا شيء آخر؛ وهي قيمة أجلى وأعلى من أن نناقش حتميتها وجمالها ورقيَّها، سوى أن الفكرة التي تطرحها السعداوي في عملها تقول إن الجمال الإنساني يكمن في مناطق أخرى كثيرة غير هذه القيمة التي تنهل من بساط الرجل وتصب فيه. والأهم هو أن الجمال الإنساني لو تولد فلا ريب سيُنبِتُ ألوان الجمال الأخرى كلَّها، مثل قيم الوفاء والإخلاص والحب إلخ.

ومن ثم فقد رسمت السعداوي "منبع" النهر، فيما رسم الحكيم "فرعًا" من فروعه. ففي حين كانت إيزيس الحكيم محضَ امرأة ثكلى تحاول طوال الأحداث أن تلملم أشلاء جسد زوجها المغدور بمعرفة أخيه إله الشر سِتْ، كانت إيزيس السعداوي امرأةً عضويةً فاعلةً في المجتمع، تبني عقول الناشئة وتعلِّمهم الكتابة والقراءة وتبذر فيهم المفهومَ الحقَّ للعدل والجمال والنبالة واحترام الإنسان لنفسه وللآخر، بصرف النظر عن نوعه وعِرقه وطبقته وديانته. إيزيس الأولى امرأة "مفعول بها"، كما هو شأن المرأة في معظم الأدب الكلاسيكي، ويأتي دورها دومًا كردَّة فعلٍ صَنَعَه الرجل. فالرجل هو المهيمن على حراك الكون والموجَدات، وما المرأة إلا أحد هذه الموجَدات التي تخص الرجل. فيما إيزيس الثانية هي مالكٌ مناصفٌ للكون مع الرجل وفاعلٌ في الوجود ومفعِّل له. إيزيس الجديدة لا تدور في فلك الرجل وداخل عباءته؛ فهي موجودة بذاتها الخاص وتبني الكونَ بحقِّها الخاص. فيما الأولى مرهونٌ وجودها بوجود الرجل، وكما قال الفارابي: "كلُّ موجود بغيره آلة."

ونوال السعداوي لم تقل الصدق في مقدمتها حين زعمت أنها ترد الاعتبار إلى إيزيس الإلهة القوية التي ظلمها التاريخ. فالسعداوي ليست ذلك الكائن الماضويَّ الذي يعنيه إعادة ترتيب التاريخ وتصحيحه، لكنها كتبت هذه المسرحية كرسالة شديدة اللهجة إلى "المستقبل" الذي وحده ما يعنيها. ومسرحية إيزيس ليست العمل الوحيد لها الذي يخفي بين سطوره رسالةً إلى المجتمع؛ فأعمالها كلها تنحو النحو ذاته: فهي تجيد لعبة الرمز والقناع وتضمين الرسائل المُرَّة عبر أعمالها الأدبية. والكاتب عادة يلجأ إلى الرمز، ليس فقط كقيمة فنية، لكن أيضًا حينما يَفْسد النظام، مثلما فعل ديدبا في كليلة ودمنة. ولنا في التاريخ شواهدُ عديدةٌ مماثلة. لو قرأنا إيزيس من هذا المنطلق، لن نجد بين أيدينا إلا نصًّا تعبويًّا تحريضيًّا مغلَّفًا بنصٍّ إبداعيٍّ أدبي؛ أو لنقل هو خطابٌ إصلاحي كتبتْه إيزيس في مرقدها خلف قرص الشمس لترسله إلى وطنها المعاصر. وبإجراء عملية إحلال بسيطة لدوال العمل وشخوصه سوف نخلُص رأسًا إلى متن الرسالة الإيزيسية/السعداوية: رع هو السلطة التشريعية أو النظام، وسِتْ هو القانون والدستور الذي يخدم مصالح النظام، حيث "رئيس الجيش" هو السلطة التنفيذية التي لا بدَّ أن تكون محدودة الفكر، بليدة التأمل، لا قدرة لها على إعمال العقل ولا ينبغي لها، لأنها مجردُ يدٍ باطشة من أيادي النظام الطولى، على الرغم من أننا سنجده قد تحوَّل في نهاية العمل ليأخذ صف الشعب فيما يشبه انقلابًا عسكريًّا على النظام؛ ونوت هي النوستالجيا إلى ماضٍ كان جميلاً، لأن كل ماضٍ هو جميل بالضرورة؛ ومعات هي العدالةُ الغائبة في الحياة؛ وإيزيس بالطبع هي الجمالُ بالمفهوم الفلسفي للكلمة؛ وأما توت ومسطاط فهما الجبهة المعارضة للحاكم، وإن اختلفت طرائق تناولهما لمفهوم الغاية والوسيلة. ولأن العدل نسبي، ولم يقف الإنسان على تعريف دقيق له حتى الآن، فسنجد أن معات ترتبك أحيانًا أو يتملَّكها اليأس، على العكس من إيزيس التي حافظت على صلابتها وقوة منطقها ونبلها طوال الوقت.

أما اللعبة الفنية في هذه المسرحية فهي أن السعداوي قد انطلقت من بنية ميثولوجية هي أسطورة إيزيس وأوزيريس، ثم شدت بأطراف القص إلى منطقة الواقعي الحداثي، فصارت الشخوص خاضعةً للقانون الفيزيقيِّ عوضًا عن السحرية والأسطرة والخيال. وخلال هذه العملية "الاستبدالية"، يمكن لنا أن نلمح منهج السعداوي في التفكير، وهي رسالة أخرى تمرِّرها لقارئها عبر العمل بأن الميتافيزيقا هي أداةُ خداع وشَرَك ينسجه لنا السلطان عبر الكهنوت كيلا نتدبر مشكلاتنا الراهنة ونحيل الأمر إلى قوى غيبية ميتافيزيقية بيدها مقاليد الأمر. هذه الإحالة الغيبية التغييبية هي آفة كلِّ الشعوب التي لا تأخذ بالعلم والمنطق والعقل وتستنيم إلى النقل السلفيِّ الإحالي الذي فيه مقتل الإنسان. لقد أكدت السعداوي على أهمية العلم، فكانت إيزيس، الإلهة التي نزلت من عليائها، تعلِّم الفلاحين والفقراء وأبناءهم الكتابة والقراءة.

هذه المسرحية إذن هي محاولة من السعداوي لتمرير رسالة مُفادُها أن المجتمعات الأمومية matriarchal كانت الأرقى سياسيًّا واجتماعيًّا وجماليًّا وإنسانيًّا، على العكس من المجتمعات الأبوية  patriarchal (البطريركية) التي اتسمت بالرقِّ والعنف والسبي والطبقية ودحر الأنثى. ولم تكتفِ السعداوي باستلهام أسطورة إيزيس وتطويعها لرؤاها الخاصة المعاصرة المحمَّلة بإيديولوجيا إصلاحية تعنيها تمامًا، لكنها عدَّلتْ في سير الأحداث وسيناريو الحوار بين شخوص العمل؛ أي كأنها عملت نصًّا على نصٍّ أو كتابةً على كتابة. وهذا يُحسَب لها لأنها صارعت الأسطورة المنقولة وخرجت علينا بنصٍّ جديد يحمل سمات العصر الجديد. وخلال ذلك سوف نجد في سهولة أن إيزيس تنطق بلسان السعداوي طوال الوقت، تنقل أفكارها وتدين إشكاليات مجتمعها التي ظهرت بجلاء خلال حوار شخوص العمل. حين سأل سِتْ إيزيس عن سبب عدم حبِّها له، لم تستطع الإجابة في بادئ الأمر وكادت تحيل الأمرَ إلى العاطفة؛ لكنها بعد برهة عرفت الإجابة بعدما بثها سِتْ مشاعره التي أيقنت إيزيس من خلالها أنها لم تحبه لأنه لم يحبها ككائن مستقل، بل كجسد رخو بلا عقل وتابع لمقادير الرجل، فقالت:

الآن فقط أدركت لماذا أحببت أوزوريس ولم أحبك. كنتُ مع أوزوريس أشعر أنني إنسان. كان يعرف قيمتي. الحب هو المعرفة. أن تعرف قيمة مَن تحب. أوزوريس كان يعرفني، يعرف إنسانيتي ويعرف أجمل ما فيَّ: عقلي وقلبي.

المرأة الحياة/المعرفة عند حسين سليمان

على العكس من نجيب محفوظ، الذي اختصر نساء العالم كلهن في نموذج واحد من النساء هي الساقطة أو الفاضلة رغم أنفها – على العكس من ذلك، وضع حسين سليمان، الروائي السوري، نماذج النساء كلَّها تقريبًا في امرأة واحدة في روايته ينزلون من الرحبة، الصادرة في العام 2006. سارة، أخت الراوية، التي ستتحول في نهاية الرواية إلى الفتاة سيرا الأمريكية. وهذه نماذج المرأة التي عرفتْها البشرية كلَّها: فهي الأخت الصبية الجميلة الناعمة، التي "أحسن الله صنعها"، بحسب قول الراوية، والتي "ابتسامتها تلخِّص الحياة". هي الأخت الكبرى تارة، بكلِّ ما يحمل لقب "أخت" من معان ودلالات، وتارةً هي أفراد الأسرة كلهم: العمة، الخالة، وحتى الصبيان، بعدما تحلق شعر رأسها. هي الحياة بكل ما تحمل لنا كلَّ يوم من مفاجآت جديدة حين تركض سارة وتنطُّ ليتطاير شعرها فوق ظهرها، ثم تدبِّر مكائدها ومقالبها تجاه أفراد أسرتها. تذهب إلى الطاحونة وتعود بمغامرة جديدة. هي الطاهرة النقية، حتى إن "الماء الذي تصبه فوق جسدها وهي تستحم يسقط "بتدين" على أرض الإسمنت"، وهي الشهوانية الدافئة. هي القوية الشرسة التي تركل بقدمها مَن يشاكسها، وهي الضعيفة الهشة التي تُغتصَب، فينقلب هدوءُ البلدةِ ذعرًا.

حين ينزل المطر تنزل معه لتتلاشى، فتنظر إلى العالم نظرة طوفانية.

هي الحيَّة السرمدية التي تتوالد مثل الفينيق في صورة سيرا الأمريكية ذات الستة عشر عامًا، وهي الميتة التي يغيِّبها الزمن. تفقد غشاء بكارتها، فيفكر الصبي أخوها أن تساهم كل فتاة من فتيات العشيرة بجزء يسير من غشاء بكارتهن لتعويض شرف البنت المهدور. وهنا رمز فانتازي ساخر يشي بنظرة المجتمع العربي إلى المرأة وجسدها، لا ككيان بشري ومنظومة كاملة من الحياة، بل كوعاء محض مسدود بغطاء هو الدليل الأوحد على طهرها واستحقاقها الحياة. يربطونها إلى عمود الرواق عقابًا على تفريطها في "كنزها" الثمين! يذهب إليها الأخ/الراوية ليسألها إن كانت في حاجة إلى شيء، فيجدها تحاول أن تحاكي الطير. ثم تقول له: "أريد أن أصبح مثل سيمون دو بوفوار." وهذا يحيلنا إلى تاريخ هذه الناشطة النسوية التي قالت: "المرأة لا تولد امرأة بل إنسان، المجتمع هو الذي يصنع منها امرأة."

في المقابل، ثمة نموذج آخر للمرأة بوسعنا رصده في تجربة حسين سليمان، هو نموذج العمَّة: نموذج من الثراء والتعددية بحيث يصعب الإلمام به كاملاً في أطروحة كهذه. على أنني سأستل خيطًا واحدًا من هذا النسيج المتشابك لأرصده: المرأة المعرفة أو الحكمة – الحكمة العميقة، وإن خالطتْها سلوكات خرقاء. لذلك يحق لي أن أؤوِّلها تأويلاً يجمع بين عمق الرؤية والجنون. وعندي أن لا شيء يجمع بين هذين النقيضين سوى الفن. العمَّة العجوز الأبدية التي تكبر خارج الزمن. عمَّة أبناء العشيرة جميعًا، لا شكل محددًا لها ولا ملامح في ذاتها. هي العمَّة وحسب. ذاك أنها رمزٌ أكثر من كونها شخصًّا متعينًا من شخوص الدراما في الرواية. تقعي طوال الوقت في زاوية الدار، تتأمل وتحكي وتعظ أفراد العشيرة وتزوِّدهم من خبرتها التي حصَّلتْها عبر تاريخها الطويل الضارب في عمق الزمان. تحكي تجربتها مع الحبيب الذي غرق في النهر منذ دهور. تنبت لها أسنانٌ لبنية جديدة. وحين تمر الصغيرة سارة بمحنة فقد غشاء البكارة، تكتشف العمة فجأة أن غشاءً جديدًا للبكارة قد نما لديها مع نموِّ أسنانها اللبنية، فتقرر أن تهبها إياه لتنقذها من الفضيحة ومن انتقام رجال العشيرة. تختفي العمَّة فجأة من "الرحبة" دون سابق إنذار؛ تختفي حين تشعر بإهمال الناس لها. لقد نسوها في ركنها الأبدي فقررت الرحيل. ويحار الناس أين ذهبت. لكننا نكتشف أن غيابها تزامَن مع أحداث بعينها: دخول التليفزيون البلدة، واستشراء المدن الإخواني، وقيام الحرب – وكلها دلائل ضد للحكمة والمعرفة وضد الفن بالأساس. وهذا يكرِّس الرمز: أن العمةَ تساوي الفنَّ، ولاسيما أن اختفاءها قد تزامَن مع تحول كتاب شمس المعارف إلى "نار المعارف"، وكأن المعرفة غدت نارًا تحرق متعاطيها. ثم يتبدل عنوان الكتاب إلى "نور المعارف" حين يحدث شيء من النوستالجيا بسبب افتقادها. ذهبت العمة، إذن، دون أن تخلِّف وراءها جثمانًا يدل على موتها. فيتدبر أهل العشيرة أمرهم بأن يلفوا جذع نخيل في قطعة قماش أبيض كأنه الجثمان ثم يدفنونها.

جمع الكاتب، إذن، نساء الوجود كلَّهن في نموذج الأخت سارة، وأفرد نموذج العمَّة لرمز واحد هي "الحكمة" أو "الفن". ولهذا لن نندهش حين يقول في روايته: "المرأة ديوان العرب."

المرأة "الحُلم" عند حياة الرايس في مجموعتها ليت هندًا

من جهة أخرى، سنجد المرأة وقد اعتمرت رمز "الحلم" في مجموعة القصصية ليت هندًا للقاصة التونسية حياة الرايس. ويحيلنا عنوانُ المجموعة إلى بيتَي عمر بن أبي ربيعة حين يقول:

ليت هندًا أنجزتنا ما تَعِدْ وشفتْ أنفسَنا مما تجد
واستبدتْ مرةً واحـدةً إنما العاجزُ من لا يستبد

ففي القصة التي تحمل عنوان المجموعة ما هند إلا المرأة الحلم بالنسبة إلى الشاعر المغمور رقيق الحال محمود عيسى، الموقن بأن ثمة فتاةً اسمها هند مفتونة به وبقصائده وتتلهف إلى سماع كلمة حبٍّ منه. يقول لنفسه بصوت عال:

لقد كنت نجمًا متألقًا، هذه الليلة، في سماء الإذاعة، غصبًا عن كلِّ الأصدقاء. ليت هندًا سمعت صوتي هذا المساء، وليتني استطعت أن أخبر ليلى، وسعاد وبثينة، ولكنه كان لقاء مباشرًا، ولم أكن متأكدًا من إجرائه حتى آخر لحظة.

وبوسعنا أن نلحظ أن نساء أحلامه كلهن شخصيات شهيرات في شعرنا العربي القديم: ليلى العامرية، حبيبة قيس بن الملوح، سعاد، محبوبة كعب بن زهير التي ألَّف فيها القصيدة الأشهر "بانت سعاد"، ثم بثينة بنت حيَّان العذرية، معشوقة جميل بن معمَّر العذري الذي كُنِّيَ بـ"جميل بثينة" من فرط غرامه بها... هؤلاء النساء اللواتي فُتِنَ بجمالهن أكبر شعراء العرب، كيف لا يختار شاعرنا البائس إلا إحداهن لينصِّبها ملكة فوق عرش أحلامه، هي النموذج الكامل للمرأة: جمالاً، ثقافة، ثراءً. ويسرح في أحلامه، فيشاهد بأمِّ عينه ڤيلا ذات باب خشبيٍّ من الأبنوس، وحديقتها الخلفية ذات الأرائك السعفية، المنتشرة بين خمائل الورود. وها هي ذي هند تحتل أقصاها مسترخية، تترشف شايًا بالنعناع، وتقرأ شعره، تجمع الياسمين وتقرأ شعره. بل هو يصدِّق أن رسائل تصله منها لا شيء فيها سوى الحب والانبهار بشعره. يقول:

ترى كيف تعيش هند؟ بيت كبير يطل على البحر، غرفة واسعة، تدخلها الشمس من كلِّ جانب، أثاث عتيق نادر، تحف ثمينة، إخوة، أب وأم يجتمعون حول المائدة، ثم يفترقون، أو ربما لا يجتمعون. لذلك تضجر هند، فتقرأ الشعر وتبحث عن شاعر. هند في حاجة شديدة إلى شاعر. لا شك أن أباها صاحب مركز كبير، وثري، لكن هل يستطيع أن يوفِّر لها كل شيء؟ هل يمكن أن يشتري لها الحب؟ هند في حاجة إلى رجل يحبها. هند تعيش في رفاهية كبيرة وتملك كلَّ شيء. ولكنها ملَّت كلَّ ذلك وانزوت في الركن القصيِّ من الحديقة الخلفية. هند تجد طعامها جاهزًا، تدخن سجائر أجنبية، تفضل البقاء في الحديقة الخلفية تتلذذ بقراءة شعري.

ثم يوقن أن إيمانها به كشاعر موهوب وثراءها المفرط سوف يدفعانها لتنشئ له دارًا للنشر تتخصص في طباعة دواوينه وحده، وكيف إثر ذلك سوف ينتقم من جميع الذين أذلوه فقيرًا معدمًا مغمورًا:

آه، ليت هندًا! ترى هل تتزوجني هند؟ هند جريئة ستقف في وجه أبيها القوي وتقول له: "أريد أن أتزوج شاعرًا!" هند شجاعة، لذلك أحبها. هند تملك كل شيء، ولا ينقصها إلا الشعر، وأنا أملك الشعر، وهو كل شيء عندها!

وكما كان يحلم بهند، كانت ثمة بنت اسمها هند تحلم بالشاعر الفارس. حدث اللقاء المعجزة بعد لأيٍ وتفاصيل نعرفها من السرد، فتقول له بعدما أمطرتْه بوابل من المديح لقصائده:

خذني إلى بيتك، إلى ركنك الدافئ الذي يزخر بالينابيع، حيث الأثاث الأسطوري والكائنات الغريبة، إلى حديقتك الخرافية، إلى شجرة الزيزفون؟ إني لم أرَ قط في حياتي شجرة زيزفون. أريد أن أذهب إلى البيت الذي اعتلى أمامك حجرًا حجرًا ومازال يكبر، أريدك أن تأخذني إلى القارات الألذ ذات الأراضي السماوية، إلى المدن الغربية، إلى الجزر القصيَّة حيث تلوح أجنحة الأحلام، إلى النجوم الواعدة، إلى نجمة السعد، إلى البحار السبعة. أريد أن أدخل عالمك الغرائبي، حيث الدهشة والانبهار.

ثم تباغته في بيته الفقير المعدم، وتختفي بعد ذلك إلى الأبد، مخلِّفةً رسالة تقول:

صديقي الشاعر، لقد راعني أن يجمع الفقر بيننا! صحيح أنك أغرقتني شعرًا، ولكنه ليس كل شيء. لقد عشت طوال عمري في عائلة تتوارث الفقر، ظننت أن الشعر والشهرة سينقذانني من فقري، لكن جارنا الجزار إسماعيل كان يملك بيتًا مؤثثًا وسيارة. وعندما طلبني للزواج، فكرت. أعتقد أنك ستقدِّر الموقف!

"المتواطئة على نفسها" في القص السعودي: نورة الغامدي، عواض شاهر العصيمي

أما في القصِّ السعودي الراهن، فسوف نجد المرأة تتخذ أقنعةً أخرى مغايرة لما سبق، سواء كان الكاتب رجلاً أو امرأة. فجل التجارب الآنية تحاول أن تفتح ثقبًا في خيمة الخصوصية الخليجية لكي يلصقَ القارئ عينيه ويتلصص على خبيئة المجتمع البدويِّ البطريركيِّ الذي يضع المرأة في خانة مراتبية أدنى، وإنْ ظل يرفع شعاره المكرور بأنه إنما يحميها، وكأنها كيانٌ ناقص لا بدَّ أن "يُحمى"، لا أن يحمي نفسَه بنفسه.

بعضهم يلجأ إلى الفضح المباشر الذي يقترب من الفجاجة الأسلوبية، كما في رواية بنات الرياض، وبعضهم يتوسل الأليغوريا أو الرمز في تسريب رسالته الفنية ببراعة، مثلما سنجد في مجموعة تهواء للقاصة السعودية نورة الغامدي. ونلحظ غيابًا تامًّا لصوت الأنثى في القصة المعنونة "كُم جدي"، حيث لن نحدد أبدًا ما هي طبيعة صوت الراوية السارد، أرجلٌ هو أم امرأة. الراوية يتحدث طوال الوقت عن الجد صقر. وبإخضاع النص لعملية إحلال دلاليٍّ سوف نجد أن الجَّد "صقر" ربما يرمز إلى القومية العربية، الحلم المهدورُ دمُه على عتبة أنظمة عربية رخوة. والابن المعاق بعاهة في فمه أفقدته النطق ليس إلا تلك الأنظمة. وأما "الناظور"، الذي يشبه "صندوق الدنيا" في فولكلورنا المصريِّ، إن هو إلا اللاهوت أو الميتافيزيقا في استشراف الغيب التي سوف يتوسلها صقر في نهاية الأمر حين يعمل على إغواء الخلق وتغييبهم برضائهم الكامل. وعلى طول النص، سوف نجد ما يكرِّس هذه المزاعم التأويلية. على أن غياب الأنثى يكرِّس فكرة أن الوطن والقومية والعروبة قد أضاعها رجال. وعلى هامش ذلك قد يرمز أيضًا إلى أن غياب الأنثى وراء كلَّ خسارة وكل فقد.

على العكس مما سبق، نرى النص النقيض، في المجموعة ذاتها، وعنوانه "الطاقية" الذي يحفل بالأنثى ويحتشد بها إلى حدِّ غياب صوت الرجل، على الرغم من حضور سطوته حضورًا غير مباشر. دمعةُ العروس في صورة الزفاف سوف تسقط لتتحول إلى طاقية تعتمرها البنتُ مدى عمرها، كرمز حاضر على قمعها وتسكينها طوال الوقت في خلفية المشهد. وسوف يتجلَّى هذا الهرم المراتبي hierarchical الذي تناهضه المؤلِّفة في قولها على لسان امرأة تصفُ ترتيب وضع أفراد العائلة أمام التلفزيون:

الرجال والصبيان في المقدمة، تليهم العجائز الكبيرات، فالنساء اللاتي يسمح لهن أزواجُهن بالمخالطة، ومكاننا الصف الأخير، الرؤيةُ من البعد عذاب!

في صورة مشهدية كهذه تتلخَّص مشكلة مجتمع بأسره – مجتمع يجعلُ من النوع أساسًا للتراتب القيميِّ، بدلاً من أن يكون الأساسُ هو العملَ وقوةَ العقل. وجاء عنوان المجموعة موفقًا، على غرابته وعدم شيوعه لغويًا. إذ إن "تهواء" هو هزيعٌ من الليل، أو قسم منه، ما يشي بأن الكاتبة ترصد قطعةً مظلمةً من تاريخ الأمة الراهن. على أنها لم تخترِ "الليل كلَّه" بظلمائه المستطيلة، بما يشي بالأمل في أنها حالٌ مؤقتة وليست سديمًا أسودَ ممتدًا.

كذلك سنجد في رواية بديعة أخرى عنوانها أكثر من صورة وعود ثقاب بقلم السعودي عوَّاض شاهر العصيمي المرأةَ وقد كشفت عن تواطئها على نفسها بنفسها. وعلى الرغم من أن الكاتبَ رجل، وعلى الرغم من ضجري من مصطلح "الكتابة النسوية"، الذي يتحرش بعباءة كلِّ كاتبة وقلمها، فتظل متهمةً به إلى أن تثبت براءتها، إلا أنني سيطيب لي أن أشير باطمئنان إلى الخيط الأنثوي في هذه الرواية: بمعنى أن الجمالَ في هذا الكون هو امرأة. فعلى الرغم من خلوِّ الرواية من قصة حب واحدة، إلا أن الأم المشلولة سجود ستمثل العنصر البديع للجمال والحياة وسط كائنات ذكورية بالغة العبث والفوضى. الشخوص: حافل، الابن، وأم مقعدة لم تعد سوى "كرتون من الحاجات الزائدة"، بتعبير زوجها الذي "غاب في عباءة امرأة شامية شابة وجميلة تدب على قدميها وبقيت هي على كرسي متحرك في بيت فارغ". الأب سعودي والأم من أصل حضرمي. وهنا خيط آخر يناقش الوضعية الاجتماعية لليمنيين في المملكة. صحيح أنها أدارت رأسه بملاحتها بمجرد أن لمحها صبيةً في متجر أبيها، فسعى لنيلها بدلاً من صديقه الذي كان أوكله لخطبتها، وصحيح أنها كانت نِعْمَ الزوجة وأنها أنفقت ثروتها الضخمة كاملةً عليه وعلى بيتها، وصحيح أنها أنجبت له الولد الذي لم يستطع أن يأتي به من سواها من النساء، لكنه على الرغم من ذلك كلِّه (أم ترى بسبب منه؟) هجرها بمجرد أن مسَّ العجزُ ساقيها، ثم تهافت وراء امرأة كلُّ رصيدها في الحياة حداثة سنها وعينان زرقاوان!

سنلمس تواطؤ المرأة على نفسها مع الرجل لكي يوغل في ظُلمها حين تتلمس الأم الأعذار لزوجها الذي هجرها، ما يكشف النقاب عن طبيعة المجتمع البطريركي الذي ساهمت المرأةُ بالنصيب الأكبر في صناعة طواغيت رجاله. العلاقة بين الضُّرتين التي رسمها الروائيون في مجلدات ضخمة، يوجزها لنا العصيمي في سطور قليلة شديدة البلاغة والتقشف:

تشبه العلاقة بين عمودين متجاورين يحملان سقف بيت واحد لكنهما لا يلتقيان، ولو التقيا لسقط البيت.

لكن البطل الرئيس في هذه الرواية، في زعمي، هو المكان: "حارة المساكين" كرمز للمجتمع العربي البدوي الذي يحكمه الكثير من مشكلات الوعي والحرية والعدالة.

المكانة التراتبية للمرأة العربية

والشاهد أن المرأة الشرقية غير مَعْفية تمامًا من مسئوليتها عن تلك النظرة التراتبية التي حصَّلتها عبر التراكم التاريخي الإرثي، فداخل مكونِنا التراثي والمعرفي – رجالاً ونساءً – تقبعُ تلك الدوغما النوعية التي تكرِّس المرأةَ كائنًا من الدرجة الثانية. فتجد الصبية لا تندهش من تمييز أخيها عليها: قد تغضب وقد تثور، لكن ثورتها وغضبها ينطلقان من البنية الفوقية، لا من البنية التحتية الطبيعية – البنية الفوقية تلك التي حصَّلتْها من قراءة ما كتبه هؤلاء "التنويريون" الذين ينشرخ صوتُهم بالمناداة بحقوق المرأة، في حين يحمل معظمهم (ولن أقول "كلهم" للفرار من الإطلاقية) عقلاً شرقيًّا لا يتعامل مع الأمور إلا من خلال منظور طبقيٍّ نوعيٍّ ثنائي.

وربما عند هذه النقطة أكون قد وضعت إصبعي على بداية المشكلة: العقلية الثنائية. فالذهنية العربية القديمة هي ابنة بامتياز للثنائية في أعمق صورها. البدوي القديم بنى فلسفة الوجود على الثنائيات: الليل والنهار، الشمس والقمر، الأخضر واليابس، الخير والشر، العذب والمالح، المرأة والرجل، الأبيض والأسود، مغفلاً أن بين هذين اللونين ستة عشر مليون لون بدرجات انعكاس وامتصاص للضوء وأطوال موجية متباينة؛ والقياس هنا أنه أغفل التباين الفردي انتصارًا للتباين النوعي. على أن الألوان جميعَها في النهاية هي لونٌ واحد؛ والقياس هنا أن أصلَ النوع هو الإنسان.

المرأة – بيدها لا بيد عمرو أو زيد – كرِّستْ في كثير من الأوقات أسبابَ تغييبها: فالبنت التي ضجَّتْ قديمًا من تمييز شقيقها عليها هي التي ستميز بنيها على بناتها، وهي التي ستكرِّسُ حقنها بالموروث السَّلفي الذي يعلِّق الأنشوطة في جيدها إلى الأبد. وأنا لا ألقي بظلال التبعة على المرأة وحدها ولا على الرجل، لأن عصورًا طويلةً من الإرث لعبت فيها المرأةُ، راضيةً أم صاغرة، دورَ أداة استمتاع وخدمة للرجل، لا يمكن أن تنمحي بقرار أو تحقيق أو بمؤتمر، لكن خللاً وتصدعًّا في البنية الفكرية وفي المنظومة الاجتماعية لا بدَّ أولاً أن يُرأب.

التجربة التونسية الرائدة نحو إعلاء مكانة المرأة

وهنا تجدر بي الإشادةُ بالتجربة التونسية الإصلاحية التي كان لها السبق والريادة – وأخشى أن أقول التفرد أيضًا حتى الآن – في الأخذ بيد المرأة نحو المكانة التي تستحقها كندٍّ للرجل، مساوٍ له في حقوقه وواجباته كلِّها – تلك التجربة التي بدأت إرهاصاتُها الأولى بالكتاب المبشِّر امرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي صدر في العام 1930 وألَّفه أول المنادين بتحرير المرأة المفكر الطاهر الحداد. ثم تجلَّت هذه الأفكار كتجربة حية ملموسة مُشرَّع لها من قبل الدولة بصدور مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956 التي نحتفل بمرور خمسين سنة على صدورها – تلك المجلة التي جعلت كل امرأة عربية تحسد نظيرتها التونسية على ما نالته من حقوق اجتماعية بتطويب رسميٍّ وشرعيٍّ من حكومتها.

ومن هنا أتمنى على – بل وأنادي – بقية مجتمعاتنا العربية أن تحذو حذو تونس في تجربتها الرائدة لكي تناول بقية العربيات شيئًا من حقوقهنَّ التي أُهدِرَتْ على يد المجتمع والسلفية والخرافات. فإذا كان أمام طليعة المجتمع، متمثلةً في الساسة والنخبة المثقفة، معركةٌ صوب التحديث ومجابهة الغزو الغربي ومحاولة تغيير الخطاب السلفي، سواء الدينيِّ أو الثقافي، ومحاولة الإصلاح الثقافي والفكري العربيَين، فإن أمام المرأة معارك ثلاث من أجل بناء منظومة صحية من شأنها تعديل مفهوم المرأة عن نفسها أولاً ومفهوم المجتمع عن المرأة ثانيًا: معركة مع مكوِّنها الذاتي، ومعركة مع المكوِّن الثقافي الإرثيِّ لمجتمعها، ثم معركة مع الآخر الغربي لمحاولة تصحيح التصور – الحقيقي – عن تدنِّي دور المرأة في المجتمعات العربية.

وفي زعمي أن أصعب تلك المعارك الثلاث هي المعركة الذاتية، أي معركة المرأة/المرأة، وأزعم أيضًا أن في نجاحها بداية صحية وحقيقية لكسب نقاطٍ في المعركتين التاليتين. فلو نجحت المرأة في رؤية نفسها كإنسان – إنسان وحسب – يحمل عقلاً لانوعيًّا، كما قال كولريدج، ستنطلق فلسفتُها تجاه الوجود وتجاه ذاتها من تلك الرؤية وتجد لزامًا عليها أن تضطلع بمسؤولياتٍ صوب الحياة لا تقلُّ – ولا تزيد – عن مسؤوليات الرجل.

إذ إن انقلابًا جذريًّا – ولا أقول تعديلاً – في نُظُمِ التعليم، والدستور، والتفعيل السياسي والإعلاميِّ أحرى به أن يتم قبل أن نتكلم على ضرورة مشاركة المرأة في الفعاليات والإصلاح. يلزمُ الحرثُ في تربة صالحة ممهدة، وإلا حصدنا نبتةً شوهاء غير متسقة الخلايا. لأن من أسباب انهيار الثقافة العربية طوال الوقت أنها تسير بخطًى عرجاء على ساق واحدة (الرجل) في ظلِّ غياب للمرأة يكاد أن يكون تامًّا. الرجل يكتب عن المرأة ويكتب بالنيابة عنها؛ والمرأة تكتب عن المرأة من أجل الرجل ومن خلال عينَي الرجل؛ غير أنهما لا يسحبان ما كتباه على محكِّ التجربة. فلمسيرة المرأة الصحية نحو التقدم والتفاعل الحقيقي عدوان: المرأة والرجل.

المرأة الغربية ومعركتها نحو التحرر

وكيلا أبدو متحاملةً على الكيان الشرقي، يجب القول إن المرأة الغربية لم تنجُ تمامًا من ذلك الإرث ذاته. ربما تخفَّفت منه في الوقت الراهن، غير أنها رزحت تحت وطأته حتى نهايات الحرب العالمية الثانية. ولعلَّنا نجد ذلك جليًّا في معارك فرجينيا وولف وعشرات المقالات التي كتبتْها حول المطالبة ببناء إرثٍ أدبيٍّ جديد بقلم المرأة ذاتها ولذاتها بعيدًا عن المُنجز الأدبيِّ الذكوري الذي تراكم حول المرأة – وفوق عنقِها – بوصفها "موضوعًا للكتابة". فرجينيا وولف، التي لم تتلقَّ تعليمها في المدرسة كأشقائها الذكور، على عادة الأسر الفكتورية آنذاك، عبَّرت، عبر مشروعها الأدبي، عن ملامح الرفض والثورة على التمايز النوعيِّ في مقالات كثيرة رصدت خلالها تباين التوجهات الاجتماعية نحو كلٍّ من المرأة والرجل، رافضةً أن تكون الحتمية البيولوجية أساسًا للتمايز بين الجنسين.

أهم تلك المقالات اثنتان جُمعتا في كتابٍ بعنوان غرفة تخص المرء[2]، ناقشت فيهما موضوع كتابة النساء، أو النساء وفعل الكتابة. رصدتْ صمت النساء اللواتي "خدمن طوال قرون باعتبارهن مرايا ذات قوة سحرية بوسعها أن تعكس صورة الرجل بضعفه الحقيقي". وتحدثت عن النساء اللواتي تمَّ إقصاؤهن خلال قرون مضت ومنْعهنَّ من الدخول إلى المكتبات، أو السير على عشب الجامعة "المقدس". غير أنه فيما أُقصِيَ جسدُ المرأة الفعلي عن المؤسسة الثقافية، ظلت المرأة دومًا كـ"جسد" موضوع المجاز الأدبيِّ والتعبير الفنيِّ لدى الكاتب الرجل، وكذلك مادة استقراء لدى مختلف الدراسات الپسيكولوجية والسوسيولوجية. واعتمد الرجال على النساء ليكنَّ الشاخص الجاهز لتصويب السهام، والشاشة التي تُعرض عليها النظرياتُ والإخفاقاتُ الذكورية. فـ"الرجل لا يرى المرأة إلا في أحمر العاطفة، لا في أبيض الحقيقة"، بتعبير وولف.

وربما تذكرنا تلك الفكرة – الحقيقية إلى حدٍّ بعيد – حول المرأة من خلال منظور الرجل والمجتمع بكتاب الجنس الآخر للكاتبة سيمون دو بوڤوار، الكتاب الذي تُرجِمَ إلى لغات العالم كلِّها تقريبًا قبل نحو خمسة وخمسين عامًا والذي قالت فيه ما معناه إن المرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداوليِّ التنميطيِّ للكلمة، لكن المجتمعَ يجعلها كذلك. ربما تعود أهمية الكتاب إلى أمرين: الأول مادته المجترئة على المجتمع الراكن إلى تقاليده الراسخة آنذاك، التي اطمأنت إلى تهميش المرأة برضائها الكامل، ثم جاء الرجل ليكرِّس ما ارتضته المرأة لنفسها بمزيد من القوانين التي تتفق ومصالحه الخاصة واستهلاكه الشخصي؛ الأمر الثاني الذي أكد أهمية الكتاب يعود إلى ثِقل مؤلِّفته دو بوڤوار ومكانتها، بوصفها الناشطة والمفكرة المهمة التي شاركت الفيلسوف جان پول سارتر شطرًا فعالاً من حياته، فكوَّنا معًا ثنائيًّا فريدًا في المشهد الفرنسي والعالمي آنذاك. وقد لعبت دو بوڤوار دورًا حقيقيًّا في تنشيط الحركة النسائية الأوروبية والعالمية، خاصة بعد الثورة التي فجَّرها الطلبة في فرنسا في العام 1968. وكان لهذا الكتاب أثرٌ بالغ في دفع الحركة النسائية في فرنسا وأوروبا، بل وعلى الصعيد العالميِّ على الرغم من محاولات منع توزيعه في البداية في بعض البلدان الأوروبية، مثل إسبانيا.

في المحاضرتين اللتين ألقتْهما في العام 1928 في جامعة كمبريدج، أطلقت وولف مقولتها الشهيرة: "إن النساءَ لكي يكتبن في حاجة إلى دخل ماديٍّ خاص، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة." نُشِرَتْ المحاضرتان في الكتاب السابق ذكره، وصدر في العام 1929. وقد تناولت فيه تاريخ مشروع أدبيٍّ تحاول أن تكتبه امرأة، وأشارت، للتدليل على التباين بين المتاح للرجل الكاتب وبين المتاح للمرأة الكاتبة، إلى جوديث، شقيقة شكسپير، وكيف أن الحيف الذكوريِّ أزاحها عما يُفترَض أن تكونه ككاتبة مرموقة انتصارًا لشكسپير "الذكر"، على الرغم من إقرار الجميع بفطنتها ونبوغها في الكتابة. أشارت أيضًا إلى جين أوستن[3] التي كانت تخبِّئ دفترها بمجرد أن تسمع صرير مزلاج الباب! تلك الأمثلة، وغيرها مما ساقت فرجينيا في كتابها، تخلص إلى المبرر الإنساني والعملي وراء حتمية حصول المرأة الكاتبة على مناخ يشبه المناخ ذاته المتاح للكاتب الرجل: مثل غرفة مستقلة توفِّر قدرًا من الخصوصية للمبدعة، وأيضًا حقها في شيء من الاستقلال الاقتصادي. إذ لم يكن مقبولاً في عصر فرجينيا أن يكون للمرأة مالُها الخاص، ولم يكن متاحًا لها أن تختار مصيرها اختيارًا مستقلاًّ مثل الرجل. ومن أقوالها الشهيرة في هذا الكتاب:

ما أبغض أن يُسجَن المرءُ داخل غرفة، وما أسوأ، ربما، أن يُحرم من دخول غرفة مغلقة.

وتتعرض وولف في الكتاب ذاته للعراقيل والممارسات المجحفة التي تعترض تطور مشروع المرأة الأدبي والثقافي، وتحلل الاختلافات بين المرأة بوصفها "شيئًا" أو "موضوعًا" يمكن الكتابة عنه وبينها كـ"مؤلف" أو كـ"مبدع". وقد أكدت أن ثمة تغييرًا واجب الحدوث في شكل الكتابة بوجهٍ عام لأن "معظم المنجز الأدبيِّ كتبه رجالٌ انطلاقًا من احتياجاتهم الشخصية ومن أجل استهلاكهم الشخصي".

وفي الفصل الأخير، تكلمت وولف عن إمكان وجود "عقل بلا نوع" (أي لا يحمل السمة الذكورية أو النسوية)، واستشهدت بمقولة كولريدج Coleridge: "العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعًا، فإذا ما تمَّ هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ طاقاته كافة." وأضافت وولف : "العقل تام الذكورية ربما لا ينتج شيئًا أكثر من العقل تام الأنثوية."

أما في مقالة ثلاث جنيهات[4]، المنشورة في العام 1938، وهي مقالة تناقش فكرة المساواة والدعوة للسلام وتُعَد المقالة المتممة لمقالة غرفة تخص المرء، اختبرت وولف إمكانية مطالبة النساء بإنشاء تاريخٍ خاصٍّ وأدب يخصُّ المرأة وحسب.

وربما في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنني لا أميل إلى تصنيف الكتابة ذكوريًّا ونسويًّا، ولا أدري لِمَ خُصَّ فن الكتابة تحديدًا بهذا التقسيم النوعي، في حين لم نتبنَّ التمييز ذاته في الفنون الأخرى من موسيقى ونحت وعمارة وتشكيل إلخ. فالمرأة إنسانٌ يرى الوجود وينشغل بمحنته على النحو نفسه الذي يفعل الرجل. ربما كانت للمرأة عين ترصد التفاصيل وتسبر الغور بآلية مختلفة، لكن تلك الفروق الفردية باديةٌ كذلك كبصمة الإصبع بين كائن وآخر.

وفي النهاية يصحُّ أن نتساءل عن المسئول الحقيقي وراء ذلك العسف الواقع ضد المرأة المبدعة. أهو القهر الواقع على الرجل، اقتصاديًّا وفكريًّا وسياسيًّا، ومن ثم أفرز ذلك القهر إما تخلفًا في معاملة المرأة، وإما أفرز طاقةَ قهرٍ مضادة يصفِّيها الرجل في الكائن الأضعف: المرأة؟ أهو النظام الثقافي والاجتماعي الآخذ في التحلل، أم هو التأويل الخاطئ للدين الذي جعل الرجل يتحسَّس مسدسه كلما أمسكت المرأة قلمًا وورقة، باعتبارها "ناقصة عقل"، بينما فعل الكتابة يتطلب عقلاً كاملاً، بل ألِقٌ. ولعلَّ ذلك وراء نظرة النقاد إلى معظم ما تكتبه المرأة باعتباره بوحًا شخصيًّا، لا فكرًا وإبداعًا. فالكائن "الناقص" قد يبوح بلواعجه، لكنه لا ينتج فكرًا. المرأة تحمل وزرًا جاهزًا يولد معها هو نوعها، والكتابة تضيف إلى وزرها إثمًا جديدًا. وعلى ذلك، فهي المتهم المذنب حتى تَثبُت براءتُه بجهد جهيد فقط كي تثبت أنها محضُ إنسانٍ خلوٍ من النقص، فضلاً عن الويل الذي تلقاه لتثبت أنها أعلى قليلاً من ذلك.

أرجو ألا أكون عدمية حين أقول إننا نحيا عصرًا حديثًا ومابعدحديث بأجسادنا، غير أن الكثير منا مازال يخبَّئ داخل عقله كيانًا بدويًّا تقليديًّا، بكلِّ خيامه ونوقه وصحاريه!

*** *** ***


horizontal rule

[1] نص قدِّم في الملتقى الوطني "محمد البشروش" للقصة والدراسات النقدية: "المرأةُ والحداثة في السرد العربي المعاصر"، 13-15 أبريل 2007.

[2] Virginia Woolf, A Room of One’s Own (1929).

[3] Jane Austen.

[4] Three Guineas .

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود