للصِّغار

(3 من 3)

حياة أبو فاضل

 

في المقعد الخلفي وحدها ندى جالسة في سيارة أمِّها الواقفة عند الضوء الأحمر لإشارة سير في بيروت. "اشتري عقد ياسمين!" تقول صغيرة ركضتْ بين السيارات الواقفة. "ألف ليرة فقط"، وكأن أمَّ ندى لا تسمع. "ماما، أريد عقد ياسمين!" "اسكتي!" وتطلب إلى البائعة الصغيرة أن ترحل، فلا تستجيب، وتكلِّم ندى: "خذي عقدًا!" رأت ندى في عينيِّ البنت لهفة، ورأت أيضًا أنها حرة في شارع طويل تملكه، تسير فوقه حيث تشاء لتبيع ياسمينها، فتمنَّت لو أنها مكانها في شارع بيروتي. وتمنت البائعة الصغيرة لو أنها تجلس مكانها أو معها في مقعد خلفي لسيارة جميلة تقودها أمٌّ جميلة قاسية القلب. وحين أضاء الأخضرُ ابتسمتْ ندى للصغيرة الخائبة ولوَّحتْ بيدها، فبادلتْها ابتسامتَها ولوَّحتْ لها بعقود الياسمين. وظلتا تبتسمان حتى فرَّقتْهما زحمةُ السير.

*

أخذت الدجاجة صيصانَها في نزهة بعيدة. تَعِبَ الأصغرُ وارتجفتْ رجلاه، فتوقف قرب أقحوانة مرَّغتْ وجهَها بريشاته الصفراء. "لا تذهبْ"، همستْ. ولم يفهم الصوص؛ فهو لا يعرف لغة الأزهار. تقدم قليلاً، ثم سقط، ولم تنتبه أمُّه ولا أخوته، وتابعوا بعيدًا ثم اختفوا. نظر إلى الأقحوانة فرأى أنها ملتصقة بالأرض، وجهُها رائع وجذعُها رفيع أخضر. "لا تَخَفْ"، قالت. فزحف إليها وألقى برأسه الصغير على حافة جذعها ونام. وذهب الضوء وحلَّ الظلام، فرجعت الدجاجةُ وصيصانَها. ولما رأت سرير الصغير فارغًا عرفت أنها أضاعتْه، وخرجتْ إلى الظلام مجنونةً تناديه. سمعتْها الأقحوانة، فأيقظتْه. قبَّل وريقاتِها البيضاء، وأسرع إلى حيث صوت أمِّه يضيء الليل.

*

ستسأل عمر: "هل الجنيات مخلوقات حقيقية؟" قرأتْ في الجريدة قصة للصغار تحكي عن جنية تنام في قلب زهرة غاردينيا، وبحثتْ عن واحدة تنام في غاردينيا حديقتهم صباحًا ومساء، وما التقتْ إلا فراشة بيضاء تكاد تشبه جنية. شقيقُها الكبير عمر قد يعرف. وحين سألتْه قال: "بنتان من يوركشاير في إنكلترا عام 1917 التقتا في حرج صغير جنيات بحجم كفِّ اليد، لها أجنحة ووجوه صغيرة جميلة. لعبتا وتحدثتا مع الجنيات، والتقطتا لها صورًا احتار فيها خبراء التصوير الفوتوغرافي، وأرادوا التأكد أنها حقيقية لجنيات، فأعطوا البنتين، إلسي وفرانسِس، آلة تصوير متطورة مع فيلم جديد. وجاءت الصور الكثيرة الجديدة لجنيات صغيرة لغزًا لا يعرف سرَّه سوى البنتين." وانتهى عمر من سرد حكايته لأخته المندهشة، فعانقتْه، وكادت تقطع عنه الهواء بقبلاتها الكثيرة، وركضتْ إلى الحديقة، إلى شتلة الغاردينيا.

*

أوتوكارات المدرسة الصفراء تنقل الأولاد صباحًا وتعيدهم مساءً إلى بيوتهم البعيدة. بيت ريشار قريب، ويصعد كلَّ صباح إلى سيارة أمِّه الكبيرة، رانج روفر سوداء، فتوصله إلى المدرسة، إلى الباحة الداخلية حيث يجتمع الصغار والكبار والأساتذة، ثم ينسحب الأهل في سياراتهم عند أول جرس قبل بدء الدروس. وتمسح عينا ريشار وجوه كلِّ الأمهات صباح كلِّ يوم، ويصاب بالحزن. يدخل الصف شاردًا ويخرج حائرًا. وفي طريقه إلى البيت يقول لأمه: "ماما، لا تدخلي بسيارتك إلى باحة المدرسة بعد اليوم. أنزليني في الخارج عند البوابة الكبيرة." "لِمَ؟" سألتْ والدتُه مدهوشة، فأجابها: "أنت غير أنيقة مثل كلِّ الأمهات. تلبسين الجينز وقميصًا عاديًّا، بلا أحمر شفاه، وشعرك مختلف. لا تبدين جميلة مثلهنَّ!" واحتارت والدته، هل تضحك أم تبكي؟ وأفهمتْه أنها ستنزله كلَّ يوم داخل الباحة، وأنها لن تتبرَّج صباحًا، لأنها، مثل الطيور والأزهار والفراشات، تفضل بساطة الطبيعة عندما تشرق الشمس.

*

ضَجِرَ زجاجُ نافذة نايا التي بقيت مقفلة لخمسة أيام بسبب رياح عاصفة. ضَجِرَ، رغم نظرات الصغيرة من خلاله إلى الوادي الصاخب بالهواء تحت بيتها. إلا أن ضبابًا ارتفع من بين أشجار السنديان والصنوبر، كأنه دخان، وافترش الفراغ بين الوادي وزجاج النافذة. ثم تحوَّل إلى غيمة كبيرة، نصفُها رمادي غامق قريب ونصفها أبيض بَعُدَ فوق الجبال. وكان برقٌ ورعدٌ، وطارت أول قطرة مطر ووقفتْ على الزجاج، فارتعش، وجاء غيرُها وغيرها. وكلَّما انزلقت قطرة من فوق التقت أخرى تحتها، تضمُّها، وتصيران واحدة كبيرة تنزل وتغيب. "كأنها دموع"، قالت نايا، المشاهدة الوحيدة للعبة الماء والزجاج. "من يبكي؟" تساءلت، "النافذة أم الغيوم؟" وقرَّبتْ وجهَها وألصقتْ شفتيها في قبلة طويلة لزجاج شبَّاكها. قليلاً وذابت الغيمة المعتمة، وتوقف المطر، واختفت نقاط الماء عن زجاجٍ عاد يلمع ضاحكًا بعدما استقبل رقصة الماء وزال عنه ضجرُ الانتظار.

*

البيانو الكبير يشبه طاولة بثلاثة أرجل، بينما بيانو والدي يشبه خزانة بأصابع كثيرة بيضاء وسوداء. "لِمَ فُتِحَ سقف هذا البيانو العجيب؟" سأل وسيم والده الذي أتى به مرغمًا ليستمعا إلى عازف جاء من سيبيريا ليلتقي ذاك المساء جمهورًا سيستمتع بألحان داخل قاعة كبرى ولن يأخذ منها معه ولو نغمًا واحدًا. لم يجب والدُه عن سؤاله. فالعازف دخل فجأة وسط تصفيق الناس، انحنى، ثم انحنى مرة أخرى، جلس أمام البيانو، ولامست أصابعُه الأصابع البيضاء والسوداء مصافِحة، ثم مسرعة، ضاربة كأنها في ثورة. وترتفع الأنغام خارجة من السقف المفتوح فترتجُّ القاعة، ثم تنخفض، وفي هدوء تلتقي كلُّ الأصابع معلنة انتهاء القصف. مرة، بعد مرة، بعد مرة، ووسيم يصفق مع المصفِّقين، ولا يعرف السبب. يعرف أنه أتى بدلاً من والدته التي تفضل سماع العود، وهو لا يفهم لغة النغمات... إلى أن كَرَجَتْ آخرُ قطعة تحمل أنغامًا كأنها لعصافير تتحاور عند الفجر، فوقف مسحورًا يستمع... ولما علا التصفيق لم يشارك، بل خبَّأ ما سمعه في قلبه وحمله معه عائدًا إلى البيت.

*

سمع "مرموتا" أصواتًا كثيرة ووقْعَ أقدام فوق سطح بيته. فتح عينيه واستفاق من نوم طال شهورًا. امتدَّتْ يدٌ داخل قفاز أبيض وسحبْته إلى الخارج. نَظَرَ إلى الذي اقتحم بيته، فرأى رجلاً يرتدي قبعة بيضاء وقفازًا أبيض، ورجالاً ونساء وأطفالاً جاؤوا ليحتفلوا رسميًّا معه بقدوم ربيع يرجونه باكرًا. إلا أن "مرموتا" نظر حوله ورأى ظلَّه، فعاد إلى بيته، لأن مع ظلِّه ما من ربيع باكر. فللربيع في كندا علاقة أسطورية بظلِّ "مرموط" الذي يشبه الأرنب ويبلغ طوله 50 سم تقريبًا. "مرموتا" يسكن الحقول ويأكل الخضار الطازجة، ومتى كان صاحيًا يمارس الحياة فوق سطح الأرض؛ ذلك أنه في أواخر أيلول يأخذ قرارًا بالنوم تحت سطح الأرض هربًا من صقيع الشتاء، فيأكل كثيرًا، ويسمن كثيرًا، مخبِّئًا مؤونة الشتاء داخل جسمه، ويحفر بيته تحت سطح الأرض، ويقسمه إلى غرفة نوم وحمام، ويدخل وينام... إلى الثاني من شباط – تقول الأسطورة الكندية – حتى يستفيق ويخرج من بيته وينظر حوله؛ فإذا رأى ظلَّه يعود إلى الداخل وينام لستة أسابيع مطر وصقيع، قبل أن يخرج ثانية إلى الربيع، ربيع لا يظهر لو ظهر ظلُّ "مرموتا".

*

من فوق، من أية طائرة أو ناطحة سحاب، كان يبدو كصندوق أبيض بأرجل قوية يجول في حقل أخضر جميل، بينما هو حمار أبيض، أنيق، قوي – وإن كان يودُّ لو وُلِدَ جوادًا. وعاش سنين كثيرة من الحروب تسبَّب هو باندلاعها، وسنين قليلة من السلام. ورغم التطور والتقدم الكبيرين في بلاده، ورغم أمواله الكثيرة، ظل طامعًا في ما يملكه سواه من حمير العالم لأنه كان الأقوى والأشرس. ومن جُحْر عميق مظلم كانت حية شقراء، لا تعرف إلا الشرَّ، تراقب كيف يزداد الحمار طمعًا وغرورًا؛ فأرادت أن تستغل جهله لينفِّذ كلَّ أطماعها. واقتربتْ منه ذات صباح وهمستْ شيئًا لم يسمعه. وحين انحنى ليسمعها، زحفتْ وتسلقتْ ظهره، ثم التفَّتْ حول عنقه وقادتْه كفأر صغير حيثما أرادتْ وحوَّلتْه إلى مجرم، كاذب، أحمق، بينما كان يتظاهر بالصدق والعزم والذكاء. إلى أن أخذتْه ذات مساء إلى بئر نفط في بلاد بعيدة أرادتْ ابتلاعها وحدها، فزلَّتْ قدمُه، وانزلقا معًا داخل البئر السوداء التي أخذتْهما إلى مكان في قلب الأرض ليتعلَّما الصدق، والتواضع، والكثير الكثير من المحبة، كي تحقَّ لهما عودةٌ ثانية إلى نور سطح الأرض بعد زمن طويل.

*

"أريد السوداء"، قالت هلا بالإنكليزية. فمعلمة الرسم الأمريكية دخلت الصف حاملة أوراق كرتون ملونة ليرسم فوقها التلاميذ ما يخبِّئه خيالُهم الجميل. أخذت الكرتونة السوداء وبدأت ترسم عينين غريبتين. لوَّنتْهما بالأصفر والأبيض والأخضر والأزرق، فأضاءت الأسود المحيط بهما – وإذ هما عينا ثعلب ضاحك. فقط عينان، بلا وجه، لكنهما تضحكان؛ وعندما يتوقف الضحك تصمتان قليلاً ثم تنشدان. ماذا يغنِّي هذا الثعلب المختبئ وراء عينيه؟ ركضتْ هلا إلى دفتر نوطات الموسيقى، وتعلَّمتْ كيف ترسم نوطة المي. أسْمَتْ ثعلبَها "مي"، وفي أسفل لوحتها الحلوة رسمتْ خطوطًا تحمل كلمتي: "إلى مي"، ولم توقِّع اسمها.

*

للبيت الصغير حديقة، وللحديقة أشجار وأزهار قليلة وفسحة فارغة بدأ الوالد يحفر فيها خندقًا. البيت والحديقة والخندق في بغداد، والوقت ربيع يوم ثلاثاء، حين دخل ثائر البيت، ثم غرفته، ووضع حقيبة كتبه وغسل يديه وركض جائعًا إلى غرفة الطعام. جلس إلى الطاولة حيث صحون فارغة تنتظر. ثم جاءت سلمى، أختُه الكبرى، وجلست. ومن باب المطبخ طارت رائحة طعام شهي هيأتْه الوالدة للعائلة وحملتْه إلى المائدة. ملأتْ صحن سلمى، ثم صحن ثائر، ثم صحنها. "لو أننا لا نملك البترول لكان أبي يتغدى معنا الآن"، قالت سلمى في حزن، فخرج ثائر ليناديه. وسألت الأم ابنتها: "هل تذكرين دروس التاريخ وكيف أن القويَّ يسلب الضعيفَ أرضَه ومالَه وأمنَه لبعض الوقت فقط؟" وعاد ثائر مع والده وسأل: "لو ذهبنا نحن لغزو بترول أمريكا، هل سيحفر الآباء هناك خنادق في حدائقهم ليختبئوا كما نفعل نحن؟" وابتسم الوالد. وبدأوا في تناول الطعام صامتين. ثم كانت الحرب... وكان هناك بيت، وللبيت حديقة...

*

... وتكلَّمتْ بيسان. لأسبوع ما فتحتْ كتابًا، ولا كتبتْ كلمةً واحدة. تسمَّرتْ مع أهلها أمام التلفزيون لترى كيف سيمزقون العراق، وطنَها الوحيد. ومن بيروت، بعدما عادت من المدرسة في التاسع من نيسان، رأت أمها دامعة. "سقطت بغداد"، قالت، "ولم يدافع عنها أحد." "هل لبغداد بحر؟" سأل جمال الصغير. "لبغداد بحور نفط"، أجابت بيسان. ونقلت شاشة التلفزيون مشاهد من المدينة المذهولة... تمثال هائل للذي كان حاكمًا يهوي فوق حبل أميركي ليتلقى لكمات كثيرة شامتة. رجال يركضون، يدخلون أبنية، ثم يحملون خارجًا أشياء كثيرة ويأخذونها. "يسرقون"، قال والد بيسان. "عيب"، قال جمال الصغير. وتكلَّمتْ بيسان: "هذا الرجل الفَرِحُ الذي أخذ إناءً للأزهار مليئًا بزنابق الربيع ليس بسارق. مدَّ يده لأزهار أرضه، وأعطتْه أجمل ما عندها، أجمل من النفط. أعطتْه، رغم من أتى من الخارج كالإعصار ليبلع كلَّ ما فيها. أعطتْه فرحًا ناصعًا لن يعرفه مَن زَحَفَ داخل حلقات الظلام والدمار والموت."

*

دخل هشام غرفة النوم حافي القدمين ليرى أخاه الصغير هيثم نائمًا يأخذ نَفَسًا عميقًا ويُخرِجُه بلطف من أنفه الحامل وَرَمًا وبقعة زرقاء بسبب لكمة وجَّهها هو إلى وجهه الجميل في أثناء خناقة صاخبة دارت بينهما بعد الغداء. ودَّ هشام لو يضم أخاه، ويأخذ عنه وجع أنفه. فهو يحبه كثيرًا. لكنه خلال النهار لا يشعر بلهفة هذا الحب، ربما بسبب الضوء القوي والأصوات العالية والحركة. أما الليل، بصمته وهدوئه الساحر، فيعطي مكانًا واسعًا حقيقيًّا للحب. تقدَّم من سرير هيثم، وانحنى وقبَّل أعلى أنفه، فضمَّه الصغير وشدَّه إلى تحت الغطاء، وناما جنبًا إلى جنب، وأخذهما بعيدًا حلمٌ واحد تذكَّراه معًا عند الصباح.

*

أجمل ما في فستان "الشعنينة" الأصفر أنه من الأورغنزا ومن دون أكمام. من قلبها أحبَّتْه ديمة، وأخذت تعدُّ الأيام السابقة لأحد الشعانين. وفي ذلك النهار فتحت شبَّاكها لترى وشاحًا من ضباب نازلاً من السماء إلى الأرض، مخبِّئًا الشمس والبيوت والأشجار. إلا أنها لم تكترث. لتفعل الطبيعة ما تشاء، ما دامتْ سترتدي فستانها الأصفر! وحين انتهت من تسريح شعرها قالت: "أنا جاهزة، لنذهب إلى الكنيسة." فقالت أمُّها: "البسي معطفك الأبيض الناعم فوق فستانك؛ فالطقس بارد." "كلا"، قالت ديمة التي كانت تحلم بأن تشرِّع ذراعيها العاريتين على الهواء والضباب. "سأرتدي المعطف فوقه بعد ظهر يوم الجمعة الحزينة. هل هناك "جمعة حزينة" هذه السنة؟" "بالطبع"، قالت والدتُها. وسألت الصغيرة: "لماذا يصلبون المسيح الجميل الهادئ كلَّ سنة، فيموت ويعود ليقوم من الموت، ثم يصلبونه كلَّ مرة من جديد؟" "هيا ارتدي معطفك!" "سأرتدي معطفي يوم الجمعة الحزينة؛ فاليوم للفرح!" وفتحتْ الباب وخرجتْ إلى الضباب.

*

عرفت أليسار من شاندي، مدبرة المنزل، أن أمَّها ذهبت في زيارة ولن ترجع قبل المساء؛ فأسرعت إلى غرفتها وفتحت خزانتها، حيث علبة الخواتم والحجارة الكريمة، كما يسميها والدها الذي يضحك كثيرًا حين تسأله: "وهل هناك حجارة بخيلة أيضًا؟" فيجيبها: "إن الحجارة تدعى كريمة لأنها نادرة، ولا تسكن أينما كان، وإن أتتْ مثل كلِّ الحجارة من الأرض." أخذت أليسار من علبة أمِّها خاتمًا كبيرًا حجرُه أزرق، وخرجت إلى الحديقة، حيث خبأتْ حجارة جمعتْها من هنا وهناك لشكلها الجميل. وضعت الخاتم فوقها، فتحرك داخله الضوءُ وانساب أزرق فوق الحجارة بألوانها الترابية، وشكَّلتْ معًا مجموعة رائعة سحرتْ أليسار التي أرجعتْ الخاتم إلى خزانة أمها، وطلبتْ من شاندي علبة كبيرة لتضع فيها حجارتها الجميلة، علَّ أحدها ينقلب يومًا حجرًا كريمًا، أزرق أو أصفر أو أخضر.

*

مشت سيفيم فوق ممرٍّ ضيق قرب ساحة واسعة تضم دوائر معدنية هائلة، واقفة كأنها صحون أو أقمار رمادية. هذه الأقمار تنقل رسائل كثيرة، تلفزيونية وهاتفية، إلى أقمار تنتظر في الفضاء، لتنقلها بدورها إلى محطات أخرى فوق كلِّ مناطق الأرض. مع سيفيم مشت ماريا في يومٍ حَمَلَ رائحةَ الأرض، بأزهارها الحمراء والزرقاء والصفراء، وصوتَ نهر نازل إلى الوادي تحميه صخور قوية كي لا يضيع في مشواره عائدًا إلى البحر. ثم كان صوت أجراس. وطارت رائحةُ زعتر وقصعين. فنظرت سيفيم جانبًا لترى قطيع ماعز تقوده بنتان، إحداهما تحمل كتابًا والأخرى تغني بصوت خافت. أجابها غناءُ صبيٍّ جالس فوق صخرة عالية، وحوله عنزاتٌ سبقت القطيع متسلقة الجبل. صوت الصبي اخترق الأقمار المعدنية والأشجار قويًّا، فيه كثير من نكهة لبنان، بوديانه وجباله وسمائه. داخل سحر ذاك النهار مَشَتْ سيفيم وماريا تحت شمس مرحة وهواء ناعم حَمَلَ إلى قلبيهما أسرارًا كثيرة ملونة.

*

الحلوة هناء تجمع كلَّ كتبها في عطلة نهاية الأسبوع. تنتقي كتب المطالعة باللغتين العربية والفرنسية، تقرأ بعض قصصها، وتطويها في حزن لأن معلِّماتها لا يطلبن إليها القراءة في الصف – فهي لا تقرأ في سهولة: أحيانًا لا تخرج الحروفُ من شفتيها إلا بعد جهد؛ فهي تفأفئ في بطء، وتتمنى لو أنها تقرأ مثل زملائها في طلاقة. وشكت لوالدتها التي قالت: "اطلبي، إذن، من معلمتك قراءة ولو سطرين من قصة تعجبك." فانتقت، ورفعتْ يدَها طالبةً من معلمة العربية السماح لها بقراءة مقطع قصير. ولمَّا قالت لها المعلمة: "ستأخذين كلَّ الحصة؛ لا وقت لدينا لنسمعك اليوم"، بكتْ هناء. فوقف أيمن وزياد ورنا وكلُّ زملائها وقالوا للمعلمة: "نريد أن نسمع صوت هناء؛ وسنعطيها كلَّ الوقت المخصص لنا. اقرأي يا هناء." فمسحتْ دموعها وبدأت تقرأ. ومتى انتهتْ صفَّق لها رفاقُها. وبطرف عينها شاهدت المعلِّمة تصفق أيضًا.

*

حملت إجابة جورج، ابن العشر سنوات، صدمةً للراهبة التي تعلِّم صفَّه دروسًا في الدين، حين سألتْ التلاميذ: "لماذا خَلَقَنا الله؟ ما هي الحياة؟" وساد صمت؛ فأكثرهم لم يفهم السؤال. وحين وقف جورج قائلاً: "الحياة هي حلم الله. نحن حلمُه. ومتى يستفِقْ ينتهِ الحلم وينتهِ العالم." ارتبكت الراهبة، وكان ضحك وهمس... وأنقذ الجرسُ الجميع. وفي أثناء درس آخر أخبرتْهم الراهبة أن الله يحب من لا يخالف التعاليم ومن كان مطيعًا وحَسَنَ الأخلاق. وأما العاصي والمؤذي فمصيره العقاب القاسي من دون رحمة. عندها قال جورج في براءة: "يبدو أن مدير مدرستنا أرحم من الله! فهو يعاقب ويسامح، ولا يطرد الفاشل، بل يمنحه فرصة إعادة صفِّه في السنة التالية." فطلبتْ إليه الراهبة الخروج من الصف، ومُنِعَ من متابعة دروس الدين حتى نهاية السنة... حين ستشرق شمس الصيف وتزهر الحرية خارج جدران الصفوف.

*

"سارة!" سمعت صوت أمِّها ينادي في حديقة عامة في حيفا. ركضتْ نحو الصوت، ورأت بنتًا تركض قربها. وحين التقتْ نظراتُهما سألتْ: "اسمكِ سارة؟" "نعم." "أهي أمُّكِ مَن تنادي أو أمي؟" سألت البنتُ الثانية بالإنكليزية، فأجابت الأولى: "لا أعرف... أنتِ إسرائيلية؟" "نعم... وأنتِ عربية؟" "نعم." وكان صمتٌ وخوف. لكنهما ظلَّتا واقفتين، تربطهما نظراتُهما، وحديقةٌ واسعة فوق أرض فلسطين. "ولدتِ هنا؟" سألتْ الفلسطينية. "نعم، لكن أهلي أتوا من رومانيا. وأنتِ؟" "ولدتُ هنا، وأهلي فلسطينيون." وهمست الإسرائيلية: "أتينا لنعيش معكم." فقالت الفلسطينية: "لكنكم أخذتم كلَّ الأرض، وهدمتم بيوتنا، وشرَّدتُم، وقتلتُم... فكيف نعيش معًا وأنتم لا تعرفون إلا الموت؟" "نحن الصغار نريد السلام"، قالت الإسرائيلية. فسألتها الفلسطينية: "أما كان كبارُ صهاينة اليوم صغارًا مسالمين مثلكِ في يوم ما؟" وأصاب الإسرائيلية حزنٌ كبير، طاف دموعًا إلى عينيها، وقالت: "لست أدري... لكننا نحن صغار اليوم لن نحارب أبدًا عندما نكبر، بل سنسألكم – لو تقبلون – أن نسكن معكم جنبًا إلى جنب، وأن تعلِّمونا الحبَّ والصدق، فنصير أصدقاء." ونظرت دامعةً إلى سارة الفلسطينية المتألمة، وضمَّتْها سائلة: "من نادى سارة، أمك أو أمي؟" ثم أدركتْ الصغيرتان أنهما سمعتا صوتًا لم يكن صوت أمِّ أيٍّ منهما.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود