تعرية الثائر الأنسني فرانز فانون للآخرية

 

حازم خيري

 

أود أن أشدو بالحرية للدنيا
بوشكين

يُعد الكاتب والمناضل المارتينيكي فرانز فانون (1925 – 1961) أحد أبرز من كتبوا عن مناهضة الآخرين، العالمي والمحلي، في القرن العشرين. ألهمت كتاباته ومواقفه كثيرًا من حركات التحرر في أرجاء العالم لعقود عديدة. توفي فانون بمرض سرطان الدم في 6 ديسمبر 1961، عن ستة وثلاثين عامًا، ونُقل جثمانه من أحد مستشفيات واشنطن إلى قاعدة من قواعد الثوار الجزائريين في تونس. وعلى بُعد ستمائة متر داخل الأرض الجزائرية تمت مراسم الدفن والوداع، على نحو ما أوصى فانون! ففي الثانية والنصف من بعد ظهر يوم 12 ديسمبر، رفع خمسة عشر من الجنود جثمان فانون على نقالة مصنوعة من فروع الأشجار، ساروا بها في صمت مهيب عبر الأحراش قاصدين أرض الجزائر. عبروا الحدود التونسية تحرسهم من فوق التلال المشرفة قوات من ثوار جيش التحرير الوطني. ولم يكن ذلك العبور ممكنًا دون اتصالات رسمية بجهات متعددة، منها الحكومة التونسية، واستحكامات عسكرية، والأهم، احتضان أهالي المنطقة للموكب في منطقتهم المشتعلة بحرب الثوار الجزائريين ضد الآخر الفرنسي[1].

وفي مقابر الشهداء، بدأت مراسم الوداع للثائر المارتينيكي. وكانت البداية كلمة مؤثرة ألقاها باللغة العربية قائد جيش التحرير الوطني، امتدح فيها أنسنية فانون، وإيمانه الراسخ بإمكانية التغيير الثوري وقدرة المضطهدين على التحرر من مضطهديهم، وذلك بقوله[2]:

لقد كان الأخ الراحل فانون مقاتلاً مخلصًا، تمرد ضد الاستعمار والعنصرية. فمنذ عام 1952، بدأ الانخراط النشط في صفوف حركات التحرير، بينما كان يتابع دراسته في فرنسا. ومع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الجزائرية، انضم فانون لصفوف جبهة التحرير الوطني، وكان بحق نموذجًا حيًا للانضباط واحترام المبادئ في كل الأوقات وكل المهام التي عهدت بها إليه الثورة الجزائرية. حتى أنه تعرض لحادث خطير كاد يودي بحياته، وذلك أثناء قيامه بإحدى تلك المهام في المغرب. ومع ذلك استمر الراحل في العمل بقوة، بل ضاعف جهوده، رغم المرض الذي ما لبث أن نال منه بقوة. وما إن بدا تدهور حالته الصحية واضحًا للعيان، حتى ألحت القيادة في مطالبتها إياه بالتوقف عن نشاطه والاهتمام بصحته. لكنه دأب على الإجابة بأنه لن يتوقف عن نشاطه طالما الجزائر لا تزال في كفاحها، وأنه سيظل يؤدي واجبه حتى توافيه المنية. وبالفعل أوفى الرجل بما وعد!

ثم ألقى نائب رئيس الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر كلمة لم تقل عن سابقتها في الإشادة بأنسنية الثائر المارتينيكي، جاء فيها ما نصه[3]:

باسم الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر، وباسم الشعب الجزائري، وباسم كل أخوتك في الكفاح، وبالأصالة عن نفسي، أودعك... وأقول إنه رغم رحيلك عنا، ستظل ذكراك حية وستظل ثورتنا تستحضرها على الدوام. وُلدت في عائلة كبيرة العدد، وعانيت في سن مبكرة الحرمان والذل الذي طالما سامه المستعمرون والعنصريون للشعوب المقهورة. وبرغم ذلك نجحت كطالب عبقري، وكذا كطبيب لا يقل عبقرية، خصوصًا في مستشفى الأمراض العصبية في مدينة بليدا الجزائرية. وكما لم تحل دراستك الجامعية يومًا بينك وبين الانخراط في مكافحة الاستعمار، كذلك لم تحل التزاماتك الوظيفية كطبيب حي الضمير دون انخراطك في الدفاع عن أخوتك المقهورين. فعلى العكس، مكنتك أنشطتك المهنية من التوصل لفهم أفضل لحقيقة القهر الاستعماري، فأصبحت أكثر دراية بقيمة الالتزام بالكفاح ضده. وحتى قبل تدشين ثورتنا، رأيناك وقد امتلكت اهتمامًا مستدامًا بمساعينا نحو الحرية. وبحلول الأول من نوفمبر 1954، انخرطت يا فانون في العمل السري بحماسة مُلهمة، فلم تتردد يومًا قط في تعريض نفسك للخطر. بل حرصت دومًا على تأمين أبطالنا ومسئولينا، وهو ما ساعد بقوة في إنجاح اضطلاعهم بمهامهم...

واستجابة لداعي المسئولية، رأيناك تنضم للوفد الممثل لجبهة التحرير الوطني في الخارج. ليس ذلك فحسب، فقد استفادت إصداراتنا الثورية، كالمقاومة الجزائرية والمجاهد، من مساعداتك القيمة، وتحليلاتك العميقة والدقيقة. وكذلك رأيناك تشارك في مؤتمرات دولية عديدة، كتلك المنعقدة في أكرا ومنروفيا وتونس وكوناكري وأديس أبابا وليوبولدفيل، ساعيًا إلى تعريف العالم بالوجه الحقيقي لثورتنا، وشارحًا لحقائق كفاحنا. ولعل في رسائل التعاطف والمواساة العديدة التي تتلقاها الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر منذ رحيلك دليلاً دامغًا وشهادة حية على التأثير العميق الناتج عن عبقريتك في أداء المهام الموكلة إليك، تلك العبقرية التي دفعت الحكومة الجزائرية لتكليفك بتمثيلها في أكرا في فبراير عام 1960. فرانز فانون... لقد كرست حياتك للدفاع عن قضايا الحرية والشرف والعدالة والخير، ورحيلك يؤلمنا كثيرًا. فباسم الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر أُقدم أصدق التعازي لأسرتك، كما أشكر ممثلي تلك الدول الصديقة التي بوقوفها إلى جانبنا، تخفف عنا مصاب فقدك. فرانز فانون... ستظل دائمًا حيًا في قلوبنا، فاسترح في قبرك، وبلادنا لن تنساك!

تلك كانت الكلمات المؤثرة التي أُلقيت أثناء مراسم توديع فانون، وأظنها كافية للتعريف بمكانة الرجل في قلوب المقهورين الذين لطالما دافع عنهم وقاتل في صفوفهم. وكذلك أظنها كافية للتعريف بفانون كأنسني آمن بقيمة الإنسان وسعى جاهدًا إلى تثمينها عبر كفاح دائم ودؤوب ضد كل صور الطغيان والقهر. ولسوف يجد المراقب المنصف صعوبة جمة إن هو حاول إدراك المسافة بين القول والفعل لدى فانون، لأنها تكاد تضيق لدرجة يصعب معها إدراك وجودها أصلاً. ففانون مفكر أنسني آمن بالحياة وحق الجميع فيها، دون تمييز، وعادى أولئك الذين يتوهمون أن آلام المقهورين هي الوقود لسعادتهم، وكرس حياته لمناهضة أنانيتهم البغيضة. ولعل في قول الشاعر المارتينيكي الشهير إيمي سيزير "في موعد النصر متسع للجميع" تعبيرًا صادقًا عما جال في صدر فانون تجاه أخيه الإنسان، فالبائن أن فانون، وقد اكتشف في فرنسا لون بشرته، والغربة الكامنة في هذا اللون، راح يتساءل لماذا على الإنسان أن يكون فوق أخيه الإنسان؟! لماذا على الإنسان أن يصل إلى موعد النصر أولاً ويدفع بعيدًا أخوته في الإنسانية، رغم انطواء الانتصار الجماعي على تثمين لإنسانية الإنسان، وكذا انطوائه على إعلان واضح وصريح لحق البشر جميعًا في الحياة الكريمة، دون تفرقة بينهم أو تمييز؟!

تصور فرانز فانون للأنسنية

تتسم أفكار فرانز فانون ذات الطابع الأنسني بالخصوصية النسبية، وهو ما نجد له تفسيرًا في سيرة حياة الثائر المارتينيكي، فقد عايش فانون عنف الاستعمار والجهود الرامية لمحوه معايشة مباشرة، وتشكلت عقيدته الفكرية في قلب تلك الأجواء الملتهبة، فنراه يُعرِّف محو الاستعمار بأنه دائمًا حدث عنيف، لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو زلزال طبيعي أو تفاهم ودي، ولا يعدو كونه نزالاً بين قوتين متعارضتين أساسًا، قوتين تستمد كل منهما صفتها الخاصة من ذلك التكوين الذي يفرزه العنف الاستعماري ويغذيه. فمحو الاستعمار يبث في الوجود – والكلام لفانون – إيقاعًا خاصًا يجيء به الرجال الجدد، ويحمل إلى الوجود لغة خاصة وإنسانية جديدة، كما أنه يحول متفرجين مسحوقين يعانون من فقدان الماهية إلى عناصر فعالة متميزة تدخل تيار التاريخ دخولاً رائعًا، يخلقهم رجالاً جددًا حقًا، وهو خلق لا يستمد مشروعيته من أية قوة فوق الطبيعة، فالمستعمَر (بفتح الميم) يصبح إنسانًا في خضم العملية التي يحرر بها نفسه، وذلك لتجريد المستعمِر (بكسر الميم) إياه من إنسانيته، حتى أنه ليعده حيوانًا، يستخدم معه اللغة المستعملة في وصف الحيوانات!

يقول فانون إنه باكتشاف الضحية أن حياتها وتنفسها وخفقات قلبها لا تختلف عن حياة جلادها وعن تنفسه وعن ضربات قلبه، وباكتشافها كذلك أن جلد الجلاد ليس خيرًا من جلدها، تحدث هزة أساسية في العالم، وتدب في الضحية ثقة جديدة ثورية، تدفعها للقول بأنه إذا كانت لحياتها من القيمة مثل ما لحياة الجلاد، فلن تُخيفها نظرته، لن تُسمرها في مكانها، لن يُجمدها صوته، لن تضطرب أمامه، لن تعبأ به، لن يُربكها وجوده، بل أنها ستُعد له من الكمائن ما يجعله لا يجد لنفسه مخرجًا غير التخلي عن لاأنسنيته إزاءها. ولسوف يجد القارئ الكريم في كتاب فانون الأخير معذبو الأرض، الذي كتبه وهو يعلم أنه مصاب بداء قاتل لا شفاء منه، زخمًا رائعًا من أفكار وآراء الثائر الأنسني فانون. وهو كتاب هجين – على حد تعبير إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية –، فهو جزئيًا مقالة، وجزئيًا قصة متخيلة، وجزئيًا تحليل فلسفي، وجزئيًا تاريخ حالات نفسي، وجزئيًا حكاية ترميزية قومية، وجزئيًا تسام رؤيوي للتاريخ. ونظرًا لأهمية الكتاب المذكور، يستند إليه الكاتب في رصده لأهم وأبرز أفكار الثائر الأنسني فرانز فانون[4]:

1.    إن شعوب العالم الثالث الذي تركته الدول الغربية وحكمت عليه بالتقهقر إلى الوراء، أو على الأقل بالجمود في مكانه، بسبب أنانيتها واستئثارها بالأنسنية، عليها أن تتطور على أساس الاكتفاء الذاتي الجماعي. وتُخطئ تلك الشعوب إن هي استنجدت بالبلاد الرأسمالية. إنها قوية بحقها وبعدالة مواقفها، وعليها أن تشرح للبلاد الرأسمالية وجوب الكف عن تصوير شعوب العالم الثالث في صورة موجة تهدد بابتلاع أوروبا كلها. إن العالم الثالث لا يريد أن ينظم حملة جوع واسعة على أوروبا، وكل ما يطلبه من هؤلاء الذين أبقوه عبدًا ذليلاً خلال قرون عديدة، هو أن يساعدوه على رد الاعتبار للإنسان في كل مكان إلى الأبد. ولكن على دول العالم الثالث ألا تبلغ من السذاجة حدَّ الاعتقاد بأن هذا الفعل الأنسني سيتحقق بمعاونة الحكومات الغربية وحسن نيتها. إن هذا العمل العظيم الذي يبتغي إعادة إدخال الإنسان إلى العالم، الإنسان كله، إنما يتم بمعونة الذات الغربية التي كثيرًا ما تحالفت، للأسف الشديد، في مشكلات المستعمرات مع الآخر الغربي/العالمي. ومن أجل تحقيق ذلك لابد أن تقرر الذات الغربية أولاً أن تستيقظ من سباتها، وأن تنفض أدمغتها، وأن تكف عن تمثيل ذلك الدور غير الأنسني الذي تستعذب تمثيله بغير شعور بالمسؤولية، وهو دور الحسناء النائمة في الغابة!

2.    ينبغي أن لا تُضلل تنازلات الآخر الغربي/العالمي الذات المناضلة عن الحقيقة، وأن لا تعميها عنها، فهذه التنازلات ليست إلا تنازلات لا تمس جوهر الأمر، حتى ليمكن أن يُقال إن تنازلاً لا يمس الجوهر ما لم يتناول الثقافة الاستعمارية في جوهرها. إن الأشكال الوحشية التي يجسدها وجود المحتل على الأرض قد تزول زوالاً تامًا. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضًا للنفقات التي ينفقها المحتل، ولا يعدو كونه إجراء إيجابيًا من أجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظًا، يدفع ثمنه مزيدًا من تحكم الاستعمار وتلاعبه بمصيره. لذا يصير لزامًا تذكير الشعب بأمثلة تاريخية تساعده على الاقتناع بأن مهزلة التنازل هذه، وبأن تطبيق مبدأ التنازل هذا، قد أديا إلى سيطرة الاستعمار سيطرة إن كانت أخفى فهي أكمل وأشمل. يجب أن يعرف الشعب وأن يعرف مجموع المناضلين في شتى بقاع الأرض ذلك القانون التاريخي، وهو أن هناك تنازلات ليست في حقيقتها إلا أغلالاً لاأنسنية!

3.    على الشعب أن يدرك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة هي في بعض الأحيان متباعدة بل ومتعارضة. فهناك أجزاء منه – الآخر المحلي – لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقًا كاملاً دائمًا مع المصلحة الوطنية. والشعب، وإن تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الأجنبي: البيض والسود، العربي والرومي؛ يبيت لزامًا عليه أن يدرك أنه يتفق لسود أن يكونوا أكثر بياضًا من البيض، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها؛ كما يبيت لزامًا على الشعب أيضًا أن يدرك أن هناك أناسًا من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم. فهم يتاجرون ويحققون أرباحًا طائلة، على حساب الشعب – الذات – الذي يضحي بنفسه دائمًا، ويروي بدمه تراب الوطن. إن المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية – آلة الآخر العالمي – يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطًا للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهرًا أبيضًا أو عربيًا. والخيانة هاهنا ليست وطنية فحسب بل ثقافية[5]، لذا على الشعب أن يتعلم كيف يُندد باللصوص. وعليه كذلك، في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية، أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للمتسلط!

أنسنية فانون في إطار الممارسة

أراني لست في حاجة لتكرار ما ذكرته، في كتاباتي السابقة، عما ينبغي أن يميِّز سلوك الأنسني الحق عن غيره، وأنه رب فعال وليس أقوال. ولن يجد القارئ الكريم في الرصد الماثل لأنسنية فانون، في إطار الممارسة، ما يجعل الثائر المارتينيكي دون غيره من الرواد الأنسنيين، فمسافة البعد بين قول الرجل وفعله ضئيلة، تكاد لا تُرى! وكما أن كتاباته جعلته مُنظِّرًا للثورة الأنسنية، كذلك كادت ممارسات فانون الأنسنية أن تجعله نبيًا من أنبياء العالم الثالث. فلقد ظلَّ وفيًا لفكره الأنسني حتى وافته المنية، ولم يحل علمه بإصابته بداء قاتل لا شفاء منه دون وضعه لكتاب معذبو الأرض. وهو الكتاب الأخير له – حجزت السلطات الفرنسية على نسخه في المطبعة ومنعت توزيعه! ولسوف يكتفي الكاتب، في رصده للمواقف الأنسنية في حياة فانون، بالحديث عن أبرز تلك المواقف وأكثرها تجسيدًا للجوانب الأنسنية في حياة صاحبها، فقد كانت حياة فانون ثرية على قصرها، فالعبرة مع أمثال فانون ليست بعدد السنين التي يقضونها معنا فوق ظهر الأرض، وإنما بما يقدمونه لأخوتهم في الإنسانية من أقوال حكيمة وأفعال مخلصة.

لله درك يا فانون، تركت لنا ما تؤكد الأيام صدقه وأصالته، وحولت حياتك القصيرة إلى صرخة في وجه الضمير الإنساني، وما أراه استيقظ بعد...!

في عام 1953، انتقلت يا فانون للعمل كطبيب نفسي في مستشفي بليدا، المستشفى الأشهر آنذاك في الجزائر لعلاج الأمراض النفسية والعصبية، غير أنك لم تلبث أن تركت عملك فيها بخطاب الاستقالة الشهير عام 1956، فردت السلطات الفرنسية مباشرة بطردك من العمل في الحكومة الفرنسية، وأنذرتك بمغادرة الجزائر خلال 48 ساعة. لكنك يا فانون كنت قد انضممت قبل أكثر من عام من تقديم استقالتك إلى جبهة التحرير الوطني، ورحت تعمل مع الثوار في قواعدهم، ترأست تحرير الطبعة الفرنسية من جريدة المجاهد الناطقة باسم الثورة، مثلت الجبهة في أكثر من محفل دولي، شكلت حلقة اتصال بينها وبين قوى التحرير في غرب أفريقيا. وفي مقرك المؤقت في تونس أخذت تتنقل بجواز سفر تونسي باسم عمر إبراهيم فانون، صادر في تونس في 10 أغسطس 1958، وتنتهي صلاحيته في أغسطس 1963. وقبل عام ونصف من انتهاء صلاحية الجواز التونسي استقريت، أيها الثائر الأنسني، نهائيًا، كما أوصيت، في قبر حميم في الجزائر. وللقارئ الكريم نسوق نص خطاب استقالتك الشهير عام 1956، فهو يؤرخ للحدث الأبرز والأكثر تجسيدًا للجوانب الأنسنية في حياتك أيها الثائر[6]:

سيدي الوزير،

بناء على طلبي، ووفقًا لقرار رسمي بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 1953، أراد السيد وزير الصحة العامة والإسكان أن يضعني تحت تصرف السيد الحاكم العام في الجزائر لتعييني في مستشفى للأمراض النفسية في الجزائر. فتم تنصيبي في مستشفى بليدا – جوانفيل للأمراض النفسية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1953، فبدأت أمارس مهمة طبيب-رئيس قسم فيه منذ ذلك التاريخ.

ورغم أن الظروف الموضوعية لممارسة طب الأمراض النفسية في الجزائر تشكل لوحدها تحديًا للعقل السليم، فقد تبين لي أنه لابد من بذل جهود للحد من فساد نظام تتعارض مبادئه العقائدية بشكل يومي مع الأبعاد الإنسانية الحقيقية.

فكرست نفسي بشكل كامل لخدمة هذا البلد وسكانه لمدة ثلاث سنوات. ولم أوفر جهودي ولا حماستي. ولم يبق أي جزء من عملي إلا طالب ببزوغ عالم متين، وتلك غاية يتمنى الجميع تحقيقها.

ولكن ما مصير حماسة المرء وقلقه إذا كان الواقع اليومي منسوجًا بالأكاذيب والنذالة واحتقار الآخر.

وما مصير النوايا إذا كان تجسيدها مستحيلاً بفعل انعدام المشاعر وعجز الفكر وكره سكان هذا البلد الأصليين؟

الجنون هو أحد السبل المتاحة أمام المرء لفقدان حريته. ويمكنني القول إني من على هذا التقاطع شعرت بالرعب حين تبين لي مقدار الحرمان لدى سكان هذا البلد. وإذا كانت المعالجة النفسية تقنية طبية هدفها أن تسمح للإنسان بعدم البقاء غريبًا عن محيطه، فعلي أن أؤكد أن العربي المحروم دومًا في بلده يعيش في حالة ضياع مطلق لشخصيته.

وما حالة الجزائر؟ يجري فيها انتزاع منظم للإنسانية.

ولكننا كنا نريد برهاننا العبثي أن ننشئ، بأي ثمن، بعض القيم، فيما كان غياب القانون وعدم المساواة وقتل الناس الجماعي اليومي مشرعة كلها كمبادئ قانونية. كما تعارضت البنية الاجتماعية القائمة في الجزائر مع كل محاولة لإعادة الفرد إلى مكانه الصحيح.

سيدي الوزير، نصل أحيانًا إلى وقت يصبح فيه التشبث مثابرة مرضية. فلا نرى نافذة أمل مفتوحة على المستقبل، إنما حفاظًا غير منطقي على موقف ذاتي منقطع بانتظام عن الواقع.

سيدي الوزير، إن الأحداث الحالية الدامية في الجزائر لا تشكل فضيحة لمن يراقبها، فهي ليست ناجمة عن عارض طارئ أو عن عطل في النظام. إن الأحداث في الجزائر تشكل النتيجة المنطقية لمحاولة غسل دماغ جماعي باءت بالفشل. فليس من الضروري أن يكون المرء عالمًا نفسانيًا ليتبين وراء طيبة الجزائري الواضحة وخلف تواضعه البسيط حاجته الأساسية إلى الشعور بالكرامة. ولا حاجة للاستغاثة بشكل من أشكال المواطنية عند بروز ظواهر لا يمكن احتواؤها.

وتكمن وظيفة البنية الاجتماعية في إنشاء مؤسسات تقلق على مصير الإنسان. وحين يرغم مجتمع ما أعضاءه على اللجوء إلى حلول يائسة، يصبح مجتمعًا غير قابل للاستمرار، مجتمعًا لابد من استبداله.

ومن واجب المواطن أن يقول ذلك صراحة. فلا يمكن في هذه الحالة أن تطغى أي أخلاق مهنية ولا أي تضامن طبقي ولا أي رغبة في حل المصاعب الداخلية بشكل سري. ولا يمكن التسامح في مسألة اللجوء إلى أي خداع وطني موهم عوض المطالبة بالفكر الحر.

سيدي الوزير، إن قرار معاقبة المشاركين في إضراب 5 تموز/يوليه 1956 يبدو لي إجراء مخالفًا للمنطق بالكامل.

وبما أن الإرهاب قد مورس على أشخاص المضربين وعائلاتهم، كان لابد من تقدير موقفهم وإيجاده طبيعيًا نظرًا للجو السائد.

وبما أن امتناعهم عن العمل يترجم تيارًا فكريًا جامعًا واقتناعًا لا رجوع عنه، فكل موقف معاقبة تجاههم سيكون حتمًا موقفًا اعتباطيًا لا تأثير له وغير ضروري. وعلى أن أقول إني لم أجد الخوف سمة غالبة عند المضربين. إنما الغالب بالأحرى كان القرار المحتم لأحياء عصر جديد من السلام والكرامة عبر التزام الهدوء والصمت.

وعلى العامل في المدينة أن يشارك في التظاهرة الاجتماعية. إنما عليه أن يقتنع بجودة هذا المجتمع المعاش. ولكنه وصل إلى وقت أصبح فيه السكوت كذبًا.

كما أن النوايا الرئيسية بالعيش الفردي لا ترضى بالتعرض الدائم لأبسط القيم.

وهكذا، فإن ضميري يشهد منذ شهور طويلة مشادات لا ترحم. وخلاصتها الرغبة في عدم اليأس من الإنسان أي من نفسي.

وقررت ألا أتحمل مسؤولية بأي ثمن وبحجة خادعة مفادها أن هذا أفضل ما يمكنني إنجازه.

فلهذه الأسباب كلها، لي الشرف سيدي الوزير أن أطلب منكم قبول استقالتي وإنهاء مهمتي في الجزائر. وتفضلوا بقبول فائق احترامي وتقديري.

رحم الله الثائر الأنسني فرانز فانون...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] رضوى عاشور، الصوت: فرانز فانون، إقبال أحمد، إدوارد سعيد، ألف مجلة البلاغة المقارنة، (القاهرة، قسم الأدب الإنجليزي والمقارن وقسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، العدد الخامس والعشرون، 2005، ص 74.

[2] راجع مقتطفات من كتاب فرانز فانون: سيرة حياته Frantz Fanon: A Biography، لـ David Macey، أوردتها النيويورك تايمز The New York Times، في 2 سبتمبر 2001. www.nytimes.com

[3] المرجع السابق.

[4] راجع كتاب فانون الأخير معذبو الأرض، ترجمة الدكتور سامي الدروبي والدكتور جمال الأتاسي، بيروت، الجزائر، دار الفارابي ومنشورات آنيب ANEP، 2004.

[5] المقصود بالثقافة هنا ما أورده ت. س. إليوت في مؤلفه المهم ملاحظات نحو تعريف الثقافة، فالثقافة عنده طريقة حياة شعب معين، يعيش معًا في مكان واحد. وتظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفي عاداتهم وأعرافهم، وفي دينهم. وطبقًا لإليوت لا يكوِّن اجتماع هذه الأمور الثقافة، وإن تكلم الكثيرون – للتسهيل – كما لو كان هذا صحيحًا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرَّح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكوِّنة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدًا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعًا.

[6] فرانز فانون، لأجل الثورة الإفريقية، ترجمة ماريا طوق وديالا طوق، بيروت، الجزائر، دار الفارابي ومنشورات آنيب ANEP، 2007، ص 71 - 74.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود