حول حرِّية الفكر وتبعاتها

 

أكرم أنطاكي

 

المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال "لا" في وَجْه مَن قال "نعمْ"
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال "لا" فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ.
كلمات سبارتاكوس الأخيرة – أمل دنقل

 

1

الفكر الحرُّ، كتعريف فلسفي، هو وجهة نظر تعتقد بأن الآراء، وما ينجم عنها من مواقف، إنما يجب أن تتشكَّل وتُتخذ استنادًا إلى العلم والمعرفة والمنطق، أي بمعزل عن تأثير أي سلطة أو منقول أو عقيدة. ما يعني أنه يفترض بالإنسان، الذي يفكِّر بشكل مستقل، عدم قبول أو رفض أية فكرة أو رأي، أو اتخاذ موقف منهما، ما لم يحكِّم عقله وضميره ويبحث ويناقش الأمر مليًا.

من هذا المنظور كان أجمل ما قرأته لمنقول يعبِّر عن ذلك الفهم الإنساني الأعمق والأكثر إنسانيةً، من وجهة نظري طبعًا، هو من البوذية، حيث جاء على لسان الغوتاما في الكالاما سوتا، وعلى سبيل المثال، ما يلي:

... لا تقبل أي شيء لمجرَّد أنه يتوافق مع كتبك... لا تقبل أي شيء لمجرَّد أنه يتَّفق مع مفاهيمك المسبقة... لكن عندما تختبر بنفسك أن هذه الأشياء أخلاقية ولا يمكن أن تلام من أجلها، وأن هذه الأشياء هي تلك التي يسعى إليها الحكماء، وأن هذه الأشياء، عندما يتم تبنيها والقيام بها، ستقودك إلى الرفاه والسعادة؛ عندئذٍ فقط، تبناها وعش بمقتضاها...

مشيرًا، منذ البداية، إلى أن المفهوم الذي أطرحه للنقاش ههنا، ومن خلال هذه المقالة، هو مجرَّد وجهة نظر متواضعة لإنسان يحاول أن يفكِّر. ما يعني أن ما يُطرَح ليس فهمًا ناجزًا على الإطلاق. والبرهان على ذلك يكمن في نقيض ما أطرحه، ويقول بأن الكثير من البشر، إن لم نقل معظمهم، يستمتعون في هذه الحياة من دون أن يفكروا. ربما لأن:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله                   وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم[1]

لكن، دعونا من كل هذا أيها الإخوة، ولنتوسع معًا قليلاً في المناقشة...

2

لأنه، وكما يمكن أن تُقيَّد حركة الإنسان بوضعه في السجن، أو بربطه كالبهيمة إلى شجرة، كذلك يمكن أن يكون العقل مقيدًا بفكرة افتراضية، أو دين، أو عقيدة. وهنا ألفت الانتباه، منذ البداية، إلى أن ما أوجه إليه اللوم ليس الشجرة أو الفكرة الافتراضية أو الدين أو العقيدة بحدِّ ذاتها. فهذه جميعها، ككل الأشياء في هذه الحياة، ليست سيئة بحدِّ ذاتها، إنما يكمن السوء في القيد الناجم عن سوء فهمها، وفي كيفية استعماله من قبل ذلك الذي يستعملها - أي من قبل الإنسان حين يطبِّق ما تخوله له هذه الأشياء من سلطات فيمارسها على الآخرين. ما يعني أن ما أطرحه، للتساؤل ههنا، هو القيد ذاته، ومن يستعمله من أشخاص يحاولون تقييد العقول فينصِّبون أنفسهم مربِّين ومعلمين وحكَّام من جهة؛ والعقل والفكر وحريتهما من جهةٍ أخرى.

خاصةً وأن كل عقل في عالمنا فريد بذاته. فالعقل يولِّد ملايين الأفكار التي يمكن أن تستخدم بملايين الطرق. ولأنه، عن طريق العقل، بمعنى حسن أو سوء استعماله، تقدمت المجتمعات الإنسانية وارتقت أو تراجعت. ما قد يعني أن كلَّ فعل يقيِّد العقل ويفرض رؤية واحدة لهذا العالم لا يمكن أن يكون جيدًا، حتى وإن كانت الرؤية التي يطرحها مقبولة بشكل عام، ومن حيث المبدأ.

ونتفكر، في المقابل، بمنظور آخر يقول إن الكثير من المجتمعات، والمؤسسات، والأنظمة، والعائلات، والمدارس، لها أفكارها التي تفترض، من أجل ما تعتقد بأنه ضرورات استمراريتها، ضرورة تبنيها من قبل من تعتبرهم تابعين لها. ونتفكر أن هذا الأمر لا يجعلها سيئة بحدِّ ذاتها، لكنه لا يجعل منها، في المقابل، ركيزةً من ركائز الحرِّية. تلك الحرِّية التي عرَّفتها سيمون فايل بأنها:

... غذاءٌ لا غنىً عنه للنفس البشرية. (فـ)الحُـرِّيَّـةُ بالمعنى الملموس للكلمة تقوم على إمكانية الخيار...[2]

3

ونتفكَّر بأن الحكمة الإنسانية بدأت بتساؤلين أساسيين:

لماذا، يا ترى، يؤمن الإنسان بما يؤمن به؟ و...

كيف، يا ترى، عرف الإنسان ما عرف؟

ونتفكَّر أنه من دون هذه التساؤلات لا يكون بوسعنا معرفة الحقيقة ولا اتخاذ القرار الصائب في هذه الحياة.

ونتفكَّر بأن أية إمكانية حقيقية لأية تساؤلات حقيقية تفترض وجود الحرِّية. ولكن التساؤل يبقى: هل بوسع هذه الحرِّية أن تكون مطلقة؟ خاصةً وأننا نعلم جيدًا أنه:

... حيثما تكون هناك حياة جماعية فلا مناصَ من أنْ يحدَّ الخيارَ قواعدُ تفرِضُها المنفعةُ العامة...[3]

تلك القواعد التي يفترض أن تبقى فيها...

حرِّيَّةُ الناس ذوي الإرادة الطيِّبة حرِّيَّـةً تامةً في داخلهم على الرغم من أنها مقيَّدة بالواقع...[4]

والمقصود بالواقع ههنا هو المجتمع والمدينة. وهذا أمر يقودنا إلى التوسع قليلاً لنتفكر، بمزيد من العمق، في حق كلِّ إنسانٍ اجتماعي بأن يفكِّر بشكل حرٍّ أولاً وأن يعبِّر عما يفكِّر به كمحصلة حاصل ثانيًا. خاصةً وأن...

حرِّية التعبير الكاملة وغير المحدودة عن أي رأي مهما كان وبدون أي قيد أو شرط أو تحفُّظ هي حاجة مطلقة للعقل. وبالتالي فإنها حاجة للنفس، لأنه إذا لم يكن العقل مرتاحًا فستكون النفسُ بكُـلِّيتها مريضةً...[5]

وتجدنا ههنا، ونحن نتابع المنطق االفلسفي الإنساني والصارم لهذه الفيلسوفة العظيمة مضطرين لأن نتفق معها على التميز بين ما تدعوه حقَّ الإنسان الفرد في التعبير وبين ما يفترضه البعض حقَّ الجماعة به. لأنه...

... إذا افترضنا أنَّ هذه الحرِّيةَ هي حاجة للعقل فأنَّ للعقل مقرًّا واحدًا هو الكائن الإنساني بالنظر إليه وحدَه. (خاصةً وأنه) ليس هناك من ممارسة جماعية للعقل. وبالتالي لا يمكن لأية جماعة أنْ تدَّعيَ شرعًا حرِّيةَ التعبير، لأنه لا تحتاج أيةُ جماعة إليها على الإطلاق.

على العكس من ذلك تمامًا، تتطلَّبُ حمايةُ حرِّية الفكر أنْ يكون ممنوعًا بموجب القانون على الجماعة أنْ تعبِّر عن رأي. لأنه عندما تبدأ الجماعةُ بامتلاك آراء، تميلُ لا محالةَ إلى فرضها على أعضائها. فيجد الأفرادُ أنفسَهم عاجلاً أم آجلاً في وضعٍ يُمنَعون فيه، بدرجةِ تشدُّدٍ كبيرةٍ إلى حد ما، وفيما يتعلَّق بمشاكلَ ضخمةٍ نوعًا ما، من التعبير عن آراءٍ تُعارِضُ آراءَ الجماعة ومن الخروج منها على الأقل...[6]

وهذا الخروج من الجماعة، هذا الخروج عما يدعوه البعض بالإجماع ليس سهلاً على الإطلاق، إن لم نقل إنه يبدو شبه مستحيل بالنسبة لمعظم الناس في الكثير من المجتمعات، وفي معظم الأحوال. لماذا؟

4

لأن أول ما يخاف الإنسان منه حين يبدأ في التفكير بشكل مستقل وحرٍّ هو أن يكون على خطأ. لأن أول سؤال سيواجهه بينه وبين نفسه هو: هل من الممكن أن يكون كل هؤلاء الناس على خطأ وأن أكون وحدي على صواب؟ والتفكير الحرُّ ههنا، فيما يمكن أن نعتبره نقطة بداية، يتطلب شجاعةً وجرأةً كبيرين.

ولأن ثاني ما سيواجهه الإنسان الذي خطا هذه الخطوة الأولى وتجرأ على التفكير بشكل حرٍّ، وتجرأ على المجازفة باحتمال أن يكون على خطأ، هو مواجهته للآخرين والتي قد تبلغ حدَّ الصدام الفكري. وهي مواجهة قد تبدأ من أقرب الناس إليه ضمن نطاق عائلته وعمله، لتصل إلى المؤسسات التي تتحكم بحياته ويعيش في قلبها ومن خلالها. وأيضاً وخاصةً...

لأن هذه المواجهة، إن لم نقل هذا الصدام الفكري، سيعني أول ما يعنيه - ثالثاً – احتمال عزلته كأنا مستقلة بذاتها عن هؤلاء الآخرين الذين هم أخوته، إن لم نقل هم هو في نهاية المطاف. وهذا أكثر ما في الأمر إيلامًا ومرارةً بالنسبة للإنسان الحقيقي والمفكِّر. ولكن...

ألم يعاني موسى والبوذا والمسيح ومحمد، في زمانهم، من مثل هكذا عزلة في قلب مجتمعاتهم وبين أناسهم؟

لكن التساؤل الذي يطرح نفسه علينا في مثل هذه الحالة هو كيف كان بوسعهم تحمُّل ذلك؟ ألمجرَّد أنهم كانوا أنبياء، بمعنى أنهم كانوا أناسًا خارقين وتدعمهم القدرة الإلهية؟ أم لأنهم كانوا بشرًا مثلنا إنما تمكَّنوا من خلال الروح - التي هي الكلمة -، ومن خلال استجابة الإنسان للألوهة التي في أعماقه، من امتلاك المقدرة على اختراق عالم الذات الإنسانية وتحوِّيلها؟

أنا أميل إلى الاحتمال الثاني. لأن الروح التي...

بوسعها تقديم نفسها للعالم، (يكون بوسعها) من خلال علاقتها معه أن تنقذ نفسها وأن تنقذ العالم معها...[7]

وأكتفي بهذا القدر...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] أبو العلاء المعرِّي.

[2] سيمون فايل، التجذر، الفصل الأول – الحرِّية.

[3] نفس المرجع، نفس الفصل، نفس الفقرة.

[4] سيمون فايل، التجذر، الفصل الأول – حرِّية الرأي.

[5] نفس المرجع، نفس الفصل، نفس الفقرة.

[6] نفس المرجع، نفس الفصل، نفس الفقرة.

[7] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الثاني.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود