وحيد الطويلة في أحمر خفيف

 

صلاح فضل

 

وحيد الطويلة كاتب روائي متميز‏‏ يعمل في الجامعة العربية، ويعيش في تونس منذ عدة أعوام، لكنه يستحضر من هناك روح قريته الأم الرابضة في أراضي الدلتا، ليعزف على إيقاعها منظومة من الحكايات الريفية الموجعة، تتعايش فيها الأحلام والأساطير، وتتخللها المواقف الطريفة المسنونة لنماذج بشرية عجيبة اختمرت وتضخمت في مخيلة مغترب، منقوع في الشجن، يستحضر الوطن من براثن الفانتازيا في مبالغات مدهشة.

هكذا نجد روايته الجديدة أحمر خفيف وهي تجترح طرافتها المميزة في العنوان والمطلع والختام وكل الصفحات، إذ تسجل في الورقة الأخيرة المقاهي التي كتبت عليها ابتداء من مقهى السقيفة بتونس لصاحبته نجوى، التي تعلق غلاف رواية ألعاب الهوى - وهي عمله السابق - على الحائط وتحكي للزبائن كل ليلة أحد - أي في سهرة الأسبوع - عن المصراوي الذي كتبها، وكأن كاتبنا، بهذا التفصيل الزخرفي الموشى، يحاكي الفنانين التشكيليين وهم يرسمون في ذيل لوحاتهم بورتريهًا مصغرًا لهم.

يورد المؤلف عقب ذلك أسماء المقاهي السبعة التي شهدت مولد روايته في تونس وقطر. المفارقة البارزة في هذا المشهد أن هذا النوع من الكتابة، على وجه التحديد، من العسير أن نتخيله وهو يتخلق وسط الضجيج وحضور الآخرين في المقاهي، فهو استقطار لعطر الماضي، واعتصار لثمالة الذاكرة، وتعتيق لعوالم الواقع المتوهم أنه كتابة سردية مغايرة للمألوف، تحكي عن أشخاص وأحداث مغلفة بالأسطورة ومشبعة برذاذ الشعر. لنعد إلى مطلع الرواية الذي يمثل مشهد احتضار طويل يمتد عبر النص بأكمله، فيجعل من البطل كائنًا خرافيًا عجيبًا. شهور تمر ومحروس كأنما اختار المستشفى مقرًا أخيرًا، بيتًا ومقبرة، لا يزيد ولا ينقص. المحاليل معلقة، الخيوط مفتوحة بين جسده والحياة، واصلة بين روحه والموت، والقرية تركت حالها ومالها ونفرت إليه.‏..‏ شهور يدعون له. كبير البلد، حبيبها وحاميها. والكبير لا يهان حتى ولو من موت. نشف الزرع والبهائم على وشك الهلاك. تعطلت مصالح الخلق، والدعوات ترفع في الصلوات وخطب الجمعة. الدعوات التي كانت تصله بالشفاء صارت تكال له بالراحة والرحمة. وأهل القرية على قدم وساق، مأزومون كثور يدور بعيون مفتوحة في ساقية، كغريق يتعلق بعود قش.

ودعك من ابنته إنصاف وهي تناجيه وتطارحه العزيمة كي يطرد ملاك الموت، والطبيب الذي حار في ذلك الكيان الأسطوري الخارق لقوانين العلم في مقاومته للموت واحتضاره الذي يجعل من حياة القرية مجرد هامش على صفحة الوجود بدونه.

البلاغة القروية:

تتوالى إثر ذلك فصول مروية على لسان الراوي العليم، لكنه لا يوظف صيغة الغائب، بل يعمد إلى خطاب القارئ وكأنه يريد أن يضفي مسحة ملحمية على القص. فصول دموية ممعنة في عنفها لإخوة يحترقون، ورجال جبارين يحترفون القتل والسرقة واللعب بالحياة، وفصول أخرى غزلية تطفح بالشبق، وتحفل بالإشارات الجنسية الفاضحة للرجال والنساء، للزيجات والأشواق والأهواء، في فضاء بعيد المرمى، شاحب الملامح، تتردد فيه أصداء الأسماء، والصفات ذاتها. مثلاً فرج الأسود الذي يبرر لونه بأطرف قصة عن جدينا سام وحام، وكيف أن كلا منهما - في زعمه - قد هطل عليه المطر وهو يمضي في الطريق يحمل نسخته المخطوطة من المصحف الشريف، أما حام فقد خبأها في طيات ثيابه فنجا بلونه الأبيض، لكن سام فقد صوابه، ووضع المصحف على رأسه يحتمي به من المطر، فسال الحبر على وجهه وجسده، ومن يومها دمغ السواد بشرته وذريته إلى الأبد.

تتوالى النماذج والحالات العجائبية الأخرى، مثل عزت حركات أو الدكتور عزت الذي لا يشبع من معشوقاته الحقيقيات والوهميات. كان مولعًا على وجه الخصوص بالممرضات اللواتي خلعن عليه لقب الطبيب دون أي دراسة أو شهادة. لكنه لا يرتدع، وحتى إن شبع تتقلب بطنه فجأة، يشعر بزوجته دودة تلعب في بطنه. وحتى إن تنقل ينتقل سريعًا من وردة لأخرى. عزت برق لمع، يقطع الوعود والوفاء لأخريات، وعيادات الأطباء أكثر من الهم على القلب، وهن غادرنه، إن كن موجودات أصلاً، رغم كثرة الصور ونفحات الجبن القديم والعسل.

ولا تقتصر الفتنة على الرجال، فهذه غزلان أرملةٌ طروب على الطريقة القروية: وجهها الحليب راح ينشف منذ وفاة زوجها حبيبها، زوجها عشيقها. رفعت الطرحة الشبكية أعلى فمها فتركزت الأضواء على العيون والحاجبين والمناخير النبقة، وتركت لفمها أن يعلن اكتمل البدر حتى ترخي الطرحة لأسفل... بعود ملفوف لا تتغنج قاصدة، لكن أشياءها تكاد تنفرط منها في كل اتجاه فتخلب لب الرجال.

بيد أن أبرز ملامح هذه الكتابة السردية أنها توغل في مسارين متوازيين على ما بينهما من مفارقة واضحة، أولهما صناعة النماذج البشرية وأسطرتها وتحويلها إلى رموز تجاوز دلالتها المباشرة في كثير من الأحيان، فمحروس يكاد يطير من غرفة الإنعاش إلى أفق الزعامة، وفرج الأسود المصاب بالجذام يرمز لليل، وعزت علامة الشطارة والجسارة؛ أما المسار الموازي فهو هذا الأسلوب البليغ نصف الشعري، بجمله المكثفة، وعباراته المجازية، ومطالعه المأثورة وسطوره المنقوصة، مما يطرح مساحة كافية للدهشة من تجاور هذين المسارين وما يشفان عنه، عالم القرية الموغل في عاميته، وعالم الصور التعبيرية المسرف في فصاحته. وتظل متعة التراسل بين هذين الطرفين منبعًا ثرًا للشعور بالطرافة التي لا تصل إلى الفكاهة، والمتعة التي تنبثق من الفن الطازج الجميل.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود