الطوفان

أو

جنازة في فوضى الأوان

 

عبد الوهاب عزاوي

 

الأرضُ بورٌ

والسماءُ تحجَّرتْ

والبحرُ ينهش في فضاء الربِّ

خلف حمامةٍ

الأرضُ بورٌ

والنواح

يسدُّ قلبي بالرياح

 

الأرضُ بورٌ

والكلُّ ماتْ

وأنا الوحيد الميت–الحي

الأخيرُ على التخوم

الكلُّ ماتْ

والضوءُ يزحف في القبور الجاثمهْ

فوق اعتلال الوقت

تنتظر اكتمالَ الملحمهْ

وتعدُّ أضلُعَها النحيلة

فوق أسراب العقارب

تنهش الضوء المخبَّأ في العيون

 

وبورٌ هي الروح حين ارتميتُ

على الريح

أقرعُ صمتَ التراب

وأحفرُ للظلِّ قبرًا بكعبي

وأحضنُ هذا الهواء الجريح

لأرقصَ بين القبور على فطرتي

أوزِّع أجواف قلبي

على قارعات الجهات

وأقرعُها

كي تدقَّ القيامةُ أثداءها

فأرقص... أرقص

أطعن هذا الظلام

لغيمٍ تحجَّر بين الأصابع

أسقي القبورَ دمًا

فاضَ عن حاستي السادسهْ

وإيقاعُ قلبي يعلو

وروحي فوق اللهاث تطير

لهاثٍ لموتى يمدُّون ضوءًا

من الحزن ينمو

وأعناقُهم تتكوَّر فوق الشواهد:

"ربطنا أنفسَنا إلى الأرض

ليدفنَنا الطميُ

ولنحميَ الزيتونَ من الجفاف الملحمي

لكن البحر تأخر عن موعده

فمتْنا قبل أواننا

والسفنُ فرَّتْ قبل الأوان

تحكُّ لحمَنا

فيئنُّ الخشب

الأرضُ بورٌ

والطوفانُ لمَّا يأتِ

ربطْنا أنفسَنا إلى الأرض

فلن نفرَّ

ولن تفرَّ

ندقُّ الترابَ بأجسادنا والإيقاع يعلو"

 

الأرضُ بورٌ

وركبتاي تغرقان في البخور

والموتى يصعدون الفكرة

فيحنُّ الخشب لترابه

وأنا أرقص

هناك – هنا

أنا الميت–الحي

وأنا المشيِّعون

وأنا الجنازة والقبر

ولا مكان لأدسَّ أصابعي

في هذي الريح

فالزمنُ الحي–الميت

تُغرِقُه النبوءاتُ فينقسم

تُغرِقُه الهيولى فينقسم

نصفًا فوق الغمام ينتظر الألوهة

ونصفًا تحت التراب ينتظر المنام

ولا مكان... لا مكان

لأحدِّد سَمْتَ نبضي

والزمنُ ينقسم

 

فوق الغمام ينظرُ للموتى كالنِّمال

تزحفُ على بطونها

تعضُّ ما تراه لتبحث عن اسمها

 

تحت التراب ينظر للهاربين كأسراب طير

لم تجد قبرًا أو عشًّا يجمعها

فتحلم بالطائر الربِّ

تموت عليه كلُّها في السماء

ليبقى وحده محلِّقًا

موت هناك... موت هنا

فوق الغمام يوزِّع الأرواح في أقفاصها

فالجاذبية نسبية

والأرض نسبية

 

تحت التراب يصيدُ عيونَ الموتى

حتى يئنَّ الشبكُ

يصيد عيون الموتى كالفراش

يفرشُها ليقرأ تاريخ الأرض –

البلد – الحي – البيت – الغرفة – العين – السجن

والحلمُ أمضى من الدم

فالحلمُ في سرِّ الأرض حرية كامنة

والطوفانُ نسبيٌّ

يصيد عيون الموتى ليقرأ

تاريخًا عاريًا من كلِّ زخارفه:

"طعم السواد في عين أرملة

حدود الهواء في الرئة... في عين خائف

شكل الملكوت قبل أن يولد أو بعد أن يموت

في عين أعمى"

والشبكُ يئنُّ

والخشبُ يحكُّ لحومَهم فيئنُّ

هناك – هنا

وأنا الميت–الحي

وأنا المشيِّعون

وأنا الجنازة والقبر

أرقص وحدي على قرع قلبي

أُهيلُ عليَّ النبوءات

وموتاي ينضجون تحت العيون

وصبَّارُ أكتافهم يتشبث بالرياح

وهم يتدحرجون بخورًا يطوف

قناديل تكمل الملحمة:

 

ميت 1:

"الماء في جلدي يحكُّ الليل

من عقبيه

كحجرَيْ صوَّان

فتولد أمي بين شرارتين

ويبدأ قلبي خَبَبَه

قبرُ صدرها يرشفني

والله يقترب"

 

ميت 3:

"عندما كانتِ الحياةُ أخصب

والموتُ أبسط

يأتي مجانِبًا أحبابه

ويتلو عليهم من الربِّ سورةً

ويغفو في مآقيهم

ليقطفَهم بسلام"

 

ميت 4:

"أشيخ قبل الأوان

وحبيبتي تبكي هناك

فأُغرِق أصابعي في كبدي

أنشلُ قمرًا زائدًا

أزرعه في شعرها"

 

ميتة 4:

"لحبيبيَ ضوءٌ في شَعري

يسيل على كتفيَّ

ويُغرِقُ نهديَّ بالبكاء

فأموت سهوًا نصف موت

ونصفه الآخر لدى حبيبي هناك

ففي صدري دروبٌ إليه تسير"

 

ميت 0:

"دمٌ صافٍ... دمٌ صافٍ"

 

ميت 4:

"عندما يسود الدمُ

وتزدحم الروحُ بالوجع

يقع القلبُ من الحزن فجأة

فيزهر قمران في عروتها

ويتَّسع الليلُ في كفي"

 

ميت 3:

"عندما كنَّا رجالاً

ورؤوسُنا تعاند غمامَ الدرب

كنا نطلُّ على فضاءٍ مستحيل

كنا نُعِدُّ أنفسَنا لمعجزات لن تصل"

 

ميت 5:

"عندما كنت طفلاً

ابتلعت بذور البرتقال

لتنموَ الأشجارُ في بطني واقفةً

فأقطف قمرًا من حليب السماء"

 

ميت 4:

"الدرب – البيت – الباب – العين –

الظهر – سكِّينان – ظلامٌ... ظلامْ"

 

ميت 0:

"دمٌ صافٍ... دمٌ صافٍ"

 

ميت 5:

"عندما كنت طفلاً

لبستُ سمرتي

وخرجتُ أسأل عن الله

على حدِّ المحيط

وما عدت

والله لمَّا يصل"

 

ميت 2:

"أيها البعيد

كم أكرهك... وكم أحبك

وكم أغرق فيك

حين أتجاوز حاستي السادسهْ"

 

ميت 4:

"حريقٌ... حريق

عيناي لا تبصران

عيناي لا تبصران"

 

ميتة 4:

"الكف – الروح – النفس – الشفة

نهداي يحترقان

نهداي يحترقان"

 

ميت 0:

"هناك رأيتُه يبصق حُلمَه

من ذروة موته

ثم يرفع بقعةَ الضوء الساقطة على الأرض

يلفُّ بها جرحَه

ويغيب... يغيب

دمٌ صافٍ هي الأرض

دمٌ صافٍ هي الأرض"

 

ميت 2:

"سأسند الأفقَ بإصبعين

فالسقوطُ احتمالُ الملحمة"

 

ميت 0:

"الأرض – الأرض"

 

ميتة 4:

"الأرض – النعش – الحبيب

لحظة حنين

ظلامٌ على النهد

عريشة فوق الظلام"

 

ميت 0:

"الأرض – الأرض

ربطْنا أنفسَنا إلى الأرض

فلن نفرَّ

ولن تفرَّ

والخشبُ من أزيزٍ أدماه يئنُّ

والريحُ تزحف في جحور الموتى"

 

الموتى جميعًا:

"الأرض – الأرض

دمٌ صافٍ فوق المكان

دمٌ صافٍ

صافٍ

صا..."

 

وأنا الميت–الحي

وأنا المشيِّعون

وأنا الجنازة والقبر

تُغرِقني النبوءات

قدمي يفخِّخها التراب

ولا مكان... لا مكان

لأحدِّد سَمْتَ نبضي

 

الأرض بورٌ

والسماءُ تحجَّرتْ

والبحرُ ينهش ما تبقى من فضاء الربِّ

خلف حمامةٍ

وأنا الميت–الحي

أُصعِّد إيقاعَ قلبي

في انتظار الملحمة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود